mardi 22 juillet 2014

"فوائد الهدية" في ثقافة التونسيين اللامادية








                                                        
    لما نبحث في تمثّلات التونسيين وتصرفاتهم حيال الوسط الطبيعي، مركّزين على المشترك منها، فإن تركيزنا سينصب على دراسة الجوانب الثقافية للممارسات المتصلة بإنتاج خصوصيات المعاش المشترك، وعلى دور التمثلات الجماعية في صياغة المعرفة بمجال الانتساب.
ليس هناك من سبيل إلى فهم ذلك الواقع من دون استكشاف الخصوصيات الثقافية المتّصلة بالمعتقدات والقيم والأيديولوجيات المهيمنة والفنون والملكات في بعديها اليدوي أو التقني والنظري أو الفكري. وهو ما يحيل على ما راكمته مجموعات وطن التونسيين المختبرة من موروث ثقافي يتضمن معرفة مفصّلة ودقيقة بخصوصيات المجال الذي استوطنته وبكيفية تعقّل تلك المجموعات لواقعها المعيش أيضا.
هذه النظرة إلى المجال كنتاج للتصورات الثقافية، هي ما يتعين الاحتفاظ به حال تصفّح مؤلف محمد بن عثمان الحشايشي (1853 - 1912)[1] "الهديّة والفوائد العلميّة في العادات التونسية"[2] وهو مؤلف طريف في ضربه جمع فيه صاحبه لمن استنجبه من كبار أعوان الإدارة الفرنسية الحامية صنوفا من المعارف، وضّحت ترتيب معاش التونسيين وكيفية جري عوائدهم وأخلاقهم وطباعهم وطقوسهم في سراّئهم وضرّائهم، متأثرا في ذلك بما اطلع عليه في صحف مؤلف مقدمة كتاب العبر، مع نزوع جليّ باتجاه محاكاة أساليب البحث الأتنو-جغرافي التي أنجزها المستكشفون والمولعون بالرحلة من الأوروبيين على أيامه.
تقتضي مجادلة مختلف المعطيات التي أوردها مؤلف كتاب "فوائد الهديّة في العادات التونسية" في تقديرنا تركيز التحليل على جملة من الأبعاد آثرنا اختزالها في ثلاث مستويات: 
-        النظر في تاريخ المجال الجغرافي كإطار لمختلف عمليات المدّ أو الغزو conquête، وهي عمليات وضعت التونسيين في مواجهة غيريات أجنبية غالبا ما سعت إلى استيعابها حضاريا وثقافيا بعد فرض غلبتها عليها.
-        التعرّف على علاقة التجربة الشخصية quête في علاقتها بتمثّل المجال الجغرافي، وتطوّر تقاليد التونسيين ومكوّنات ثقافتهم اللامادية.
-        تقييم المجهود الميداني enquête المبذول من أجل تذليل الصعوبات التي طرحتها مسألة فهم العناصر المحدّدة للانتساب تونسيا والتدقيق في مدلولها ضمن جميع مستويات المعاش اليومي، وما تقتضيه من ترتيبات في التعامل مع المواضعات السلوكية والأخلاقية والتعبديّة والطقسية، بغرض الحصول على صورة دقيقة عن تصرّفات مجموع التونسيين وردود أفعالهم بطريقة عقلانية تنأى عن جميع التصوّرات الانطباعية أو الحسّية.
يكفل إجراء قراءة متضامنة لهذه الأبعاد الثلاثة في تقديرنا إنجاز مقاربة منتجة للمعنى ومجدّدة له أيضا، حال التعامل مع توصيف الحشايشي للعادات والتقاليد التونسية. فقد صادفت عملية تحرير هذا الأثر استكمال الإدارة الفرنسية تركيز مؤسسات إدارتها الحماية لتتخيّر وضمن أبناء البلد، من ينقل لها بدقة الباحث المتفحّص عصارة تجارب مجتمع تقليدي تعمّق اكتنافه، وذلك من خلال توصيف ميداني فاقت دقته أبحاث معاصريه من المستكشفين الأوروبيين من حيث توضيح الخصوصيات المشتركة لتمثّلات التونسيين لما حدّد انتسابهم إلى مواطن أبائهم وأجدادهم.
يبدو الحشايشي منبهرا بمنجز الدولة الحامية بل ومقتنعا بدعواها وضع حد لسبات الشعوب المولى عليها والارتقاء بها حضاريا، وهو لا يختلف في ذلك عمّن سبقة للتعبير عن ذلك ممن اصطدم بواقع الغلبة الأوروبية منذ أن خطّ عبد الرحمان الجبرتي عجائب آثاره ونيكولا الترك كتاب الحملة الفرنسية على مصر والشام. فقد اعتنى مؤلف "فوائد الهدية في العادات التونسية" بالتعريف بمختلف التنظيمات والمؤسسات المحدثة من قبل الدولة الحماية وذلك ضمن الفصل الختامي لمؤلفه الذي انتهى من تحبيره سنة 1904، معبرا عن رضاه التام بتلك التنظيمات وترحيبه بجميع من أوكلت لهم مهمّة تصريف شؤونها من غير التونسيين. وهو توجه لا يخلو من استكانة وتزلّف لابد لمن يبغي فهم أسبابها من الحرص على عدم الخروج بها عن سياقها الزمني المخصوص. فقد تلوّن تعامل التونسيين مع الغلبة الوافدة بمنطق المصابرة والاحتواء، ولم تعرف البلاد إلا نادرا مواجهات حديّة تنمّ عن مقاومة شرسة، وذلك لاعتبارات ثقافية وحضارية لا يتعين الذهول عليها بالنظر إلى تاريخ التونسيين وإلى إرثهم الحضاري المتشعّب.
شكل الحديث عن أخلاق التونسيين وطباعهم ضمن مقدمة الكتاب ومقالاته الأولى والسادسة والسابعة والثامنة والتاسعة والحادية عشرة والرابعة عشر، فرصة لاستعراض جوانب مهمّة مما عَرِفه الحشايشي من "عوائد اجتماع أهل قطره الإفريقي [ كذا ] من الحضر والبدو وسكان القرى والجبال وما يخصّ كل قبيلة"[3]، ويقصد ردود فعل التونسيين وطبيعة تصرفاتهم، "حِلْمًا وغدرا وكذبا وخيانة وحسدا وبُغضا وتفاخرا وهمجيّة وعرفا وشرعا[4]."  
في حين حاول المؤلف وضمن المقالات الأولى والثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والعشرة والثانية عشرة والخامسة عشر استعراض نتائج جرده الميداني المستفيض لملكات التونسيين ومصادر رزقهم وأنشطتهم اليومية ومواقع رسمها الحضرية منها والبدوية، على غرار التوليد وتعليم الصبيان وتراجم شيوخ العلم واعتلاء منابر الخطبة والأسعار الجارية للمنتجات والبضائع وأسواقها وأماكن بيعها.
إن ما يثير الانتباه شكلا وضمن الصيغة التي اختار الحشايشي التدرّج من خلالها في استعراض مختلف فصول كتابه هو ذهوله حيال ترتيب مقالاته على تقديم الفصلين الرابعة عشر المخصّص للـ"تعريف بالقطر التونسي وموقعه الجغرافي" والمقالة الختامية المتّصلة بـ"عوائد [كذا] المملكة السياسية وما يتعلق بإدارتها وجميع خططها الملكية" عمّا سواهما من عروض مؤلفه، مما ينهض في تقديرنا الخاص حجة على حقيقة الاكتناف التي سبقت الإشارة إليها، والتي لم تسمح "للتَوْنَسَة" بتجاوز ضيق مستوى التعيين الجغرافي لتنافس مستويات التعيين المحورية آنذاك ونقصد الانخراط في رابطة العروبة وإعلاء مكانة الصدور عن الإسلام، وهو ما ضمنته لزمن طويل الروابط القبلية الدموية وأفشته آصرة الأخوة في الله والتقرب إليه من خلال الاستغاثة بالصلاح والاحتماء بأربابه.
أما بخصوص مضمون الكتاب، فقد عكست أراء الحشايشي في جملتها وعلى دقتها التي لا تمارى حقيقة وقوفه مع اجترار السائد والتزامه بحدوده مع تهيب صارخ من كل جديد أو خروج عن العرف أو تهاون بالتقليد أو العادة . كما تبرز جليا وفي مستوى محايث نزعة الاستعلاء لدى سكان حاضرة تونس عن جميع من سواهم من أهل "الآفاق" الذين غالبا ما أحالتهم دونيتهم على "الدرك الأسفل" كلما عنّ للحضر الحديث عن باديتهم ومفاوزهم الخالية من كل عمران.
تلك صورة انقضى فصلها بمجرد أن أدرك التونسيون أن لهم حيال بقية أوطان العالم وشعوبه موقع سيادة وتدبّر مستقل لشأنهم، وهو وعي لا نخال جمّاعهم بغافل عن محوريته راهنا، قياسا لما قدّره توصيف مؤلف "فوائد الهدية"، حتى وإن انفرطت مخلفاته النزقة حاضرا لتندرج ضمن خطاب سكان الدواخل المحرومة وشعارات مختلف الفئات المطحونة كلما هبّت قصد لفت الانتباه إلى تشوّفها إلى استعادة كرامتها المغدورة والتعبير عن أهليتها للدفاع عن  حقوقها المشروعة.  





[1]   ولد محمد الحشايشي في وسط عائلي متعلّم فقد شغل والده خطة العدالة مصيبا من ذلك شيئا من المشاركة في تأليف النصوص الدينية، في حين اشتغل جده بالقضاء أيام حمودة باشا الحسيني (1782 - 1814). تلقى تكوينا زيتونيا حصل في نهايته على شهادة التطويع. ووافق تدرّجه في التحصيل انتشار الطباعة وتعدد الصحف فكتب في أكثرها انتشارا ورواجا بين النخب المتعلّمة على غرار "الرائد التونسي" و"الحاضرة" و"الزهرة" وغيرها، واضعا العديد من المؤلفات المفردة في توصيف رحلاته الصحراوية إلى طرابلس، والأوربية إلى باريس. مثّلت بقية أعماله همزة وصل بين عالمين متباعدين معاشا ومعرفة، حتى وإن نمّت توجهاته عن انحياز للسلطة الحاكمة في شقيها التونسي والفرنسي.  وعلى الرغم من تغليبه للخمول والمهادنة فقد أصابه ضنك العيش وعسره، وتعيّش من قيس الأراضي والعدالة وحزّ في نفسه عدم تمكينه من الالتحاق بالتدريس بالمعهد العلوي وقَصْرٍ أمله في حفظ رصيد المكتبة الأحمدية بحامع الزيتونة. (راجع تعريف محقق "فوائد الهدية" الجيلاني بن الحاج يحي ص 13 - 21 ).         
[2]   الحشايشي (محمد بن عثمان)،العادات والتقاليد التونسية الهدية أو الفوائد العلمية في العادات التونسية، تحقيق الجيلاني بن الحاج يحيى، سراس للنشر، تونس 1994. في 464 صفحة. 
[3]  نفسه، صفحة 26
 [4]  نفسه، ص 25 انظر المنتقيات المتصلة بالمقالة السابعة في أخلاق التونسيين وعموم أهل القطر...صفحات 177 – 178 "تفاصيل في طباع أهل القطر وكل شعب وما اختص به".  


  

samedi 19 juillet 2014

الأغاني التونسية إيقاعات الذاكرة التونسية (صدر ضمن العدد 31-33 من مجلة أكاديميا جويلية 2014)








         لو عنّ لنا التساؤل بخصوص مدلول دقيق يقارب تمثّلنا كمجتمع يمتلك حدا معقولا من التجانس المحدّد للانتساب إلى وطن مشترك لإرثنا الغنائي والموسيقى، لاضطرنا ذلك قطعا إلى معاودة زيارة أثر جامع مر على خطه اليوم قرن من الزمان، ولم يفقد بريقه كحجة في ضربه ومرجع في معارفه. فقد أهدى محمد الصادق الرزقي (1874 - 1939)[1] للمكتبة التونسية أثرا جامعا في عادات التونسيين وتقاليدهم وآدابهم في الفن والغناء، تخيّر له عنوان "الأغاني التونسية".
ولئن بدا لنا من الصعب تحديد مقومات ذلك التجانس معنًى ومغنى، باعتبار قدم الممارسة الموسيقية تونسيا وعودة القرائن الدالة على إرهاصاتها الأولى إلى آلاف السنين، فإن ما تناقلته الأجيال عبر التواتر الشفوي من إرث مجهول الهوية، هو ما يشكل حاضرا مخزونا مهيمنا وصل إلينا وفق أشكال تعبير موسيقية يمكن اختزالها في  ضروب أساسية ثلاثة هي:
الموسيقى الشعبية، تلك التي تفتقت عنها عارضة مختلف الفئات الاجتماعية وأثثت معاشها اليومي، معبرة عن أدق مشاعرها هزلا وجدا، زمن المسرّة والفرح وفي حال الشدة والكرب.
وموسيقى "المالوف" التي تحيل على طبوع المغنى المغربي الأندلسي بتونس ومتقن التعبيرات الموسيقية الكلاسيكية ببلادنا.
والموسيقى الطرقية التي تمثل تعبيرات فنية غنيّة ومتنوعة تحيل تاريخيا على بدايات التصوّف المنظم في القرن الثاني عشر. فقد ارتبط هذا الضرب في أصوله بامتداد ظاهرة التزوي والاعتقاد في الصلاح وأربابه مغربا، وشكّل منذ ذلك التاريخ محملا أساسيا لطقوس الاحتفال الديني كما الدنيوي.
والبيّن على لما أثبته العارفون بالشأن الموسيقى التونسي، أن تفاعل مختلف تلك العناصر الثقافية، هو الذي أدى إلى بروز خصوصية أو قالب معروف نشأت عنه بالتقادم هوية موسيقية مخصوصة، وشكّل الخيط الهادي في اتساق توارثها عبر الزمن. كما أن توظيف تلك الضروب بشكل منفصل أو بطريقة متّصلة مع عناصر موسيقية وغير موسيقية متنوعة، هو ما سمح بإنتاج ما أُطلق عليه تسمية "اللهجة الموسيقية التونسية"[2]، تلك التي حدّدت ولا تزال كيفية تلقي السامعين والمولعين بتلك الأعمال وردّها إلى إرث موسيقي مشترك.
ويفترض حضور "لهجة موسيقية تونسية" من وجهة نظر العارفين بطبوعها، الاعتماد على لهجة محلّية، أو توظيف إيقاع موسيقي موروث أو طبع أو نغمة أو صوت شكّل عنصرا مميّزا ضمن ضرب من ضروب الموسيقى التراثية التونسية، أو التعويل على توشيح وإيقاع محسوب عليها. كما يفترض أن تتوفر تلك اللهجة على عناصر أخرى تكتسي أهمية بالغة في عملية تذوّقها من وجهة نظر النسبة والانتماء، على غرار التعويل على صوت موسيقى مميز، أو الاستناد على عنصر موسيقي يتوفر على بعد رمزي أو شكلي له صلة وثيقة بصورتها النمطية، حتى وإن اندرج ذلك العنصر خارج مجالها الفني أو التقني البحت، على غرار القيافة أو التزويق أو موضع العرض أو سياق الاحتفال.
لذلك تشكّل الموسيقى التراثية لا موسيقى التراث، عملية توليف للعديد من التعبيرات تحيل على الثقافة الموسيقية للمجموعة خلال مرحلة معينة من تاريخها، وتمكّنها من تمثل "لهجتها الموسيقية" المحلية وربطها بمدلول ثابت ومحسوس لهويتها الموسيقية الجماعية.
تصدر الأمثال عن أفواه الناطقين بحكمتها، والخرافات عن العارفين بتفاصيل وقائعها وحبكاتها، أما الأغاني فتصبو إلى أن يردّدها الكافة فوريا في إخراج جمعي، حيث تعبر الجماعة عن ذاتها ضمن عرض تلقائي، يكتفي بذاته عن جميع أشكال التواصل المعروفة وشروطها. لذلك يبدو مدهشا حقا أن يكون بوسع الفنون المحسوبة على الشعب، أن ترتقي ومن خلال المغنى إلى مستوى التعبير الثقافي الرفيع، متوسّلة في ذلك بالإنشاد، مقتطعة لنفسهما حضورا شاعريا يتسم بأدبية مستقلة تعشّش في الذاكرة الجماعية وتشكل إطارا للخلق والإبداع يصعب التدقيق في مقتضياته ومعالمه[3].
ذاك ما أراد مؤلف كتاب "الأغاني التونسية" التعريف به، لما عرض على راعي الفنون والآداب المستقر بقصر النجمة الزهراء في الضاحية الشمالية لتونس، البارون الانجليزي الجنسية والفرنسي الأصول "رودولف ديرلنجي Rodolphe d’Erlanger (1872 – 1932)  وفي أواسط العشرية الثانية للقرن الماضي فريدته التي استوفى تحريرها حول عادات التونسيين الموسيقية وتقاليدهم. فآثر بها هذا الأخير خصيصة نفسه، حاجبا ظهورها عن كل ناظر. إلا أن مشيئة القدر أعادت دّرها إلى مكمنه، لما أقامت على نشرها المؤسسة الراعية للثقافة في دولة الاستقلال ونقصد كتابة الدولة للشؤون الثقافية والأخبار، وذلك بعد نصف قرن من موعد الانتهاء من تأليفها.
يحتوي أثر الصادق الرزقي على لمحة تاريخية جامعة حول علاقة العرب بالمغنى، وعرض لتاريخه خلال مختلف الأدوار الحضارية التي مرت بها بلاد العرب والإسلام، متفرّغا بعد ذلك للوقوف عند مكونات الموسيقى المتقنة الموسومة بالمالوف، فمضمون الاحتفالات الدنيوية والدينية والقائمين عليها، فضلا عن تعريفات موجزة بالطرق الصوفية المنتشرة بالقطر التونسي وتوضيحات أتنوغرافية دقيقة ومفيدة بخصوص طقوس الاحتفال وعرض مرقّم للطبوع التونسية في نوباتها الثلاثة عشر المتداولة أو المعروفة. وختمت العروض بملاحظات قيّمة حول عدد من الظواهر الناسلة عن المغنى التونسي مثل الموشحات الموضوعة في الطبوع والإيقاعات التونسية وملحون الأزجال الماجنة للهامشيين.
ونعرض في ختام هذه النبذة إلى عينات مختارة من مخزون الأغاني التونسية:     
         أبيات من أغنية "مع العزّابة"
نا بكرتي شردت مع العزّابة      خشّت بلاد الشيح والقطابة
...
يا سايقين البلّ يا جمّالة        تونس بعيدة والعرب قتّاله
يا تونس الخضراء يا مسميّة     بلادي بعيدة والعرب قطعيّه
هاك الجبل لزرق جبل والدتي    يا ليتها عقرت ولا جابتني
ها يا جبل وسلات وسّع بالك     اللي جرى للحامة يجرى لك
 أبيات من أغنية "يا مقواني"
نخطم على الأوهام يا مقواني      الريح قبلي والعجاح عماني
زيد الحطب للنار خلّي ترقى       طفلة صغيرة ما تطيق الفرقة
...
وشمة على البزول يا ما أزرقها        حرقت قلبي قبل ما نلحقها
يا زرعين الفل فوق عليكم            لاش الغريب يموت بين يديكم
طيرة على القفّون ضبح جلجلها       الما حذاها والعطش قاتلها
هوني منازلهم وهوني كانوا           هوّنتهم على خاطري ما هانوا
...
شيّعتهم بالعين مشيّع راجع          والوحش والغربة يخلّي مواجع
أبيات من أغنية "فراق غزالي"
العين تنحب من فراق غزالي    حتى لذيذ النوم ما يحلالي
رحــــــــــــــــلـــــــــوا بـــــــــــــــــــــــــــــــــها         سود المِيَامِي مذبّلة عينيها
لو كان صابت حكمها بيديها   يِحْدِثْ عليها تقول جيبوا خالي
يِحْدِثْ على العبد ساعات      شيء الذي لا يوالــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم  
واللّي يقرا العقوبــــــــــــــــــات        تبعد عليه المظالـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم
وْزِنْت حكّرت الأوقات         لا حد من حد سالـــــــــــــــــــــــــــــــــم
حكّر تنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــجى         أُوزِن بعقلك في مثيل السنجه
محال نصبر على فراق الغنجه   وفراقها ما كان شي في بالي    
أبيات من أغنية "لميت لمّ المخاليل"
لميت لمّ المخاليل       عدّيت الأيام طالوا
خليت صُرْبَه مهابيل     في غيبتي آش قالوا
يا لندرا يا جناني       في غيبتي من يصونك
خايف يزوروك الأعدا   ويقطّعوا من غصونك
يا نار عفّي عليّ       يا نار قلبي حرقته
يا نار اشعل شويّه      في قلب اللّي عشقته.  
لا يزيد ما جمعه مؤلف الأغاني التونسية وفقا لما نعتقد أن قارئ هذه العجالة قد تفطن له بعد، عن اقتناص مشبع الكلم بعد أن ترسّخ في الذاكرة الجماعية لفظا وطبعا وإيقاعا، وأنشدته حناجر التونسيين صاغر عن كابر إلى أن وصلنا مُعجما في لغة بسيطة وفي شكل ينم عن حسّ مرهف وذوق أخاذ.
تلك لمحة خاطفة أردنا من خلالها تقريب تحفة في صُنعها وفريدة في ضربها، وشّحها مصنفها بأفانين لم يبل الزمان من نضارتها، ولا يمكن لمكتبة تونسية خاصة أو عامة أن تستغني عن حضورها ضمن أمهات كنوزها.


صورة نادرة للصادق الرزقي 




[1] لد سنة 1874 ببنزرت وتعلم بها ثم انتقل إلى تونس في حدود سنة 1909 ليعمل بإدارة الغابات ويسهم في تأسيس العديد من الشركات والجمعيات الثقافية. ثم تخلى عن الوظيفة ليشتغل بالنيابات التجارية وأصدر مع بداية عشرينات القرن الماضي مجلتي "العمران" و"إفريقيا"، فاتحا مكتبا للنيابة العقارية وذلك حتى موعد وفاته في 22 من شهر ديسمبر 1939.
[2] Sakli (Mourad), « Musique néo-traditionnelle arabe et contrainte identitaire : le concept d’intonation musicale », in Actes du Congrès des Musiques du Monde de l’Islam, Maisons des Cultures du Monde, Asilah 2007,  http://www.mcm.asso.fr/site02/music-w-islam/articles/Sakli-2007.pdf 
[3] Febvre (Lucien), « Folklore et folkloristes », dans Annales d’Histoire Sociale, vol. I, 1939 p. 152 – 160. 




lundi 14 juillet 2014

حول رواية " القرن الذهبي أو "الكواتروشنتو" لـ "ستفن غرينبليت




        



                

       عاين القرن الخامس عشر أو القرن الذهبي أبرز اختراعات الأزمنة الحديثة، فقد ساهمت الطباعة في إحداث انقلاب في نمط انتشار الثقافة، تلك التي تحولت تبعا إلى أداة محورية في توسيع دائرة انتشار محدث التصوّرات والأفكار. في خضم أحداث ذلك القرن يعرّفنا "ستفن غرينبليت Stephen Greenblatt" على شخصية الرحالة "بوجي الفلورنسي Poggi le Florentin" الطريفة المولعة بالتفتيش عن كنوز المخطوطات الدفينة المتصلة بالمعارف الإنسانية القديمة داخل الكنائس وأديرة الرهبان. فقد شغل بطل هذه الرواية مهمة كاتب خاص للعديد من بابويات الكنيسة الكاثوليكية، موظفا التصاريح التي مدوه بها للتنقيب عن ضالته في مختلف أماكن التعبد والانقطاع للعمل التي زارها، وهي التي شكلت أهم مراكز القراءة والحفظ وإنتاج المعرفة والائتمان على المصنفات النفيسة بكامل أرجاء إيطاليا القرون الوسطى.
لم يكن من السهل على شخصية لا تنتسب إلى الوسط المتدين أن تُفتح لها أبواب تلك الخزائن، غير أن بطل "الكواتروشنتو" قد نجح في كسر الطوق وتكشّف على المحظور عن أعين الفضوليين من أمثاله. فقد توصّل في يوم من أيام قرن بداية عصر الإحياء إلى العثور على قسم مخطوط من ديوان الفيلسوف الروماني لوكريس Lucrèce الذي عاش خلال القرن الأول قبل الميلاد يحمل عنوان: "في طبيعة الأشياء" De natura rerum وهو قصيد فلسفي مكتوب باللغة اللاتينية يُحسب على الجنس الملحمي، شكّل ترجمة مستحدثة لمختلف الأفكار والتأملات التي بشرت بها الأبيقورية في دعوتها لكسر أصفاد الأبواب الموصدة والتكشّف على حقيقة الكون عارية حتى يتمكن البشر من القطع مع التهيؤ والخرافة ويترقى في سلم التأمل حتى بلوغ مقام السكينة الروحية.
من بوسعه أن يتصوّر أن فلسفة في قيمة ما خلفته الأبيقورية مضمّنة في ديوان الشاعر الروماني لوكريس ستبقى محفوظة في خزانة مكتبة دير للتبتل والانقطاع يُحرّم سدنته الاطلاع على نظريات "إلحادية مشبوهة" كتلك التي خلّفها فلاسفة اليونان الماديون الموصومون بتقريظ اللذة والإرجاف بالزندقة. ثم من هو ذاك الراهب الذي عكف على نسخ أثر كهذا في غضون القرن التاسع الميلادي ودسه بعيدا عن عيون الفضوليين في ركن معتم رطب حماية له من صروف الزمن وأرزائه ومن غائلة التلف والحرق والغرق دهرا لا يقل عن خمسة قرون، وذلك في انتظار أن يقع في يد "بوجّي الفلورنسي" المولع بالتفتيش عن كنوز المعارف الإنسانية القديمة ذات يوم من أيام سنة 1417.
حكاية ذلك الكشف الفارق والصراع من أجل خروج أفكار قدامى الإغريق والرومان من ظلمة الأديرة إلى ساطع الأنوار، هي ما قصه علينا "ستيفن غرينبليت" بتدبر وبالتعويل على ألفاظ ميسرة لا تنقصها الدقة أو التبحّر تحتاج إلى زاد ثقافي رفيع حتى يدرك القارئ أهمية هذا الكشف في انطلاق إرهاصات الإحياء الأولى والقطع نهائيا مع أفكار القرون الوسطى وخرافاتها.
تم اعتبار "الكواتروشنتو" أفضل رواية تاريخية لسنة 2013، حتى وإن تفطن كل من قُدر له الاطلاع على مضمونها أنها لا تمت للجنس الروائي التاريخي بصلة، وأن علاقتها بالمقابسة الأدبية أمتن وأوثق.  وهي حقيقة سيدركها قراء هذا الأثر بسهولة بعد اطلاعهم على مضمون التصدير الذي مهّد به الكاتب لعمله، فضلا عن طول فصوله وأسلوب سرده الذي يتعارض مع تقنيات القص الروائي، دون أن يتنقّص جميع ذلك من قيمة عروضه الممتعة وجاذبيتها.
لم يقتف مؤلف رواية "الكواتروشنتو" أساليب "أمين معلوف" أو "جلبارت سينوي Gilbert Sinoué" و"كريسيان جاك Christian Jacques " الروائية التي تقحمنا دفعة في مغامرات تحيل على سياق تاريخي بعينه، فقد تمسّك كاتب هذا الأثر الشيّق وفي أغلب فصول مؤلفه بنظرة الباحث في علم التاريخ لا بتلك التي يوظفها القصاص في كتابة نصوصه الروائية، يكفي أن نحيل على كثرة الشواهد والمقولات والملاحق المتصلة بالمتن، حتى ندرك أن تقاطيع شخصية "بوجيّ الفلورنسي" بطل رواية "الكواترشنتو" منغرسة بكليتها في التاريخ لا في القصّ والروائي، لكن مثل تلك الحقيقة لم تشكل البتة حاجزا بين المؤلف وبين حصول مقابساته على جائزة البولتسر الذائعة الصيت أمريكيا.
ينقلنا مؤلف "القرن الذهبي" على كفوف الإمتاع والمؤانسة لاكتشاف تفاصيل مرحلة معلِّمة من تاريخ الغرب الأوروبي. فحال حديثه عن واقع الكنيسة الكاثوليكية يقرّبنا "غرينبليت" من تفاصيل أيامها وأعمالها حتى نخال أنّنا تحوّلنا إلى جزء لا يتجزأ من مشهدها الكدر، وعندما يحفل بتاريخ دير من الأديرة نجد أنفسنا إزاء زخم من التفاصيل الدقيقة المتصلة بالمكان وسياقه، لكأن عارضها قد تخلى عن مشروع روايته الأصلي مفضّلا التمسك بعمل المؤرخ عن التورّط في دور الراوية، غير أنه سرعان ما يعود إلى بطل روايته "بوجّي الفلورنسي" ووقائع اكتشافه لديوان "لوكريس" وأجواء اطلاعه على فلسفة "أبيقور" وطقوس المعرفة عند قدامى الإغريق.

يلعب "لوكريس" دور الدليل المثالي لفهم "حقيقة الأشياء" وإعادة تشييد الذات كي تكون أمضى عزما على شقّ طريقها في الحياة بفضول الملتذ، مستقبلة نهايتها المحتومة بما يحتاجه ذلك من إباء وعزة وكرامة. فالذات البشرية هي الباعثة على التفكير في كل شيء، والكون ليس له من خالق أو مصوّر، كما أن انتظامه أو اختلاله لم يصدرا البتة عن تدبير مقدس، أما الإنعام فلا يعدو أن يكون محض تخيّل بشري. ذاك ما ردّده أبيقور وأعادت أشعار "لوكريس" تصويره خلال عصور غابرة تحكّمت الأرباب أثنائها في كل شيء. ولنا أن نتصور وقع الانفجار المدوي الذي خلفه إخراج "بوجّي الفلورنسي" لكتاب "طبيعة الأشياء" في قلب إيطاليا البابوية المتزمتة، حيث لم يكن من الهين ولا من المعقول أيضا أن يتعمد المرء حال عثوره على مخطوطة نفيسة وفريدة كتلك التي نحن بصددها، أن يعرّضها مجدد للضياع أو التلف من دون أن يجهد نفسه في عرضها على واسع القراء كي يتفحصوا مضامينها الراقية وذلك بعد الاحتفاظ لنفسه بنسخة من أصلها.