dimanche 3 mai 2015

فَنْتَازِيَا بأقلام ملوّنة أو حكمة اللايقين: قراءة ذاتية في كتاب علي سعيدان الجديد خِيلْ ولِيلْ

















"كُلْ جِيعَانْ يَشْبَعْ إلا جْيعَانْ وُذْنَه"


         للطفولة سحر لا يمارى، فكلما سافر الواحد منّا في أعماق ذكرياته إلا ونقله تيار قوي إلى يراع ساحرة يستجلب عبر ألوانها الزاهية حلاوة لهوه البريء حتى يوشك أن يعدم الظفر بطريق العودة من جديد. تحتفظ الذات العاقلة بما ينيف عن ستة آلاف سنة من الحكمة، إلا أنها تعاود السقوط أزلا في حبال الطفولة حال انبلاج فجر كل جيل جديد. بالحدس وحده يستشعر المرء ثراء لحظات غبطة مختلسة غيّبتها شدائد سنوات الكدّ والمغالبة يستحيل علينا عقلا ومنطقا استعادتها في نظارتها الأصلية حتى وإن قُدر لنا أن نضحّي من أجل ذلك بنفيس ما نقش في ذاكرتنا من جليل الوقائع. فالطفولة مربّع أصيل يسكن عميقا في ذاكرتنا نحتاج دائما إلى بذل مجهود خرافي لكي ننقذه من غياهب التلف والنسيان، فجميعنا غير قادر على تحمّل ضربات الزمان الموجعة والوقوف من جديد لولا تشبثنا بقدر غير قليل من براءة الطفل الكامن بداخلنا ورفضنا ابتسار أفق الإنسان في مسار إجباري محتوم نحو رمسه.
يرسم علي سعيدان على مسطّح أوراق إلكترونية ملونة بأقلام طفولته الغضة، مشاهد من حديقته الخلفيّة. "يد فانية" تنقر على لوحة مفاتيح مُستحدَثِ الحوامل وبالبنط الرقمي العريض لمدوني الألفية الثالثة، منتخبات لخواطر عاصفة وذكريات عابرة تعقبت بتدبّر المُقتَصِدِ تقلّبات الزمان وأهله.
ليس لي أن أدعي حضور لافت ضمن مسيرة "فارس" وافد من حكايات بدو إفريقية وبرابرة "دويراتها" المحفورة في سفوح المرتفعات الصحراوية. فقد كان بوسعه التمهيد لمتن خواطره باستدعاء بليغ أقوال أعلام من بين رفقة طريق عاشروه يحملون أسماء القرمادي وبلخوجة وبن خذر والعجيمي وقلّة والجبالي وآخرون كُثر، تقاسم معهم نفس الحلم والأفق والنضال من أجل نفس المبادئ، غير أنه قَدَّرَ غير ذلك لما أوْدع أمر تصدير قِطَافِهِ بيد جامع أخبار لا يمتلك على الحقيقة غير حفنة من الفضول وعَنَتِ سنوات مديدة من الحفر في مضمون أوراق داكنة محفوظة في خزائن مظلمة عبثت بها الأرضة وأنهكتها الرطوبة.    
مهّد علي سعيدان لخواطره بنص ظريف في غرضه استعرض من خلاله تجربة ترداده على مختلف جهات البلاد وتوسّع دائرة انتسابه لمشروع وطن مستردّ استرجع ذووه جزء من كرامتهم المغدورة، مستجلبا بالتوازي ما أورده صاحب مؤلف "الهديّة والفوائد العلميّة في العادات التونسية" محمد بن عثمان الحشايشي في وصفه لطباع أوطان تونس وعروشها وباديتها وحقيقة اكتنفهم التي لم تسمح على أيامه "لغبار من الأفراد" بتجاوز مستويات التعيين الاجتماعي والثقافي الآفلة الممجوجة، تلك التي تحيل على روابط ثقافية انقضى فصلها، كإدعاء الصدور عن أصول عربيّة أو التفاخر بالانتظام في سلسلة إسلام واجهة، عكسها تشرذم العشائر القبيلة وابتسار آصرة الأخوة في الله في التشيّع لشيوخ الطرق والاستغاثة بالصلاح والاحتماء بأربابه على الحقيقة.
تدفقت مياه الكَلَمِ المقفّى على السجيّة، قصائد للشعر وللمرددين والأدباء الموسومين في لغة تخاطب التونسيين بـ"الغنَّاية أو “لإدبا”، وتلونت على ما أقرّه مؤلف "خيل وليل" وهو عنوان ما نحن بصدد تصديره أصوات القوّالين توافقا مع محليّ اللهجات وما راكمته من ترسّبات سابقة وتأثيرات متداخلة، فتكونت النغمات المعافاة و"المهاوى" بنصوصها وأصواتها وطُبوعها، عاكسة تعدّد الأذواق شأن اختلاف مُحكم الأطعمة ولذيذها. فمن "الحيطي" المتداول بحاضرة البلاد إلى الساحلي والمثلوثي والعبيدي والركروكي والقبلاوي والشهيدي والطرخاني والجندوبي والطوّاحي، وغيرها من الأصوات المحسوبة على جمّاع التونسيين.
نبهتنا العديد من نماذج القول المُغنى الحيّة إلى قدرة اللغة على التبليغ ورصّ الصفوف وإنتاج المعنى وبناء الحضارة والسمو بثقافة الشعوب، وهو ما يحث على إفراد هذا النوع من القول الأدبي بالبحث المحكّم ضمن أقسام المعارف الأدبية والإنسانية بمختلف الجامعات التونسية، شريطة التنقيب على مادتها المحفوظة في الصدور ثم تدوينها والإقبال على تحقيقها وعرضها منشورة على الباحثين والنقاد كي يستجلوا خباياها ويتبيّنوا تطوّر لغتها وأساليبها، اقتفاء لما يكمن في ذلك المخزون الأدبي والتراثي من خيال شعري أو جمال صور سردية تتخطى ابتساره في مجال المشافهة، حماية له من حريق النسيان والفناء الذي يترصد ما تبقى من العارفين بأفانينه، إذ كلما غيّب الموت أحدهم أتلفت ألسنة لهيب النسيان جناح من مكتبة جماعية تنتسب إلى صميم "لحمة [التونسيين] الحيّة". 
يُعتبر الشعر الموسوم بـ"الأخضر" والمحسوب على الغزل، جنسا محبّبا لدى فحول الشعر الشعبي بجهات البلاد التونسية، حتى وإن بقيت ثلاثية "البرق والنجع والكوت" من أحب الأغراض التي لا زالت تأثث القول المسجوع أو الملحون ومغناه بالأرياف والبوادي. ومن العارفين بخبايا تلك الأجناس ونفائسها ممن وصلتنا البعض من دُرَرِهم، يشير علي سعيدان إلى أسماء منصور العلاقي وأحمد البرغوثي والطالب العياري وأحمد ابية  وشبيل الأب والرويسي والصغير ساسي وعبادة والفرحان وملاك، غير أن الميل أوضح لدى سكان الحواضر لمبهج الملحون وحِكَمِه المتوافقة مع قيم الحضّر وجمالياتهم كالولع بأشعار أحمد بن موسى والزغبيب والعيدودي والعربي النجار وصالح بوراس التمزرتي، وذلك على مدى القرنين المنقضيين.
فمن بين المواويل أو "العروبيات" المحبّبة المتواترة على ألسنة المغنيين أو "لإدبا" قطف علي سعيدان زهرات بديعة في طرْزها على غرار:
عينيك وحواجبك سود*** وقلبك قليل الدبارة
هالزين واش تعملي بيه*** ماشي لقبرك خسارة
أو:  داويه يا بنت داويه*** شكروك قالو طبيبة
حلي حزامك ودسِّيه*** والموت راهي قريبة
أو: محبوبتي حلّفتني *** في كل ساعة نجيها
كاس المحبة سقتني*** محال نصبر عليها.
يعرض مؤلِف "خيل وليل" إلى ما يزيد عن 43 قصيد شعري جادت بها قريحته أو نقله عن غيره على رِسْلِ ذاكرته الحيّة. حُبّرت مختلف تلك الأفانين في اللسانين الشعبي التونسي ورصيفه الفرنسي، محتفية بمعاني إنسانية سامية مثل الشهامة ونبذ الاستكانة والرضا بالذل والتحريض على بذل النفس والنفيس فداء للأوطان والتأسّي من عذاب الغربة ومراراتها والشوق إلى مضارب الأحباب والتحرّق على الزمن الجميل والخوف من عتمة القادم وانسداد أفق المستقبل، فضلا عن تقريظ الراح والتغزّل بالمعشوق والافتتان برقته وموسيقى أقواله وأفعاله وغنج حركاته، مع محاولات طريفة نقلت بعض ملزومات الشعر الشعبي إلى اللغة الفرنسية أو أقلمت بعض قصائد "شارل بودلير" ومنثورته مع وجدان التونسيين المحلّي حال التعبير في لغة تخاطبهم عن الإحساس بالضيق والملل.
وتستوقفنا بهذا الصدد شواهد دالة على غرار الاستعارات الجميلة الواردة ضمن قصيد "فراغ":
"قلبي جراله كي الجابية المكسورة
على بير نازح ماه ليه سنين
الجمل أطرش والدلا مقعورة
حبلي رشى وجرارتي تنين
 لا الغرس ثمرلي وامتلت مطمورة
مليت فراغ حياتي بالخاويات حزين. 
 أو تلك التي حملها نص "عامين ليّام عدان" المستلهم فيما بدا لنا من ملزومة علي بن عبد الله المرزوقي الذي أرخ لسقوط البلاد في الاستعمار بعد إمضاء معاهدة الحماية سنة 1881 ومما ورد فيها:
"عام كذب عام أخبار عام انذاير*عام الـْبَات الوطـْن كامل حاير
عــام روامة *عام تسعة التسعين عام يتامـى
عام شاب مولود انولد في عامهْ *عام انكفخ من كان ليه دباير
عام غيبوا الأتراك و العلامة * عام إن غدا عظم الحبيب نشاير"
بينما يفضح علي سعيدان من جانبه وبالاتكاء على ذات التقنيات الشعرية السياسة الفاشلة للمتاجرين بالدين والخائنين للأمانة ممن أطلّوا على التونسيين في غفلة من أمرهم مدجّجين بأموال دول القاز الفاسدة "ليشتروا بذلك متاعا قليلا": 
عامين ليَّام عدَّان
تلبليب بلاشي نفيعة
الوطن ملكوه خصيان
بلا عقد تمُّو البيعة
خانوه وما فيهم آمان
لآحمد صارو صنيعة
بالدين خثلة وبهتان
وقالو هاذي الشريعة
وضحكو على شعب مطمان
ورموه في همهمية
من بعد ما خداو لامان
غدروه بالشاكرية.
يستحلب المؤلف بعد انغماسه في طقوس القوالين وأفانينهم مختارات من نصوصه النثرية طوّحت في أغراض شتى مترصّدة واقع الثقافة المعتل وتلاشي الاهتمام الجاد بالمخزون التراثي، متعرّضة إلى مفاصل زمنية فارقة عيّرتها من بوابة علاقتها بالذاكرة الجماعية، بينما أُفرد للجوانب النضالية المتّصلة بالالتزام المدني حيّز مهمّ ضمن الـ 126 خاطرة أو مقابسة أو قصيد شعري.
فقد دعا الكاتب إلى تمثل الكَلَمِ من وجهة نظر صناعته للمعنى لا من وجهة نظر طبيعته التواصلية، مستدعيا حكمة الأجداد حال استجلابه لما ورد ضمن السيرة الهلالية وحكايات الجازية وأخبارها الحاملة لقيم القبيلة وتجاربها المعيشة، مستجمعا ذلك للتحذير من تراجع الفضاء المعدّ للمخالطة وتفشي ثقافة افتراضية معولمة معلّبة مسويّة إلى أسفل تُعلي قيم العنف والتشنّج والحرمان. ومما أورده في هذا الغرض حديث الجازية عن الرجال الذين يتعين رثائهم والنحيب عليهم بدمع حار ولوعة مرّة:
" ثلاثة من الرجال يا هلال بو علي يستاهلو البكاء وعليهم تنُق العين يغرد نحيبها.
الأول منهم اللـّي يعرض راسه للبلاء ويطفـّي نار سامر لهيبها.
والثاني منهم اللـّي يفرح بالخاطر في سنين الشدة والشحايح منين الرجال شربة من القربة تكيدها.
والثالث منهم خفيف النفس فصيح اللسان اللـّي ياخذ حقه وحق من يريدها.
وباقيهم يا هلال بو علي، غير بص على العمى… جيـّابات ذراري، حرّازات نساء، كثـّارات رموز، هزّازات كلام، وكـّالات مثاريد عصيدها لا يستاهلو لا حزن و لا بكـاء."
يعتقد علي سعيدان في أن كل من عاش مع والده قد سمع بالضرورة مقالة جده 'اللي خلَطْ على بوه، سمَعْ ما قال جدُّه"، وأنه بهذا الشكل وحده  تترابط حلق الأجيال ناظمة لسلسلة العادات والتقاليد، محتفظة بشجرتها يافعة وبأوراقها خضراء، وأن ما سوى ذلك تبلّد للذوق يعدم تناقل المعارف بالتعويل على التذكّر والذاكرة، داعيا إلى إحياء السماع كابر عن كابر، مع شحذ ملكة الفضول وسرعة الخاطرة ورد الاعتبار لمن وسمهم بـ"الجيل المتصنت" الذي ارتوى من تربيته على السماع منذ الصغر، لأن تشرذم الخلائق وذهاب ريحهم مردّه تفرّق خطابهم على أكثر من دلالة ومن معنى.
يستجلب المؤلف عينات مما احتفظت به ذاكرة جيله مستعرضا قبسا من أشعار الشاهد الأبيض في "مرّ فراقك" وعبد الرحمان الكافي في ملزومة "الصبر لله والرجوع لربي". كما يقتطف من "مهاوي الغرب التونسي ملزومة "وحش السرا وبروده"، ومن قصائد الملحون "طامو يا بهيج الخدادة"، لقدور العلوي و"ليّعتني بشد الهوى يا دوجة" لمحمد بن موسى، واقفا في غرض شعر "الخطاري" أو "الملاطم" عند ملحمة محمد الدغباجي "جو خمسة يقصّوا في الجرة وملك الموت يراجي"، معتبرا أن دور المنشدين أو "لإدبا" محوري في تثبيت مشفوه موروث الأجداد اللامادي، وأن العادة في ذلك الالتزام بالغرض الذي أورده الأكبر سنا أو السابق إلى المحفل وفقا لقاعدة "الغناء بالضد اللّي سمعت رُدّ".  
أما الخواطر المتصلة بعلاقة الذاكرة بالتاريخ فتعرض للاعتبار ومغالبة النسيان لما وسمه علي سعيدان "بالدوسيات المحمّمة" قاصدا ملفات نهايات دولة الحسينيين السوداء على غرار عشق أحمد باي "للطنبورجي" الوسيم صالح شيبوب وتشريفه بالضيافة في "بيت الحمص" الذي أُعد لتهيئة الذكران للمضاجعة، وحديث بيرم الخامس في الصفوة عن مساجلات علي بن الزاي ومصطفى بن إسماعيل بخصوص مكافئة قنصل فرنسا روسطان Roustan ودور يوسف الليقرو الموصوم بـ"كلب دزاير" في ذلك. ووقائع دخول القوات الفرنسية إلى الأراضي التونسية بعد إيهام خسيس البايات محمد الصادق بالرضوخ تحت التهديد لإمضاء وثيقة الحماية، وأخبار مقاومة أولاد العروش وصناديدها للاحتلال الفرنسي بين سنوات 1881 – 1887 وانتفاضة "باي العرب" علي بن عذاهم وحملات علي "باي الأمحال" على العروش الممانعة من قبيلة الهمامة، وذكريات سقوط القيروان المدوّي بيد جنود الاحتلال الفرنسي. وانطباع ذكريات المقاومة في تراث "أهل الفزعة من أولاد العروش" القدامى من بينهم والمحدثين المحسوبين على اليسار الرديكالي ضمن سيرة أحمد بن عثمان العثماني، وتهافت المتملّقين ومناضلي الربع ساعة الأخير المتشدقين بُهتانا وعلى حد تعبير سكان غمراسن بأسبقية الأهل والأحبة على توفير المكسب اتقاء لغائلة الجوع والفناء "أهل الوطن قبل البْطَنْ".
بقي أن نشير إلى منعرجات سلكها مدوّن القرن الواحد والعشرين بخيله وليله في منعطفات تاريخ الزمن الحاضر لمّا أدرج ضمن مؤلفه وقفات متدبّرة لما هو حاصل "تحت قبة التدوين وخارجها" من مناكفات طرأت عن تحرر الأقلام والألسنة بعد تبدّل الوقت وتغيّر الخلق وانقضاء زمن المصلحين الموصومين بالتَأَوْرُبِ والفَرْنَسَةِ، وحلول فكر الاحتجاج على كبوات مشروع الدولة الوطنية والمزايدة عليه بشعيرة واجهة تُمحوِرُ السجال حول مدلولٍ غائم عقيم للهوية حال انتشار فكر السلف في البلاد كالنار في الهشيم.
يعتبر علي سعيدان، وهو محق فيما قدّر، أن الإرهاب لا يمكن ابتساره  في تجميع السلاح والأحزمة الناسفة، بل في ما وسمه بالنوايا المبيتة التي تخفيها صور الموتى في القبور على قنوات المبشّرين بثقافة الخوف ترهيبا للملايين من المؤمنين المطمئنين من «عذاب القبر»، وتدميرا لحياة جماع المسلمين بإقصائهم عن تمثل مسؤولياتهم الفردية بمنأى عن وصاية الجماعة وإدعاء القدرة كذبا وبهتانا على ضمان الغسل والجنة شريطة التسليم والخنوع. والأدهى من كل ذلك هو تحالف العديد من العناصر المحسوبة على النخب المثقفة مع المدافعين على تلك الأفكار، تحت غطاء الدفاع عن الحريات واستجلاب المصلحة العامة والفكر التجديدي المتنوّر والقيم المدنية، بينما تنجلي مقاصدهم الانتهازية من خلال بحثهم المكدود عن الإمساك بموطئ قدم معرفي أو احتلال موقع أمامي ضمن "ماكينة" الإعلام والثقافة والقبول في صغار ومهانة بخدمة مشاريع أسوء الاحتمالات والانصياع لكِبَرِ المستثمرين فيها وجحودهم. وهو ما يطرح على المجتمع المدني بجميع شرائحه رصّ صفوفه وتضافر جهوده لكسب مساحات جديدة للمبادرة والاشتراك في صناعة القرار المستقل عن كل أشكال السلطة مادية كانت أم عقدية أو فكرية، دون أن يترتب على ذلك خرق للقوانين، لأن رفع الحيف لا يصدق إلا بالتضحية ومضاعفة المجهود وتنويع المبادرات دون استهزاء بمكر التاريخ أو تلاعب بالنار عبر التورّط في تكديس السلاح والأحزمة المتفجرة والسيارات المفخخة وجميعها ممارسات غادرة غالبا ما تكفّلت بتنفيذها ذوات ناقمة حقودة تأبى أن تزرع، ولا تريد لغيرها أن يُجهد نفسه من أجل هكذا رهان.
يحدّد "فارس الخيل والليل" مطلبه في مراكمة مكاسب المعرفة "عالمة" هي أو"شعبية" بغرض تجاوز ثقافة التخوين والتكفير والقطع مع دواعي التحجّر وضيق الأفق، أو الاستئناس بمنطوق إيديولوجيات حسيّة مقفلة ولّى فصلها بعد انقضاء سياقات توازن الرعب وصراع المعسكرات وتحوّلها إلى ما يشبه النوستالجيا المدعومة بمضحك الأحابيل وفارغ الصدفات منذ ربع قرن أو يزيد. والمحيّر في جميع ذلك حقيقة هو الاقتناع بالعديد من المسلّمات وانعدام الحيرة الخلاقة والتساؤل الفكري المجدّد لصياغة الوقع الاجتماعي وإدراك التحوّلات المذهلة التي تعصف بالقرية الكونية حاضرا، لكأن جميعنا متهيّب من منازلة الرداءة ودحرها، مستعذبا هروبه إلى الأمام وعدم اعترافه بكارثية واقعنا المقطوع عن إدعاء أي تدرّج في التحصيل أو مسك بناصية المعرفة، لأن منطق الانتهازية واحتلال المواقع الأمامية من دون التوفّر عن أي جدارة أو ملكة حقيقية، هو ما يُوشك على تحويل الأجيال الصاعدة إلى حثالة من المتكدّين العاجزين على رسم أفق جديد وذلك في انتظار السقوط مُكرَهين في هيمنة الدخيل المستنبت في غير تربته وتعاظم دونيتنا المزدوَجة إزاء الغرب كما الشرق.
لم يعد ينتابنا شكّ في أنه حالما يتوفر الواحد منّا على حفنة من خالص الفضول المكلّل بعشق حقيقي للحياة، وعلى ذاكرة متوهّجة تسندها ذائقة فنية محتدمة، فإن الأفكار تصّاعد من لجّ الأحشاء ملامسة الشفاه منّا، فتضمحل الفوارق بين مسطور ومنطوق وتَرسُم الأقلام أفكارا على مسطّح الأوراق أو تُمْلَى محكّمة في شكل خواطر ومقابسات، يشغل ضمنها رفيع الأدب دوره الأزلي في جلب خالص المتعة وتجزية الوقت. يكفي أن نمد الطفل القابع بداخلنا بقلم وورقة حتى يشيّد قصوره المسحورة ويلوّنها بألوان أبطال أجمل الأساطير والحكايات المُقْدِمين في إباء وشَمَمٍ على تبديل الخلق وتعديل عقارب ساعات الكون.