vendredi 17 juillet 2015

لطفي عيسى في حوار أجرته معه صحيفة الشروق بتاريخ 6/ 7 / 2015 : علاقتنا بالذاكرة ملتبسة وبناء علاقة سوية وصحية أضحى ضرورة ملحة












لطفي عيسى أستاذ جامعي مختص في التاريخ الثقافي الحديث وتاريخ الذهنيات والأفكار بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة تونس.
الشروق التقته خلال الأسبوع المنقضي قرب منزله الكائن بقرطاج بيرصة، وأجرت معه حوارا حول مسائل عديدة ومتنوعة منها ما يتعلّق بـتصوّراته بخصوص بحثه حول «مغرب المتصوّفة»، اعتقادا منها تمكّنه من المدوّنة التراثية المغاربية، موضوع اهتماماته البحثية، وقدرته على قراءتها في ضوء معطيات العلم الحديث.
وكذلك اهتمامه بمجال الشأن العام، وشغفه به، الأمر الذي حفّز محاوره على إمكانية استغلال جزء من مهاراته العلمية وتوظيفها في مزيد فهم واقع تونس «الجريحة» و«المأزومة» التي هي اليوم في حاجة إلى مجهودات كلّ أبنائها. وإليكم محتوى الحوار:

تتابع الشروق باهتمام إنتاجاتكم العلمية البالغ عددها حاليا عشرة كتب في شتى أغراض التاريخ الثقافي. فلماذا ركّزتم في هذه البحوث الجامعية على المنحى المشار إليه سلفا دون غيره من المجالات التاريخية الأخرى؟
لقد حصل منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي منعرج في التعامل مع المصادر التاريخية من وجهة نظر تركيز البحث على جوانب لم تكن مطروقة سابقا، على غرار تاريخ الحس والأحاسيس، والتاريخ الثقافي للأوساط الاجتماعية، وتاريخ الثقافة السياسية. وبرزت ضمن هذا المجال مدارس مهمّة في الغرب على غرار "المنعرج الألسني" بأمريكا و"التاريخ اليومي" بألمانيا وهولندا والتاريخ المجهري بإيطاليا.
وانخرط بعض الباحثين المنتسبين إلى  جامعاتنا العربية في هذا الاتجاه على غرار الجامعيين التونسيين والمغاربة خصوصا. وتم منذ بداية الألفية الثالثة إنجاز عدة أبحاث أعدها جيل جديد من الباحثين في التاريخ الاجتماعي والثقافي. ويتصل التاريخ الثقافي بتحديد تركيز الاهتمام على مستوى الذهنيات السائدة، وطبيعة التطورات التي طالتها منذ حيازة المجال وإعطائه هوية ترابية. لذلك، فإن مسألة  الانتماءات تعدّ مسألة حيوية في استجلاء ما يعرف حاضرا بالتاريخ الثقافي، هذا بالإضافة إلى الجوانب التراثية وخاصة المتصلة منها بما يوسم راهنا بالتراث اللامادي، أو ما كنا ندعوه سابقا بالدراسات الفلكلورية، أو البحوث الأنتنوغرافية.
وفي هذا الصدد، يتعين على المنتسبين إلى الجامعات العربية وإلى الجامعة التونسية موضوع بحثنا أن يجيبوا عن الأسئلة التالية:
1 - ما طبيعة العلاقة التي بنيناها مع التاريخ القديم، أي مع تاريخ ما قبل مجيء الإسلام (المتصل بالفترات البيزنطية ـ والوندالية ـ والرومانية ـ والبونيقية ـ والنوميديّة؟
2 - كيف نتعامل مع المصادر المشكلّة لتراثنا العربي الإسلامي بحكم صدورها عن فكرة مفادها أن الإسلام وحضارته يعبران عن كونية المسلمين. فجميع ما وصلنا من المصادر يستند على منهج يعتبر أن الإسلام والعروبة هما مطلق الكون. لذلك يتعين على قراء تلك المصادر تجاوز مسألة التمركز حول الذات، حتى يستوعبوا جانبا من أسباب صعوبة انخراطنا واستيعابنا لمبادئ الحداثة والكونية.
3 ـ أما السؤال الثالث فيتعلق بزعم الغرب ومنذ عصر الأنوار بأن الحداثة متعارضة مع الإسلام، وأن المجال الإسلامي يشكل ـ«استثناءا شرقيا» موغل في الاستبداد وغير قادر على التكيّف مع الديمقراطية.
إن إعادة النظر في هذه المستويات الثلاثة، كفيل بدفعنا إلى التفكير بطريقة مختلفة عن تلك التي تعوّدنا على الركون إليها ضمن مختلف الأبحاث المنجزة داخل جامعاتنا العربية عامة والمغاربية في ما يعنينا.

من المؤشرات الدالة على قيمة محتوى أطروحة دكتوراه ما، وارتباطها بمحاور أخرى متولّدة عنها في واقع اجتماعي متجدّد، هي أن تكون منطلقا لورشة عمل ومشاريع بحوث مستقبلية لمنجزها.
فهل يصحّ هذا القول بخصوص أطروحتكم «مغرب المتصوّفة» وأعمالكم العلمية الأخرى؟
لقد تركز اهتمامي خلال ربع القرن الماضي على جوانب متّصلة بتاريخ ظاهرة التصوف داخل مجال المغارب في علاقتها بالتحولات السياسية والاجتماعية والثقافية أيضا طوال الفترتين الوسيطة والحديثةوقد تبين لي من خلال مجمل الأبحاث التي أنجزتها حول مدونات التصوف المعروفة على غرار المناقب (أي سير أرباب الصلاح والأولياء). وكتب النوازل أو الفتاوى (الباحثة في علاقة فقه المعاملات بالواقع السايسي والاجتماعي) وأدب الطبقات والتراحم (وهي نصوص اهتمت بطبقات علماء وصلحاء أهل السنة المالكية ببلاد المغرب)، أن تحولات الواقع السياسي والاجتماعي لم تخضع لحصيلة التصادم بين الدولة ومجمل القبائل المنتشرة على مجال المغارب، بقدر ما نتجت تلك التحولات عن صياغة جملة من التوافقات كان لمؤسسات الصلاح وأرباب الزوايا دورا محوريا في إنجاحها. وهذا يعني أن واقع تلك المجتمعات لم يعد يخضع لمنطق الغلبة أو الشوكة بالمعنى الخلدوني. فقد أثبتت المصادر التي شملت الواقع الاقتصادي وأشكال المعاش وامتداد مجالات الاستقرار وتطور العلاقة بمدلول الملكية على الصعيدين العائلي والفردي، أن مجتمعات المغارب مجتمعات درجت باتجاه الاستقرار والخضوع لضوابط القانون والحياة المشتركة.
كما حرصت الدولة على التواؤم مع مجمل هذه التحولات لبناء مدلول جديد للانتماء ركّز على صياغة مسطرة ضريبية تربط الراعي برعيته، وتجعل لهؤلاء دالة على الدولة تحتاجها لتبرير شرعيتها وتواصل حكمها.
هذا ما أكدت عليه ضمن العديد من الأبحاث التي اهتمت بالمدونة الصوفية مغربا، وبعلاقة التصوف بالمجال، ومدلول الحرمة لدى المتصوفة، وعلاقة الفكر الصوفي بالذهنيات السائدة، وأخيرا علاقة التصوّف بالمقدّس والعمق الروحي لنخب المغاربة وعامتهم.

تعتبر «الشروق» أنكم تدارستم عدة محاور تاريخية هامة، نقف منها عند موقع الزوايا ضمن مشروع المركزة المخزنية، مما يدفع إلى التساؤل بخصوص علاقة المثقف بالسلطة خلال الفترة الزمنية المتصلة أساسا بضمون أبحاثكم؟
خضعت علاقات الدولة بشيوخ الزوايا إلى تقاليد قديمة تعود إلى فترة نشأة كلتا المؤسستين خلال النصف الثاني من القرن السابع الهجري /13م، ويتمثل مضمون تلك العلاقات في تقاسم الأدوار بين الطرفين، واحترام كل طرف لخصوصيات المهام الموكولة للطرف الآخر، في حين تمثل الهدف المعلن لكلتا المؤسستين في إدماج العناصر البشرية أفقيا عبر الانتساب إلى طريقة والتمسّك بأداب سلوكها، أو عموديا من خلال أداء طقوس الولاء والخضوع إلى ما تفرضه السلطة من أحكام وقوانين.
ولئن عاينت تلك التقاليد تنمر أحد الطرفين أو انفلات تصرفاته تجاه الطرف الآخر خاصة خلال الفترات المتأزمة، فإن مختلف المواجهات التي نشبت بينهما لم تفض إلى إرساء أسلوب تعامل جديد يتباين مع ما حددناه وينحو باتجاه انقلاب من يأنس القوة في نفسه على من هو دونه. فما عرضته المصادر في خصوص علاقات شيوخ الزوايا بحكّام المركزيات السياسية الناشئة أثناء حكم الأشراف بالمغرب الأقصى أو بعد تمركز العثمانيين بالبلاد التونسية كفيل بأن يبرهن على تواصل تلك التقاليد واشتراك الأطراف المستفيدة من ذلك في المصالح، حتى وإن اتجه خطاب البعض من مؤلفي تلك المصادر ـ إما عن قصد أو من دونه ـ نحو إثبات عكس ذلك.
أمّا بالنسبة لتجارب شيوخ الزوايا بتونس فقد تبيّن أن شيوخ الزوايا لم يحدوا عامة على هذا التمشي الرصين متمسكين، بعد مرحلة وجيزة من التذبذب تزامنت مع الصعوبات التي اعترضت مسيرة تشكّل مخزن الأتراك العثمانيين بالانقياد لحكام البلاد والعمل على استرضائهم بشتى الوسائل والطرق، حفاظا على صيتهم الواسع وتأمينا لثرواتهم العريضة، غير أن تمسكهم بهذا التوجّه لم يحل دون تعبيرهم عن عدم الاتفاق مع السياسات التي اتبعها الحكام كلما تعلق الأمر بالحد من تنفذهم أو تحجيم ثروة زاوياهم.

لقد حاولتم في مؤلفكم الأخير «بين الذاكرة والتاريخ في التأصيل وتحولات الهوية» معالجة مسألة العلاقة التي تبنيها الذاكرة مع تاريخ. فهل تعتقدون أن الذاكرة هي نقطة الارتكاز في بناء الدول والأمم؟
تبدو علاقتنا بالذاكرة ملتبسة جدا، لذلك يستوجب الأمر وضع حد لقصرها والفصل في شأنها بشكل دقيق بين التاريخ الذي هو نتاج البحث المتخصّص الذي يعتدّ بمضمونه علميا، ومختلف التهويمات أو الترهات التي تؤثّث ذاكرتنا، حتى يتم الإلمام بالفرق بين الأمرين وبناء علاقة صحيّة وسوية بمدلول تاريخنا المشترك المحدّد لانتماءاتنا، التي لا يتعيّن أن يحول تنوعّها دون حصول انسجام حقيقي بين مختلف الأوساط الاجتماعية، وخاصة فيما يتّصل بتعريفنا لخصوصيتنا المتوافقة مع رغبتنا المتمثلة في الانخراط في الحداثة بمدلولها الكوني من وجهة نظر القبول بالتثاقف لا رفضه المرضي، بل والتصادم معه.

ما مدى استيعاب الطبقة السياسية لمخزوننا التاريخي والتعويل عليه في نشر ثقافة سياسية تونسية جديدة والذي تطرقتم إليه في كتابكم (بالاشتراك) «في التونسة Etre Tunisien»
لا مراء في تجدّد الفاعلين السياسيين أو صانعي القرار في تونس، وهذا أمر محمود في حد ذاته، غير أن المشكلة الحقيقية هي اتسام الثقافة السياسية لمعظم أولئك الفاعلين بالسطحية، واستغراقهم في المناكفة المفصولة كليا عن إنتاج الدلالة، مما يستوجب تعديل الكفّة إزاء صياغة مضامين التواصل مع المجتمع باتجاه ربط الممارسة السياسية بنجاحات تجربة التحديث وإخفاقاتها على مدار تاريخ تونس الطويل.
فليس هناك من بين السياسيين من يحسن الانتقال بين الآماد الزمنية الطويلة والقصيرة ليحيل على علاقتها بواقعنا السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي أو الروحي، بشكل يجعلنا قادرين على فهم ما نعيشه بطريقة أفضل، وتنسيب ما يعتري مسيرتنا راهنا من صعوبات لها وقع كارثي لمن لا يسيطر بشكل تفصيلي على ما مرّت به البلاد من محن وأزمات.

لقد تعرّضتم في أكثر من مناسبة، إلى موضوع واقع الجامعات التونسية وعلاقتها بجودة الأداء المعرفي والمستوى العلمي لمنتسبيها، فما هي خلاصة تصوراتهم المتصلة بهذه المسألة؟
 لعل ما يلاحظ للعيان، هو الانزياح الحاصل في مستوى الانتداب والترقية باتجاه التعويل على الجوانب الشكلية، أكثر من الاهتمام بالأبعاد المعرفية، مما يدفعنا إلى طرح تساؤلات حقيقية بخصوص مستقبل الجامعات التونسية، التي لا نجد لها حضورا فاعلا وإشعاعا للأداء على الصعيد المعرفي دوليا.
ويُعزى ذلك إلى أسباب موضوعية منها:
التهيب من الدخول في تجربة تمتيع الجامعات بذاتيتها وربطها بالنسيج الاقتصادي والمجتمعي، وفتح الانتدابات لغير التونسيين من ذوي الكفاءات العالية، المشهود لهم بالكفاءة عالميا، لأن ذلك من مقتضيات امتلاك الكفاءات الفعلية بالنسبة للأجيال الجديدة، ودخول الجامعات التونسية مجال المنافسة أسوة بغيرها من المؤسسات المكونة للنسيج الاقتصادي.
يتعيّن أن ندرك أن الجامعات عبارة عن خلايا متعدّدة ومتنوعة تضم كما هائلا من المهنيين المنتسبين إلى "جمعيات حرفية"، وأن الارتقاء صلبها يتطلب الحصول على ملكات مهنية غير قابلة للطعن في جودة حرفيتها. وهذا يحتاج إلى مسار زمني طويل، ويتّسم بكثير من الصبر والأناة والانضباط، فضلا عن الولوع بالمهنة والشغف المعرفي. فهل يتوفّر واقع الجامعة اليوم على مثل هذه المرتكزات والشروط التي لا بد من توفرها للحديث عن حضور مؤسسات جامعية ذات مستوى تكوني رفيع، قادرة على نقل العلوم وتمثّلها لدى المتعلّمين، فضلا عن توظيفها التوظيف الأمثل فيما تحتاجه البلاد راهنا من تنمية حقيقية؟ سؤال نترك حرية الإجابة عنه لأهل الاختصاص ومختلف الأطراف المعنية بتحسين الأداء والإسهام الفعلي في إيجاد حلول لمختلف المشاكل التي تواجهنا بصفتنا سكان بلد يتشوف إلى كسب رهان المواطنة.
إن بلوغ هذه الأهداف يقتضي القطع مع جميع أشكال الانتهازية  والانحياز والابتعاد عن أشكال المحاباة والتملق، وكل ما من شأنه أن يُلحق ضررا جسيما بصورة الجامعة باعتبارها محرابا لتلقي المعرفة وجدارة الارتقاء في سلم التحصيل.
لقد تمكنا في السابق من استغلال المدرسة والنظر إليها بصفتها مصعدا اجتماعيا حقيقياأما اليوم، فواقعنا يختلف تماما عن ذلك الذي عشناه سابقا، فالمدرسة قد فقدت قدرتها أو تكاد على صياغة مشروع تنموي في مدلوله البشري النوعي، على الرغم من أنها لا تزال تتوفر على طاقات لدى مدرسيها ودارسيها تؤهل للانتساب إلى أرقى الجامعات الأجنبية، وهذا دليل على حضور حد من المستوى لابد من توظيفه بشكل أنجع حتى لا نجد أنفسنا يوما، وقد أضعنا رصيد تنميتنا البشري بالكامل.

بحكم عملكم الأكاديمي بالجامعة التونسية واهتمامكم بالشأن العام، ما الذي يعنيه مصطلح المواطنة في علاقته بالمؤسسات الجامعية والذي تناولتموه بالدرس والتمحيص في كتابكم «السلطة وهاجس الشرعية في الثقافة الاسلامية؟» (عمل جماعي)
المواطنة مطمح لا يزال بعيدا تونسيا، لذلك يتعيّن على الجامعيين والمثقفين منهم عامة العمل على بلوغه في أقرب الآجال المتاحة. ولا يمكن أن يحصل ذلك إلا من بوابة التركيز على السلوك اللا مدني، الذي اجتاحت مظاهره المشهد المجتمعي التونسي. يتوجّب على الجامعيين بحكم المسافة النقدية والوجاهة العلمية، أن يشهّروا بما تعيشه البلاد من فوضى باسم الخشية كذبا من فقدان مكسب الحريّةفجميع القرائن تدل على أن بلادنا تعيش على وقع التشرذم المؤدي ضرورة إلى اتّساع رقعة الفوضى أو اللادولة. يكفي أن ندرك ما يحصل بتونس الأعماق حتى نمسك بخيوط التآمر والنذالة المعمّمة: التهريب والإرهاب على الحدود الشمالية الغربية والجنوبية الشرقية، والتمويل والتوزيع بجهات وسط البلاد وحواضرها التي تتحكم في مصيرها "المافيات" المستأسدة التي لم تعد الدولة قادرة على كبح جماحها بالقدر المطلوب من النجاعة، فضلا عن محاصرتها والسعي إلى استئصالها.

ما هي الرهانات المستقبلية التي تنتظر البلاد بعد أحداث 14 جانفي 2011 استنادا إلى مؤلّفكم «في التونسة؟ «Etre Tunisien».
أعتقد أننا نعيش في مفترق طريق، فالانتخابات البلدية والمحلية القادمة قد تفاجئنا بما لا يسرّ، من خلال تفاقم الجهويات والنعرات القبلية، ومراكز نفوذ المال الفاسد. أطمح كغيري من التونسيين في مستقبل أكثر إشراقا لبلادي، غير أن جل المؤشرات تدلّ على عكس ذلك بل وتصرّ على قرب حصول المحظور.

ما علاقة الجامعة التونسية بالأشكال الجديدة للتكوين والتشغيل مستقبلا؟
على غرار بقية القطاعات والمرافق العمومية تحديدا، تعيش الجامعة التونسية، وضعية إنهاك وسوء حوكمة مفزعة، لذلك يتوجّب على القائمين عليها الالتفاف من أجل الدفاع عن مكاسبها المتعددة، وذلك من خلال مراجعة منظومة التكوين باتجاه توسيع دائرة حب الاطلاع والتوحه الافتراقي éclectique   الافقي القادر وحده على تطويع الذكاء وتوجيهه حيث القصد والحاجة والمصلحة الملموسة. وهذا لا يعني ضرورة القطع النهائي مع نظام التحصيل المستند على التقدير العلمي والحصول على شهادات علمية، بقدر ما يتعين إجلال "الملكات" وتوسيع دائرة الاقتناع بضرورة وجودها فعليا، حتى يتسنى المرور إلى سوق العمل وفق مفهوم: «أعرض عليّ ما تحذق، أقدّم لك عملا مجزيا يحفظ كرامتك وماء وجهك.

ما علاقة العولمة بمستقبل منظومة التحصيل والتكوين والتربية؟
لابد من الوعي الكامل بالانقلاب الحاصل في المنظومة التربوية كونيا منذ بروز شبكة الانترنت الاتصالية وسيطرة محرّكاتها على مشهد المعرفة والتكوين والتحصيل حاضرا، وهذه مسألة سبق أن توسع الفيلسوف الفرنسي ميشال سير Michel Serres في توضيحها ضمن مؤلفه الرائع «الاصبع الصغير» Petite poucette  والذي عرض علينا علاقة الأجيال الجديدة بهواتفها ولوحاتها الذكية التي تحمل إجابات ضافية ودقيقة على جميع المعارف المرصودة كونيا. هؤلاء يعيشون داخل أجهزتهم ويمسكون بالعالم بأياديهم الصغيرة main-tenant le monde بينما يعيش سواهم ممن لم يساير هذه الطفرة في شبه أمية رقمية، أي بجانب العالم لا في داخلهفليس بوسعنا تحديد طبيعة المهن الجديدة التي سيتم استنباطها بالضرورة على مدى العقد القادم، حيث سيختفي قطعا عالم ليحل مكانه عالم جديد، إلا انه لابدّ من التشديد مرة أخرى على أن قاعدة التكوين ستبقى على حالها، فليس لنا خيار آخر سوى تجديد المحصلة المعرفية وتشبيك التكوين في المعرفة أفقيا، بتنزيل جميع المعارف المنصهرة مع بعضها البعض، قصد حل مختلف المشاكل التنموية التي تعترض مسيرتنا وتمكين المعرفة العالمة من الإجابة على أسئلة الراهن دون سواها.
وهكذا تبدو مشكلة المدرسة التونسية قضية حيوية واستراتيجية شأنها شأن الماء والهواء والطاقة.
كلمة الختام!
يبدو واضحا ان للجامعات دورا حيويا وأساسيا في صياغة مدلول جديد للمعرفة وخاصة في علوم الإنسان والمجتمع، ينبني على مزيد التوغل في سمك الواقع الاجتماعي، علما أننا نحتاج إلى معرفة أعمق بذواتنا تنبني أساسا على الاشتراك في مقومات الانتماء بيننا وبين مختلف المجالات التي شكلت محاور انتسابنا التاريخية. فالدراسات المتصلة بمجال المغارب خلال الفترتين الحديثة والمعاصرة، لا تزال في بداياتها. كما أن معرفتنا بتاريخ مختلف بلدان المتوسط تبدو ضئيلة وغير ذات مدلول من وجهة نظر معرفية. كما أن سيطرتنا المعرفية على تاريخ بالغيريات البعيدة على غرار العالم الأمريكي وبلدان الشرق الأقصى هي في حكم المعدوم أو تكاد. فكيف يمكن والحال على ما هو عليه أن ندرك القوانين الناظمة للعولمة ونجد لأنفسنا موقعا داخلها، من دون أن يكون لنا جانب من المعارف الدقيقة حول الحضارات والثقافات الأخرى نستضيء به لفهم ما يطرأ على ثقافتنا الحالية.
ولعل هذا الفراغ الذي يتعين علينا ملؤه بسرعة، هو ما يفسّر وفي جانب كبير ضعف الثقافة السياسية لدى النخب الصانعة للقرار في البلاد التونسية، سواء تعلق الأمر بالمنتسبين إلى الأحزاب أو المنظمات النقابية وبقية مكونات المجتمع المدني. ومع ذلك فإن تفجّر الواقع الاجتماعي داخل المنطقة العربية ينبئ بحضور حاجة أكيدة لدى مختلف الأوساط الاجتماعية للتغيير في مدلوله السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافيكما أن ذات الوضع يحيل على واقع الفراغ الذي تعيشه الأجيال الجديدة، نظرا لانغماسها في عالم افتراضي ليس له دائما علاقة مباشرة وملموسة بتعقيدات الواقع المعيش، لذلك احتلت وجهات النظر القصويّة موضعا محوريا يدفع باتجاه تبرير العنف والتمسك بمواقف هي أقرب ما يكون إلى المحافظة والتكلس الذهني منها الى الرغبة الحقيقة في التجاوز ورسم أفق ينسجم مع مبادئ المواطنة وضوابط الكونية.
حاوره: مصطفى الشارني

mardi 14 juillet 2015

Femme tatouée d'Ali Bellagha











Le peintre artisan Ali Bellagua, qui a parcouru l’ensemble du territoire tunisien pour observer le savoir faire des artisans et créer des objets nouveaux, associe encre de chine, gouache, aquarelle, acrylique, huile, collage, monotype, raye sur l’ambre ou sur l’argent…pour continuer à tisser la trame d’un patrimoine qui doit rester en gestation permanente.
Renouant la chaîne interrompue entre le passé et le présent, le sud et le nord, les anciens et les nouveaux, les artistes et les artisans, Il arrange d’une manière ludique écritures, signe et supports techniques et parvient à opérer une synthèse entre création artistique et savoir faire artisanal.
Formé au lycée Carnot de Tunis, puis à l’Ecole des Beaux-arts de Paris, ou il avait suivi une formation pointue à l’atelier de gravure du professeur Bernard Jordan et à l’atelier Canova de céramique, il décida de rentrer à Tunis en 1950, après un lointain périple qui l’a emmené en Chine, en Inde et au Brésil.  
La peinture d’Ali Bellagua, doit beaucoup à Picasso, Chagall et Matisse, mais aussi aux arts primitifs africains. Pour lui l’ingénieuse formule d’Albert Einstein E = MC2 a impliqué un irréversible dépassement du monde de la perspective, en établissant que tous change de couleur, de forme et de matière au fur et à mesure qu’on avance dans l’espace et dans le temps, ce qui a permis à Picasso de découvrir la quatrième dimension ; et aux impressionnistes d’introduire le jeu de la lumière dans la peinture moderne.
L’espace Ali Bellagua à Sidi Bou Saïd retrace l’itinéraire intime d’une personne qui a su alliée audace et courtoisie. Il est aussi le refuge dans une œuvre, ou les émotions et les idées tendent vers une sorte de passion apaisée dans un décor qui traduit le calme et la sensualité. 
Parlant des œuvres et de leurs créateurs, l’esthète français Mikel Dufrenne disait : « La théologie s’interroge si le monde et l’homme ne sont-ils eux-mêmes les produits d’un démiurge transcendant ? L’homme, anxieux d’un autre monde, s’interroge: serais-je jugé sur mes œuvres? Mes œuvres présagent-elles de mon élection ? L’œuvre signifie alors ce que l’homme produit, mais aussi ce qu’il fait et ce qu’il devient en faisant, parce que faire lui est essentiel. »   
Pour chaque peuple il y a l’art et il y a l’artisanat. Chez Ali Bellagua, les matériaux de récupération, sont rassemblés pour ouvrir sur des formes qui matérialisent l’imaginaire. Sans prétention, il avoue devoir tous au hasard et à la chance. Rose de sable affichée sur une tige, ou griffes de notaires transformées en œuvre calligraphique contemporaine, il passa toute sa vie à ramasser des cailloux en méditant profondément la citation de Matisse qui disait : « Si tu veux être peintre commence par te couper la langue », ou celle Edgar Degas « La peinture, c'est très facile quand vous ne savez pas comment faire. Quand vous le savez, c'est très difficile».


vendredi 10 juillet 2015

المسألة الاستعمارية وصعوبات استيعاب التونسيين لتاريخهم القديم ملاحظات سياقية













        لا يزال تاريخ الحضور الفرنسي بالبلاد التونسية، أو على الأقل العديد من محطاته الكبرى والفارقة، في حاجة إلى عملية مراجعة حقيقة. هذا ما يمكننا استخلاصه بعد الاطلاع على مختلف المقاربات التي أنجزتها الاستوغرافيا المتخصّصة في تاريخ البلاد التونسية المعاصر.
جميعنا على بينة تامة من الأهمية التي يكتسيها اطلاع المتعلمين وفي مستوى مرحلة ختم الدروس الثانوية على مختلف التطورات التاريخية التي شهدها نضال التونسيين من أجل تصفية الاستعمار، غير أننا لا نعثر في الغالب وضمن هكذا تكوين على أي توجه ينبئ بحضور تدبّر دقيق لمسائل تتصل باهتمام الإدارة الاستعمارية بالتمثيل الخرائطي للمجال الاعتباري لسيادة التونسيين، أو عن اهتمام رصين بمختلف التدابير المتخذة من قبل نفس تلك الإدارة من أجل إكساب ذلك المجال هوّية جديدة تحرص على استيعاب ماضي التونسيين طوال عصور ما قبل الأسلمة.
كما أن مختلف البحوث الجامعية المنجزة في اختصاص التاريخ، وبصرف النظر عن تنوع المسائل أو المواضيع التي اشتغلت عليها، لم تر كبير فائدة في تسليط الضوء على الحركيّة التي أدخلتها حملات التنقيب والاستكشاف الأثري لمجال البلاد التونسية سواء قبيل إمضاء معاهدة الحماية أو طوال الفترة الاستعمارية نفسها.
ولئن بدا لنا أنه ليس من السهل الدفع باتجاه معاودة زيارة المنجز المعرفي التاريخي والأثري الاستعماري، وذلك باعتبار ما اتسمت به معظم الأبحاث الصادرة عن المنتسبين له من تحيّز مكشوف، فأن كل رغبة في التعرّف على كيفية استكشاف التونسيين لما ربطهم بتاريخ الحضارات القديمة antiquité لا يمكن أن تصيب أي مقصد، كلما ازداد إصرارنا على فصل الاصطدام الحقيقي الذي عاشته النخب المتعلمة تونسيا بالأدوار التاريخية السامقة لحضارات ما قبل الإسلام، والتعرّف بدقة على الدور الذي عاد للأثريين الاستعماريين في انبعاث مثل ذلك الوعي الجديد.
يجدر بنا قبل تفحّص مثل هذه المسألة الشائكة أن نقدّم تعريفا مختزلا لما وسمه الغرب حاضرا بالعهود القديمة. فقد دشنت تلك المرحلة التاريخية سياسيا ظهور نظام المدينة والديمقراطية والحرية والخضوع للقوانين المنظمة للحياة الجماعية. أما على الصعيد الاقتصادي فتحيل العصور القديمة على هيمنة نمط الإنتاج العبودي وسيطرة منظومة إعادة التوزيع التي علّمت مرحلة ما قبل اقتصاد السوق، على أن تساهم حضارة الإغريق ومن خلال تعويلها على الألسن الهندية الأوروبية، في تركيز أحرف الهجاء التي يتواصل استعمالها داخل مجال شاسع من العالم الغربي حاضرا.
يتّضح أن التجربتين الإغريقية والرومانية قد شكلتا بالنسبة للمدافعين على التمييز بين البدائية والعهود القديمة الإغريقية الرومانية الفجر الحقيقي للتاريخ، وذلك باعتبار تبني تلك الحضارات للكتابة المستندة على أحرف الهجاء. كما مثلت الحرب ضد الفُرس واحدا من أبرز المواضيع التي اهتمت بها الآداب الإغريقية والتي ترتب هذا التفريق النوعي بين أوروبا القديمة وآسيا البدائية - وهو تمييز لازلنا نعيش تبعاته حاضرا على صعيد التأليف في التاريخين الثقافي والسياسي- على الخوض في تفاصيلها. 
تحوّلت أوروبا إلى مهد أساسي للعهود القديمة، مما ضيّق مجال التعيين الثقافي للحضارتين الإغريقية والرومانية على الناطقين بالألسن الهندية الأوروبية دون سواهم، في حين تم ربط آسيا الغربية وهي مهد الشعوب الناطقة بألسن سامية، وعلى العكس من ذلك، بحضارات الشرق القديم. هذا في اختزال شديد ما يمكن الاحتفاظ به بخصوص أشكال تمثّل العصور القديمة بالنسبة لنُخب الغرب الحديث وجميع شعوبه.
والسؤال الذي يحتاج إلى وقفة تدبر هنا هو، لماذا لم يحصل سحب نفس أطر الانتساب للحضارات القديمة وبالمدلول الذي تعنيه كلمة "أنتيكتي Antiquité" على بقية الحضارات التي عاينتها منطقة الشرق الأوسط والهند أو الصين مثلا؟ ألا يتعين أن نفهم من ذلك نزوعا مقصودا لإقصاء بقية مجالات العالم وتحويل حضارات الغرب القديمة إلى ما يشبه الاستثناء؟ فمدلول مرحلة امتلاك تقنيات الري والزراعة أو العصور "النيولتيكية l’époque néolithique" لا يحتمل كونيا أي استثناء، بينما يحيل مصطلح "أنتيكتي"، الذي لم يبرز غربيا للوجود قبل حلول القرن الثامن عشر، على مضمون تم الحرص معرفيا على قسره عمدا على أوطان الحداثة الغربية بعد استعادتها لمورث قدامى الإغريق والرومان حال انبثاق عصر النهضة.    
يشكّل التأريخ لسياقات البحوث الأثرية في البلاد التونسية واحدا من أقل المواضيع ورودا من قبل المختصّين في تاريخ الحضارات القديمة، وكذلك الأمر بالنسبة لنظرائهم المختصين في التاريخ المعاصر. فقلّما تم إفراد هذا المبحث وخلال العشرين سنة المنقضية بدراسات معرفية محكّمة. ويعود السبب في ذلك إلى المغالاة في الفصل بين التخصصات التاريخية وقرينتها المعتنية بعلوم الآثار، فضلا عن كثرة الحواجز الفاصلة بين الباحثين المهتمين بالحفر في خصوصيات المراحل الاعتبارية الأربع لعلم التاريخ.
ويتمثل الهدف من إنجاز تلك الأبحاث تحديدا في الإضاءة التي بوسعها تقديمها وخاصة فيما يتصل بملابسات سياق ما لا نتهيب من نعته بالترميق الأدبي bricolage littéraire الذي يسهل معه ربط تاريخ تونس خلال مراحل ما قبل الأسلمة بعصور الحضارات القديمة كما تم تعقّلها غربا. فقد أضحى بيّنا للعيان حاضرا أن الدفع باتجاه تطوير حملات الاستكشاف أو تشجيع القيام بالحفريات الأثرية قد شكّل، وفي عميق تصوّر من أشرفوا على تكريس سياسة الإدارة الاستعمارية الفرنسية، ضربا من الإحياء لتاريخ تونس الرومانية الذي طمسه سياق الأسلمة النهائية والتعريب الشامل، لذلك اعتُبر العثور على مزيد من الشواهد الأثرية الرومانية موردا مهمّا يُسعف في إعادة تشييد الذاكرة اللاتينية العميقة للمستعمرة الإفريقية، ومصدرا مُلهما في دفع مشروع فَرْنَسَةِ الهوية الجماعية للتونسيين.
فقد تمثل هدف المستكشفين والمنقّبين عن الآثار في الكشف عن مغمور المواقع والمنشآت العمرانية الكبرى على غرار المسارح، وملاعب المصارعة، والساحات العامة، والحمامات، والكنائس، وخزانات المياه، والسراديب، والمدافن... وغيرها، فضلا عن استعادة مخلّفات مواضع الطرقات الرومانية القديمة، وذلك من أجل إنشاء شبكة مستحدثة يُؤخذ في مدّها الاعتبار باستلهام عبقرية القدامى التي تحيل عليها بقايا حناياهم ومنشآتهم المائية، قصد النجاح في الرفع من مردود المستغلات الزراعية الممنوحة للمعمّرين الفرنسيين، والربط مجدّدا مع ذاكرة الوفرة أو السِعَةِ الواردة ضمن روايات مصنفات كبار كتاب العهود القديمة المتّصلة بتاريخ ولاية أفريقا الرومانية Proconsulaire ou Afrique romaine الأثيلة.
فقد شكّل ما حصل حالة توافق تامة بين المستكشفين والباحثين عن الآثار وضباط الجيش ورجال الدين وسامي موظفي الإدارة والمهندسين بخصوص جدوى التعويل على علم الآثار التطبيقي، بُغية استيعاب دروس الماضي، تطلّعا لإنجاح الرهانات المتصلة بالحاضر وبالمستقبل في آن. فقد تم في هذا الإطار التركيز على ضرورة صيانة المنشآت المائية الرومانية، قصد السماح للمعمرين الجُدد بالاستقرار على ذات المواقع التي تسمح بإحياء تلك التقنيات القديمة وتطوير أدائها في استخراج مياه العيون ومجاري الأودية أو الأنهار. كما شجّعت الإدارة الاستعمارية مُعمّريها على زراعة الزياتين بالسهول الساحلية التونسية، مستندة في ذلك على أن الرومان قد تفنّنوا في تحويل البلاد إلى ما يشبه البستان الشاسع الذي ضم غابة من الأشجار المثمرة، بينما انتشرت في مئات المزارع وعلى كامل المساحة الاعتبارية للمقاطعة الرومانية معاصر الزيت ومطاحن الحبوب، التي توفّر أغلبها على خزانات أو دواميس وآبار ومنشآت ربط وتصريف تسمح بإيصال الماء أو نقله حتى أقصى المواضع داخل تلك المزارع.
أما بخصوص التوجّه الذي قاد رجال الدين ضمن هذا السياق العامل على استعادة الإرث الروماني القديم للبلاد التونسية وصيانة منشآته، فقد انخرط ضمن إستراتيجية معلنة ترمي إلى إحياء تاريخ مقاطعة قرطاج المسيحية. وهو ما تم الإعداد له من خلال دفع الباي حسين الثاني(1824 - 1835) إلى القبول بمنح السلطات القنصلية الفرنسية أرضا على هضبة بيرصا بقرطاج، بهدف تشييد كنيس يخلّد ذكرى القديس لويس التاسع (ت 1270م)، حتى تعود للنصرانية بأرض إفريقية أمجادها السالفة بقيادة "الكردنال لافيجري le Cardinal Lavigerie" الذي عوّل على عمق الروابط التي تشدّ البلاد التونسية إلى إرثها الروماني قصد إكساب الحضور الاستعماري الفرنسي مزيدا من الشرعية. إذ لم ينقض شهر أو يكاد على نجاح عملية الإنزال العسكري الفرنسي، حتى أوكلت الكنيسة الرومانية لهذه الشخصية مسؤولية "إحياء تاريخ تونس المسيحية" والكشف عمّا خلفته من مواقع أثرية مهيبة.
والبين أن نجاحه الباهر في أداء تلك المهمة هو الذي كان وراء حصول ضاحية قرطاج على لقب مركز أسقفية Archidiocèse  وتحوّلها إثر ذلك إلى عاصمة لإفريقيا المسيحية بعد أن استقبلت بداية من سنة 1930 الدورة الثلاثون للمؤتمر الأفخرستي. وعلى الرغم من تنوّع أهداف الحملات الاستكشافية وخصوصياتها، فقد تم الاحتفاظ بالتوجّه الرامي إلى استعادة ماضي عصور البلاد التونسية القديم على الشاكلة التي كان عليها زمن الولاية الرومانية.
وهكذا يتضح لنا أن الخوض في سياق عمليات الاستكشاف والتنقيب عن الآثار يحتاج ضرورة إلى تفحّص الجوانب الأيديولوجية وإدراك حقيقة الرهانات وطبيعة المصالح المرتبطة بمختلف تلك الممارسات عن قرب. فقد كشفت لنا الروابط المتينة التي نسجت بين الباحثين في الآثار والمُشرّع الاستعماري عن طبيعة الممارسات التي تواصل التعويل عليها خلال ما لا يقل عن قرن من الزمن، والمتمثّلة في وضع نتائج الحفريات الأثرية في خدمة السياسة الاستعمارية الفرنسية بتونس. فقد ساهمت البعثات الأثرية الفرنسية طوال كامل الفترة الاستعمارية بشكل واسع في إعداد البلاد للتوطين الاستعماري، في حين هيأت البحوث الميدانية المتصلة بالتمثيل الخرائطي واستخراج النقائش اللاتينية وجردها واستكمال محتوياتها البلاد التونسية للوقوع تحت الوصاية الغربية بالكامل.
ويدعو هذا الوضع إلى الإشادة بالمبادرة التي قام بها عدد من الشبان الوطنيين التونسيين المنخرطين في جمعية قدماء الصادقية، أمثال الحبيب بورقيبة والباهي الأدغم والطيّب المهيري، والمتمثلة في العمل على جرد القُبريات العربية épitaphes arabes التي ضمتها مقبرة القرجاني، وهو مشروع واجه مضايقة شديدة من قبل المصالح الاستعمارية بغية التخلي عن إنجازه قبل أن يتداركه وبعد استعادة البلاد لسيادتها المرحوم مصطفى زبيس بالإتمام والانجاز.
ومع جميع ذلك فإنه لا مندوحة من الاعتراف بأن الحضور الاستعماري قد ساهم يقينا في تطوير حملات الاستكشاف الأثري وفي إعادة تملّك التونسيين لمختلف تقنيات التمثيل الجغرافي، عبر بعث مؤسسات في الغرض ساعدت على تطوير المعارف الخرائطية والأثرية والنقائشية، على غرار معهد الآثار والفنون الذي تحول بعد الاستقلال إلى المعهد الوطني للتراث. فقد تمثل الهدف من إنشائه في صيانة المواقع والمعالم الأثرية والمحافظة عليها، فضلا عن بعث مصلحة تُعنى بالقيس الطبوغرافي قصد تمثيل مختلف المواضع الواقعة داخل الحدود الاعتبارية للبلاد التونسية بعد التعرّف على مركباتها بكل دقّة.
ولئن تعين علينا عدم الذهول عن الخسائر الفادحة التي تكبّدتها مختلف مواقع التراث المادي التونسي طوال المرحلة الاستعمارية جراء إعادة استعمال مختلف السواري والحجارة القديمة في تشييد المعالم الجديدة والدور الخاصة، ونقل المسلات، ولوحات الفسيفساء، وثوابيت القبور، والنقائش، والمزهريات البلورية، والتماثيل الرخامية، والوثائق، والقطع الفنيّة النادرة، لعرضها ضمن محتويات المتاحف الفرنسية، فإن ما يتعيّن الاحتفاظ به مع جميع ذلك هو نجاح مثل هذا التوجّه في وضع حد لعلاقة الإقصاء التي ربطتنا لقرون خلت بإرثنا القديم والنزعة المكدودة التي أبدتها مختلف الأطراف المتزمّتة قصد التحفّظ وبشكل مقصود عن مختلف المعالم المتّصلة بجذورنا التاريخية القديمة الضاربة عميقا في الزمن، تلك التي لا زالت تتحدى في شموخ واستعلاء العلامات التي تحيل على إرثنا المشرقي العربي الإسلامي أو على وإرثنا الزنجي الذي يصلنا بجذورنا الإفريقية الصحراوية، حتى وإن حصل ذلك من بوابة الإرث الروماني المسيحي.