dimanche 8 mai 2016

من العيش المشترك إلى العيش بذكاء مقاربات في الواقع الليبي الراهن وقراءات في تشعباته















      
        بمبادرة من مركز الأبحاث والاستشارات التابع لجامعة بنغازي ومخبر تاريخ الاقتصاديات والمجتمعات المتوسطية التابع لجامعة تونس، وبتنسيق من إدارة المبادرة المدنية الليبية ACTED، احتضنت مؤسسة الأرشيف الوطني التونسي ندوة علمية تحت عنوان "العيش المشترك في ليبيا وفي مجالات جغرافية أخرى"، وذلك يومي الخميس والجمعة 5 و6 ماي 2016، نسق أعمالها وأدارها بكثير من الاقتدار أستاذ التاريخ المعاصر رياض بن خليفة.   
حاولت العروض المؤثثة للمحور الأول الوقوف وضمن مداخلة أستاذة الإسلاميات حياة عمامو عند علاقة منظومة حقوق الإنسان وما يماثلها في الخطاب الديني الإسلامي مشدّدة على تباين المرجعيات والسياقات والتطورات وذلك عبر التركيز على ثلاث مسائل: الحق في الحياة، وحرية المعتقد، والوضعية القانونية للمرأة حيث بدا التباين واضحا بين سمو المقاصد الروحية وحدود الممارسات سواء فيما يتصل بالحرمة الجسدية أو بخصوص التنصيص على حرية المعتقد أو فيما يتعلق بالتمسك بالتصوّرات الساميّة الدونية المبنية على تأثيم المرأة قصد إقصائها عن الساحة العامة. وتكتسي الحقوق الثقافية التي طفت على السطح منذ ما لا يزيد عن 15 سنة تقريبا ومثلما عرضتها علينا مداخلة أستاذ كرسي الفلسفة والأخلاق باليونسكو "باتريس ماير بيش Partice Mayer Bich" في هذا الصدد أهمية بالغة من حيث تجاوزها لمدلول العيش المشترك والتشديد على ضرورة تجسير علاقات جديدة تنبني على إقرار حق الاختلاف وكونية حق الحياة بكرامة والاعتبار بأهمية الحصول على المعرفة وتطوير الملكات، قصد العيش بشكل متوائم وذكي. فالتنوع الحقيقي هو تنوع الأفراد والأوساط الثقافية حيث يحيل تبادل المعارف على النسيج الحقيقي للمجمعات المُدركة إلى أن الحوار الحقيقي لا يتم بين الثقافات بل بين الأفراد رأسا.
وهو نفس ما خاضت بشأنه مداخلة أستاذ علم الاجتماع المنصف وناس بخصوص كيفية التقاء الأفراد المتصلة بالإكراه والتعاون بغرض الظفر بمعقولية ومشروعة في ظل ما نعته بالتوافق أو compromis والالتقاء حول معنى نبيل للعيش المشترك. ويكتسي الحوار أهمية بالغة في التوصّل إلى تحقيق ذلك وخاصة في سياق الأزمات التي رافقت الانقلاب الحاصل على الساحة السياسية وبروز هشاشات مجتمعات مختلف بلدان "الربيع العربي"، وحالة الانفجار السياسي وتلاشي فرص الحوار بل وعدم حضور استعداد موضوعي له، علما أن هذا الاخير يشكّل على الحقيقة عملية "تجميع للإرادات" وفرصة للتنسيب والمراجعة والقطع مع منطق الخوف واستعظام الأمور والنظر باعتدال، وهو ما يحتاجه الواقع الليبي راهنا. غير أن الحديث عن "عبقرية الحوار" يوازيها من منظورنا الخاص الحديث عمّا قد تستقيم تسميته بالحوار العقيم عن انتاج المعنى أو الدلالة، حيث تنعدم الثقة وتستشري ثقافة "الرجم بالغيب" وتتراجع فرص التجسير ورأب الصدوع وإعادة بناء الدولة العادلة وتحقيق التصالح على أسس عادلة وتمتين فلسفة الحوار البيني أو "التقاء الإرادات" على حدّ تعبير الفيلسوف موريس مارلو بونتي Maurice Merleau-Ponty الرائق.
خاضت جل المداخلات المدرجة ضمن المحور الثاني الذي تم افراده لموضوع "تسوية النزاعات في سياق الأزمات في ليبيا"، تلك التي اقترحتها علينا تباعا مداخلات الاساتذة نورة اللافي ومحمود بوصوّة ومحجوب الحصّادي وأمال العبيدي وزاهي المغيربي، رسوخ ثقافة التنوع ضمن النسيج المجتمعي الليبي، حيث عولت استاذة التاريخ الحديث بمركز البحوث الإسلامية ببرلين نورة اللافي على يوميات "حسن الفقيه" والارشيفات العثمانية والبابوية وذلك قصد تدبّر تجارب إدارة الاختلاف العرقي والملّي بطرابلس من خلال مؤسسة "شيخ البلد" تلك التي تحوّلت إلى فضاء خدمات بلدية متجانس، مع حقيقة التنوع الملي ضمن أحياء مدينة طرابلس خلال مرحلة ما قبل الاحتلال الايطالي. وهو ما يسفّه منطق الحداثة المستنبتة في غير تربتها ويشي بقدرة المجتمع الحضري الليبي على عقلنة ثقافة الاختلاف الملي والعرقي وثراء الحياة الجماعوية والادارية، تلك التي تم ابتسارها مع حلول الاستعمار توافقا مع منطق التفرقة من أجل استمرار الهيمنة الأجنبية. وهو ما يتعين تأمّله بشكل دقيق لاستيعاب واقع الاستعمار الجديد وإعادة انتاجه لنفس الآليات قصد التعميّة على موروث الليبيين المتوفّر على مستوى عال من النجاعة في تصريف واقع الأزمات وتمتين صلة الليبيين بثقافة التعايش.
وتحيل العروض المقترحة من قبل أستاذ العلوم السياسية بطرابلس محمود بو صوّة على نفس الإشكالية من منظور جغرافي يتصل وفي مستوى الزمن الممتد أو الأمد الطويل على قبول الليبيين بتمثّل خاطئ يقسّم المجال الليبي إلى إقليمين: ساحلي متحضّر وداخلي لم يبرح موضع البدائية بل والتوحّش، وهو ما ساهم في بناء تخوم ثقافية متوَهّمة تحيل على مجال نافع ومبغوض باعتباره "مُتَطَلْيَن" وآخر غير نافع، يشكل حاضنة لكل حنين لاتسامه بمطلق الطهرية. مما تسبب في تعدّد الأقاليم الجغرافية الرخوة espaces molles وتفاقم الخلافات ضمن المناطق الحدودية التي استعصت عملية إدارتها على الدولة الوطنية، لأن هذه الأخيرة لم تستوعب بشكل دقيق حقائق الجغرافية.
واصل أستاذ الفلسفة بجامعة بنغازي محجوب الحصادي الخوض في مسألة صعوبة تسوية النزاعات في سياق الأزمة الليبية من خلال التوقف عند المنظومة القيمية والتثبّت من مؤشرات القبول بالآخر. فقد عرضت مداخلته بشكل تطبيقي إلى مستويات قبول اللبيين بالآخر من خلال وضع مجموعة من الاستبيانات ومقارنة نتائجها المتصلة بالقبول بالتجاور مع المخالف مليا وعرقيا وجندريا، مع مجموعة من البلدان العربية والغربية، مبيّنا أن استعداء الآخر مسألة وافدة غير متأصلة في النسيج المجتمعي الليبي، معتبرا أن هشاشة الاقتصاد الريعي وطبيعته المنغلقة هي المتسبب الرئيسي في تضخم مظاهر الشوفينية داخل المجتمع الليبي على الحقيقة، واتسام الذهنيات بالانغلاق والمغالاة في المحافظة وتعثر مسيرة تحرّر المرأة وانتشار التطرّف الديني، ذاك الذي يوشك على صياغة هويات غريبة غير صحية يكون ضمنها اليمني أو السعودي أقرب إلى المنادين بـ"الصحوة الإسلامية" مقارنة بمن يشاركونهم الانتماء إلى نفس الوطن.
وتعرض مداخلة أستاذة العلوم الاجتماعية آمال العبيدي إلى ذات المسألة من زاوية ما أسمته بالتنشئة السياسية، وذلك عبر استقراء مضمون الكتب المدرسية المخصّصة للتثقيف المواطني أو التربية المدنية في مختلف مستويات التعليم الأساسي أيام حكم النظام الجماهيري لمعمر القذافي، معتبرة أن انعدام رؤية ليبية بخصوص المناهج التربوية هي التي أشرعت الباب أمام الإيديولوجية الوحدوية العربية ذات النفس الصدامي الثوري، وهي التي أفرزت نظام القذافي الذي ركّز مسار التنشئة على معسكرات الإعداد السياسي والتعبئة قصد إحلال ما نعته بالمجتمع الجماهيري واللجان الثورية وبناء جيل الغضب الثوري والاستثمار في السلوك العدواني العنيف وبناء الإنسان الحاقد، معتبرة أن ما يحصل حاضرا لا يمثل سوى نتيجة موضوعية ومآل طبيعي لما تمّ زرعه، لذلك تعمل فلسفة المناهج الجديدة ومنذ سنة 2012 على تلافي هذا الوضع الكارثي من خلال التركيز على الجوانب الصحيّة بالتنشئة على الاعتزاز بالانتماء للوطن والتواصل مع المحيط والارتقاء بمستوى المواطنة المسؤولة.
وهو ما واصل استاذ العلوم السياسية بجامعة بنغازي زاهي المغيربي الحفر بشأنه من خلال التوقف عند معوّقات الاحتكام إلى الديمقراطية التوافقية بوصفها السبيل المثلى لتحقيق العيش المشترك بين الفرقاء الليبيين. حيث اعتبر مقترح هذه المداخلة أن الأزمة الليبية لا تعود إلى راهن أوضاع البلاد بل هي مسألة متأصلة عاينتها مختلف المحطات الكبرى التي علّمت تاريخ ليبيا المعاصر زمن الاستعمار وخلال مرحلة النظام الملكي وأثناء حكم القذافي وكذا الأمر بالنسبة للمرحلة الراهنة، حيث تتخذ تلك الأزمة جملة من الأبعاد المتّصلة بما اسماه الباحث بأزمات الهوية وأزمات الشرعية الجغرافية والسياسية وأزمات تغلّغل الدولة في المجتمع وأزمات التوزيع المتصلة بالثروة والمشاركة في الحياة العامة، وجميعها في حالة ارتهان متبادل بحيث ينعكس ذلك سلبا على إمكانيات بناء الدولة-الأمة الليبية. كما يقرّ صاحب المداخلة بضرورة الاحتكام إلى الديمقراطية التوافقية القابلة بالتعدد والاعتراض المتبادل واعتماد التمثيل المتنوع قصد تحقيق الاستقرار وصون الوحدة والتعاون بروح من الاعتدال والقبول بالحلول الوسطى، لاسيما وأن المجتمع الليبي وفي نسبة تضاهي 80 بالمائة من سكانه مُتوفر على استعدادات موضوعية لتحقيق ذلك، تجاوزا للخطاب المغشوش حول استشراء واقع الاستحراب القبلي وانعدام كل امكانية في حصول التوافق، وهو أمر موكول إلى النخب التي تبدو غير معنيّة بالسؤال المحوري المتمثل في ما الذي تعنيه ليبيا بالنسبة لنُخبها؟
ولأن الاجابة عن هكذا سؤال تحتاج إلى مقارن الحالة الليبية بتجارب موازية، فإن مداخلات الأساتذة رالف شور Ralph Schor أستاذ تاريخ الهجرة بجامعة نيس وكاترين كوكري فيدروفيتش Catherine Coquery-Vidrovitch  أستاذة التاريخ الإفريقي بجامعة باريس الرابعة أو ديكارت ومصطفى التليلي أستاذ التاريخ المحلي الحديث بجامعة تونس، قد حاولت التوقف عند خصوصيات مجالات جغرافية مختلفة تشكلت ضمنها روايات الانتماء المشتركة والتواريخ المتعاقبة وفق تمثّلات بوسعها تنسيب الأوضاع التي يحياها الليبيون حاضرا. 
فقد عرض "رالف شور" إلى تاريخ هجرة الإيطاليين إلى منطقة الألب الساحلية الفرنسية خلال القرن العشرين والمسار الملتوي والمتعثر الذي اتخذته سيرورة التعوّد على العيش المشترك خاصة فيما يتصل بتجاوز ما وسمه بـ"الصوّر النمطية" والكف عن استبشاع تصرفات "الريتال" أو المهاجرين الإيطاليين، حيث قدر عدد هؤلاء في حدود ثلاثينات القرن الماضي بـ 800 ألف وشكّلوا عنصرا محوريا في صياغة الانتماءات المشتركة للفرنسيين والحال أن مسار اندماجهم لم حصل بشكل بديهي بل اتخذ اشكالا أنبأت برفض الفرنسيين لهؤلاء بطريقة تبدو لنا راهنا أكثر تعصّبا مما يعاينه مسار قبول الفرنسيين لواقع اختلاطهم بالعرب المغاربة على قاعدة الاختلاف في الأكل واللباس والشعائر العبادية والهشاشة الاجتماعية، حتى وإن مكّن التقارب اللغوي والاشتراك في المذهب الديني ومسار التحصيل المدرسي وتعدد الزيجات المختلطة لاحقا في تسريع القبول بالعيش المشترك الذي يستحيل فرضه فرضا بل يودع حصوله إلى الزمن الطويل.
توقف مقترح مداخلة "كاترين كوكري فدرفوفيتش عند مسألة العيش المشترك من خلال عينتين معبّرتين تتصل الأولى بالحالة الرواندية، في حين تعرض الثانية إلى النموذج المالي وذلك بغرض الكشف عن التمثل المغلوط لفكرة العرق "أثنة" وأشكال الترميق الأدبي التي أخضعت لها قصد خدمة المشروع الاستعماري. فقد أشّر المثال الرواندي على صعوبات اختلاط "التوتسي" الرعاة و"الهوتو" المزارعين وتحولات معاشهم واختلاطهم وتعثرات ذلك المسار الملتوي الذي أثّرت فيه التمثّلات العرقية المغلوطة التي روّج لها الانتداب البلجيكي والدور السلبي الذي لعبه "ألكسي كاغام" في تشكيل تمثل منحاز للقراءة "التوتسية" وهو ما أعد قطعا لعمليات الإبادة العرقية البشعة والرهيبة مع حلول سنة 1994. أما في المثال المالي فقد تم تقسيم المجال الجغرافي إلى وحدتين مثلهما الجنوب الزراعي والشمال الصحراوي الذي ارتبط تاريخه بالتجارة القوافلية المستندة على الملح والتبر والعبيد وأهمية وساطة الممالك السودانية وعلاقة هؤلاء بالمرابطين والموحدين وافتخار سكان مالي بتاريخهم المشترك مع الممالك البربرية بمجال المغارب. غير أن الاستعمار قد تمكن من تضخيم الفوارق بين الشمال والجنوب بين أصحاب البشرة السمراء ورصيفتها السوداء، مستغلا خلافات "الطوارق" من سكان الشمال مع مزارعي المجالات الجنوبية، مساهما في القضاء على تقاليد التكامل الاقتصادي الضاربة في القدم، تلك التي عوضتها راهنا الاقتصاديات الموازية وعمليات التهريب والارتباط بالحركات الدينية والسلفية القصويّة.
وهكذا تجاهل الماليون حكايتهم الجماعية المؤسسة وتاريخهم المشترك وتعاظمت الخلافات بينهم على أُسُس عرقية وانعدمت المعرفة واستشرى الجهل بالآخر، وهو ما أورثته إياهم التصوّرات المغلوطة واعتبارات التلفيق الاستعمارية المنشأ.
استعاد نص مداخلة مصطفى التليلي ذاكرة "تجربة الحوار الوطني" التونسي من زاوية العارف بالتاريخ والمناضل من أجل تطوّر الحياة المدنية والسياسية بتونس معولا في ذلك على ثلاثة مفاهيم مفاتيح هي "التوافق" و"القبول بالحلول الوسطى" و"إيجاد تفاهمات مقبولة" بين فرقاء التوجه والرأي (consensus, compromis et arrangements)، حيث يعتبر مصطفى التليلي أن هناك تجذر لمثل تلك القيم أو التصورات التوافقية ضمن الحكاية الجمعية للتونسيين وهو ما نتفطن إليه بسهولة بمجرد استعادة أساطير التأسيس في حكايات "عليسة الفنيقية" و"مسار الرومنة" أو "مسار الأفرقة" وانتشار الإسلام و"تجربة العثمنة" أو "الفرنسة" حيث تطفو على السطح آليات التوافق والحوار القابلة بالتدرج والمستبطنة للمرحلية. إن ما يسترعي الانتباه حقا في هذه التجربة التوافقية هو رغبة مختلف الفاعلين السياسيين والمدنيين التونسيين في تجاوز وضعيات الانحسار في الزاوية واستنباط الآليات الكفيلة بالعودة إلى الحوار عبر مختلف القنوات، وخاصة تلك التي تتسم بقدر غير قليل من الصيت على غرار اتحادي العمال والأعراف ورابطة الدفاع عن حقوق الإنسان وعمادة المحامين التونسيين.
ما الذي يمكن استخلاصه من مختلف الورقات التي أثثت هذه الندوة حول العيش المشترك في ليبيا؟ يبدو أن أمر التوافق متصل كأوثق ما يكون باقتسام الحكاية بعد إعادة تركيبها وفقا لحاجيات السياق الزمني الراهن ومقتضياته أيضا. ولأن أمر الوطن أصبح شأنا عاما متقاسما لا تحتمل عملية تصريف شؤونه إخضاعه إلى التقديس أو الدفع به إلى إعادة أنتاج الزعامات، فإن الحاجة إلى إعادة صياغة مدلول الضابط الاجتماعي و"أنسنة الفضيلة" عبر الالتزام بالتنسيب وتنزيل الشأن العام إلى مستوى الممارسة البشرية القادرة على القطع مع اليقينية المؤمنة بضرورة المراجعة وتسهيل ظروف التوافق والتعايش الذكي والحوار المسؤول والاعتقاد في "بيداغوجية التسامح" وفقا للعبارة الرائقة الواردة ضمن كلمة رئيس جامعة تونس واستاذ الفلسفة "حميد بن عزيزة" التي اختُتمت بها أشغال ندوة العيش المشترك في ليبيا وفي مجالات جغرافية أخرى، تبدو اليوم جد ملحّة.