mercredi 12 octobre 2016

بألوان الطيف تُروى المسارات لا بالأبيض والأسود










      من "روحية" الرُبْعِ بوطن سليانة التونسية وإليها في عود على بدء، اختارت نفس الطاهر المنصوري المطمئنة أن تخلد لراحتها السرمدية بعد عنت مع تصاريف الحياة مشوب بحيرة جازعة وفضول خلاق وتطواف لم يشأ أن يستقر طوال أربع عشريات من الزمن. تأبى أسبارنا أن نعرض إلى غير مآثر من عاجلهم حمامهم ممن عرفناهم أو جايلناهم، وحده الأبيض هو ما يليق بطُهر مثاويهم وتعظيم مناقبهم واستعراض حسناتهم، مع أن ما يجمع مساراتهم بعالم الشهادة والناس يأبى هو أيضا أن ينفضّ من حوله الأهل والأصحاب حتى وإن شيّدنا لذكراهم أضخم النُصب وأبهاها. ولأن فقيدنا كان "إنسا من خيار الجنس"، فإنه قد تورّط مثلنا تماما في خلط طيب بخبيث، شأن بني البشر حال استعار حبّ الحياة في نفوسهم واستيلاء عشقها على شغاف قلوبهم النابضة.
قليلا ما كان يحبّذ سليل سفوح الظهرية ووليد باديتها اصطناع الامتثال للإكراه حتى وإن أوحت تصرفاته بغير ذلك. لم تكن ترضيه أنصاف الحلول وأدنها إلى تصاريف بني البشر من أمثاله، إذ لا تراه إلا واقفا لشد الأزر ومدّ يد المعونة والمساعفة رفعا للضرّ أو الحيف، أو كافرا في عنت وصلف من تصرّفات من اعتقد بحق أو من دونه أنهم لا يرون رأيه لاعنين كِبْرَه، طاعنين في نخوته وإبائه.
عرفت محمد الطاهر المنصوري أواسط التسعينات بعد أن صدر لي عن دار سراس مؤلفان حاولا فتح ملفات قليلة الورود زمانها، تشبه توجهاتها والمناهج المعتمدة في تحليلها منازع الجيل الذي أنتمي إليه، في حين استقام هو بعد عارفا في اختصاصه وعالما بالمرحلة التي اختار الاشتغال عليها، تلك التي بدت من خلالها بصمات المؤرخ الفرنسي المتخصّص في تاريخ علاقة المسلمين بالمسيحيين طوال الفترة الوسيطة "ألان دوسولي Alain Ducellier" واضحة المعالم جليّة القسمات.
إلا أن رغبته في تخطي ما تم انجازه قد بدأت تتسرب إلى برد يقينه وخاصة لمّا قرّبت السُبل والصدف أيضا بينه وبين زملاء أوائل التسعينات من المهتمين بالآثار والنقديات مثل ناجي جلول وفوزي محفوظ وعبد الحميد فنينة وأحمد السعداوي، حتى وإن لم يمثل جميع هؤلاء رفقاء دربه المهنيين على الحقيقة، أولئك الذي تقفز من بينهم أسماء ومسيرات أُخر لمحمد حسن ومحمد ياسين الصيد وراضي دغفوس الذين سبقت تجاربهم البحثية وانتساب أغلبهم إلى الجامعة التونسية مرحلة التحاق المنصوري بها. فقد تقاطعت بعض شواغلهم وأبحاثهم المنشورة ونتائج كتابتهم مع اهتماماته وتوافقت نماذج أدائهم المنهجية بحثا محكّما وتراكما معرفيّا مع تلك التي ألِفها حتى ذلك التاريخ.
والحق أن كثيرا من الضيق وانعدام الثقة قد علّم علاقة المنصوري بأغلب زملائه أو رفقاء درب مهنته بالجامعة، حيث لم يكن من السهل أو حتى من الممكن أحيانا اتساق التواصل بينهم وبينه على قاعدة التعايش والاحترام بين الجميع، وهذا على علاّته الكُثر سلوك معهود لدى جميع المحسوبين على نفس الصناعة عاينته ولن تزل أكبر المؤسسات الجامعية عراقة في إنتاج المعرفة ونقلها. ولأنه "أراد من زمنه أن يبلّغه ما ليس يبلغه من نفسه الزمن"، وتهيأ له في مناسبات عدة أنه "ينام مِلأ جفونه عن شوارد" التاريخ ونوادره، فقد اتّضح للكثير من زملائه وأصدقائه بما في ذلك الخلّص منهم، أنه قد استعدى الجميع بجريرة ظاهرة ومن دونها، بل وحمّلهم أحيانا وعن إسراف وكِبر ذنب الكدر الذي لحق بمزاجه. والحق أيضا أن حساسيته المفرطة وشخصيته المتقلّبة هما ما جعلاه يضيق بزمانه ولا يرى لنفسه موضعا بين أضرابه يناسب إيمانه القاطع بتميّزه بل وتفوّقه على جميعهم. 
فقد اتّصل تكوين محمد الطاهر المنصوري بالتاريخ الوسيط وبتاريخ العلاقات بين المسلمين والبيزنطيين تحديدا، وتموضع تخصّصه المعرفي بين مجالين متصارعتين امتلأت كتب الحوليات والأخبار بتفاصيل المشاحنات والمواجهات التي دارت بينهما. ويحتاج البحث في هكذا تخصّص إلى تبحّر موسوعيّ ومعرفة باللغات قديمها وحديثها وامتلاك لمناهج دقيقة وتوفّر على أهلية واضحة في قراءة ركام من المصادر القديمة الملغزة المضامين. على أن تفرغ المنصوري وانكفائه الرهباني أحيانا لخالص الكدّ والجهد لم يحل بينه وبين الرغبة في الانفتاح والاستزادة من خلال التعرّف على العديد من المدارس التاريخية وعدم التهيّب من تجريب نماذج بحثية متحدرة عن تخصّصات إنسانية واجتماعية بعيدة عن الشواغل السياقية المباشرة للمؤرخ . 
فمن "حوار الثقافات والحضارات" إلى التمرّس على مناهج الثقافة المادية والتاريخ الاقتصادي والاجتماعي فالديمغرافيا التاريخية والاستكشاف الأثري وفهم عالم التمثلات والجماليات الذهنيات، لم ينقطع فقيدنا عن التوسّل بأحدث المناهج قاصدا تطوير استمارته وتطويع تساؤلاته كي تتلاءم مع مقتضيات مكافحة الروايات المستجلبة وتعقّب اتجاه المعقولية في الاشتغال عليها.  الشيء الذي سمح له بعد طويل كفاح ومثابرة من دخول مرحلة جديدة فتح خلالها ملفات بِكر غير مبذولة داخل الجامعات ومراكز البحوث العربية وتعارض سياق تناولها مع "مواضعات" الفعل الاجتماعي وأسباره ضمن المجال الثقافي العربي الإسلامي. 
وليس من دليل أبلغ على انخراطه ضمن تلك التوجهات المجدّدة المُثرية لتساؤلات المنتسبين إلى المعارف الإنسانية، أولئك الذين خاض العديد من المحسوبين على جيله داخل الجامعة التونسية أو من التحقوا بها في بداية التسعينات البعض من تجاربها التي علّمت بَعْدُ مشهد المعرفة التاريخية والاجتماعية والحضارية تونسيا مع حلول الألفية الثالثة، من تصدّره لترجمة مؤلف "التاريخ الجديد La Nouvelle histoire"  الذي أشرف على تنسيق مساهمته الفارقة المؤرخ الفرنسيّ الذائع الصيت جاك لوغوف Jacques le Goff ، وهي مهمّة شاقة عويصة تضمنت الكثير من المحاذير الاصطلاحية، تجهّز المُترجم لتجاوز فخاخها وحلّ المشاكل المترتبة عليها بدراية واسعة وحسّ عال نعثر على البعض من لمساته ضمن التصدير الذي وضعه لتلك الترجمة وخاصة حال اشارته إلى خصوبة الحراك المعرفي الذي أفضت إليه نتائج أبحاث العديد من زملائه التونسيين أولئك الذين توقّف عند اسمائهم في العديد من هوامش تقديمه. 
كما ساهم استكماله لترجمة كتاب فرنسوى دوس François Dosse "التاريخ المفتّت" الذي اختزل مسار الانتقال المنهجي من أزمة مدرسة الحوليات الفرنسية إلى بروز مناهج التاريخ الجديد، في وقوفه على طبيعة النقلة التي فتحت مهنة المؤرخ على عوالم التفكيك والتأويل وعدم اكتفاء المحسوبين عليها حال محاولة استجلاء المامضى على العقلانية والحتمية التاريخية وحدهما.  
والظن بعد هذا، أن اهتمام الباحث بتاريخ الثقافة المادية غربا وشرقا هو الذي أمضى تحفّزه ووسّع اطلاعه على نماذج البحث في تاريخ الذهنيات والأفكار، دافعا إياه إلى فتح العديد من الملفات التي لا يمكن أن لا تذكّرنا بالتوجهات الفارقة التي قادت أبحاث وجوه المعرفة الانسانية العالمة فرنسيا على شاكلة فوكو، وبورديو، وريكور، ودي صرتو، ولوغوف، وشارتي وسير، Foucault, Bourdieu, Ricœur, De Certeau, Le Goff, Chartier, Serres.  . 
فقد برز جليّا وضمن المحاور المقتصدة لمؤلفه "استعمالات اللباس ورمزياته في الحضارة العربية الإسلامية" مثلا، تأثره الكبير بتلك المناهج لدى تعرّضه إلى دور القيافة والملبس في رسم الفوارق الاجتماعية والجنسية والملّية والأثنية، وتأكيد تمايز الهويات أو تباينها في استعمالات اللّباس ورمزياته.
كان المنصوري واعيا بجسامة ما حاول الحفر فيه شديد الإصرار على وضع عمل يطمح إلى إعادة صياغة علاقة المتخصّصين التونسيين في الفترة الوسيطة بمناهج الكتابة التاريخية من خلال تحسّس وظيفة اللباس كميسم وهوية. فقد عالج مسألة لباس الفقر والتصوّف متوقّفا عند وظائف ودلالات "الحجاب" و"النقاب" و"الخمار" و"البرقع"، منـزّلا إياها ضمن سياقها التاريخيّ المخصوص، مُستجليا اللَبْس المقصود المكتنِف لاستعمالاتها حاضرا، متوقفا عند مدلول لباس أهل الذمّة في ارتداء الغيار وشدّ الزنانير من قبل جميع من طالتهم ماضيا حماية خلفاء المسلمين وسلاطينهم.
كما تصدق نفس الملاحظات على مختلف الفقرات التي خصّصت للتعرض لإشكالية الحجاب داخل المجال الإسلامي وللأبعاد الراهنة التي أخذتها مسألة ارتدائه، الأمر الذي ساهم بلا جدال في تنسيب حالة تركيز الإعلام الغربي راهنا وبطرق لا تخلو من توجس مهووس ومرضيّة مزرية وخلط مبتذل على التزمت الملازم للإسلام وللمسلمين، وهي قضية حارقة غالبا ما تم التعامل معها بحسيّة مفرطة زادت في تعميق الهوّة بين المسلمين وبين التصوّرات الواقعية المتّزنة. على أن يتّسم تعرض تلك الدراسة لمدلول رموز الألبسة المفروضة على الذمام من أهل الكتاب بتجديد بيّن، حيث تم التشديد على أن التمييز يندرج ضمن تفريق ملّيّ مفروض على غير المسلمين من أهل الكتاب منذ ميثاق عمر بن الخطاب، لذلك عوّض الاشتباه بالملبس الاشتباه بالسحنة أو الوجه، ممثِلا في بلاد الإسلام كما في بلاد النصارى علامة بارزة لهوية السطح. أما بخصوص علاقة اللون بالمنـزلة الاجتماعية والانتماء العقديّ ودورهما كرامز marqueur اجتماعي وملّيّ، فقد تم ردّ الألوان إلى ما حملته في المخيال الجمعي من إيحاءات إيجابية مرغوبة أو سلبية منبوذة وذلك بمجرد تحوّل الألوان منذ العباسيين إلى ميسم اجتماعي وعرقيّ وملّيّ.
وبالجملة فقد أبلى الفقيد بلاء المجدّدين في الكثير من أبحاثه، وتمكّن باقتدار من ترتيب أفكاره واضعا إياها في متناول ذائقة أبسط القراء بل وأقلّهم اطلاعا ومعرفة بخبايا التاريخ وزواياه، وتلك خصلة من أعظم خصال الكتابة قراءة وتدبّرا ماضيا وحاضرا، واضعا بذلك حجر الأساس لتفحّص جملة من الإشكاليات من نافذة التاريخ الجديد، مضيفا لمختلف الملفات المعقّدة والشائكة التي فتحها لبنات جديدة استهوت بَعْدُ طلبته الكثر، أولئك الذين اختار العديد منهم السير على هدي خطاه، متسلّحين بسخاء بذله وشغفه اللامحدود بالحياة وإقباله على استلهام حكم أهل بادية السباسب التونسيين، أولئك الذين أخفق بلاء الزمان في إطفاء بريق عيونهم، بينما مثّلت ابتساماتهم العريضة قِناعة للاستهزاء من بؤس الزمان وأهله، لذلك أراني وبالرغم عن فراق من غادر صحبتنا دون استئذان في غاية المسرّة الجذلى حال ردّ هذا الطالع الجميل في لفظه العميق في مدلوله بعد أن سمعته منه أول مرة منذ أكثر من عشريتين إليه على سبيل التحيّة الصادقة إلى أجمل ما في روحه وابهاه:
تْمَنِيتْ عُمْرِي شَي ما طُلْتَاشِي     ./.    المُوتْ فَمّا الكُبُرْ ما فَمَاشِي.   

صدر ضمن العدد الأخير من مجلة الفكر الجديد  

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire