lundi 30 janvier 2017

"السمو فوق الخزي" الضحية والبطل وواجب الذاكرة
















ليس هناك من مهمّة أعقد أمام المؤرخ حاضرا من التدقيق في التحولات التي طالت أشكال تمثل الموقع الذي يصدر عنه الضحايا في المجتمعات الحديثة. ففتح هذا الملف يحيل بالضرورة على الرهانات الرمزية والاجتماعية المتصلة بثقافة الاعتراف أو ما تم وسمه بـ"السمو فوق الخزي"، تحسّسا لما تم إقصاؤه عن دائرة المفكر فيه وفتح باب الشهادة بخصوص ما تم اقترافه مع عدم التهيّب من إدراجه ضمن المروية الجماعية لبني البشر.
فقد شكل الاستماع لشهادات ضحايا القهر والاستبداد منذ ستينات القرن الماضي انقلابا حقيقيا هزّ جميع الأطر الرمزية الناظمة لمدلول البطولة والمعنى العميق للتضحية أيضا. فقد عاينت الإنسانية تحوّلا فارقا في الاشتغال على التاريخ وعلى الذاكرة الجمعية، وتم إبداء نجابة غير مسبوقة في إلحاق ضحايا الماضي بالتاريخ حال حصولهم أخيرا على موقع يضاهي جميع الذوات التي ضربت مواعيد حقيقة مع التاريخ. فقد اندس في ثنايا شهاداتهم عن تجاربهم الفارقة تعقّل جديد للسياقات التي حفّت بها، فأضحت تُطلب لإكساب الصدمات التي أرزت بكرامتهم البشرية وعمّقت من عذاباتهم مدلولا حوّل مسارتهم الشخصيّة إلى رصيد متقاسم يتّضح وجهه المُشرق حال التوقّف عند تفاصيل الوضعيات اللا إنسانية التي قُدر لهم أن يعشوها. وهو ما حوّلهم إلى فاعلين اجتماعين من الدرجة الأولى، طفت على سطح خطابتهم شخصياتهم القوية التي قبلت بالمنازلة مع من تورطوا في قهرهم. الشيء الذي وضع تحت أنظارنا وتصرفنا أيضا، تجارب كشفت عن مآسي الحياة البشرية، ورفعت الحُجب عن كمال من عاشوها، وعن سقطاتهم أيضا.
هذا ما تتشوف مبدئيا الهياكل المكلّفة بالكشف عن حقيقة ولوغ دولة الاستبداد تونسيا في تعذيب الممانعين ضد سياساتها ومساعدة الضحايا على استرجاع جانب من كرامتهم المهدورة، إلى إنجازه ضمن سياق ما اصطلح على تسميته بـ"التحول الديمقراطي". غير أن محصلة ما تم الإنصات إليه من شهادات بخصوص الممارسات الوحشية لـ"زبانية التعذيب"، لا تبدو كافية لتحقيق حدّ من التطهير الجماعي والإنصاف، استعدادا لطي صفحة الماضي الأليم وتحقيق المصالحة المنشودة، ما لم يعبّر المنخرطون في العسف والتعدي عن شعور صادق بالندم، ويتم التثبّت من حقيقة عودة وعيهم بفداحة ما تورطوا في اقترافه من تصرفات وحشيّة أمعنت في التعدي على حرمة الذات البشرية. 
على أن ضبابية الإستراتجيات المعلنة من قبل مختلف الأطراف المشكّلة للساحة العمومية تونسيا، لا تبدي من ناحيتها حدا كافيا من الانسجام بخصوص الأساليب المعتمدة والأهداف المرجوة من إتمام هذه الخطوة الفارقة في مسار الانتقال السياسي تونسيا. فالواضح أن شروخ الماضي لم تكف عن النزيف، وأن توظيفها سياسيا هو الشاغل المحوري، قياسا لما يفترض انتظاره واقعيا من انجاز هذه المرحلة الصعبة.     
عموما لا ينبئ تمثل الضحية كونيا عن حضور فهم سويّ لموقعها، فغالبا ما تضمنت الصورة المنقولة قدرا غير قليلا من الالتباس جعلها تتأرجح بين الدعوة إلى ضرورة نسيان ما تم اقترافه بوصفه ممارسة غير إنسانية تنحدر بالذات إلى ما دون إنسانيتها، وتعظيم بطولة الضحيّة بعد تحويلها وعلى صعيد الذاكرة الجمعية إلى واحد من أسمى معاني الفضيلة أو الكمال البشري. ويتراءى لنا حال التوقف عند هذين المفهومين الرمزين أن تبادل المواقع بين الضحية والجلاد قد ارتهن بمدى تشريع ممارسة العنف وحدود حرية الحكّام في اللجوء إلى ذلك أيضا. فقبول الضحايا بقسوة التعذيب بمنتهى السلبية يفقدهم جانبا من بشريتهم، في حين لم تخل تصرفات من قدر لهم احتلال موقع الجلادين من شبهة الإفراط في اللجوء إلى العنف، حتى وإن تواروا خلف ستار أخلاقي سميك يسحب على تصرفاتهم مدلولا إيديولوجيا متعاليا.
إن الدفع باتجاه تجاهل الضحيّة عبر التمثّل غير الواعي لانحدار قيمتها البشرية والتعبير عن ذلك بصوّر وتصرفات وأصوات مبهمة وذكريات ملغزة، ينبئ عن حضور حاجز نفسي يقصُر التفكير بخصوصها في مدلول حياتها التي لا تستحق أن تُحي، توافقا مع ما توسّع في تقريبه إلى أذهاننا الفيلسوف الإيطالي "جورجيو أغانبين Giorgio Agamben" حال تشديده على حقيقة الإقصاء المزدوج للضحية (Homo Sacer) عن كلا الخطابين الدنيوي والمقدس. 
لكن ألا يحيل نسيان الضحية على تجاهل بشرية الإنسان المنهزم وشعوره بالمهانة ونقصان ملكة الإباء، والتعامل بكثير من السلبيّة حال التخلي قهريا عن الفضائل المتّصلة بالكرامة البشرية؟ 
ينبغي الاعتراف بأنه ليس بوسع النسيان أن يتأسس من خارج حصول تعارض بينه وبين الذاكرة. فما دامت ذاكرة الجلادين (أي الماسكين بالشرعية السياسية بالمدلول التاريخي ) قادرة على تبرير تصرفاتهم المهينة لكرامة البشر بكل سهولة، فإن ذاكرة ضحاياهم ليس بمقدورها التعبير عن ذاتها وتأثيم ولوغ المنتصرين في اللجوء إلى العنف بوصفه الشكل الأوحد لوضع حد للمناكفة أو الصراع. لذلك يبدو من الصعب إزاء وضع كهذا تعبير الضحيّة عن شروخها دون تهيّبها من الاستهانة بعذاباتها أو الطعن في براءتها مما أُلصِق بها، والقبول الواعي بأن "عُريها" الرمزي قد شكل على الحقيقة تجربة حدود ضمن الوجود البشري.
تحيل شهادات الضحايا بهذا الشكل على ذاكرة أصحابها وعلى نثار من سياقات الواقع المدمّر الذي قدر لهم أن يعيشوه. كما تُنبئ عن جوانب من ذاكرة أولئك الذين لم يسعفهم الحظّ في الإدلاء بشهاداتهم حول ما قاسوه. فالإقدام على وضع كلمات على فضيع الإهانات التي سُلطت على المستهدفين يثبت شجاعة هؤلاء في الكشف عن وجوههم دون فقدان مائها، ويحوّلهم إلى أبطال يشكّل تسليط الضوء على ما تلمضوه من مرارات أحد المواضيع المعلِّمة لفكر الحداثة راهنا. في حين يحوّل الشعور بالهوان المتقاسم بين المخاطب وسامعه مواقعهما حال الإنصات لتفاصيل ما أُكرِه الضحايا على مقاساته من عذابات، مُعلنا بطريقته الخاصة عن بروز الفرد الاجتماعي المُنْشَّدِ إلى تصوّر جديد يأخذ بعين الاعتبار سياسيا وقانونيا وأخلاقيا حقيقة اتسام مختلف تصرفات بني البشر بالهشاشة، وسهولة انزلاق جميعهم في اقتراف المحظور أيضا./.  

شكلت هذه العروض افتتاحية العدد الأخير من مجلة "الفكر الجديد"