mardi 26 janvier 2021

محمد الهادي الشريف: أي جذور متوسطية لتاريخ تونس؟

 












          

 


 

رحل أستاذ الجميع "سي حمادي الشريف" من عالم الشهادة والناس إلى عالم أفضل. لذلك أود توديعا لروحه العطوفة الزكية أن أعيد التقليب في هذه الخواطر التي وضعتها بحقه، والتي لا تشكل سوى قراءة تكريم تعكس مدى التواصل بين أجيال الجامعين الذين تداولوا على التدريس والتأطير بالجامعة التونسية، وتؤكد الحرص على تدعيم مكاسبها وتأصيل توجهاتها البحثية الطموحة، توثيقا للصلات التقليدية بين جيل المؤسسين - والأستاذ الشريف "أستاذ الجميع" كما يحلو لكل من صادفه حظ التتلمذ على يده تسميته، من أبرزهم وأجلهم عِلْمًا ومكانة في قلوب الأجيال التي عرفته أستاذا باحثا ومؤطرا مُلهِما، وكذا غيرهم ممن نهل من بحوثه القيمة الغزيرة دون أن تسمح له الظروف بالتعرّف عليه شخصيا.

قد تبدو هذه المهمة سهلة نسبيا، فأنا واحد من جمّ غفير من المدينين لـفقيد الجامعة التونسية وكبير مؤرخيها بالتدريس والتأطير على مدى زمني طويل قارب الأربع عشريات، وهي مدة تبدو كافية للتعرف عن قرب عن الباحث والمؤطِر وربما على الإنسان أيضا. غير أن دواعي الإنصاف تقتضي عدم الانسياق وراء هذا الزعم، لذلك فإن ما يمكن أن أعرب عنه في مثل هذا المقام لن يتجاوز الانطباعات التي لن تخلو بالضرورة من الانحياز بل ومن الذاتية أيضا. 

كنت طالبا استعد لإنهاء آخر سنوات الأستاذية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتونس في مستهل الثمانينات، وكان "سي حمادي" قادما لتوّه من رحلته الثانية لفرنسا وقضاء مدة للتدريس بدار المعلمين العليا بعد تجربة مديدة في البحوث توّجت بمناقشة أطروحة فارقة في البحث التاريخي التونسي اتصل موضوعها بعلاقة الدولة بالمجتمع على أيام مؤسس الدولة الحسينية حسين بن علي تركي (1705 - 1740) ونشر خلالها عزيز المقالات في العديد من الدوريات التاريخية المحكمة وفي مقدمتها مجلة "الحوليات" الفرنسية الذائعة الصيت.

عرفته مدرسا قديرا مثل أبناء جيلي من طلبة قسم التاريخ، كما صادفني حظ التدرّب على البحث العلمي الدقيق على يده بشكل غير منتظر وذلك لـمّا أصرّ على إدماجي كمتربص ضمن مشروع بحث هام أشرف على إدارته. وتمثّل طموح ذلك المشروع في إنجاز مباحث تاريخية وأنثروبولوجية مصدرها أرشيف ضخم احتوى بالأساس على مدوّنة سجلات وعقود الأوقاف أو "الأحباس" بعد تصفيتها سنة 1957.

لست على يقين وبحكم المسافة التي تفصلنني عن تلك الفترة البعيدة حاضرا وظهور نتائج أبحاث الفريق خلال تسعينات القرن الماضي، أنني كنت مطّلعا على تفاصيل تلك التجربة المعرفية التي ساهمت من موقعي المتواضع مع غيري من الطلبة والمبتدئين والباحثين من ذوي التجربة في تذليل البعض من صعوباتها والتحضير لخطواتها الأولية، وحتى وإن لم أستطع مواكبتها حتى النهاية فإن ما خرجت به من جلسات التدرّب على العمل المطولة التي جمعتني بـالأستاذ الشريف قد مكنني من استكشاف معرفته الواسعة بتفاصيل مهنة المؤرخ، فضلا عن العديد من الجوانب الإنسانية التي فاقت جميع ما كنت أتوقّعه، الشيء الذي كان كافيا لربط مصيري نهائيا بمجال البحث التاريخي.

وحال العودة إلى الجامعة لأستكمل دروس المرحلة الثالثة بعد بضع سنوات من الانقطاع للتدريس عاودت الاتصال بـ"سي حمادي"، متابعا الدروس التي كان يلقيها على طلبة مناظرة التبريز، وتلك مناسبة خبرت من خلالها بشكل تفصيلي سعة توجهاته البحثية والينابيع العلمية التي نهل منها والمدارس التاريخية والنماذج المنهجية المتعدّدة التي حاول بشكل قصدي دفعنا باعتبارنا طلبة ثم باحثين ناشئين إلى الاطلاع عليها بشكل دقيق، قبل اختبارها ضمن مجالات بحوثنا الشخصية لاحقا. يدرك جلّ الذين أموا دروس الأستاذ الشريف أنه بالإضافة إلى القيمة المعرفية لمضمون محاضراته وسهولة جانبه تعاملا وكريم سلوك وسجايا، توجهاته المعرفية وأُفقه السياسي بوصفه مثقّف عارف بما يدور من حوله أيضا. فالأستاذ محمد الهادي الشريف قارئ حصيف لصنوف متعدّدة وألوان من المعارف تشمل تخصصات عدة وآفاقا زمنية وأعراض جغرافية متباعدة وأجناس علمية وأدبية أيضا لا تقف عند تخصصه الدقيق. فبدايات معرفتي بالأنثروبولوجيا التاريخية مثلا، وكذا توسع قراءاتي للبحوث الجامعية المتخصّصة بما اصطلح على تسميته بـ "الدراسات العثمانية Etudes ottomanes"، وكذا أمهات البحوث التاريخية المتصلة بالمجالين الأوروبي والمتوسطي أيضا، كانت بتوجيهه. وهناك أسماء عديدة لمؤرخين أتراك أو غربيين يكتبون بغير اللغة الفرنسية كان له فضل التركيز على إسهاماتها العلمية في الجامعة التونسية. على غرار "هارولد جيب" و"الكاي سونار " و"حوري أسلاموغلي " و"لطفي بركان " و"إمانويل فالرشتين" وإفانس بريتشارد و"كليفورد غيرتس " و" وإرنست كلنير" وغيرهم كثير.

مِثْلُ هذا التكوين المتنوع هو الذي سهّل في اعتقادي على عدد من أبناء جيلي ممن كان لهم حظ التتلمذ والتأطير على يد الأستاذ الشريف أن يغامروا بتوجيه بحوثهم الأكاديمية نحو مسالك أو مواضيع لم تكن مقصودة من قبل غيرهم. وهي مواضيع أعتقد أن لمواكبتهم لدروسه ومعرفتهم بشخصه أيضا، دور لا يمكن أن ينكر في تحديدها. غير أن هذا الاعتراف بالدور الذي لعبه أستاذ جامعي من طينته وعلو كعبه وقدرته الفائقة على تحريك سواكن المعرفة والبحث التاريخيين، لا يلغي حضور الاختلاف معه وحتى الجدل الحامي أحيانا بينه وبين طلبته ممن اختاروا ائتمانه على مشاريع بحوثهم الجامعية. وهناك مؤشرات بليغة على حقيقة هذا الاختلاف يمكن لأي قارئ متفحّص أن يرصدها ضمن أبحاث منشورة أنجزت من قبل عدد من طلبة الأستاذ الشريف تحوّل بعضها بالتقادم إلى عناوين معروفة في تفكيك التاريخ السياسي وتوضيح علاقة ذلك بتعدد الانتماءات، وكذا التدقيق في التاريخ الاجتماعي والاقتصادي الحديث للبلاد التونسية والتاريخ الاجتماعي المقارن لمجال المغارب أيضا. بحيث لم يعمل من تولى الإشراف عليها مطلقا على مصادرة توجهاتها أو الحدّ من الطموحات الواقعية لمنجزيها. ولنا في أعمال دقّقت في السياسة المجالية وفي تاريخ المِلْكية أو في مواضيع تعرضت مجهريا للواقع الاجتماعي للفئات المهمّشة، وكذا الأمر بالنسبة للتوجهات التي حاولت اختراق الحاجز الاعتباري للحقب الزمنية ومدّ جسور بين التاريخ الوسيط والحديث بغية الكشف عن البنيات الناظمة للظواهر الدينية والاجتماعية والثقافية المحورية بالدواخل المغاربية، فضلا عن البحوث التي واصلت تعقّب سياسة الدولة المخزنية الحاكمة تجاه مختلف أشكال الممانعة الاجتماعية، دلالة بليغة على سعة أفق المؤطر وقدرته على استيعاب مختلف التوجهات والتلاؤم مع الاختيارات المنهجية المتباينة التي عولت عليها مختلف البحوث التي تم إنجازها بعد سنوات من العمل والجهد المضنيين والممتعين في آن.

والظن بعد جميع هذا، أن مسيرة الأستاذ محمد الهادي الشريف المعرفية الطويلة والسخيّة قد تمحورت حول إشكاليتين: ركّزت أولهما على أعادة تعريف تاريخ البلاد التونسية من حيث ربط هويتها بالبحر واتصال معيش سكانها ومتخيلهم الجمعي أيضا بالمتوسط. أما ثاني تلك الإشكاليات فقد اتخذت أفقا سياسيا لا يخلو من حالة قلق دائم والتزام أخلاقي يتصل بما وسم بـ"تاريخ الحركة الوطنية". فبخصوص الإشكالية الأولى لا مراء في تأثر مختلف البحوث المنجزة بتوجهات مدرسة الحوليات الفرنسية. فمعظم الأبحاث المنشورة للأستاذ الشريف حول تاريخ تونس الحديث تكشف بسهولة عن مدى التأثير المنهجي الذي أحدثته الدراسات التاريخية المخصّصة للمتوسط من قبل رواد تلك المدرسة على غرار "هنري بيران " مؤلف كتاب "محمد وشرلمان" و"فرناند بروديل " الذي لم يفلت من تأثير "بيران" منتهيا إلى تحويل مجال المتوسط إلى شخصية تاريخية ذات هوية سردية مستقلة. فعلى غرار هؤلاء المؤرخين وغيرهم كـ"بيار فيلار"  "وجورج دوبي " و"وبيار شوني " وعند السواحل الجنوبية لـلمتوسط  نزعم أن للبحر حضورا محوريا في شخصية محمد الهادي الشريف الذي تكتنف شخصه تماما مثل "ميسترال " و"فالري " و"كامو" وغيرهم ممن فتنتهم زرقة السماء ووهج الشمس وعافية الماء، نوازع أو هواجس خاصة، حولت آثارهم المكتوبة إلى عمل إبداعي بالمعنى العميق للكلمة.

اكتهال الرؤية واكتمال المعنى حدّده ثالوث السماء والشمس والماء الذي تحوّل بالتقادم إلى معيارا لذات الفرد ولتاريخ مختلف الشعوب المطلّة على البحيرة المتوسطية أيضا. هذا السخاء العارم وهذه "السعادة القلقة" التي توحي بميتافيزيقا تقف على مسافة متساوية من التشوّف إلى مطلق الفضيلة والجمال والاعتقاد في خالص الكد والعمل، هي تعبير غير مكتمل لفلسفة المكان. فالمتوسط مثل ما شدّد على ذلك "جون جييونو " في تأملاته حول هذه البحيرة " لا يفصل بل يوحّد، فارضا على جميع الشعوب التي عاشت وتلك التي تعيش في كنفه نفس الإيماءات، لذلك لم تنتظم المبادلات على سطح هذه البحيرة رغما عنها بل بفضل وجودها. وهب فرضا أننا وضعنا قارة بأكملها مكانها، فإننا سنتفطّن أن لا شيء كان ليَعْبُر من اليونان إلى بلاد العرب، ولا شيء من بلاد العرب إلى إسبانيا، ولا شيء من المشرق إلى "البروفانس" ولا شيء من روما إلى تونس. فمنذ آلاف السنين "كان تبادل القتل والحب أيضا أمران شائعان ومألوفان بين ضفتيه". من أرض العبور المفضّلة للمواريث الثقافية المشتركة نشأ نسق متوسطي خاص انخرطت ضمنه مجمل الرؤى متقاطعة حينا ومتباعدة أحيانا أخرى. بحوث "الأستاذ الشريف" حول تاريخ تونس الحديث شكلت - من منظورنا الخاص - وفي جوهرها زيارة مختلفة ومتجدّدة لتاريخ المتوسط من منظور الضفة المقابلة، أي من منظور الفقراء الذين كلما حلموا باكتمال إنساني ما، اتجهت أنظارهم صوب البحيرة المتوسطية، فـ"متوسط الفقراء" الذي تعكس "نوستالجيا الاستشراق" فطرته السعيدة لا ينبغي أن ينسينا عذابات سكانه وحرمانهم وغضبهم المكتوم وليد قرون مديدة من الاستبداد والجور. وإذا كان لبحوث الأستاذ الشريف حول تاريخ تونس من معاني تُستجلى فمقصدها الأساسي فيما يخصّنا هو ما ذكرت قبل أي شيء سواه.

بقي أن نحبّر كلمتين بخصوص الهاجس البحثي الثاني الذي اختار الأستاذ الشريف أن يخصّص له جانبا من مسيرته والمتعلق بـ"تاريخ الحركة الوطنية". لا يمكن هنا أن نفصل بين السياق التاريخي والمسيرة الخاصة للأفراد حتى وإن زعم علم آخر من كبار أعلام الجامعة التونسية في أول أجزاء الثلاثية التي خط بها السيرة المحمدية تأسيا بفلسفة التاريخ عند هيغل أن: عظماء الأفراد لا يخضعون إلى السياق بقدر ما ينشئوه. لا يمكن هنا أيضا أن نفصل سياق البحث عن مسيرة الباحث، فبعد حصول البلاد عن استقلالها وحتى نهاية الخمسينات تقريبا ناضل الأستاذ الشريف في صفوف حزب الدستور، مفضّلا مع نهاية الخمسينات أن يضع بينه وبين النضال الحزبي مسافة أمان كافية فقد الانكباب على البحث العلمي المحكّم، دون أن يرفض الحوار والإسهام في إعادة صياغة التاريخ السياسي "الوطني" من زاوية المسؤولية النقدية للخبير العلمي أولا، وللمواطن في مقام ثاني. مكّن هذا التوجه شيخ المؤرخين التونسيين المتخصصين في التاريخين الحديث والمعاصر من أن يلزم الاستقلالية وأن يتفادى الانحياز والتورّط الإيديولوجي، ليُبلي بلاء لا حدّ له في مجاهدة دواعي النفعية العاجلة المبنية عن المحاباة وتشغيل آليات الخدمة المهينة والتملق السافر. وهذا لا يعني عدم حضور نوازع ذاتية وحتى إعجاب مضمر بشخصيات وطنية كبيرة عرفها الأستاذ الشريف عن قرب وأجهد نفسه فيما أعلم في تكوين متن مصدري مكتمل حولها، دون أن يحزم أمره مع بالغ الأسف لإعادة صياغة مساراتها بخبرة العالم المؤرخ والمناضل المدني والسياسي أيضا. وهو ما حققه عدد من من كبار المؤرخين المغاربة والأوروبيين المحسوبين على جيله مثل "عبد الله العروي" و"جاك لوغوف" و"بيار شوني" و"برتولومي بنصار" و"فرنسوى لوبران" و"هشام جعيط" وغيرهم من مباحث فارقة ساهمت في توسيع دائرة المعرفة التاريخية والبحث الرصين والتأمل الخلاق أيضا.

تلك بعض الذكريات التي وددنا اقتسامها مع واسع القراء بخصوص مسيرة حافلة خصّصاها فقيدنا الجليل لخالص البذل وسخي العطاء، فليخلد "سي حمادي" لراحته الأبدية بعد بلاء ذوي العزم وتواضع العلماء الأجلاء في أمن وسكينة وسلام.

صدرت هذه التحية لروح الأستاذ محمد الهادي الشريف بصحيفة المغرب بتاريخ الثلاثاء26 جانفي ،2021