mardi 10 mars 2020

قراءة لمياء عبيدي في كتاب «أخبار التونسيين» للطفي عيسى



















     مثل مؤلف «أخبار التونسيين: مراجعات في سرديات الانتماء والأصول» مغامرة خاضها لطفي عيسى من بوابة المؤرخ المنفتح على حقول معرفية ليست لها صلة عضوية بمهنته وتخصصه الأصلي لذلك مثلت إعادة زيارته لمتون أدبية مسألة جوهرية تنم عن رغبة في مراجعة المفاهيم الإجرائية والمدونات المصدرية التي يشتغل عليها المؤرخ، فهي محاولة لتجاوز المأزق المعرفي الذي تعيشه العلوم الإنسانية والاجتماعية بصفة عامة بما فيها «علم التاريخ». فقد حاول من خلال هذا المؤلف اقتحام مجال «ابستمولوجيا المعرفة التاريخية وفلسفتها».
ورد هذا الكتاب في 350 صفحة قسّمت لأربعة فصول مع مقدمة وخاتمة بالإضافة إلى الاستعانة بمنتقيات بيبليوغرافية، وقد ختم كل فصل بقسم طريف كان عبارة على منتقيات مصدرية جاءت على سبيل المرافقة والحاشية والاستطلاع والإهداء.
قدّمت لنا هذه الفصول أزمنة مختلفة للتونسيين تحيل على أصولهم وانتماءاتهم فكانت الانطلاقة بالبحث في «الأساطير المؤسسة» عبر العودة للخرافات الشعبية التي تحيل على «زمن الحكاية» وهو زمن موغل في التاريخ وفي القدم، لينتقل المؤلف وفي مرحلة ثانية لـ«زمن المجال» قصد توسيع أبعاد الانتماء والانتساب عبر ربط تاريخ التونسيين وأخبارهم بمجالات ثبت تأثير تاريخها في صناعة مختلفة انتماءاتهم.
عبّر الزمن الثالث عن انقلاب النظرة إلى الخبر تونسيا من خلال ربطه بفضول الشعوب الراغبة في الانعتاق والتقدم وتجسد ذلك من خلال ما وسم بـ «زمن الرزنامة»، وكان الزمن الرابع أكثر التصاقا بالذات وبالوجدان.
تتبع الفصل الأول أو «الزمن الأول» أخبار التونسيين والشخصية التونسية ومثّل فرصة للعودة للأساطير المؤسسة من خلال مساءلة رصيد تراثي بقي ولمدة طويلة محل تهيب من المؤرخين لما ينطوي عليه من خصوصيات وهو «الحكايات» و»الأمثال الشعبية». وفي هذا الإطار اعتمد «لطفي عيسى» على مؤلف «سالم ونيس» «الحكاية الخرافية والشعبية» والذي تضمن ما يزيد عن 130 خرافة تونسية.
تقترن أهمية هذه المدونة التي عمل «لطفي عيسى» على مساءلتها بثلاث نقاط: علاقتها بالزمن، علاقتها باللغة، والمضمون أو المباحث.
تحيل الحكايات والأمثال الشعبية على أزمنة بعيدة لذلك تم اعتبارها من النصوص المؤسسة لشخصية التونسيين فهي «نتاجا لحكمة الأجداد» و»بصمات ثقافية احتفظت بها ذاكرة جماعية حية»وثّقت للذاكرة المشتركة وكشفت مواطن الشخصية الجماعية فهي تحيل على الانتماء والانتساب.
تبقى إذن علاقة هذه النصوص بأزمنة غابرة بعيدة غير محددة في كثير من الأحيان من النقاط التي أهلت حضورها المستمر داخل ظرفيات مختلفة، فهي تحيل على الشخصية التونسية وعمق انغراسها في زمن بعيد سرمدي أحيانا وزمن تاريخي أحيانا أخرى من خلال إدراج بعض الأحداث التاريخية الواقعية.
إذا كانت الحكايات والأمثال الشعبية قد عادت بأخبار التونسيين إلى أزمنة بعيدة أو «أزمنة خرافية ذات أفق عجائبي»فإنها نجحت وفي نفس الوقت في الولوج إلى «روح التونسي» التي تجسدت في لهجته، فاللهجة المحلية عنصر يؤشر على ما وسمه لطفي عيسى بـ génome culturel du tunisien المحدد في تشكيل الشخصية الجماعية و«الواسم للشخصية التونسية».
ساهمت الخصوصيات البلاغية لهذه النصوص والتي تجسدت في انفتاح استعاراتها على دلالات مختلفة في توطينها من جديد وبأشكال وخلال ظرفيات مختلفة فهي معين لا ينضب.
وعمل لطفي عيسى على إبراز أهمية «الحكايات والأمثال الشعبية»وقدرتها على تجسيد مستويات من ماضي التونسيين فبالإضافة إلى نقل أخبار أعرضت عنها عادة المصادر الكلاسيكية من قبيل المدونات الأرشيفية أو الأدبية، فقد نجحت هذه المدونات في»استعادة المشاهد المتصلة بحياة سكان البوادي والأرياف في مختلف أنشطتهم وأشغالهم وتربيتهم فضلا عن أفراحهم وأترحهم وغيرها من الأعمال التي طبعت أنظمة ودوران مسار حياتهم اليومية»، وقد نجحت هذه الخرافات وحسب ما أورده لنا «لطفي عيسى» في نقل تمثل التونسيين العميق لخصوصيات الوسط الذي عاشوا داخله، دون أن ننسى عرضها للقيم والطباع التي حكمت حياة التونسيين من قبيل الطمع والجشع وسوء التدبير وفرط الغيرة وقلة المروءة، والمكر، والحيلة، والشجاعة...
لم تقتصر هذه المستويات على مجال دون أخر بل إن الحكايات شملت مختلف جهات البلاد التونسية أريافها سهولها وجبالها وأهلها سواء منهم من انتسب إلى سكان الحواضر أو أهل البوادي والقرى.
وما أكسب كل هذه المستويات طرافة عملية تسييجها النظري فقد عمل «لطفي عيسى» على محاورة المقاربات الأجنبية التي سيجت نظريا وبشكل مكثف هذا القسم وذلك من خلال الإلحاح على تقديم جملة من المقاربات النظرية والتي شكلت 10 صفحات من جملة الفصل.
جاء الفصل الثاني من الكتاب ليقدم «الزمن الثاني» أو ما وسمه «لطفي عيسى» بـ»زمن المجال» وقد مثل فرصة لتوسيع أبعاد الانتماء أو الانتساب عبر ربط تاريخ التونسيين وأخبارهم بتواريخ مجالات ثبت تأثيرها في صناعة مختلف انتماءاتهم.
وقد تم الاعتماد داخل هذا القسم على «كتلة الأخبار» التي استعرضها «البشير صفر» ضمن مصنفه «مفتاح التاريخ» والذي مثل مجموع الدروس التي ألقاها على مسامع طلبة الجمعية الخلدونية بين 1897 – 1908.
تحيل هذه الأخبار على تاريخ ممالك الشرق طوال العصور القديمة وتاريخ الإغريق وحضاراتهم بالإضافة إلى تاريخ الإمبراطورية الرومانية ومراحل توسع قرطاج وحروبها...تعّبر كتلة الأخبار هذه على وعي «البشير صفر» بضرورة توسيع مجال انتماء التونسيين.
عمل «لطفي عيسى في قسم أول من هذا الفصل على نقل التفاصيل التي ميزت المسار الفردي «للبشير صفر» والتي تؤشر على هذا الوعي.
وقد احتفت التفاصيل التي تهم الجانب التحصيلي للبشير صفر بالتأكيد على انفتاحه على العالم الخارجي وعلى الآخر فنحن أمام تلميذ من خريجي المدرسة الصادقية توجه إلى فرنسا حيث واصل تحصيله الجامعي وتابع محاضرات جامعة السوربون.
قدم «لطفي عيسى» الإطار العام الذي شكل هذا الوعي والذي تميز بتجذر الحركة الإصلاحية التي ميزت النصف الثاني من القرن 19 وذلك من خلال صدور جريدة «الحاضرة»التي تضمنت مقالات «للبشير صفر»عرّف فيها بالنظم السياسية والاجتماعية المحدثة وحاول الإحاطة بالأوضاع التاريخية والجغرافية لبلدان أوروبا، وفي نفس هذا الإطار تم إنشاء «الجمعية الخلدونية»التي أثثت العديد من الدروس في مادتي التاريخ والجغرافيا.
وتتأتى أهمية أثر «البشير صفر» ووفق التصور الذي قدّمه لنا «لطفي عيسى»، من محاولته إدراج تاريخ التونسيين ضمن منهج ساير العروض التاريخية المحدثة غربا وذلك بتوسيع الانتماءات الجماعية وبإدراج تاريخ البلاد التونسية القديم ضمن تاريخها العام مع وصل كتلة الأخبار بتاريخ ممالك العرب ودول الخلافة الإسلامية.
فقد سعى «البشير صفر» وحسب ما نقله لنا «لطفي عيسى» لتوطين مجالات الانتماء الحيوية للتونسيين ضمن كتلة تلك الأخبار المستجلبة، وتم ذلك وفي مرحلة أولى عبر ما وسمه»لطفي عيسى» بــ«مصالحة التونسيين» مع تاريخهم القديم (بعد أن كان يتحدث عن صعوبة استيعاب التونسيين لتاريخهم القديم) ومحاولة مد جسور متينة مع تاريخ الحضارات التي تعاقبت على البلاد قبل نجاح العرب المسلمين في أسلمتها.
اعتبر لطفي عيسى بأن الغاية من توجه «البشير صفر» هي إثارة اهتمام النخب التقليدية بالتاريخ القديم ودفعها بالتدرج إلى إنجاز مصالحة مع تلك التواريخ فمن المستحيل مواصلة الإقرار بالقدرة على فهم تاريخ البلاد التونسية بمعزل عما عاشته قبل الانتشار الإسلامي وهو ما اعتبره توجه محدث حتى وإن عثرنا ضمن ما خلفه النيفر من آثار ما يندرج ضمن نفس التصور تقريبا.
ويقوم هذا التوجه وضمن نفس التصور، على عدم الاقتصار على مقاربة تاريخ البلاد بالاستناد إلى رؤية تركن إلى النوازع الإسلامية المركزية والانفتاح بالتالي على الأدوار التي لعبتها مختلف الحضارات السابقة لانتشار الإسلام والمسلمين. وهو ما سعي إليه «البشير صفر» من خلال الإقرار بالأصول الشرقية لسكان البلاد و»النزوع نحو ربط تاريخهم القديم بتشغيل آليات صهر العناصر الوافدة على البلاد أو دمجها فينيقية كانت أو رومانية أو وندالية أو رومية بيزنطية أو بالتعويل على العكس من ذلك على تشغيل آليات المقاومة كلما ازداد الشعور بتفسخ مقومات شخصيتهم المحلية».
فقد اهتم «البشير صفر» وفق رؤية الكاتب بتاريخ قرطاج (أسطورة تأسيس قرطاج منجزها الحضاري – مدنية قرطاج – التوسع القرطاجي – الصراع القرطاجي الروماني) الحضور الروماني (سعي حكام روما إلى إحياء قرطاج من جديد – ضربهم لحركات الممانعة التي قادها زعماء الممالك البربرية – تقديم ترتيب أوضاع المستعمرة الإفريقية– تراجع سلطة الإمبراطورية...)
عمل إذن «البشير صفر» على ربط مختلف أطوار ووقائع مرحلة ما قبل الحضور الإسلامي بتاريخ البلاد التونسية وهو ما اعتبره»لطفي عيسى» نوع من الإنصاف تطلعت النخب التونسية إلى تحقيقه من خلال «تقديم نفسها على أنها أمة مناضلة من أجل استعادة سيادتها على وطنها المسلوب والإحاطة بمجمل تاريخه بما في ذلك ما اتصل منه بتاريخ ما قبل انتشار المسلمين».
ولم تشمل عملية توسيع الانتماءات المصالحة مع التاريخ القديم فقط، بل اتصلت كذلك بما عبر عنه «لطفي عيسى» بـالانفتاح على» الغيرية الأليفة» و»الغيريات الغريبة».
وقد جاءت «الغيرية الأليفة» لتحيل على انتساب التونسيين لـ»إمبراطورية إسلامية عالم» عبر مساءلة مادة تاريخية متنوعة وغزيرة (تاريخ العرب – ظهور الإسلام – تعاقب دوله – تأزم أوضاع الخلافة العثمانية- تواريخ العرب البائدة والعاربة والمستعربة ...) استجلب «البشير صفر» لتغطية 35 قرنا المشكلة للتاريخ القديم أخبار العديد من المجموعات العرقية وتواريخ المجالات الواقعة تحت تأثير الحضارة العربية الإسلامية منذ تأسيس دولة النبي بيثرب حتى إلغاء الخلافة العثمانية.
تمثل كل هذه العروض التي قدّمها «البشير صفر» امتدادا طبيعيا لتاريخ الإسلام وهي تحيل على الأواصر العميقة التي ربطت تاريخ الشرق بـ»ضمير التونسيين الجمعي» فقد تتبع الكيانات السياسية التي تقاطعت تواريخها مع تاريخ «إفريقية» بهدف تسهيل عملية إعادة تمثل التونسيين لإشكالية الانتساب بما يساعد على تخفيف شعورهم القوي بالدونية الناتجة عن «هامشيتهم المجالية» حسب التصور الذي قدمه «لطفي عيسى».
جاءت «الغيرية الغريبة» لتحيل على فضاءات جغرافية مغايرة تماما لمجالات «الغيرية الألفية»، فقد تشكلت من «تاريخ الأجوار الأوروبيين» (فرنسا – المجال الإيطالي – الأمة الإنجليزية).
وقد شكلت كل هذه المستويات ما وسمه «لطفي عيسى» بـ»جغرافية انتماءات التونسيين الجماعية» التي انفتحت على غيريات جغرافية وزمنية مختلفة، والتي دلت على القدرة الواسعة «لـلبشير صفر» على تركيب الأخبار والاعتراف بالتالي بالمشترك الحضاري الإنساني كان القصد منه تخطي التركيز المرضي على محور حضاري واحد وبناء مصالحة مع كل الغيريات وهو ما عبر عنه لطفي عيسى بـ«التعافي من جميع مظاهر الانطواء».
جاء الفصل الثالث من الكتاب ليقدم لنا ما وسمه لطفي عيسى بـ«زمن الرزنامة» أو «زمن الاستطلاع وحب المعرفة الجذلى» وذلك عبر التعويل على أشكال مستحدثة من المعارف والآداب من قبيل منجز «محمد بن الخوجة» المتمثل خاصة في «الرزنامة التونسية» وموسوعة «زين العابدين السنوسي» حول تاريخ الأدب التونسي والتي لم يصلنا منها سوى الجانب المخصص لتراجم أدباء النصف الأول من القرن العشرين ومختارات من أعمالهم الفنية.
مثل القسم الأول من هذا الفصل محاولة لتركيب المسار الفردي لكل من محمد بن الخوجة وزين العابدين السنوسي اللذان اعتبراهما لطفي عيسى «مساران متوازيان» لكن ما جمع بينهما هو انفتاحهما على معارف جديدة وهو ما يعني إمكانية تقصي «انسلاخ مضامينها المحدثة من أكناف المعارف القديمة».
حاول «لطفي عيسى» تجاوز التقييمات الصادرة بشأن سيرة «محمد بن الخوجة» ومنجزه المعرفي والتي تأرجحت بين الاعتراف بالمكانة والحظوة والاحتراز الضمني أو المعلن بدعوى انحيازه لصف الإدارة الفرنسية الحامية، فقد سعت العديد من المقاربات إلى تشويه صورة «محمد بن الخوجة» ولم تكترث بمنجزه المعرفي فتم فصله بالكامل على الحراك الفكري والسياسي حيث لم يتم إدراجه ضمن زمرة مؤرخي مرحلة النضال الوطني.
فقد أكد الكاتب وفي نفس الإطار على توفر المسار الفردي لمحمد بن الخوجة على نوع من التناقض بين الانخراط في الحياة السياسية وأداء الواجب المهني من جهة والمساهمة في صياغة خطاب تاريخي توفر على نزعة تأصيلية للاستعارات المرسخة لشعور انتماء التونسيين إلى وطن يخصهم. فقد ساهمت مختلف أبحاثه التاريخية في تبسيط المعرفة بالتاريخ الوطني.
عمل «لطفي عيسى» على التأكيد على نجاح نموذج «محمد بن الخوجة» في إحداث توجهات توافقية بين مساره المهني ومساره المعرفي الذي جسد من خلاله اعتقاده العميق في الانتماء إلى وطن يخصه.
حاول من خلال المسار الفردي لمحمد بن الخوجة تتبع نشوء الشعور الوطني والدور الذي لعبته «النخب المزدوجة اللسان والمدمجة من قبل الإدارة الاستعمارية في تقريب المبادئ الوطنية الجديدة في الأجيال الشابة التي انخرطت في النضال من أجل التحرّر من ربقة الاستعمار والدفاع عن ذاتيتها أو خصوصياتها الوطنية»
فقد ساهمت متانة تكوين «محمد بن الخوجة» المزدوجة في اتخاذه لموقع الوسيط البارع في التعريف بأخبار التونسيين وخصوصيات ذاكراتهم الجماعية وتراثهم الطريف ومختلف البصمات المتصلة بحضارتهم العريقة، وهو ما ساهم في ترسيخ الوعي بالانتماء إلى أمة منغرسة في التاريخ تطمح إلى إثبات ذاتيتها والخروج من واقع الوصاية الذي تردت فيه.
مثلت أعداد «الرزنامة التونسية»الصادرة بين 1900 –1916، المتن الذي اشتغل عليه «لطفي عيسى» بشكل مكثف داخل هذا الفصل الثالث. فقد شكلت «الرزنامة» أداة توعوية غير مسبوقة يمكن من خلالها «الكف عن رد القضايا المطروحة إلى أزمنة دائرية مقدسة والاعتراف نهائيا بسيطرة زمنية جديدة تحيل على «زمن الرزنامة» فقد تضمنت معارف فلكية وأدبية وتاريخية وعلمية وفنية وإدارية وسياسية واشهارية وجاءت لضبط التواريخ وكذلك للتعريف بالمؤسسات السياسية القديمة والمحدثة من قبل الإدارة الاستعمارية،فضلا عما تم تضمينه داخلها من عروض ذات طبيعة تثقيفية.
وساهم القسم الفلكي وفق التصور الذي صاغه «لطفي عيسى» في توضيح مواعيد السنوات الموافقة لحلول الأعوام الهجرية وتقريب الظواهر الفلكية الثابتة والمتحولة والتقويمات المختلفة المتصلة بجل الأمم والحضارات والديانات المعروفة من قبل القراء، وهو ما يؤشر على وعي «محمد بن الخوجة» «بفائدة ضبط الزمن وتحديده ضمن سياق قرن تسارعت ضمنه التقلبات وتعددت الابتكارات والاختراعات والاكتشافات وصار التقويم ضمنه من أوكد ضرورات الحياة العصرية،بحيث احتفت به جميع الشعوب»ويدل ما عرضته الرزنامة على أن النخب التونسية اقتنعت بضرورة عقلنة الإجراءات واعتماد أشكال جديدة في تقييم الأوضاع السائدة.
تتبع القسم الثاني من الفصل الثالث المنجز الأدبي التونسي والسردية التي قدمتها لنا مدونة «زين العابدين السنوسي» «الأدب التونسي في القرن 14» (الهجري/ 20م) ويندرج هذا التوجه وفقا لتصور «لطفي عيسى»دائما في إطار انفتاح المعرفة التاريخية على الجوانب المتصلة بتاريخ الأفكار واختبار مدى تأثير ذلك على الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والاهتمام بالتالي بتاريخ الثقافة التونسية حال انبعاث الروح الوطنية.
فقد عمل الباحث في مرحلة أولى على التعريف بـ»زين العابدين بالسنوسي» الذي اهتم بإنشاء الصحف بالإضافة إلى قدرته على تقريب أساليب النهضة الفكرية العصرية من التراث الإسلامي، فالأدب بالنسبة للسنوسي «لا يعول على بليغ الألفاظ» فقط بل ضرورة توضيح السياقات التي حفت بفعل الكتابة والجوانب التي استهوت المؤلف والتحولات الأدبية التي طالت المغرب وتونس، وهو ما تلقفه «لطفي عيسى» واعتبره مادة تدل على نضج فكرة البحث التاريخي.
استنجد «لطفي عيسى» ببحث لشكري مبخوت حول «قصة الأدب العربي» لإبراز طرافة ما قدمه «السنوسي». فقد أقر المؤلف بأنه استعان بهذه الدراسة بكثير من التصرف قصد الاستدلال على فكرة مفادها أن «سردية أدب النهضة لم تصدر عن تجدد الإنتاج الفكري والأدبي ضمن منطق التطور الفكري بل تقعدت على النتائج التي جنتها الثقافة الغربية والتعايش الحاصل بين القديم والجديد، تعايش بقايا عقليات ما قبل النهضة وإرهاصات الجديد»فقد تحول الغرب بحداثته العلمية والتكنولوجية والاقتصادية والإبداعية إلى مرجعية مطلوبة للقيام بأدب عربي مناسب للوضعية الجديدة.
اعتبر لطفي عيسى بأن هذه النتائج التي تبنها «شكري المبخوت» يمكن مسايرتها ضمن الخطة المعتمدة من قبل «زين العابدين السنوسي» واعتبر مدونة السنوسي عرض تطبيقي لها.
أما بالنسبة للفصل الرابع من الكتاب فقد مثل فرصة لتتبع «الذاكرة المفقودة للتونسيين» وتقديم مراجعات حول شخصيتهم وهو ما عبر عنه «لطفي عيسى» بـ»زمان الذات أو زمان الوجدان» بالاعتماد على أدبيات تقدم لنا تصورا ذاتيا ووجدانيا عن الزمن.
اعتمد «لطفي عيسى» على مصنف «محمد عثمان الحشايشي» «العادات والتقاليد التونسية» والذي تضمن جملة من المعطيات التي أحالت على مضمون الثقافة المادية ومختلف المعارف والقيم والمعايير التي طبعت تصرفات التونسيين. بالإضافة إلى تتبع جملة من مقالات «الأب اندري ديمارسمان» والتي استعرضت أسس نظرية للشخصية التونسية.
ما ميز هذا الفصل الأخير هو الانطلاق بتقديم «مراجعات محسوبة على العلوم الإنسانية وعروض بيداغوجية حاولت التعريف بمقومات تلك الشخصية. في الوقت الذي تمثل فيه هذه المراجعات قراءة ما بعدية لما ورد داخل المدونة المصدرية النموذجية التي اتخذها لطفي عيسى كعينة للبحث وهو ما يحيل على ضرورة البحث عن رابط بين هذه وتلك ومدى الاستفادة منهما.
رصد لنا «لطفي عيسى» مدونة»الحشايشي»و»ديمارسمان» اللذان عملا من خلالها على تعقب نسق حياة التونسيين اليومية،محاولا التوغل عميقا في سمك شخصيتهم على صعيد التاريخ كالموروث المادي والثقافي.
وقد أنبنى التصور الذي صاغه المؤلف وفي مرحلة أولى على تتبع الثقل الذي شكلته العادة والتقليد ضمن ذهنيات التونسيين ودور ذلك في تحديد ثوابت الشخصية التونسية التي تحيل على المعيش المشترك بين التونسيين وضرورة استكشاف الخصوصيات الثقافية المتصلة بالمعتقدات والقيم والإيديولوجيات المهيمنة والفنون والملكات في بعديها اليدوي والتقني والنظري والفكري.
تتبع «لطفي عيسى»من خلال كتاب الحشايشي العناصر المحددة للانتساب تونسيا والتدقيق في مدلولها على جميع مستويات المعاش اليومي وما تفرضه من ترتيبات في مستوى التعامل والمواضعات السلوكية والأخلاقية والتعبدية والطقوسية وعاداتهم في التنشئة والتحصيل. بالإضافة إلى عرض أعمال التونسيين وأيامهم (أسباب المعاش والصنائع وعادات الأيام وطقوسها وأسعار المواد وأسواقها)وجرد مختلف صنائع التونسيين وحرفهم.
وأكد «لطفي عيسى» على انزلاق آراء الحشايشي نحو اجترار السائد والتزامه حدوده، مع تهيب صارخ من كل جديد أو خروج عن العرف أو تهاون بالتقاليد والعادات.
جاءت قراءة «لطفي عيسى» لمقالات «الأب أندري ديمارسمان» حول الشخصية التونسية لتحيل عمّا اعتبره «تأملات في ثوابت الشخصية التونسية وتحولاتها» وليتم إدراجها ضمن هذا الزمن الثالث «زمن الوجدان والذات». عبرت هذه التأملات عن الذات في حين عبرت قراءة «الحشايشي» عن الوجدان والإشكالية التي طرحت داخل هذا القسم الأخير هي هل يتوفر التونسي حقيقة على سلوك جماعي مميز يمكن أن يشكل الشخصية القاعدية؟
وبالرغم من الإقرار بوجود عناصر ثابتة مكونة لشخصية شعب إلا أن المشكلة تبقى في تحديد العناصر الثابتة في مقابل العناصر التي تتسم بتحولها السريع. فقد قدمت عوامل التوحيد في شكل طريف تجاوزت من خلالها المعطى المجالي أو الانتماء الوطني لترصد لنا عناصر متصلة بالنفسية الجماعية القادرة على صياغة نمط حياة موحد لمختلف السلوكيات ويمنح قاسم مشترك لمختلف الأفراد أ ومشترك جمعي بين التونسيين يتم تبنيه فكريا أو وجدانيا أو سلوكيا بشكل دقيق. ولفهم ذلك تم التعويل على ثلاث براديقمات مفاتيح: الاستقرار – المرونة – التشعب.
فالشخصية التونسية شخصية متفردة (وهو ما نعثر عليه في اللهجة) وتتسم كذلك بالمرونة التي تجسدت خاصة تونسة اللهجات واللغات المغايرة والتشعب فاختلاط الأعراق حضور جذور أثنية بربرية قديمة لم يمنع من تواصل عمليات التمازج العرقي والاختلاط.
وتتمحور الشخصية الأساسية وفق القراءة التي قدمها لطفي عيسى، حول وعي التونسيين بالقدرة على تشكيل مجموعة موحدة من حيث واقعها المعيش والأصول واللغة المستعملة في التخاطب والعقيدة والحضارة والتعبير تبعا لتمثلهم لأنفسهم باعتبارهم شعب وأمة.حيث انتقل مركز الثقل والتفاف التونسيين من التمحور حول وحدة المعتقد والحضارة الإسلامية إلى التمركز حول الانتماء لوطن واحد خاص بهم.
تشكلت إذن عناصر وحدة شخصية التونسيين النفسية حول ثلاث أبعاد ثابتة وهي الأساطير المؤسسة – الإسهام في الحضارات المتوسطية – التعبير عن التمسك بالتقاليد ولكن ذلك لا ينفي التباينات.
وبالمحصلة فقد مثل كتاب»أخبار التونسيين...» قراءة أرادها صاحبها مغايرة لمدونات مصدرية طريفة لم توضع بغرض التأريخ، ولئن وردت فصول هذا الكتاب متفرقة ومنفصلة عن بعضها البعض في مستوى المباحث التي طرحت إلا أنها كوّنت وحدة معرفية حال تدبّر طبيعة الخيط الرابط بينها والذي تقاسمته ثلاث رهانات حاول «لطفي عيسى» صياغتها بشكل مفصل:
تجسد الرهان الأول ذو الطبيعة المنهجية بالأساس في محاولة إثبات نجاعة المقاربة البيوبيليوغرافية لذلك مثل الاشتغال على المسارات الفردية والمعرفية من أكثر العروض التي انطوى عليها الكتاب.
لا يمكن لمتصفح هذا الكتاب أن لا يلاحظ احتفاء «لطفي عيسى» بمقاربات نظرية مست تقريبا كل الفصول سعيا منه لتسييج مختلف العروض التي قدمها، لذلك حضر الجانب النظري بشكل مكثف أحيانا على حساب المعطى التاريخي.
وقد تجسد الرهان المعرفي لجملة هذه العروض في الولوج لأخبار التونسيين عبر بوابات أو زوايا نظر مختلفة من خلال الاستناد على مدونات مصدرية طريفة،إلا أنه بقيت القدرة على استنباط معطيات تحيل على انتماء التونسيين من الرهانات التي كان من الصعب تحقيقها داخل كل أجزاء العمل وهو ما يمكن تتبعه بشكل جلي حال رصد الجزء الذي خصص لمدونة «زين العابدين السنوسي».
مثل إذن كتاب «أخبار التونسيين...» إعادة تركيب لحكاية التونسيين من وجهة نظر حاجياتنا لما بعد 2011 وكسردية تحاكي السردية الوطنية التي شكلتها الرواية الرسمية لما بعد الاستقلال، فهذا الكتاب عبارة على البحث في الأزمنة المفقودة داخل المروية الوطنية.
(عرض نقدي شيق لكتاب أخبار التونسيين أنجزته مشكورة الأستاذة لمياء عبيدي، وصدر ضمن قسم ثقافة وفنون بيومية المغرب التونسية وذلك بتاريخ الاربعاء 10 مارس 2020).

مع سبق الاصرار والترصد











       قلّب محمد القاضي الأستاذ الجامعي المختص في اللغة والآداب العربية في أوراق الناقد الأدبي فعثر على مقاربات أنجزها بحقّ مجموعة من الروايات التاريخية العربية في الفترة الفاصلة بين موفىالقرن الماضي وانقضاء الخمسية الأولى من القرن الحالي.
تكاملِ عروض هذه المقاربات وتجانس الأغراض المطروقة داخلها هو ما دفع بمؤلف هذا الكتاب إلى عرضها بالصيغة المقترحة على قرائه علّهم يفكّكون من خلال الاطلاع على مضمونها النقدي المتوهّج جوانب هامة من شفرة الخطاب الروائي التاريخي العربي من خلال عيّنات أدبية روائية امتدت عملية اجتراحها على ما شارف النصف قرن.
فمن أجواء “محروسة” تونس المنكوبة بدخول الأسبان والأتراك في روايتي “بلاّرة” و”برق الليل” للبشير خريف تقصّى محمد القاضي الأجواء الكدرة لـ”محروستي” القاهرة وغرناطة زمن انهيار المماليك البُـرجية بمصر وأفول الدولة النصرية بالأندلس في روايات جمال الغيطاني ورضوى عاشور. ولا يطول مقامنا في هذه الحواضر المسلوبة المغلوبة على أمرها بعد أن ابتلاها الزمان بأرزائه وأشاح التاريخ بوجهه عنها، حتى يطوّفنا الناقد سالكا بنا التعاريج المؤدية لمنافي “كتاب الأمير…” و”تغريبة أحمد الحجري” لواسيني الأعرج وعبد الواحد براهم. “تغريبة” أو “ساقا” لفّق “براهم” مضمونها أدبيا من رحم كتب صفراء مبللة بعرق متداوليها، سردت على قرّائها يوميات سنوات الجمر وجحيم محاكم التفتيش ولعنة الطرد من الفردوس المفقود، ومنافي بعيدة على الضفة المقابلة اختارها واسيني الأعرج إطارا انزوى داخله أمير جزائري قاوم توحش الاستعمار الفرنسي، في صحبة مفارقة لها أكثر من دلالة جمعته بأسقف مسيحي، لتأمل مزالق تجربة سلوكه النضالي.
ما علاقة التاريخ بالرواية ؟ وأي رهان هو ذاك الذي يُقدم عليه كاتب الرواية التاريخية حال دخوله ومن بوابة الإلهام الفني فيما وسمه محمد القاضي بـ”تخييل المرجعي” ؟
هذه ببساطة شديدة الأسئلة التي رام مؤلف هذا الكتاب الإجابة عنها متمحّضا في ذلك جملة من الأدوات التحليلية النقدية المتصلة بتخصصه البحثي دون إغفال التدقيق بشأن  حقيقة الأخبار الواردة ضمن العينات الروائية التي اشتغل عليها في أمهات كتب الأخبار وبحوث المؤرخين أيضا.
فلئن تموقعت الرواية التاريخية غربا ومنذ مطلع القرن التاسع عشر بين “مشاكلة الزمان والمكان لسرد ما كان يمكن أن يكون” أو بلغة بخلاء الجاحظ “ما يجوز أن يكون في الناس”، وبين انعكاس أسئلة الحاضر وشواغله الراهنة في الأثر الروائي، فإن ذهاب “هنري بيراس Henri Pérès” إلى القول بأن المروية التاريخية في حكايات “عنترة بن شداد” و”سيف بن ذي يزن” و”الجازية الهلالية” لم تنتظر هذا الزمن المتأخر لملأ أسمار العرب الطويلة، لا ينفي إعادة زرع الرواية التاريخية نباتا مأخوذا من تربة الغرب في حقل الثقافة العربية منذ “زنوبيا” سليم البستاني في بداية سبعينات القرن التاسع عشر.
يكمن قدر الرواية التاريخية إذا ما استقام ما وسمه محمد القاضي بـ”تخييل المرجعي” إذن في طاقتها المذهلة على إيهام قرائها بقدرتها على توليد المعنى من تجاويف سكوت سجلات الأخبار وصمتها عن ذكر الوقائع. غير أن نمط إنتاج الحقيقة في تشكيلها كنص إبداعي وإذا ما أدركنا ما انجلت عليه مقاربة المؤلف لروايتي “الزيني بركات” و”غرناطة” يتوسل مشاكلة الخبر روائيا والقدرة على تحويله عبر ما أسماه بـ”المرآوي والتمثيلي” إلى شكل من أشكال معارضة الخبر أدبيا، إما باستدعاء الماضي لمزيد التبصر بالحاضر أو بالتجاور معه لاستدراك ما أهمله والتكشّف تبعا لذلك على حقيقة الإنسان.
بهذا المعنى تصبح الرواية التاريخية مثلما أكدت على ذلك الدراسات المختصة أنسب مجال لتحقّق جدلية “الواقع” و”الممكن”. ولعل في تساوق هذا المقصد مع ما أعرب عنه “ميلان كوندورا” لما سئل حول ما نعته تعريفا لفن الرواية حاضرا بـ”إرث ثربنيس الحقير” بـأنها “حكمة اللايقين” ما يدعونا إلى مزيد التدقيق في منـزلتها المعرفية كخطاب يتوفر، وكغيره من الخطابات المعرفية المضارعة له أو المختلفة عنه، على مصداقيته الخاصة.
فعندما يستلهم “كوندورا” مثلا نظرة “مرتان هيدغر” للوجود بوصفه “كينونة في العالم” فإنه يرمي من وراء ذلك إلى وضع تعريف بسيط وعميق للرواية في آن، مفاده أنها أبلغ مجال لاستكشاف الوجود شاعريا. فقطب الرحى في الرواية هو دفع الظروف التاريخية إلى خلق وضع وجودي جديد لشخوصها يمكّن من فهم التاريخ وتحليله في حد ذاته بوصفه وضعا إنسانيا ذا مدلول وجودي. لذلك لا يحتاج قارئ “ثربنتيس” غالبا إلى التعمق في معرفة تاريخ إسبانيا بل هو مدعو في قراءة آثاره أو آثار غيره الروائية من بوكاتشيو مرورا بـ”رتشاردسون” و”قوته” و”ستندال” وصولا إلى “بروست” و”جويس” و”كافكا” وحتى “بروخ” و”كوندورا” و”إيكو” أيضا إلى المسك بعموميات مغامرة أوروبا التاريخية منذ تأسيس إمبراطورية “شارلمان” حتى حاضرها المجسم في إتحادها الأوروبي.
المطلوب واقعيا هو فهم ما في الرواية، فالتاريخ يقص علينا أحداثا نملك براهين موضوعية عن حصولها بصفة ما في الواقع، في حين أن أحداث الرواية وتشعّباتها لا تحتاج في وجودها إلا لعرض نفسها كإمكانية إنسانية قابلة للحصول. فالروائي “يرسم خريطة الوجود أثناء اكتشافه لإمكانيات غير معروفة تعكس أعماق العالم الإنساني”.
غير أن اختلاف الجنسين لا يلغي حضور تداخل بينهما يقوم بالأساس على إقحام كاتب الرواية التاريخية لأجواء الوقائع تعميقا لأبعاد نصه الوجودية، متمحّضا في ذلك أعقد أشكال الدهاء والمخاتلة، مع سبق إصرار وترصّد لا حد لهما.
يعود محمد القاضي إلى المدلول الإبستيمي لصناعة التاريخ عند حكماء الإغريق وقدامى المؤرخين ومحدثيهم للتساؤل عن حدود أولوية الوثيقة إزاء أولوية الإشكالية، فيتبين له تلاقي الخطاب الروائي مع رصيفه التاريخي في ماهيتهما الإيديولوجية. فالتخييل ضمن فن الرواية يتم في ضوء قناعات المؤلف ورؤيته الكونية، أما تركيب الوقائع في صناعة التاريخ فيُستدعى للتبئير حول القيم الراهنة. تداخل الصناعتين في الرواية التاريخية هو الذي شرّع من منظورنا تساؤل مؤلف هذه المقاربات عن حدود ما وسمه بـ”التواشج” و”التنافذ” و”المناورة” و”الاستظلال” و”التحويل” بين “الفن والواقع، بين الجمالي والمرجعي، بين الحاضر والماضي”؟ مثول التاريخ في الرواية التاريخية ممتزجا بالمتخيل أو اندغام الواقعي والمتخيل هو الذي رصده محمد القاضي من خلال تعقّب كيفية اشتغال عدد من الروائيين العرب الذين فتنتهم الوقائع التاريخية فتلقفوها في أدق تفاصيلها عامدين إلى إعادة دسها وفق أحبولة تمتزج داخلها أصول الحرفة بكيمياء الإبداع، ويشتبه على العارفين بسجلات التاريخ أنفسهم فصل الخبر فيها عن المتخيل. فلئن ذهب “الغيطاني” في معارضته لكتاب “ابن إياس” إلى حد التماهي والحلول في النص التاريخي روائيا، فإن تفنن “خريّف” في دسّ مادة الخبر ضمن رواياته التاريخية إلى حد الرقش بالصورة الحية والتجسيم هو الذي حيّر “الطاهر الخميري” وهو من أكثر التونسيين علما بتراثهم اللغوي وأجبره في غواية دالة على تفضيل التخيل على الخبر معتبرا قصة “برق الليل” أقرب إلى الحقيقة من الخبر في الروايات المتواترة والمنقولة ضمن “مؤنس” ابن أبي دينار.
والغالب على الظن وفقا لما أفصحت عنه عملية استكشاف “فوزي الزمرلي” لـ”مخبر” البشير خريف زمن نحته لرواية “بلارة” أن تلقّف الأخبار ورصد الوقائع وحدهما لم يُشبعا نهم المؤلف لولا عثوره على “مرآة النور” – وهو تضمين للدلالة حال في عنوان الرواية نفسها- التي مكنته من فك شفرة الحرف والقراءة حتى شفاء الغليل. يكتشف “خريّف” وهو يتعمد مخاتلة قرائه فجأة أن حدود خطاب كتب الأخبار والوقائع وجموح الرواية التاريخية إلى صناعة أفقها المستقل بذاته أمران مختلفان لأن الرواية في استكشافها لكينونة الإنسان ومعنى وجوده لا تأبه بالسطح ولا يشفي غليل مبدعها غير التوغل بعيدا في سمك المساحة البشرية مشغّلا في تعامله مع الوقائع مهارات فائقة تقوم على الاختزال والحذف والجمع والاستبدال، مضْفيا بذلك على السرد خفّة لا حد لها تحيل على حكمة “اللايقين” حيث الـهُزء في أشد مواضع الجد وطأة على ضمير القارئ، وهذا لو ندري مجال تجاذب وتداخل بين صناعة السينما على شاكلة ما أبلغ في التعبير عنه المخرج الإيطالي “بانيني” في شريطه “الحياة حلوة La vie et belle” مثلا وفن كتابة الرواية التاريخية حاضرا.
لكن ما علاقة التاريخ بالرواية عندما يعيد الروائي تكييف الوقائع دافعا بها إلى قول ما لا تستطيع مادتها الخبرية قوله ؟ يحاول محمد القاضي الإجابة عن هذا السؤال بالتعويل على مقاربة معيارية تكشف عن طريقة اشتغال مؤلفي “كتاب الأمير: مسالك أبواب الحديد” لواسيني الأعرج و”تغريبة أحمد الحجري” لعبد الواحد براهم. لم يتم استدعاء الوقائع والأخبار في هاتين الروايتين فحسب بل نهض هيكل الرواية برمته من داخل الأثر المصدري. فقد خرج “كتاب الأمير” من معطف المقابلات التي جمعت “مونسينيور دوبيش :  Monseigneur Dupuch  بالأمير عبد القادر وهي مقابلات جمعها أسقف الجزائر في كتاب “عبد القادر في قصر أمبواز” الصادر سنة 1849 وأهدى نسخة منه لـ”لويس نابليون بونابرت” لإقناعه بفك أسره وتسريحه من منفاه. بينما خرجت تغريبة عبد الواحد براهم من كتاب أحمد الحجري “ناصر الدين على القوم الكافرين” وهي صيغة مختصرة لـ”رحلة الشهاب إلى لقاء الأحباب” ذلك الأثر المفقود الذي رفع “براهم” رهان استكشافه روائيا واستعادة شخوصه في صيغة “خلاسية” لرواية ترفع تحدي كسر الفواصل بين التخييل وبين الواقع.

البحث في الأوراق القديمة والكتب الصفراء وإعادة تشييد عمرانها داخل حكاية متعددة “الأبواب” و”المسالك” و”الأميراليات” و”الوقفات” وفقا لتقنية “التغوير la mise en abîme” حتى تتراكب الحكايات وتسلم كل قصة القارئ إلى قصة جديدة تساوقا مع ما وسمه محمد القاضي بـ”التخييل التوسيعي” الذي ينطلق من الوثائق ساعيا إلى إعادة بنائها عبر التصوّر، نجده متلبسا بنص رواية “التغريبة” أيضا كما صاغتها عارضة عبد الواحد براهم حيث تعددت الأبواب في “ساقا” أحمد الحجري فنقلته الأقدار من “باب الأندلس” إلى “باب مراكش”، “فباب أوروبا” ليحط الرحال “بباب تونس”. ورغم تقدم الكاتب في خطته المبيتة والممنهجة من وراء الأقنعة السميكة داخل المتاهة التي يُمسك وحده بأسرار معابرها، فإن ما يفعله يعيدنا بطريقته الخاصة إلى صناعة التاريخ. فلو تساءلنا لحظة عمّا إذا أخفق المؤرخ في حدس اتجاه المفهومية بعد إلمامه بـمُتاح الأخبار والشواهد والوثائق واللُقى، فإن ما يعرضه على قارئه لن يتجاوز ترداد ما حملته تلك الشواهد. لن يركّب وفقا لاتجاه المعقولية وبدهاء ومخاتلة لا حدّ لهما أيضا فرضيات ترقى إلى مستوى الجاذبية والطرافة وتجيب في نفس الوقت عن تعقيدات استمارته ونهم قارئيه لمعرفة أحوال من سبقوهم بأسئلة حاضرهم وحدها. فما صلة الحدس التاريخي والحال على ما بيّنا بالإلهام الروائي ؟ قد يكون للمخاتلة إذا ما تنبهنا مليا وقلّبنا أوجه الشبه بين الصناعتين دور ما في ذلك، غير أن القارئ ساعة توغله وانسجامه مع “الأثر” في مدلوله الواسع والعميق لا يرغب مطلقا في مفارقة أنيسه حتى وإن علم مسبّقا أن خلف ذلك الأنيس من يتربّص به مع سبق الإصرار والترصد، فالإقلاع عن تلك المتعة إيذان صريح بالرجوع مجددا إلى جحيم عالم الشهادة والناس .

(عرض تقديمي لكتاب محمد القاضي، بين الرواية والتاريخ، الصادرعن دار المعرفة بتونس سنة 2007).


dimanche 8 mars 2020

حوار مع مجلة ذوات صدر ضمن عددها الواحد والستين


















1 - في أعمالك الأخيرة، وبالخصوص في كتاب "بين الذاكرة والتاريخ"، يظهر اهتمام أكبر بكل ما هو نظري قبل الدخول في ما هو تأريخي. لماذا هذا التأكيد على البعد النظري؟
       يمكن أن يحصل مثل ذلك الانطباع المتصل باعتماد نوع من التكثيف اللغوي والمعالجة النظرية لدى عامة القراء من غير المتخصصين، غير أن طبيعة التمرين الذي تساءل وفق عروض جمعت أربعة فصول، استقصت تباعا أشكال التعبير عن التعسّر إدراك مدول الأزمة، وتحديد طبيعة العلاقة التي ربطت ساكنة مجال المغارب بمؤسسة الدولة الترابية الحديثة، كما خاضت في كيفية تمثل المجال بالتعويل على المواضع الروحية، منتهية في خاتم فصولها إلى توضيح صعوبات الاندماج وتوسيع مدلول الانتماء في علاقة العناصر الوافدة بتلك التي استقرت من قبلها بمختلف أوطان المغارب. ولا مراء في أن تلك المعالجات المتنوعة والمتضامنة قد عولت على متون متنوعة الأجناس يحيل جميعها على ما سمّي بـ "الاستوغرافيا التقليدية" التي عكست طبيعة الثقافة العالمة العربية الإسلامية عامة والمغاربية على وجه التخصيص، مُشددة على موقع الذاكرة الجماعية في تشكيل ما قد يستقيم تسميته بتاريخ الـمُتمثِّل ودوره في تطوير المعرفة التاريخية، هو ما استوجب في تقديري الشخصي ذلك التوطين النظري المستفيض، قبل تنزيله في شكل معالجة تطبيقية حاولت البت في سياقاته التاريخية وخطاباته الفكرية.
2 - الملاحظة الثانية تتعلق بكون المرجعيات النظرية هي بالأساس فرنسية (هالفاكس، ريكور..)، هل ترى بأن المدرسة التاريخية الفرنسية كافية لتطوير الكتابة التاريخية العربية؟
هذا ليس دقيقا، حتى وإن كانت القراءة والكتابة في تلك اللغة أيضا مسألة لها آصرة بالثنائية اللسانية والازدواجية الثقافية، وهو ما لا يتعارض في تصوّري مع متابعة التراكم المعرفي في غير الفرنسية بالعودة إلى التراجم أو/ وقراءة ما يتم نشره في اللغة الإنجليزية مباشرة. على أن أصالة المدرسة الفرنسية التاريخية منهجيا وموقعها ضمن دورة الإنتاج التاريخي الكوني مسألة لا تحتاج إلى مزيد توضيح، بيد أن المنعرج الثقافي أو اللساني الذي عاينته الدراسات التاريخية وخاصة ضمن منجز المؤرخين والمشتغلين على المعارف الإنسانية والاجتماعية بالجامعات ومراكز البحث الأنجلوسكسونية تدعونا إلى مزيد الاطلاع على مُنجزها بل والعمل على الانخراط في ديناميته والاستفادة من مكاسبه وإعادة تملّك أو/ وأهلنة مناويله المنهجية. وهي نماذج بحثية طالت مستويات تحليل تحيل على تاريخ الحس والمحسوس على غرار ما أنجزه "ألان كوربان" في مؤلفاته الكُثر حول تاريخ السمع وتاريخ المذاق وتاريخ الروائح، أو ما ألفه "روجي شارتي" بخصوص أهمية الاعتبار بالثقافي في توضيح الموقع الاجتماعي للأفراد كما الجماعات من خلال تشغيل آليات الصراعات بين الأجيال ودور النوع الاجتماعي وغيرها من العناصر المحايثة، تجاوزا لرد الاختلاف إلى الانتماء الطبقي دون سواه. على أن مبلغ تلك النقلة المعرفية المتصلة بما وسم بالمنعرج الثقافي في الدراسات التاريخية يحيل على علاقة الفعل المدني بالثقافة السياسية وأهمية فضاءات الاختلاط والوساطة وديناميكية الانتقال وأشكال مرور المعارف أو التجارب في تعيير ثقافة الفعل السياسي، كما هو ماثل ضمن العديد من دراسات "جون فرنسوى سيرينلي" على سبيل المثال لا الحصر.
3- هل يمكن اعتبار عملك الأخير "أخبار التونسيين" بمثابة الامتداد لأعمالك السابقة، أم أنه يشكّل قطيعة معها، خصوصاً وأن انشغالك الأبرز قد تمثل في التجسير زمنيا بين العهود الوسيطة والعهود الحديثة عبر مسائلة مدونات المناقب المغاربية؟
أعتقد أن مشروع مراجعة السردية الجماعية التونسية بشدّها إلى مختلف انتماءاتها زمانيا ومكانيا، رهان يتوافق مع سياقات ما بعد نُقلة أو/ و"ورطة" حلول سنة 2011 تونسيا، لذلك تم تحويل الاهتمام إلى مركبات تلك السردية قصد الاسهام في إعادة تشييدها، حتى وإن تواصل وفي تقديري الخاص الاشتغال على القراءة في تاريخ التمثلات وفتح ملف التاريخ الثقافي بمختلف مفرداته التي تحيل على شواغل غير مبذولة وعلى نماذج تحليل جديدة، تطلبت عملية أهلنتها توظيف مصادر مخصوصة مكّنت من ارتياد مظان لم يسع بلوغها من دون الاقدام على مراجعتها مجددا، وذلك بغرض تطويع مضامينها لإتمام المعالجتين السياقية والتفكيكية التي تحيل على نقد الخطاب. فقد تم التعرض ضمن هذا الكتاب إلى أربعة مستويات للتحليل انفتحت على الزمن الأسطوري من خلال مساءلة الخرافات والأمثال الشعبية التونسية والزمن المجالي من خلال مقاربة بناء السردية الجماعية التونسية وتوسيع أفقها بالاستناد إلى العروض الواردة ضمن كتاب "مفتاح التاريخ" لأب النهضة التونسية الثاني (بعد خير الدين التونسي) "محمد البشير صفر" (ت 1917). كما تم البت وضمن بقية الفصول في انتقال التونسيين من التقويم بالزمن الديني إلى اعتماد زمن الرزنامة، وفقا لما وجدناه ماثلا ضمن أعداد "الرزنامة التونسية" السبعة عشر للمؤرخ التونسي محمد خزندار (ت 1943)، وكذا ضمن كتاب "الأدب التونسي في القرن الرابع عشر"/ العشرين بالتقويم الملادي، وهي أول موسوعة أدبية تونسية خطها بمواصفات حديثة الأديب التونسي زين العابدين السنوسي. على أن الخوض في خصوصيات الشخصية التونسية قد ألجأنا من ناحيته إلى مراجعة عرضين مهمين بهذا الصدد خطهما كل من محمد بن عثمان الحشايشي (ت 1912) في كتابه حول العادات والتقاليد التونسية و"أندري ديمرسيمن" (ت 1994) في مقالاته الكثيرة حول شخصية التونسيين وطبيعة أيامهم وأعمالهم.
عموما شكل الاشتغال على مثل هذه المسائل نقلة نوعية تمثلت أساسا في تقييم محتويات السردية الوطنية ومراجعتها وفق شبكة تساؤلات جديدة تسمح بإعادة تركيبها وفق منوال جديد يشرع البحث عن أزمنها المفقودة قصد العثور على صيغ مفارقة في كتابتها لا تعمد إلى القفز على ما سواها بقدر ما تشاكله وتشيّد عروضها بالتعويل على مادته ومن داخل روايته وبجانبها ومن خارجها في آن.  
4 - لديك أعمال كثيرة، بعضها أصبح مرجعياً حول موضوع تاريخ التصوف ودور الأولياء، على غرار "كتاب السير" و"أخبار المناقب"، و"مغرب المتصوّفة". كيف تقيّم هذه الأعمال اليوم؟ ولو أنك أعدت نشرها، هل ستفكّر في إعادة صياغتها؟
أعتقد أن مختلف البحوث التي ذكرتها وغيرها أيضا قد حاول اختبار متونه المصدرية من بوابة معالجة المتمثَّل التاريخي، وذلك بالتعويل على تصوّر مقارن انتحى إراديا توجّها أفقيا طال المجالين التونسي والمغربي بالأساس. وما من شكّ في أن جميع تلك الأبحاث قد استوفت موضوعيا أفقها المعرفي، وذلك بصرف النظر على الهينات التي تسربت إلى محصلتها المعرفية بالضرورة. ومع ذلك فإن الاقدام على إعادة نشر تلك العناوين أو غيرها قد تخطى مستوى التفكير والتقدير ومرّ إلى التكريس الواقعي، وذلك من خلال صدور صياغة جديدة (مختصرة ومحيّنة) لمؤلف "مغرب المتصوّفة" في أواخر سنة 2018.   فقد تم اختزال محتوى الأطروحة وتخفيف جهازها النقدي، حتى يتمكن القراء من التعرّف على مختلف تساؤلاتها واستيعاب مجمل الاستنتاجات التي توصلت إليها. كما أقدمنا على إضافة فصل جديد حمل عنوان "الانتظام الصوفي حاضرا: تاريخ المتمثل" توقف عند واقع التصوّف وزواياه تونسيا بعد سنة 2011، وذلك بالتعويل على نتائج استجواب ميداني حول ظاهرة التصوّف أنجز سنة 2015 وظفناه لإنجاز عروض عالجت الظاهرة من بوابة التجسير بين الآماد لفهم أبرز التحولات التي طالتها وتحديد طبيعة حاجتنا إلى التصوف حاضرا.   كما أننا نستعد لنشر طبعة تونسية جديدة لكتاب "بين الذاكرة والتاريخ" حدّد موعد نشرها بشهر فيفري من السنة الحالية 2020.       
5-بشكل عام، كيف ترى علاقة الكتابة التاريخية اليوم مع دور النشر؟
تزايد منذ تسعينات القرن الماضي الاهتمام بمنجز المشتغلين معرفيا بالعلوم الإنسانية والاجتماعية، وساهمت العديد من دور النشر المعروفة تونسيّا ومغربيّا ولبنانيّا وغيرها (الناشطة بألمانيا ولندن) في التعريف بالعديد من البحوث المهمة بل والفارقة أحيانا، تلك التي صاغتها أقلام تحوّلت بالتقادم إلى علامات معرفيّة مهمّة. كما أن حصول بعضها على جوائز تقديرية مرموقة قد وسّع مجال الاطلاع على مضامينها من قبل عامة القراء، مطوّرا مستوى إنتاج الدلالة في البحوث وخاصة تلك المنشورة في اللغة العربية. غير أن مثل ذلك الجهد على أهميته التي لا تجادل لم يتحوّل إلى تقليد يُنبئ عن حصول نقلة فارقة في هذا المجال، لا سيما وأن فتور الاهتمام بمشاغل المعارف العالمة عامة والإنسانية والاجتماعية على وجه التخصيص لفائدة التأليف في أجناس أخرى كالمقابسات ذات الشواغل المتصلة بالقضايا الراهنة التي اتصلت بشكل يكاد يكون آليا بمسألتي الإسلام السياسي والهجرة غير القانونية، أو/ واجتراح النصوص الإبداعية وخاصة الروائية، قد زاد في التعتيم على متابعة تحوّلات المنجز المعرفي التاريخي بمختلف فروعه ومكاسبه حاضرا.    
6-تراوح بين اللغتين العربية والفرنسية في الكتابة. كيف تختار بينهما حال الشروع في صياغة مؤلف جديد؟ وكيف تجد أثر هذه الازدواجية على إنتاجك؟
ليس خافيا أن معظم كتابتي المعرفية أو المدنية والجمالية قد صيغت في اللغة العربية، حتى وإن لم تعدم مسيرتي مساهمات وضعت في غير تلك اللغة، سواء في الفرنسية وحتى في غيرها ترجمة. على غرار تنسيق أعمال العديد من المؤتمرات الدولية حول "واقع الأنثروبولوجيا التاريخية ومكاسبها ومستقبلها" (2010) أو "تمثلات المجال بالمغارب وبخارجها" (2011) و"في التونسة" (2014) و"بصمات حول الحضور الاسباني بتونس" (2016) وغيرها من المؤلفات والمقالات الأخرى. وعموما فليس من الخاطئ في شيء الاعتبار بتمحور مقصد ذلك التوجّه الرامي إلى إنتاج المعرفة التاريخية في اللغة العربية، حول الإسهام في "أهلنة" المناويل المنهجية وتعريب المصطلحات والمفاهيم وتوسيع نطاق تبنيها أو إعادة تملّكها بين العاملين ضمن هذا الحقل المعرفي الـمُهمّ، وذلك بغية القطع مع كل انشائية وتطوير الجهود المبذولة من أجل تجويد إنتاج الدلالة.    
7-كيف تجد علاقة الجامعة في تونس بالتاريخ؟ مثلاً أي تكوين تتيحه للباحث في التاريخ،
وهل أنت راض عنه؟
الجامعات التونسية كغيرها من جامعات بقية البلدان العربية والإفريقية مؤسسات فتيّة تلازم ظهورها أو تزامن مع تصفية الاستعمار وبقيت متأثرة بتقاليد مؤسساته الجامعية والمعرفيّة، فرنكوفونية كانت أم أنجلوسكسونية. إلا أن فشل مشاريع النماء بالعديد من تلك الدول وتراجع قيمة المعرفة العالمة والبحث العلمي وصعوبة ضمان تجديد أجيال الباحثين وإخضاع ذلك لما يقتضيه التكوين المعرفي من شروط الدقة والتكافؤ على الصعيد الكوني، يضع جميعها سياق التراكم المعرفي الرصين المعافى من كل تحريف أو انتحال أو منافسة غير شريفة، موضع تساؤل حقيقي ليس من الحصيف في شيء تجاهله أو الدفع باتجاه الهروب من مجابهته وعدم الاعتراف بحقيقة تدني قيمة المنجز المعرفي عامة، بل وحاجته الملحة إلى مراجعة متأنية تعالج هناته الكثيرة في العمق.
فقد انصب اهتمام الجيل الأول من الباحثين وإثر تصفية الاستعمار مباشرة وتأسيس جامعات المغارب على مسائل تحيل على تأصيل تجارب المركزة السياسية تاريخيا ودفع مسيرة النماء، غير أن تلك المضامين قد عانت تحولا باتجاه الاعتبار بالتعبيرات اليسارية ضمن تجارب التحرر الوطني المحلية والكونية، ثم الاشتغال منذ تسعينات القرن الماضي على مسائل ركزت على الفرد والهامشية والنوع الاجتماعي والاحتجاج الديني وغيرها من المواضيع الأخرى التي ساهمت في توسيع دائرة المعرفة العالمة عربيا، حتى وإن لم تفض إلى ظهور مدارس قائمة الذات وتجارب علمية تنبئ بالتمكن من استكشاف مناويل بحث تضارع تلك التي تم استنباطها ضمن دراسات "التابع" أو الدراسات "ما بعد الاستعمارية" في العروض التي صاغتها أقلام إفريقية وأسيوية مرموقة على غرار "سبيفاك" و"مبامبي" و"ديانغ" و"بن مخلوف" وغيرهم.       
8 -كثيراً ما يقال بأن الدولة وظّفت الكتابة التاريخية، وكيف يفلت المؤرخون من هذه الإكراهات؟
أعتقد أنك تثيرين مسألة حضور الشاغل النضالي في منجز المؤرخين، وهو شاغل مُهم ينخرط في مدى استجابة انتاج المعرفة العالمة لمبدأ الالتزام بالحريات الأكاديمية وأشكال الدفاع عنها. لكن أفول نجم المثقف العضوي ضمن الفضاء العمومي كونيا والاستعاضة عن دوره بالتعويل على الاستشارة أو الخبرة أو المساهمة في صناعة الرأي العام إعلاميا عبر اتخاذ موقع المحلّل المالك للسلطة المعرفية، قد أدى جميعها إلى خلط للأوراق وعدم التورّع عن تبادل الشرعية بين وجهاء الصيت والماسكين بالسلطة من خلال تزايد أعداد مستشاري البلاطات أو "ناصحي السلاطين" وفقا لتعابيرنا التراثية القديمة. وهي ظاهر توشك أن تأتي على مصداقية العمل المعرفي لتجعل من الجامعات موضعا لتجارب تكوين مهني وبرمجة موجهة لتكوين الكوادر التي تحتاجها عملية التنمية المعولمة والعابرة للأوطان، تلك التي توشك على ضرب أخلاقية المعرفة العالمة المعولة على الفضول الخلاق وتطوير مستوى الاعتبار بسلامة الإنسان والمحافظة على محيط في تطوير المحصلة المعرفية.   
9-هل تمثّل سنة 2011 نقلة في الكتابة التاريخية في تونس؟
ليس ذاك بالأمر المحسوم، ففعل الصدمة لا يزال وبعد مرور ما يقارب العشرية ماثلا بقوة في ضمير التونسيين. لذلك يتعين في اعتقادي مجابهة حقيقة "الورطة" (بمعنى النقلة التي استعصى عليها القطع مع القديم واستحثاث ولادة الجديد أو المحدث)، فقد تم تأليف العديد من البحوث الهامة حول مسألة الانتقال وظروفه وملابساته وتأويلاته واستتباعات ذلك، على غرار ما ألفه بكار غريب وعياض بن عاشور وشكري المبخوت وحكيم بن حمودة والهادي التيمومي ومحمد كرو وفتحي لسير وعادل اللطيفي تونسيا على سبيل المثال لا الحصر. الشيء الذي يدعونا جميعا إلى تعديل عقارب الساعة وفهم الثقافة السياسة بشكل مفارق يضع في اعتباره ثالوث الوساطة والانتقال وضمان المرور الجيّد والفهم الدقيق للخبرات والمعارف، في صدارة الاهتمام. بحيث يصبح دور العارف بالتاريخ أو القائم على إعادة صياغة السردية الجماعية مشدودا إلى اعتبارات مدنية وتوجّه تحرّري يتحاشى الوصاية المعلنة كما الضمنية، ويبني إطارا جديدا للمعرفة التاريخية يحفل رأسا بأيام التونسيين وأعمالهم، بعد أن قصر همته وخلال ما لا يقل عن نصف قرن على الانخراط في صياغة السردية التاريخية الرسمية.       
10-بشكل عام كيف ترى واقع الكتابة العربية في التاريخ؟ وما هي أكثر ما يشدّك في هذا الإنتاج كقارئ؟
لا مراء في حضور تنوّع شمل منجز المؤرخين العرب، ومكّن حال تشكّل الدُول الوطنية وتصفية الاستعمار من صياغة مضامين عالمة قطعت مع أفق الهواية أو التبحّر في كتابة التواريخ، حتى وإن بدا منجزها عامة متأثرا بالمناهج المعتمدة من قبل المدارس الغربية.
فقد بينت العروض التي تضمنها المؤلف الجامع لأعمال مؤتمر بيروت المنعقد سنة 2016 حول أشكال "كتابة التاريخ العربي وتاريخ العرب" وهو مؤتمر نظمه معهد الدوحة ونشره المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات سنة 2017، توزّع ذلك المنجز على أربعة محاور أو مضامين اتصلت تباعا بشواغل سياقية تعيد التفكير في الحقب الاعتبارية للتاريخ الغربي وتقرأ في مدى انخراط المعرفة التاريخية العربية في التصوّرات الكونية الملازمة لصناعة الأخبار. كما بتّت في صعوبات تحرّر تلك المعارف في مضامينها الوطنية من هيمنة السردية الرسمية المنحازة سياسيا لمشاريع الدول الوطنية، أو تلك المنقطعة عن تلك السرديات والمتكئة على تصوّرات وحدويّة عربية أو سلفية إسلامية غير خافية. على أن تحيل بقية الشواغل المرصودة وضمن تقييم مساهمات ذلك الكتاب الجامع لمنجز الكتابة التاريخية العربية على مدى رسوخ التواريخ المقارنة الأفقية بين البلدان العربية، وكذا الاشتغال بالجوانب الأثرية والتراثية والانثروبو-تاريخية في مقاربة العلاقة التي تربط ببن الذاكرة والتاريخ. وجميعها تقييمات أو مراجعات مفيدة يحسُن بالقائمين على تلك المعارف عربيا الاستفادة منها بغرض توسيع أفق الكتابة التاريخية والتفكير - على غرار ما أنجزته مدرسة الحوليات على أيام آبائها المؤسسين- في طرح سؤال "التاريخ المقارن العربي"، تساوقا مع ما راكمه منجز "التاريخ المقارن الأوروبي" منذ صدور مقال "مارك بلوك" التوجيهي في الغرض والصادر منذ نهاية الثلث الأول من القرن الماضي. (انظر العرض النقدي الذي خصصناه لمحتوى المؤلف الجماعي "كتابة التاريخ العربي..." الصادر ضمن العدد الأخير من مجلة أسطور الصادرة عن مركز الأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة).     
11 - ماهي مشاريعك البحثية المستقبلية، وهل تخضع هذه المشاريع إلى تخطيط مسبق؟
لدي ورشات مفتوحة تتصل باستكمال العروض التي تضمنها مؤلفي الأخير الموسوم بـ"أخبار التونسيين: مراجعات في سرديات الانتماء والأصول"، وهي محاولة في "البحث عن الزمن المفقود تونسيا بالتعويل على مختبر الكتابة في الأنثروبولوجيا التاريخية تحصلت على جائزة الدورة الفارطة لمعرض تونس الدولي للكتاب. لذلك آمل أن يتوفّر لي الوقت والجهد - على تعدّد مشاغلي وتشعبّها حاضرا- قصد التفرّغ لإتمام ذلك.
كما تتصل توجهاتي المستقبلية أيضا بوُرود تجارب مفارقة تحيل على الكتابة للصورة أو بناء عروضها الحوارية توثيقا ورواية، وهو ضرب من "الهوس" ما فتئ يراودني منذ مرحلة الشبيبة الأولى، حتى وإن لم يتجاوز أمره حتى الساعة ومع بالغ أسفي عتبة الاستهام أو الافتتان./.