samedi 22 juin 2019

حوار مع لطفي عيسى: التونسيون أبطال مرضى... !!





















حاوره كمال الهلالي
حتى وهو يشرب قهوته لا يستطيع الباحث في تاريخ الذهنيات المؤرخ والأنثروبولوجي لطفي عيسى إلاّ أن يُعمل ملكة العقل محلّلا وشارحا للمشهد التونسي وسردياته، شخصياته وبطولاتها وهناتها أو عللها، وهو يقدم في هذا الحوار تحليلات تقوم على "براديغم" أو نموذج تحليل جديد: يرتكز على تضامن مفاهيم البطولة والمرض والخصوصية في تحديد السياقات الناظمة لسيرة كل فرد. من الأحداث الكبرى إلى المواقف اليومية ينتقل الباحث مفكّكا وصارفا بصيرته كلّها من أجل تدبّر الظاهر.  يشرح ساخرا ومضة إشهارية لشركة مشروبات عالمية بُثّت أخيرا على القنوات التونسية، تروّج لماركتها الذائعة الصيت وتسطو فيها على ذاكرة التونسيين، الذاكرة التي نحتها أجدادنا ونعرفها كلّنا أنا وأنت وزوجتي وجدّاتنا البعيدات، يقول لطفي عيسى ضاحكا. من هذه الملاحظة المتوهّجة بدأ حوارنا معه:
*** لنبدأ من تحليلك لهذه الومضة الإشهارية للمشروب الكوني والذي ترى فيه سطوا على ذاكرة التونسيين ..
عندما يكون لدينا موعد قاري أو عالمي أو حدث له علاقة بالنشاط الرياضي الكروي أساسا، تخرج علينا علامة تجارية معروفة كونيا بمشروبها الغازي، بومضة تحيل على أخصّ ما يجمعنا فكرا ووجدانا، نخال لدى مشاهدتها أنه بوسعنا تجاوز جميع ما يفرّق بيننا وإدراك ما نجد صعوبات جمة، وخاصة خلال الثمان سنوات المنقضية، في إدراكه كجماعة تشكّل شعبا، بل وأمّة في الحقيقة. غير أنّ نهاية الومضة تعيدنا إلى حقيقة يبدو أنها تصوغ قدرنا الجديد وقدر العالم بشكل ما، بحيث يتحوّل المشروب إلى العنصر الأهم بل والمحدّد في الومضة، وتوظّف الأمة والشعب بما يحمله ذلك من شحنة مُلهمة إلى مجرّد عنصر خادم لذلك المشروب. وهذا باعتقادي أحد تعريفات العولمة التي سنتحدث عنها في هذا الحوار.
*** ماذا نصنع إذا ؟
انطلقا من الملاحظة السالفة، علينا أن نتساءل ما الذي يتعين علينا أن نفعله حتى نعيد تركيب سرديتنا الجماعية بما يخدم حاجيات الآن وهنا؟
سرديتنا تحتاج إلى المراجعة بالشكل الذي يتوافق مع هذا النوع من التحديات التي تطرحها العولمة والذي قد يبدو بسيطا. هل نحن مطالبون بأن نوازي بين البضاعة وبين ما يمثل المرْوية التي تستجيب لما قد يستقيم تسميته بـ "ورطة ما بعد 2011."
إن استعارة لفظة الورطة مقصده بالضرورة تعهّد ما راكمناه بعد إنشاء الدولة الوطنية التونسية. طبعا جميع هذا ينخرط في أهمية تعهد سردية الانتماء وقراءة منجز التونسيين طوال مرحلة ما بعد تصفية الاستعمار بالتعويل على المسافة الكافية.
*** اشرح  لنا أكثر ما تعنيه من استعمال لفظ " ورطة " ؟
لِمَ تشكّل هذه المراجعة ورطة؟ لأننا إزاء مفصلة خطيرة، بل هو في الحقيقة منعرج خطير. هناك من بيننا من يعتقد أنّ تلك المرْوية قد انتهى الفصل فيها بالكامل، بحيث يتعيّن علينا أن ننطلق في بناء شيء جديد يبدو لنا هلامي لا يتواصل إلا مع الماضي الذي يخرج بنا تماما من المعرفة التاريخية ويحملنا إلى فضاء آخر يحتاج إلى معالجة الأسطوري أو تحليل أنثروبولوجي ديني. هذا موقف في حدّ ذاته، وفي مقابله يحضر تصوّر مقابل يعتبر أنّ ما تم إنجازه مرجعية أساسية ليس من السهل إعادة النظر فيها ومساءلتها بالشكل الذي يسمح بالحدّ من تأثيرها في الحاضر وتركها تذهب في حال سبيلها أو في ذمّة الماضي والتاريخ.
*** لنعد إلى الورطة، أو لعلنا فيها ؟؟
استعارة كلمة "ورطة" مبني على ضرورة تعهّد الحكاية الجماعية. فالمضمون السياسي للمرْوية الجماعية للتونسيين متّصل بمنجز الدولة البورقيبية، وهو منجز يُعلي من قيمة التدبير العقلاني للشأن العمومي (في الإدارة، الجباية، الجيش، التقسيم الإداري..)، ويتمسك بتحرير الطاقات، وذلك ضمن تصوّر يلتزم باحترام المعايير والقيم الناظمة للذهنيات تلك التي تخضع لعلاقة اتباعية وعمودية بالشأن الروحي. وهو يفترض أنّ حاجيات المرحلة الجديدة المتصلة أساسا بضمان الحريات ومن أوكدها الحريات الفردية ستتحوّل إلى تحدي من الصعب حتى لا نقول من المستحيل رفعه، في ظل هذه المعادلة التي انتهى الفصل فيها ولم تعد قابلة لإعادة الإنتاج بشكل مستمر. بمعنى أنها وصلت إلى حدود إيجابياتها وهو ما يتعين الاعتراف به صدا لكل هروب إلى الأمام. فقوة الشعوب تكمن في تعويلها على فكرة نخبوية (بمعنى أقليّة) سرعان ما يتمّ تبنيها من قبل قاعدة واسعة من الناس.
*** ما المعادلة التي انتهى الفصل فيها ؟
معادلة "الأصالة والتفتّح". هذه المعادلة التي مثلت الإيديولوجيا السائدة للدولة الوطنية. ما المطلوب اليوم؟ المطلوب أولا: أن كل كتابة للسردية الجماعية ينبغي أن تعطي أولوية للفرد قبل الجماعة، لأنّ كلّ قراءة لتاريخنا البعيد أو القريب يتعيّن أن تصرف همتها للكشف عن تاريخ التونسيين، لا مواصلة الحديث عن تاريخ تونس. لأن هذا من شأنه أن يفتح أمامنا إمكانية التقييم المبني على قاعدة المسافة بين ما جدّ ماضيا وما نحن بصدد عيشه حاضرا.
فكلّ حديث عن الفرد يقتضي موضوعيا أن نشتغل ومن وجهة نظر منهجية، على ثلاثة أبعاد متضامنة.
أولا: ما المقصود أن يُبدي الفرد تصرفا بطوليا؟ لأن مدلول ذلك أساسا هو وجوده كفرد لا تحويله إلى بطل خارق أو تأثيمه (تخوينه) على عكس ذلك باعتباره مصدر جميع شرور العالم. هذا النوع من التقييمات بوسعه أن يفتح بصيرتنا على حقيقة لا تبدو ماثلة للعيان حاضرا، مؤيدها أنّ كلّ بطولة بالمعنى الذي حدّدناه، بوسعها أن تنزع، - وهذا مُثبت علميا- إلى التعبير عن نفسها بطريقة مرضيّة. ومعنى ذلك أن كلّ ما يوضع في خانة البطولي لا يمكن أن يفهم إذا لم نُدرك أنه متفاعل بالضرورة أخذا وعطاء مع رصيفه المرضي. فبورقيبة مثلا لم يكن بطلا لمسيرة التحرير وبناء الدولة فحسب، بل كان أيضا إنسانا اضطرته هشاشاته المتعددة إلى اقتراف أخطاء فادحة. على غرار التسلط وتقزيم من أحاطوا به واعتبارهم غير أكفاء.
ذات الأمر يحيل عليه منجز البشير خريف، الذي صاغ مرْويتنا الجمعية من نافذة الابداع الأدبي، سردا حكاية شعبا وأمّة. وهو ما نجده ماثلا بشكل واضح ضمن رواية "بلاره" مثلا، باعتبارها نصا سرديا يستعيد من خلاله أب الرواية التونسية واقع البلاد أثناء القرن 16 ميلادي، أي إبّان أو قُبيل الحضور العثماني، ليمكّن التونسيين من تمثّل فكرة الخلاص من الهيمنة الإسبانية حال حضور العثمانيين. وهي فكرة توازي فكرة تخليص بورقيبة للتونسيين من خلال بنائه لمشروع الدولة الوطنية على أنقاض دولة الاستعمار الفرنسية. وجميعنا يعلم أنّ رواية " بلاره " قد استعصت على قلم البشير خريف فلم يتسن له إكمالها، تماما كما استعصى استيفاء بناء الدولة الوطنية على فكر بورقيبة الحيْ، الذي تحوّل بعد الدفع نحو تعيينه في أواسط السبعينات رئيسا مدى الحياة إلى مشروع وصل إلى حدوده كما أسلفنا ذكر ذلك. ولم يعد قادرا على إنتاج الدلالة عبر توليد مضامين ترقّي جديدة تنطلق في شكل نخبوي ثمّ لا تفتأ أن تتحوّل إلى مُقتسم جمعي.
الجانب الثالث من هذه الأبعاد المتضامنة هو توضيح مدلول الخصوصية. ولكن عن أيّة خصوصية نتحدّث في ظلّ هيمنة تسليع السردية الجماعية لخدمة بضاعة لها انتشار كوني؟ الأمر الذي يتعارض مع ما شدّدنا عليه من ضرورة تعهّد مُنجز الدولة التونسية الحديثة بما يتوافق مع حاجات "الورطة" التي وقعنا فيها حسّا ومعنى بعد الإقدام على القطع مع منظومة ما قبل سنة 2011. وهو ما يعني أنّ قراءتنا الجديدة أو المتجدّدة للواقع الذي نعيشه يتعيّن أن تتوفر على جملة من الضمانات تثبت أنّ فكر الجماعة قد قبل نهائيا بحقّ الفرد في أن يؤكد على اختلافه مع جميع الأفراد المنتسبين إلى نفس المرْويّة، لا في مجاله الخصوصي الضيق فحسب، بل وعلى صعيد جميع مجالات التعيين الاجتماعية بمختلف مستوياتها. وعليه فإن المسألة مُتصلة في الأخير وبشكل بسيط بإعادة بناء الثقة بين الأفراد على قاعدة احترامهم للاختلاف وحاجتهم للتعايش مع بعضهم البعض بالتعويل على الاجتماع بذكاء.
***  ما مدلول الاجتماع بذكاء ؟
يؤشر مثل هذا الطموح السامي على أنّ ما يسوس علاقاتنا كتونسيين حاضرا هو سيطرة ردود الفعل الوجدانية على جميع ما سواها، بينما علّمنا التاريخ أنّ الشعوب التي تورّطت في الخروج عن السائد أو الانقلاب عليه ثوريا قد اُضطرّت إلى إعلاء ملكة العقل والمراكمة والتحصيل ونبذ كلّ ما يعيق هذا التوجه قولا وفعلا داخل المجموعة. غير أنه لا ينبغي أن نعتقد ببالغ السذاجة أنّ مثل هذا المسار لا يحتاج إلاّ إلى أطر ذهنية مفصولة عن الواقع المعيش. ففرنسا الثورة مثلا خاضت حروبا مريرة لتفهم في النهاية أنّ قدر انتقالها إلى دولة متقدمة (إلى حدود القرن 19 ميلادي %90 من الفرنسيين كانوا مزارعين وفرنسا لم تتخط حتى ذلك التاريخ المتأخر موقع الدولة الريفية) مشروطٌ بامتدادها على حساب من هم أقلّ منها تطوّرا. وهذا ما أدّى في النهاية إلى وقوع أغلب بلدان شمال إفريقيا (أو مجال المغارب كما نسمه حاضرا) تحت نيْر الاستعمار الفرنسي. وهو نفس الحدث الذي نقل ذات هذه الشعوب من الزمن الأسطوري إلى الزمن الرياضي أو ما سميناه بزمن الرزنامة. ولم يكن هذا الحدث منفصلا عن التحولات الفارقة التي طالت المشهد التونسي حضريّا كان أم ريفيا بعد تقليم أظفار البداوة.
لنكن واضحين فمنجز "التهدئة" الفرنسية هو الذي أخرجنا من الزمن السرمدي مُشكلا رجّة أو "صحوة" أو "صدمة" حداثة. وهذا أمر جابهه المجال العربي الإسلامي منذ أن وضعت فيالق الجند الفرنسي أقدامها بمرفأ الإسكندرية ونطلق نابليون بونابرت في حملته على مصر. لماذا نقول هذا؟ لأنّ الذي دفع بونابرت إلى القيام بحملته تلك، وهي حملة سيتمّ استتباعها بحملتين أخريين : واحدة استهدفت المجال اليوناني وثالثة طالت المجال الجزائري ومن ثمّ المجال المغاربي، يندرج في تصورنا في نطاق ضرورة إجاد حلّ لـ"ورطة" الثورة عبر التعويل على بناء قوة من خارج فرنسا وليس من داخلها، استندت على مُقدرات شعوب لازالت عندها تعيش ضمن تصوّر دائري لزمانها ولمرْويّاتها الجماعية أيضا، بينما بدا واضحا أنّ فرنسا الثورة محتاجة إلى فضاءات حيوية لبناء مشروع حداثتها الجمهوري والمدني خارج إطار أوروبا التي لم يعد بإمكان فرنسا الثورة التوسع على حساب أممها بعد هزيمة بونبارت وانعقاد مؤتمر فينيا سنة 1815 الذي أعطى موقعا مميزا لكل من بريطانيا وألمانيا.
الحكمة من وراء كلّ هذا الحديث، أننا نريد أن نقول وببساطة أنّ كلّ قيمة حتى وإن حلّقت عاليا، على غرار مسألة الحريات الفردية، لابدّ لها من تمثّل دقيق أو عملي على مستوى الواقع المعيش. أي أنّ ما هو بطولي في كلّ ثورة بمقدوره أن يفضي إلى نتيجة تُنزّل تلك القيمة ذاتها إلى انزياح يشابه ذاك الذي جعل فرنسا تتوجّه وبعد إنجاز ثورتها إلى تبرير الاستعمار باعتباره ضرورة بل ومهمة حضارية سامية، فَهِمَتْهَا النخب التركية بمدلولها الخلدوني مستعملة لتعريفها لفظة "عمران"، بينما ترجم المصري رفاعة رافع الطهطاوي مصطلح" حضارة " بمعنى "التمدين".
من فرنسا إلى تركيا إلى مصر هناك ثلاث مصطلحات لكلمة واحد. وكل من هذه المصطلحات له دلالته الخاصة: الاستعمار يصبح "مهمة حضارية"، والتنظيمات العثمانية تصبح "عمران"، ومشروع محمد علي باشا بمصر يحيل في فكر المتنورين المحليين على "التمدين" أو التمدّن ".
*** ماذا على التونسيين الذين تورطوا في أنجاز فعل بطولي وتصرفوا مع ذلك الفعل وجدانيا وفقا لمنطق مرضي، وبحسب تحليلك أن يصنعوا كي يتبيّنوا خصوصيتهم، وفقا لما عرضته علينا من تصورات تحيل على نموذجك التحليلي؟
حتى نعود إلى ما كنّا بصدده، ينبغي أن نتساءل: كيف سيكون بوسع التونسيين الخروج ممّا "ورطوا" أنفسهم في إنجازه سنة 2011 ، والتفكير جدّيا في الطريق التي يتعيّن أن يسلكوها حتى يتعهدّوا بشكل جدّي مُنجز الدولة الوطنية التونسية على قاعدة الانتساب قولا وفعلا إلى الأمم الراقية التي تتسم تصرفات المحسوبين عليها بالعقلانية الهادئة تفاديا للوقوع مجدّدا في حبال الزمن الأسطوري أو الدائري أو السقوط في الانبتات بشكل درامي؟ (سبق وأن أدرجت مقترح إجابة أنثروبو- تاريخية عن مثل هذا السؤال المحوري ضمن مؤلفي الأخير الموسوم بـ : أخبار التونسيين: مراجعات في سرديات الانتماء والأصول، الصادر عن دار مسكيلياني للنشر سنة 2019). لعل المطلوب في جميع ما نحياه حاضرا هو عدم الانسياق وراء تحويل السردية الجماعية التي تشكّل قاعدة انتماءتنا الجمعية إلى مجرّد ومضة اشهارية لمشروب يختزل ألفيات مديدة من المراكمة ونحت المصير !!!
(صدر هذا الحوار بجريدة الصحافة التونسية بتاريخ السبت 22 جوان 2019). 

jeudi 20 juin 2019

"نهج إنجلترا" لميّة الكسوري جوسٌ مجهري في سمك المجتمع التونسي بمبضع جراحة ماهرة

















 تدور حكايات هذه الرواية البكر حول مراوحة متدبّرة لتقاطعات مسارين حياتيين يجسمان أقدار شخصيتين محوريتين أعلى اسمهما تيمّنا مدلولي "الأمل" و"الهبة". فقد أقدمت المؤلفة على بناء سرديتها المشوّقة معوّلة في ذلك على ربط كلتا الشخصيتين بمؤسسة تحصيل مدرسي عريقة تقع عند نهج إنجلترا بوسط مدينة تونس.
يأخذنا تعاقب الأحداث وفق نظامين للسرد واحد خطي تطوريّ والثاني  استردادي يستعيد بتدبّر مقتصد الأحداث، في رحلة طويلة نخترق من خلالها ثنايا أيامهما وأعمالهما، رافعين بفضل ذلك الغشاوة عن رثاثة ما عاشته شرائح مختلفة من التونسيين منذ سبعينات القرن الماضي، وما هي بصدد عيشه حاضرا على الحقيقة.
يحيل تشعّب التفاصيل المستجلبة على عميق التحولات التي طالت سمك الواقع الاجتماعي، فتتراءى لنا ومن خلال المرآة المحدّبة لمصائر البطلتين ولزخم الوقائع التي حدّدت تصرفاتهما وشكّلت ما دار بخلدهما جوّانيا، عن حالة نكوص مفزعة توشك أن تأتي على ما تمت مراكمته ببالغ الجهد وموفور العزيمة بعد أن ذهب في ظن جميعنا أنه غير قابل للاختراق أو التنكّر المخزي.
لذلك لم تتردد المؤلفة - وهي على تمام الصواب- في الكشف عن قبح ما تواري خلف ما أبديناه جميعا من انتهازية باردة، فاضحة كارثية ما اقترفته المعاول العاملة على تحطيم القيم المدنية ومعاييرها بالاختفاء وراء نضالية جوفاء، فشلت بشكل ذريع في القطع مع النوازع الغريزية وانغمست في وجدانية منافية لكل عقلنة، رافضة بصلف ومعاندة لا حد لهما مغالبة حالة الهروب إلى الأمام والاعتراف بضرورة التعهّد المتّسق للتوازن بين البطولي والمرضي في نحت مصير الافراد كما المجموعات حاضرا ومستقبلا.
تبدو آمال "أمل" منذرة لغياهب الارجاء بعد انقلاب الطبع على التطبّع والإعراض عن جمالية تثوير الواقع وتحرير الطاقات، بفسح المجال أمام نكد أسبار البداوة المتغلغلة عميقا في ذواتنا المغتالة لكل جميل فينا. فبين انكفاء يسارية الآباء وثورية الواجهة التي تمسكوا بها حسّا ومعنى، واندحار وعود النماء العادل لدولة وطنية مغتالة على مذبح الرأسمالية المتوحشة، تخفى "إسلام الصحوة" تحت ستار الاحتجاج والذود عن شرف هوية مستباحة احتضنتها ممالك القاز، بينما حدّد مدلولها شيوخ فضاءات التحليل والتحريم.
في حين تبتسر أقدار "هبة" مضيّفة الطيران المستقرة بـ "بابل الجديدة" (أو دبي)، وينحسر مجال الفعل المتحرّر أمام النوع الاجتماعي العائد وبعد "نشوز طويل" إلى بيت الطاعة وموطن التكتيكات الأنثوية المغذية لفحولة مكذوبة، الساند لاستراتيجيات ذكورية ذهب فصلها بالكامل.
بين أثافي الثالوث المقدس لمعبد الجنس والدين والسياسة تقيم رواية ميّة الكسوري أُسسا لمرويتها بحرفيّة مذهلة أحيانا، كاشفة ومن خلال تشغيل آليات فضولها الفطري واستبطانها العميق لمعاني الانقلاب الجمالي على القديم في أدبيات التنوير وفكر اليسار، وإدراكها الاستباقي لانقلاب الظرفية الكونية مع حلول تسعينات القرن الماضي وانكشاف الوجه القبيح للعولمة في تفاصيل ما جادت به عليها ملفات التقاضي من تشعبات انغمست في تفكيك شفرتها وإعادة تركيب أدق تفاصيلها، عينات متدبّرة من واقع التونسيين اقترحتها على قراء حكاياتها بعد أن خففتها من مبهم الدلالة لفظا واستجلبت لها غزير المعاني مبنى ومعنى، عارضة وبمنظور مفارق وجديد "مرافعة" تُدين شدة ارتباكنا وقلة حيلتنا. وهو ما ساهم في الكشف عن جلباب عُهرنا المُتسلل من زوايا فضاءات بيوتنا الخاصة إلى مختلف مواضع الوسم في مجالاتنا المشتركة أو العمومية.
يتقدم السرد راسما بمخاتلة مقتصدة عوالم انتهازية صادمة وبغيضة تنتفي ضمنها دعاوى التمسك بالقيم والضوابط الأخلاقية، متحوّلة إلى أقنعة مُضحكة مُبكية لا تقيم احتراما لانفتاح الأنوثة الغضة على ذكورة مفترسة مُتسلطة. فتخضع "أمل" سليلة الفكر المضاد للنظام ولقيطة اصطدام المبادئ الثورية مع تعقيدات واقع ما بعد ثورة الطلبة أواخر ستينات القرن الماضي لنزوات "حسين" قصاب شارع باريس وسجين شهوته القاتلة، في حين تتزين "هبة" بـ"بشة" زوجها المشرقي الستيني وتعبّ من نرجيلة شهوته المثلية المكبوتة، بعد استعادة بكارة مصطنعة تلعن ورطة إنجاب "نوّارة" ابنة "البرانس شرمان" بشير، معذب أفئدة مراهقات معهد نهج إنجلترا، الذي انقطعت أخباره دهرا بعد فراره المخزي إلى صحاري جماهرية القذافي، وانتصابه بغتة وعلى غير ميعاد على ظهر شاحنة "الديماكس"، للمطالبة بصفاقة لا حدّ لها باسترجاع حقوق الأبوة من خليلة أمسه تحت غطاء "صلة الرحم".
يميد الأديم تحت أقدام اللعنة النسوية وتخسف الأرض في قراءة حشر مهيب لا خلاص فيه ولا فكاك. تلك حقيقة "ملاحم" العنف والغدر والضغينة ودعاوى الفحولة المُقرفة تحت سمائنا، فلا شيء يؤذن وبعد أن طالتنا رحى العولمة واضعة حدا لما صدأ من تصوراتنا الرثة، أننا بصدد استيعاب خطورة اللحظة التي نعيش وفهم الدرس الذي يحملنا كُرهًا دون رضا على الانخراط، وبعد أن أصررنا على تحطيم تمثال قداسة الساسة، على الانقطاع كليا إلى تدبير تصرفاتنا بعقلانية بوصفنا أفراد نتساوى بمسؤولية في الحقوق على صياغة مصائرنا وفق ما نرتضيه لأنفسنا من حريات تأبى الانصياع لمنطق القطيع الذي لا يفتأ عن إعادة انتاج نفسه بدهاء ومكر، مبشرا بعودة حروب العرق والجنس والملّة.
تلك شذرات من أدب رواية تونسية جديدة يصرّ مبدعوها وعلى الرغم مما يحيط بأيامهم من محبطات ونوازع تسطيح معمّم على رسم أفق بديل تحت سمائنا الملبّدة بغيوم تدين واجهة، مساهمين بذلك في تحريك مسيرة الأفكار التي تعيش حالة شبه عطالة مريبة تحت سمائنا. وذاك مشرط "ميّة الكسوري" الروائية الذي جاس في سمك واقع بلد صمّ أناسه آذان العالم بدعاوى ريادتهم في تحرير النساء وصون حقوقهن وعزمه وعبر أعلى نصوصه الدستورية على احترام النوع الاجتماعي، فانكشف لنا وبالمعاينة المجهرية عوزهم المُخجل وخوفهم من مواجهة أنفسهم وضعف تعهّدهم لما أوجده النابهون من بينهم من معايير وضوابط مُحدثة بدت مُحتاجة، وبعد ورطة 2011، إلى عميق مراجعة./.