samedi 22 juin 2019

حوار مع لطفي عيسى: التونسيون أبطال مرضى... !!





















حاوره كمال الهلالي
حتى وهو يشرب قهوته لا يستطيع الباحث في تاريخ الذهنيات المؤرخ والأنثروبولوجي لطفي عيسى إلاّ أن يُعمل ملكة العقل محلّلا وشارحا للمشهد التونسي وسردياته، شخصياته وبطولاتها وهناتها أو عللها، وهو يقدم في هذا الحوار تحليلات تقوم على "براديغم" أو نموذج تحليل جديد: يرتكز على تضامن مفاهيم البطولة والمرض والخصوصية في تحديد السياقات الناظمة لسيرة كل فرد. من الأحداث الكبرى إلى المواقف اليومية ينتقل الباحث مفكّكا وصارفا بصيرته كلّها من أجل تدبّر الظاهر.  يشرح ساخرا ومضة إشهارية لشركة مشروبات عالمية بُثّت أخيرا على القنوات التونسية، تروّج لماركتها الذائعة الصيت وتسطو فيها على ذاكرة التونسيين، الذاكرة التي نحتها أجدادنا ونعرفها كلّنا أنا وأنت وزوجتي وجدّاتنا البعيدات، يقول لطفي عيسى ضاحكا. من هذه الملاحظة المتوهّجة بدأ حوارنا معه:
*** لنبدأ من تحليلك لهذه الومضة الإشهارية للمشروب الكوني والذي ترى فيه سطوا على ذاكرة التونسيين ..
عندما يكون لدينا موعد قاري أو عالمي أو حدث له علاقة بالنشاط الرياضي الكروي أساسا، تخرج علينا علامة تجارية معروفة كونيا بمشروبها الغازي، بومضة تحيل على أخصّ ما يجمعنا فكرا ووجدانا، نخال لدى مشاهدتها أنه بوسعنا تجاوز جميع ما يفرّق بيننا وإدراك ما نجد صعوبات جمة، وخاصة خلال الثمان سنوات المنقضية، في إدراكه كجماعة تشكّل شعبا، بل وأمّة في الحقيقة. غير أنّ نهاية الومضة تعيدنا إلى حقيقة يبدو أنها تصوغ قدرنا الجديد وقدر العالم بشكل ما، بحيث يتحوّل المشروب إلى العنصر الأهم بل والمحدّد في الومضة، وتوظّف الأمة والشعب بما يحمله ذلك من شحنة مُلهمة إلى مجرّد عنصر خادم لذلك المشروب. وهذا باعتقادي أحد تعريفات العولمة التي سنتحدث عنها في هذا الحوار.
*** ماذا نصنع إذا ؟
انطلقا من الملاحظة السالفة، علينا أن نتساءل ما الذي يتعين علينا أن نفعله حتى نعيد تركيب سرديتنا الجماعية بما يخدم حاجيات الآن وهنا؟
سرديتنا تحتاج إلى المراجعة بالشكل الذي يتوافق مع هذا النوع من التحديات التي تطرحها العولمة والذي قد يبدو بسيطا. هل نحن مطالبون بأن نوازي بين البضاعة وبين ما يمثل المرْوية التي تستجيب لما قد يستقيم تسميته بـ "ورطة ما بعد 2011."
إن استعارة لفظة الورطة مقصده بالضرورة تعهّد ما راكمناه بعد إنشاء الدولة الوطنية التونسية. طبعا جميع هذا ينخرط في أهمية تعهد سردية الانتماء وقراءة منجز التونسيين طوال مرحلة ما بعد تصفية الاستعمار بالتعويل على المسافة الكافية.
*** اشرح  لنا أكثر ما تعنيه من استعمال لفظ " ورطة " ؟
لِمَ تشكّل هذه المراجعة ورطة؟ لأننا إزاء مفصلة خطيرة، بل هو في الحقيقة منعرج خطير. هناك من بيننا من يعتقد أنّ تلك المرْوية قد انتهى الفصل فيها بالكامل، بحيث يتعيّن علينا أن ننطلق في بناء شيء جديد يبدو لنا هلامي لا يتواصل إلا مع الماضي الذي يخرج بنا تماما من المعرفة التاريخية ويحملنا إلى فضاء آخر يحتاج إلى معالجة الأسطوري أو تحليل أنثروبولوجي ديني. هذا موقف في حدّ ذاته، وفي مقابله يحضر تصوّر مقابل يعتبر أنّ ما تم إنجازه مرجعية أساسية ليس من السهل إعادة النظر فيها ومساءلتها بالشكل الذي يسمح بالحدّ من تأثيرها في الحاضر وتركها تذهب في حال سبيلها أو في ذمّة الماضي والتاريخ.
*** لنعد إلى الورطة، أو لعلنا فيها ؟؟
استعارة كلمة "ورطة" مبني على ضرورة تعهّد الحكاية الجماعية. فالمضمون السياسي للمرْوية الجماعية للتونسيين متّصل بمنجز الدولة البورقيبية، وهو منجز يُعلي من قيمة التدبير العقلاني للشأن العمومي (في الإدارة، الجباية، الجيش، التقسيم الإداري..)، ويتمسك بتحرير الطاقات، وذلك ضمن تصوّر يلتزم باحترام المعايير والقيم الناظمة للذهنيات تلك التي تخضع لعلاقة اتباعية وعمودية بالشأن الروحي. وهو يفترض أنّ حاجيات المرحلة الجديدة المتصلة أساسا بضمان الحريات ومن أوكدها الحريات الفردية ستتحوّل إلى تحدي من الصعب حتى لا نقول من المستحيل رفعه، في ظل هذه المعادلة التي انتهى الفصل فيها ولم تعد قابلة لإعادة الإنتاج بشكل مستمر. بمعنى أنها وصلت إلى حدود إيجابياتها وهو ما يتعين الاعتراف به صدا لكل هروب إلى الأمام. فقوة الشعوب تكمن في تعويلها على فكرة نخبوية (بمعنى أقليّة) سرعان ما يتمّ تبنيها من قبل قاعدة واسعة من الناس.
*** ما المعادلة التي انتهى الفصل فيها ؟
معادلة "الأصالة والتفتّح". هذه المعادلة التي مثلت الإيديولوجيا السائدة للدولة الوطنية. ما المطلوب اليوم؟ المطلوب أولا: أن كل كتابة للسردية الجماعية ينبغي أن تعطي أولوية للفرد قبل الجماعة، لأنّ كلّ قراءة لتاريخنا البعيد أو القريب يتعيّن أن تصرف همتها للكشف عن تاريخ التونسيين، لا مواصلة الحديث عن تاريخ تونس. لأن هذا من شأنه أن يفتح أمامنا إمكانية التقييم المبني على قاعدة المسافة بين ما جدّ ماضيا وما نحن بصدد عيشه حاضرا.
فكلّ حديث عن الفرد يقتضي موضوعيا أن نشتغل ومن وجهة نظر منهجية، على ثلاثة أبعاد متضامنة.
أولا: ما المقصود أن يُبدي الفرد تصرفا بطوليا؟ لأن مدلول ذلك أساسا هو وجوده كفرد لا تحويله إلى بطل خارق أو تأثيمه (تخوينه) على عكس ذلك باعتباره مصدر جميع شرور العالم. هذا النوع من التقييمات بوسعه أن يفتح بصيرتنا على حقيقة لا تبدو ماثلة للعيان حاضرا، مؤيدها أنّ كلّ بطولة بالمعنى الذي حدّدناه، بوسعها أن تنزع، - وهذا مُثبت علميا- إلى التعبير عن نفسها بطريقة مرضيّة. ومعنى ذلك أن كلّ ما يوضع في خانة البطولي لا يمكن أن يفهم إذا لم نُدرك أنه متفاعل بالضرورة أخذا وعطاء مع رصيفه المرضي. فبورقيبة مثلا لم يكن بطلا لمسيرة التحرير وبناء الدولة فحسب، بل كان أيضا إنسانا اضطرته هشاشاته المتعددة إلى اقتراف أخطاء فادحة. على غرار التسلط وتقزيم من أحاطوا به واعتبارهم غير أكفاء.
ذات الأمر يحيل عليه منجز البشير خريف، الذي صاغ مرْويتنا الجمعية من نافذة الابداع الأدبي، سردا حكاية شعبا وأمّة. وهو ما نجده ماثلا بشكل واضح ضمن رواية "بلاره" مثلا، باعتبارها نصا سرديا يستعيد من خلاله أب الرواية التونسية واقع البلاد أثناء القرن 16 ميلادي، أي إبّان أو قُبيل الحضور العثماني، ليمكّن التونسيين من تمثّل فكرة الخلاص من الهيمنة الإسبانية حال حضور العثمانيين. وهي فكرة توازي فكرة تخليص بورقيبة للتونسيين من خلال بنائه لمشروع الدولة الوطنية على أنقاض دولة الاستعمار الفرنسية. وجميعنا يعلم أنّ رواية " بلاره " قد استعصت على قلم البشير خريف فلم يتسن له إكمالها، تماما كما استعصى استيفاء بناء الدولة الوطنية على فكر بورقيبة الحيْ، الذي تحوّل بعد الدفع نحو تعيينه في أواسط السبعينات رئيسا مدى الحياة إلى مشروع وصل إلى حدوده كما أسلفنا ذكر ذلك. ولم يعد قادرا على إنتاج الدلالة عبر توليد مضامين ترقّي جديدة تنطلق في شكل نخبوي ثمّ لا تفتأ أن تتحوّل إلى مُقتسم جمعي.
الجانب الثالث من هذه الأبعاد المتضامنة هو توضيح مدلول الخصوصية. ولكن عن أيّة خصوصية نتحدّث في ظلّ هيمنة تسليع السردية الجماعية لخدمة بضاعة لها انتشار كوني؟ الأمر الذي يتعارض مع ما شدّدنا عليه من ضرورة تعهّد مُنجز الدولة التونسية الحديثة بما يتوافق مع حاجات "الورطة" التي وقعنا فيها حسّا ومعنى بعد الإقدام على القطع مع منظومة ما قبل سنة 2011. وهو ما يعني أنّ قراءتنا الجديدة أو المتجدّدة للواقع الذي نعيشه يتعيّن أن تتوفر على جملة من الضمانات تثبت أنّ فكر الجماعة قد قبل نهائيا بحقّ الفرد في أن يؤكد على اختلافه مع جميع الأفراد المنتسبين إلى نفس المرْويّة، لا في مجاله الخصوصي الضيق فحسب، بل وعلى صعيد جميع مجالات التعيين الاجتماعية بمختلف مستوياتها. وعليه فإن المسألة مُتصلة في الأخير وبشكل بسيط بإعادة بناء الثقة بين الأفراد على قاعدة احترامهم للاختلاف وحاجتهم للتعايش مع بعضهم البعض بالتعويل على الاجتماع بذكاء.
***  ما مدلول الاجتماع بذكاء ؟
يؤشر مثل هذا الطموح السامي على أنّ ما يسوس علاقاتنا كتونسيين حاضرا هو سيطرة ردود الفعل الوجدانية على جميع ما سواها، بينما علّمنا التاريخ أنّ الشعوب التي تورّطت في الخروج عن السائد أو الانقلاب عليه ثوريا قد اُضطرّت إلى إعلاء ملكة العقل والمراكمة والتحصيل ونبذ كلّ ما يعيق هذا التوجه قولا وفعلا داخل المجموعة. غير أنه لا ينبغي أن نعتقد ببالغ السذاجة أنّ مثل هذا المسار لا يحتاج إلاّ إلى أطر ذهنية مفصولة عن الواقع المعيش. ففرنسا الثورة مثلا خاضت حروبا مريرة لتفهم في النهاية أنّ قدر انتقالها إلى دولة متقدمة (إلى حدود القرن 19 ميلادي %90 من الفرنسيين كانوا مزارعين وفرنسا لم تتخط حتى ذلك التاريخ المتأخر موقع الدولة الريفية) مشروطٌ بامتدادها على حساب من هم أقلّ منها تطوّرا. وهذا ما أدّى في النهاية إلى وقوع أغلب بلدان شمال إفريقيا (أو مجال المغارب كما نسمه حاضرا) تحت نيْر الاستعمار الفرنسي. وهو نفس الحدث الذي نقل ذات هذه الشعوب من الزمن الأسطوري إلى الزمن الرياضي أو ما سميناه بزمن الرزنامة. ولم يكن هذا الحدث منفصلا عن التحولات الفارقة التي طالت المشهد التونسي حضريّا كان أم ريفيا بعد تقليم أظفار البداوة.
لنكن واضحين فمنجز "التهدئة" الفرنسية هو الذي أخرجنا من الزمن السرمدي مُشكلا رجّة أو "صحوة" أو "صدمة" حداثة. وهذا أمر جابهه المجال العربي الإسلامي منذ أن وضعت فيالق الجند الفرنسي أقدامها بمرفأ الإسكندرية ونطلق نابليون بونابرت في حملته على مصر. لماذا نقول هذا؟ لأنّ الذي دفع بونابرت إلى القيام بحملته تلك، وهي حملة سيتمّ استتباعها بحملتين أخريين : واحدة استهدفت المجال اليوناني وثالثة طالت المجال الجزائري ومن ثمّ المجال المغاربي، يندرج في تصورنا في نطاق ضرورة إجاد حلّ لـ"ورطة" الثورة عبر التعويل على بناء قوة من خارج فرنسا وليس من داخلها، استندت على مُقدرات شعوب لازالت عندها تعيش ضمن تصوّر دائري لزمانها ولمرْويّاتها الجماعية أيضا، بينما بدا واضحا أنّ فرنسا الثورة محتاجة إلى فضاءات حيوية لبناء مشروع حداثتها الجمهوري والمدني خارج إطار أوروبا التي لم يعد بإمكان فرنسا الثورة التوسع على حساب أممها بعد هزيمة بونبارت وانعقاد مؤتمر فينيا سنة 1815 الذي أعطى موقعا مميزا لكل من بريطانيا وألمانيا.
الحكمة من وراء كلّ هذا الحديث، أننا نريد أن نقول وببساطة أنّ كلّ قيمة حتى وإن حلّقت عاليا، على غرار مسألة الحريات الفردية، لابدّ لها من تمثّل دقيق أو عملي على مستوى الواقع المعيش. أي أنّ ما هو بطولي في كلّ ثورة بمقدوره أن يفضي إلى نتيجة تُنزّل تلك القيمة ذاتها إلى انزياح يشابه ذاك الذي جعل فرنسا تتوجّه وبعد إنجاز ثورتها إلى تبرير الاستعمار باعتباره ضرورة بل ومهمة حضارية سامية، فَهِمَتْهَا النخب التركية بمدلولها الخلدوني مستعملة لتعريفها لفظة "عمران"، بينما ترجم المصري رفاعة رافع الطهطاوي مصطلح" حضارة " بمعنى "التمدين".
من فرنسا إلى تركيا إلى مصر هناك ثلاث مصطلحات لكلمة واحد. وكل من هذه المصطلحات له دلالته الخاصة: الاستعمار يصبح "مهمة حضارية"، والتنظيمات العثمانية تصبح "عمران"، ومشروع محمد علي باشا بمصر يحيل في فكر المتنورين المحليين على "التمدين" أو التمدّن ".
*** ماذا على التونسيين الذين تورطوا في أنجاز فعل بطولي وتصرفوا مع ذلك الفعل وجدانيا وفقا لمنطق مرضي، وبحسب تحليلك أن يصنعوا كي يتبيّنوا خصوصيتهم، وفقا لما عرضته علينا من تصورات تحيل على نموذجك التحليلي؟
حتى نعود إلى ما كنّا بصدده، ينبغي أن نتساءل: كيف سيكون بوسع التونسيين الخروج ممّا "ورطوا" أنفسهم في إنجازه سنة 2011 ، والتفكير جدّيا في الطريق التي يتعيّن أن يسلكوها حتى يتعهدّوا بشكل جدّي مُنجز الدولة الوطنية التونسية على قاعدة الانتساب قولا وفعلا إلى الأمم الراقية التي تتسم تصرفات المحسوبين عليها بالعقلانية الهادئة تفاديا للوقوع مجدّدا في حبال الزمن الأسطوري أو الدائري أو السقوط في الانبتات بشكل درامي؟ (سبق وأن أدرجت مقترح إجابة أنثروبو- تاريخية عن مثل هذا السؤال المحوري ضمن مؤلفي الأخير الموسوم بـ : أخبار التونسيين: مراجعات في سرديات الانتماء والأصول، الصادر عن دار مسكيلياني للنشر سنة 2019). لعل المطلوب في جميع ما نحياه حاضرا هو عدم الانسياق وراء تحويل السردية الجماعية التي تشكّل قاعدة انتماءتنا الجمعية إلى مجرّد ومضة اشهارية لمشروب يختزل ألفيات مديدة من المراكمة ونحت المصير !!!
(صدر هذا الحوار بجريدة الصحافة التونسية بتاريخ السبت 22 جوان 2019). 

jeudi 20 juin 2019

"نهج إنجلترا" لميّة الكسوري جوسٌ مجهري في سمك المجتمع التونسي بمبضع جراحة ماهرة

















 تدور حكايات هذه الرواية البكر حول مراوحة متدبّرة لتقاطعات مسارين حياتيين يجسمان أقدار شخصيتين محوريتين أعلى اسمهما تيمّنا مدلولي "الأمل" و"الهبة". فقد أقدمت المؤلفة على بناء سرديتها المشوّقة معوّلة في ذلك على ربط كلتا الشخصيتين بمؤسسة تحصيل مدرسي عريقة تقع عند نهج إنجلترا بوسط مدينة تونس.
يأخذنا تعاقب الأحداث وفق نظامين للسرد واحد خطي تطوريّ والثاني  استردادي يستعيد بتدبّر مقتصد الأحداث، في رحلة طويلة نخترق من خلالها ثنايا أيامهما وأعمالهما، رافعين بفضل ذلك الغشاوة عن رثاثة ما عاشته شرائح مختلفة من التونسيين منذ سبعينات القرن الماضي، وما هي بصدد عيشه حاضرا على الحقيقة.
يحيل تشعّب التفاصيل المستجلبة على عميق التحولات التي طالت سمك الواقع الاجتماعي، فتتراءى لنا ومن خلال المرآة المحدّبة لمصائر البطلتين ولزخم الوقائع التي حدّدت تصرفاتهما وشكّلت ما دار بخلدهما جوّانيا، عن حالة نكوص مفزعة توشك أن تأتي على ما تمت مراكمته ببالغ الجهد وموفور العزيمة بعد أن ذهب في ظن جميعنا أنه غير قابل للاختراق أو التنكّر المخزي.
لذلك لم تتردد المؤلفة - وهي على تمام الصواب- في الكشف عن قبح ما تواري خلف ما أبديناه جميعا من انتهازية باردة، فاضحة كارثية ما اقترفته المعاول العاملة على تحطيم القيم المدنية ومعاييرها بالاختفاء وراء نضالية جوفاء، فشلت بشكل ذريع في القطع مع النوازع الغريزية وانغمست في وجدانية منافية لكل عقلنة، رافضة بصلف ومعاندة لا حد لهما مغالبة حالة الهروب إلى الأمام والاعتراف بضرورة التعهّد المتّسق للتوازن بين البطولي والمرضي في نحت مصير الافراد كما المجموعات حاضرا ومستقبلا.
تبدو آمال "أمل" منذرة لغياهب الارجاء بعد انقلاب الطبع على التطبّع والإعراض عن جمالية تثوير الواقع وتحرير الطاقات، بفسح المجال أمام نكد أسبار البداوة المتغلغلة عميقا في ذواتنا المغتالة لكل جميل فينا. فبين انكفاء يسارية الآباء وثورية الواجهة التي تمسكوا بها حسّا ومعنى، واندحار وعود النماء العادل لدولة وطنية مغتالة على مذبح الرأسمالية المتوحشة، تخفى "إسلام الصحوة" تحت ستار الاحتجاج والذود عن شرف هوية مستباحة احتضنتها ممالك القاز، بينما حدّد مدلولها شيوخ فضاءات التحليل والتحريم.
في حين تبتسر أقدار "هبة" مضيّفة الطيران المستقرة بـ "بابل الجديدة" (أو دبي)، وينحسر مجال الفعل المتحرّر أمام النوع الاجتماعي العائد وبعد "نشوز طويل" إلى بيت الطاعة وموطن التكتيكات الأنثوية المغذية لفحولة مكذوبة، الساند لاستراتيجيات ذكورية ذهب فصلها بالكامل.
بين أثافي الثالوث المقدس لمعبد الجنس والدين والسياسة تقيم رواية ميّة الكسوري أُسسا لمرويتها بحرفيّة مذهلة أحيانا، كاشفة ومن خلال تشغيل آليات فضولها الفطري واستبطانها العميق لمعاني الانقلاب الجمالي على القديم في أدبيات التنوير وفكر اليسار، وإدراكها الاستباقي لانقلاب الظرفية الكونية مع حلول تسعينات القرن الماضي وانكشاف الوجه القبيح للعولمة في تفاصيل ما جادت به عليها ملفات التقاضي من تشعبات انغمست في تفكيك شفرتها وإعادة تركيب أدق تفاصيلها، عينات متدبّرة من واقع التونسيين اقترحتها على قراء حكاياتها بعد أن خففتها من مبهم الدلالة لفظا واستجلبت لها غزير المعاني مبنى ومعنى، عارضة وبمنظور مفارق وجديد "مرافعة" تُدين شدة ارتباكنا وقلة حيلتنا. وهو ما ساهم في الكشف عن جلباب عُهرنا المُتسلل من زوايا فضاءات بيوتنا الخاصة إلى مختلف مواضع الوسم في مجالاتنا المشتركة أو العمومية.
يتقدم السرد راسما بمخاتلة مقتصدة عوالم انتهازية صادمة وبغيضة تنتفي ضمنها دعاوى التمسك بالقيم والضوابط الأخلاقية، متحوّلة إلى أقنعة مُضحكة مُبكية لا تقيم احتراما لانفتاح الأنوثة الغضة على ذكورة مفترسة مُتسلطة. فتخضع "أمل" سليلة الفكر المضاد للنظام ولقيطة اصطدام المبادئ الثورية مع تعقيدات واقع ما بعد ثورة الطلبة أواخر ستينات القرن الماضي لنزوات "حسين" قصاب شارع باريس وسجين شهوته القاتلة، في حين تتزين "هبة" بـ"بشة" زوجها المشرقي الستيني وتعبّ من نرجيلة شهوته المثلية المكبوتة، بعد استعادة بكارة مصطنعة تلعن ورطة إنجاب "نوّارة" ابنة "البرانس شرمان" بشير، معذب أفئدة مراهقات معهد نهج إنجلترا، الذي انقطعت أخباره دهرا بعد فراره المخزي إلى صحاري جماهرية القذافي، وانتصابه بغتة وعلى غير ميعاد على ظهر شاحنة "الديماكس"، للمطالبة بصفاقة لا حدّ لها باسترجاع حقوق الأبوة من خليلة أمسه تحت غطاء "صلة الرحم".
يميد الأديم تحت أقدام اللعنة النسوية وتخسف الأرض في قراءة حشر مهيب لا خلاص فيه ولا فكاك. تلك حقيقة "ملاحم" العنف والغدر والضغينة ودعاوى الفحولة المُقرفة تحت سمائنا، فلا شيء يؤذن وبعد أن طالتنا رحى العولمة واضعة حدا لما صدأ من تصوراتنا الرثة، أننا بصدد استيعاب خطورة اللحظة التي نعيش وفهم الدرس الذي يحملنا كُرهًا دون رضا على الانخراط، وبعد أن أصررنا على تحطيم تمثال قداسة الساسة، على الانقطاع كليا إلى تدبير تصرفاتنا بعقلانية بوصفنا أفراد نتساوى بمسؤولية في الحقوق على صياغة مصائرنا وفق ما نرتضيه لأنفسنا من حريات تأبى الانصياع لمنطق القطيع الذي لا يفتأ عن إعادة انتاج نفسه بدهاء ومكر، مبشرا بعودة حروب العرق والجنس والملّة.
تلك شذرات من أدب رواية تونسية جديدة يصرّ مبدعوها وعلى الرغم مما يحيط بأيامهم من محبطات ونوازع تسطيح معمّم على رسم أفق بديل تحت سمائنا الملبّدة بغيوم تدين واجهة، مساهمين بذلك في تحريك مسيرة الأفكار التي تعيش حالة شبه عطالة مريبة تحت سمائنا. وذاك مشرط "ميّة الكسوري" الروائية الذي جاس في سمك واقع بلد صمّ أناسه آذان العالم بدعاوى ريادتهم في تحرير النساء وصون حقوقهن وعزمه وعبر أعلى نصوصه الدستورية على احترام النوع الاجتماعي، فانكشف لنا وبالمعاينة المجهرية عوزهم المُخجل وخوفهم من مواجهة أنفسهم وضعف تعهّدهم لما أوجده النابهون من بينهم من معايير وضوابط مُحدثة بدت مُحتاجة، وبعد ورطة 2011، إلى عميق مراجعة./.                                
        

lundi 15 avril 2019

أخبار التونسيين











  
       تراجع هذه العروض جملة من المفاهيم الإجرائية والمنهجية التي وظفناها لتركيب مضامين مختلف فصول هذا الكتاب، وهي مفاهيم عاينت في غضون العشريات الأخيرة تحوّلات فارقة، ساهمت ولا جدال في تطوير نظرتنا إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية بوجه عام، كما دفعت بنا إلى إعادة النظر في مهنة المؤرخ تخصيصا.
وليس بعيدا أن يكون لطبيعة المدونة المصدرية التي عوّلنا عليها في بناء لحمة هذا الأثر ونسج سداه، اصرة وثيقة بما نحن بصدده من مراجعات منهجية تحيل على أبستمولوجيا المعرفة التاريخية وفلسفتها. فقد انصبّ تركيزنا ضمن هذه المغامرة على مقاربة مدونات مخصوصة لم توضع آثارها بغرض التأريخ، بقدر ما حُبرت بغاية الحفاظ على مخزون تراثي غير مادي تضمّن مرويات أو حكايات خرافية منقولة عن صدور التونسيات والتونسيين، كما دوّنت مجامع أمثالٍ وعِبرٍ وخواطر أفاضت عن عميق حكمة الأسلاف والأجداد.
ولم تقف المتون التي عولنا عليها في تركيب عروضنا التأليفية عند هذا الحدّ، بل أدرجنا ضمن اهتماماتها أيضا مؤلفات تبيّن لنا حال الاطلاع على مضامينها إسهامها نقلا ونشرا في توسيع أفق تمثّل المتعلمين من التونسيين لمدلولي الزمان والمكان، وتوضيح المشترك في تواريخهم، بردّه إلى روابط غُيبت أو أُقصيت عن مجال ذاكرتهم الجماعيةـ وحُجبت عن الأساطير المؤسسة لانتمائهم الجمعي، ومظان غير مقصودة بات لحضورها دور محوري في بناء شخصية التونسيين وربط أيامهم وأعمالهم بفضول الـمُقبلين على الحياة والعاملين على تبديل الواقع سعة بعد عوز، ورخاء بعد شدة وعزة بعد مهانة.
كما تعقب بحثنا أيضا مضمون عينات من المقابسات أو المقاربات الموضوعة بغرض مراجعة عادات التونسيين وتقاليدهم أو التعمّق في خصوصيات شخصيتهم، وذلك وفق تصوّرات بدت لنا متأثرة بتوجهات استشراقية غير خافية أو منخرطة بقدر غير قليل من السذاجة في الاعلاء من قيمة المنجز الاستعماري، اتصل الهدف من استحضارها بالقراءة في سلوكيات التونسيين ورصد ما يحيل على أقوالهم وأفعالهم وآدابهم وتصرفاتهم، تحديدا للثابت والمتحوّل في شخصيتهم.
انطوت المرويات الخرافية على جنس أدبي تفرّع إلى جملة من الأنماط ربط بينها اتكاء جميعها على الخارق والعجائبي في بناء السرد، حيث دارت معظم الوقائع المشكّلة للحكايات التي اشتغلنا عليها حول تصوّر تم تركيبه بشديد الدهاء والمخاتلة، بحيث لم ينشغل القصّ بتوصيف ما هو حاصل في الواقع المعيش، بقدر ما انشد، إذا ما تدبّرنا علّة وجوده، إلى اقتراح توصيف لواقع مُواز تحوّل إلى نوع من الاستعارة ناضد بين عالمين، يشغل ضمنهما المتخيل عنصر تفسير وإيضاح لما يحيل عليه عالم الشهادة والناس أو العالم الواقعي المعيش.
ضمن هذا الإطار تحديدا نستطيع أن ندرج جميع الخرافات التي عمدت إلى رد أحداث الماضي إلى عوالم روائية أو خيالية لا تضيق بخرق العادة، على غرار الخرافات والمرويات والحكايات المنشدّة إلى الغريب والعجيب، حتى وإن ركّزت المقاربات التحليلية للأدب الروائي في تصوّر العارفين بتقنيات السرد الأدبي على قدرة العجائبي على خلق عالم منفتح على خرق العادة، في حين بقيت مختلف الأجناس الأدبية المتفرّعة عن ذلك غير قابلة لمثل ذلك الفصل بين العادي والخارق، بين المنتظر وغير المنتظر، بين الـمُمكن والمستحيل[1].
ومهما تزايدت غرابة تلك الوقائع وبدت منشدة إلى الاغراق في التخيّل، فإن العوالم التي عمدت إلى نسجها روائيا قد بقيت خاضعة، في آخر التحليل، إلى المنطق الناظم للتصرّفات المدركة للبشر. ويعود السبب في ذلك إلى عدم القدرة على استنباط مناخات مفارقة تحيل على عوالم غريبة عن العوالم التي اعتاد المتلقي على العيش داخلها. إذ تحيل جميع تلك العوالم في عميق مضامينها على الطبيعة البشرية.
كما أن ما عرضته من حكايات لا يعدو أن يكون سوى نوع من الاستعارة لتصرفات لها علاقة وطيدة بـمُدرك سلوك التونسيين العادي. لذلك لعبت الاستعارة دورا أدبيا أو بلاغيا سمح توظيفه ببناء عوالم متخيَّلة أحالت في حقيقتها عمّا سواها، وذلك تفاديا لصعوبة تمثّلنا لما ينطوي عليه الواقع من تشعّب وعدم قدرتنا على التعبير عن ذلك أو توصيفه بطريقة عادية[2].
يشكل هذا الأسلوب الأدبي والجمالي وفقا لنفس المباحث "استعارة مُرَشحة" أو "منسوجة" (Prolongée ou filée)، سرعان ما تأخذ شكل "الأليغوريا المبتكرة" (Allégorie - invention) كلما تحوّلت إلى مروية مكتملة. وهو واقع معظم الحكايات الخرافية التي اخترنا تفكيك البعض من مُضمرات خطابها في سياق العروض التي خصّصناها للفصل الأول من هذا الكتاب، وذلك بطريقة تسمح للمتلقي بفهم ما انطوى عليه السرد الروائي في الخرافات الشعبية التونسية من تقنيات تشبيه واستعارة أنطقت الحيوانات (برّيّة كانت أو أليفة) واستحضرت الأغوال، والجنيات، والأنبياء، وملائكة السماء، وشياطين الإنس والجنّ، تعبيرا عن تهيّبِها من مفارقة المعلوم إلى ما سواه، وتعويدا للمتلقي على التواصل مع الوجود واكتناه ما بعده، بتوظيف بلاغة الخاطرة ضمن الأمثال الـمُندسّة بتدبير وحكمة في تجاويف لغة التخاطب أو لهجة التونسيين، بُغية تبليغ المقاصد التي تحتاجها عملية الانتقال من لهو الطفولة وسعة خيالها إلى ما يفرضه العيش المشترك من تنازلات، وما يتضمّنه الواقع من إكراهات نحتاج في مجابهتها إلى استعمال ملكة العقل والتدبير حفاظا على النفس والنفيس[3].
فمجرد تجاوز ما اختصت به الخرافات من حضور مكثّف للأغوال والجنيات وغيرها من المخلوقات الغريبة، فإن المعاني التي ينطوي عليها السرد تنفتح على حزمة من القيم السامية تم التعويل في استجلابها على تشغيل آليات التسلية واللهو أو تزجية الوقت، وذلك بغرض توفير شكل مخصوص في نقد الواقع المجتمعي وتقريب العديد من التصوّرات والمفاهيم الأخلاقية العويصة من ذهن الـمُتلقي. وهو ما أثنت عليه العروض المدرجة ضمن العديد من كتب النقد الأدبي، تلك التي عمدت إلى توضيح مختلف التقنيات المتصلة بالأدب الروائي باعتبار اتساع القصّ لجملة من التصورات يعسُر إثارتها بالتعويل على أليف التصرّفات التي تُؤثث حياتنا العادية.
فقد ارتبط تركيب الأخبار التاريخية منذ البدايات بفن البلاغة والقصّ[4]، حيث وضعت العروض التي خلفها المؤرخ الروماني "شيشرون Cicéron" في غضون القرن الأول قبل الميلاد ضمن أثره الموسوم بالخطابة De Oratore[5]، مسافة أمان بينها وبين مختلف أشكال الكتابة التاريخية التي سبقتها، وهي كتابة انشدت إلى تصوّرات حوليّة مغرقة في العرض الخطّي، ومكتفية باستحضار الأحداث السياسية التي لا يرتقي أسلوبها التقريري إلى مستوى القصّ الروائي، باعتبار غياب التضاريس والنتوءات، وحاجتها من وجهة نظر جمالية إلى خطاب روائي مُغرٍ أخّاذ. فالمؤرخ الحقيقي في تصوّر "شيشرون" دائما، هو من تضمّنت أخباره توجّها بلاغيا مقصودا وخطابا يتوفر على البعدين الخبري والسردي أو القصصي في آن.
وغني عن الإشارة ارتباط مثل هذا التصوّر للكتابة التاريخية بالسياقات التي عاشتها الإمبراطورية الرومانية في مرحلة انتقالها من أزمة النظام الجمهوري إلى زمن الإمبراطورية، ذلك الذي اتسم بالتشديد على ضرورة احترام الضابط الأخلاقي ضمن الممارسة السياسية واستئصال دواعي وقوعها في شرك الخديعة والمكائد. فانتقلت الكتابة التاريخية بمقتضى ذلك إلى أداة لتحقيق الاستقامة ومصدرا مُلهما لبيداغوجية الكتابة الأدبية. وهو ما تفطن له الأديب الفرنسي "راسين Racine 1639 – 1699"، الذي اعتبر "شيشرون" "رساما للعهود القديمة"[6]. في حين قدر المؤرخ الروماني "تاسيت Tacite" (58 – 120م) من ناحيته أن للبلاغة في كتابة التاريخ موقعا يضاهي في قيمته وفاء واضعه لما جدّ من وقائع، مع شدّة الحذر من الانزلاق في دواعي التضليل والانحياز.
والحاصل بعد هذا أن القرون الوسطى قد عاينت شرقا وغربا تطوّرا لصناعة الأخبار التاريخية تجسّم بالأساس في انتشار التواريخ السُلالية التي أشادت بطريقة روائية غير خافية بمآثر النبلاء والسلالات الحاكمة، وهو ما استحضرته أخبار المؤرخ الفرنسي "فرواسار" (Froissart) (1337 - 1410)، مثلما تعقّبته "عبر..." مؤرخ المغرب والمشرق ابن خلدون (1337 - 1406) في حدود موفى القرن الرابع عشر.
في حين انطوت المرحلة الرومانسية في كتابة التاريخ والتي يعود انطلاقها إلى حلول القرن التاسع عشر على نُقلة جديدة في بناء الرواية التاريخية، تم التعويل ضمنها على العروض المعرفية العلمية المتبحرّة وضبط المعطيات الأرشيفية وتنظيمها وفقا للسياقات الزمنية التي انتجتها، مع عدم الاعراض في جميع ذلك على إدراج تلك المعطيات ضمن معقولية تاريخية مستندة إلى تشغيل ملكتي التحليل والتأويل. وهو ما ترتب عليه نوع من التجاذب القوي بين الرغبة في ربط العروض بمضامين معرفية دقيقة من ناحية، وتقصّي خصوصيات الانتماء أو الانتساب من ناحية ثانية. لذلك اعتبرت العروض الـمُشبعة بالحس الوطني مَوْضِعا لاشتغال هذين التصورين والتكّشف تبعا لذلك على الحقيقة التاريخية الواقعة بين العروض الحسيّة أو الذاتية من جانب، والتصوّرات العقلانية الجامعة الـمَبْنِيَّة على سرد الأخبار والبحث عمّا يحدّد معقوليتها على الحقيقة. وهذا ما أدى وبالتدريج إلى انبثاق توجّه مُـحدث للكتابة التاريخية ارتكز على رصد المسافة الزمنية وتحديد المفاصل الفارقة أو "القطائع الثورية" والتعبير عن مسار جديد مقصده البحث عمّا يشكل ما تم وسمه بـ"روح الأمة" المنخرطة في التاريخ الكوني والمتمايزة معه في آن.
وعموما لم تكتف مثل هذه الجمالية ذات النفس الرومانسي المعلن بالتأثير في الكتابة التاريخية بل اتسع تأثيرها لتُشكّل تيارا في التعبير الفني سيطر على جميع صنوف الابداع أوروبيا طوال القرن التاسع عشر، وانشغل تاريخيا بإنتاج مؤلفات راوحت بين الحاجة إلى التبحّر والامساك بتقنيات القصّ الروائي، على النمط الذي أحدثته رواية "إفانوي" التاريخية لـ "والتر سكوت" Walter Scott (1771 - 1832) على سبيل المثال لا الحصر.
فقد تم القطع مع التقليد السائد في الفصل بين الخبر والرواية، بإدماج المعطيات الوثائقية أو المصدرية والتحاليل المتّصلة بها في ثنايا السرد الروائي، التي اتسمت بتشعّبها مع قدرة على احتضان مختلف العناصر المتدخّلة في فعل الكتابة، فلم يعد من المنطقي في شيء أن يقوم المؤرخ بتفضيل الرواية على رسم الوقائع أو الاعتبار بعكس ذلك. فتوفّر التواريخ على ما يشكّل صورتها الحقيقية مشروط بعدم الوقوع في عزل الوقائع عن السرد، وهو ما يُكسب الوقائع أو الأحداث زخما مخصوصا.      
وليس هناك من تجربة في كتابة التاريخ تحيل على شدة التأثر بمثل هذا التصوّر الجمالي في نسج الاخبار التاريخية، أكثر تمثيلا من تلك التي خاضها المؤرخ الفرنسي "جيل ميشلي" (Jules Michelet) (1798 - 1874). فقد ظل على اقتناع تام بضرورة استنباط مجموعة من الاستعارات الأدبية القادرة على السمو بماضي الأمة الفرنسية وسرد ما مرّت به من محن وما قاسته من آلام، معتبرا أن نجاحها في تخطّي مختلف المصاعب التي واجهتها، هو ما شكّل حجر الزاوية في نسج سردية تاريخها المجيد على الحقيقة. لذلك انبرى "ميشلي" لإعلاء مكانة الاساطير المؤسسة لوطن الفرنسيين، وهي أساطير انبثقت في تصوّره على إثر نجاحهم في تحقيق وحدتهم الترابية، وتهيئة الظروف الملائمة لحصول الثورة ضد كل قديم وبالٍ[7].
اختار مؤرخ الثورة الفرنسية قصد التنويه بعظمة تلك الأحداث الفارقة، أن يربط كتلة الأخبار الـمُستجلبة استعاريا بمعجزة تجسّد الروح القُدس في تصرّفات الابن المسيح، موفّرا بتلك الطريقة لأحداث الثورة طقوسا شابهت عشاء المسيح الأخير مع حوارييه، وجميع ما ترتب على ذلك الحدث الفارق من دموع ودماء وإخلاص للدعوة وشغف بها، مُقْلِعًا نهائيا عن التعويل على التواريخ السلالية القاصرة - ومن وجهة نظره دائما - عن إدراك تطوّر الأحداث أو الوقائع في شموليتها، وهي أحداث ووقائع لا يمكن الاقتصار عليها كلما رُمنا تحقيق ما أصرّ مؤرخنا على نعته بــ "الانبعاث الجديد لماضي فرنسا التليد"[8].
ولئن لم يدخل في تصوّر محمد البشير صفر (1865 - 1917) مطلقا الاعتماد على ذات الخطة التي انتهجها المؤرخ الفرنسي "ميشلي" في تركيبه لسردية ماضي الفرنسيين واستعراض تواريخهم، فإن العروض التي شكّلت منجزه البيداغوجي ضمن مؤلف "مفتاح التاريخ"، قد بدت لنا مع ذلك منشدّة لتقنيات تأليف روائي عمدت إلى إعادة صياغة انتماءات التونسيين وتوثيق صلاتهم بجملة من الغيريات راوحت بين توسيع أفاقهم الزمانية عبر التذكير بمختلف الحضارات الكبرى التي طبعت تاريخ التونسيين القديم، وفتح أعينهم على تعدّد انتماءاتهم المكانية من خلال ربطها بقديم تاريخ العرب والمسلمين وسيطه، حديثه ومعاصره، مع الحرص في جميع ذلك على اطلاعهم على حقيقة اتصال ماضيهم كما حاضرهم بالبحيرة المتوسطية، والتشديد  على ما لتاريخ أمم أوروبا من اصرة وثيقة بتاريخ ساكنة إفريقية وتونس وحضاراتهم.
تحيل إشكالية زمن الخبر في صناعة التاريخ[9] على أولوية الاعتبار بالسياقات الاجتماعية التي ساهمت في بنائه، فضلا عن تثمين جهود أجيال من المؤرخين بفعل التراكم المعرفي. ويتسم تمثّلنا للزمن التاريخي بالتقلّب بين الإحساس بتسارع الأحداث أو بركودها، وهو في جميع ذلك مشابه لما يحصل ضمن الواقع اليومي المعيش. لذلك يعمد المؤرخ إلى قيس الزمان بالأيام والأشهر والسنوات أو بما هو أكثر امتدادا من ذلك أو أقل، مما يُضفى على الزمن التاريخي صِبغة اجتماعية تجعله قابلا للتقييم بشكل موضوعي.
غير أن جميع المجتمعات لم تتوفر على نفس منظومات قيس الزمن، حتى وإن درجنا حاضرا على الاعتبار بالطبيعة المنظمة للزمن وتوفّره على نقطة بداية، مع الاعتبار بحضور اتجاه تصاعدي متسق لتطوّر الوقائع. إلا أن مثل هذا التصوّر المخصوص ينخرط في الحقيقة ضمن صيرورة طويلة ساهمت في توحيد الأزمنة وربطها حال اكتمالها بطريقة في التقويم اتصلت نقطة بدايتها بميلاد المسيح. وهو ما عاينته بدايةً ممالك الغرب المسيحي في غضون القرن الحادي عشر تقريبا، ثم ما لبث أن امتد ليشمل بقية أرجاء المعمورة تزامنا مع انتشار الاستعمار في القرن التاسع عشر.
ساهم تعميم استعمال الزمن الخطّي أو زمن الرزنامة دون غيره بلا جدال في التخلّي تدريجيا عن جميع الأزمنة الدائرية أو الزراعية أو الطقسية والدينية التي سبقته. وهو ما ترتب عليه اتساع الوعي بوحدة المصير البشري أو الإنساني، وهي فكرة جديدة عمل المؤرخون والإخباريون بشكل لافت على تقريبها من الأذهان من خلال شدّها إلى قوائم تحويل أو مقابلة قرّبت بين التقويمين الشمسي المسيحي والقمري اليهودي، بحيث شكّلت جهودهم لبنة أساسية على طريق إكساب الزمن التاريخي طابعا منفصلا عن التصوّرات الدينية أو التعبّدية.
فقد خضعت جميع الأزمنة التي سبقت ذلك للمشيئة الدينية في اعتبارها للذات الإلهية مُنطلقا للزمان، بينما اعتُبرت نهاية الكون نقطة انقضائه. لذلك اقتصر السرد على تجميع أخبار السلالات الحاكمة والاعتبار بسير الملوك ومآثر الصلحاء أو القدّسين وأهل الفضل من العارفين بالدين، مع التعتيم على الفوارق بين الأمس واليوم والنظر إلى الغد بوصفه نسخة مُعادة لليوم الذي سبقه.
وبالمقابل ابتعد التصوّر الـمُحدث للزمن عن جميع ما سواه، منتهيا إلى ربط ما حصل بعدُ بما هو سابق بطريقة منطقية وعقلانية، الأمر الذي أورث الإنسانية ثورة ذهنية انجرّ عنها مع حلول القرن السادس عشر اعتقاد راسخ في فكرة حصول التقدّم وانخراط للنُخب الجديدة في تصوّر أصرّ على أن "الزمن لا يعيد نفسه إلا على شكل مهزلة"، وأنه مدعو إلى التقدم والكشف عن واقع مفارق جديد، وهو ما وضع حدّا لتناظر الماضي مع الحاضر، واستحالة "السباحة في نفس النهر مرتين "، فانفتحت التجارب التي تمت مراكمتها على أفق للانتظار توفّر على إمكانيات موضوعية للتطوّر.
هذا التمثل للزمن هو ما سانده فكر الأنوار صراحة، حيث بشّرت الثورة الفرنسية بانطواء مقتبل الأيام على وعد بالتغيير نحو الأفضل، مع انتهاء البشرية إلى إرساء زمنية جديدة أعلت من قيمة النمو الـمُطرد للإنسانية وازدهارها، معتبرة التخلي عن الإيمان بالقيم الحداثية المرتكزة على مواجهة المصير والإيمان بتطوّر أوضاع البشرية وانعتاقها وتبنّي منظومة حقوق الإنسان ودعم مكتسبات المعرفة والعلوم مضنّة للوقوع في التقهقر والعودة إلى الظلمات.
ولئن شهد القرن العشرين وكذا العشريتين المنقضيتين من القرن الذي يليه نوعا من الشكّ في اتساق مدلول التقدم البشري، واتسم التعامل مع الزمن بمواصلة الاعتقاد في تقدّم البشرية مع خشية من المخاطر التي تهدّد مستقبلها، فإن التمثّل الإيجابي للزمن لم تبله وطأة الانقطاع إلى حاضر وماض غير قابلين للمُضي في حال سبيلهما، فضلا عن عُقم المستقبل عن تجسيم نُقلة فارقة تسمح بتحقيق الخلاص للبشرية جمعاء.
هذه الصيرورة، تحديدا هي التي حاولنا التثبّت من حقيقة انبثاثها في ثنايا العروض التي تضمنتها "الرزنامة التونسية" وضمن القراءة التي وافانا بها زين العابدين السنوسي ضمن بعض "حلقات" مشروع "موسوعته" حول تاريخ الأدب التونسي في القرن الرابع عشر الهجري/ الموافق للقرن العشرين بالتقويم الميلادي. فقد مثلت الروزنامة التونسية تجربة طريفة في ضربها خاضها الجنرال مْحمد بن الخوجة (1869 - 1943) في بداية القرن الماضي لتنقطع بمجرد إعفائه من إدارة المطبعة الرسمية سنة 1916. وتعرضت مختلف المنشورات السنوية للرزنامة بشكل مفارق جديد إلى مسائل حرّكت فضول المتعلمين من التونسيين وكذا جميع الحاصلين على ملكات من بينهم، لم يكن بوسعها التداول بتلك الكيفية قبل بروز تلك التجربة وتجذّرها ضمن المشهد الثقافي التونسي زمن الاستعمار. فقد توسّع الاهتمام بالمعارف الفلكية والجغرافية والتاريخية والأدبية والإدارية والسياسية والجمالية والفنية وغيرها من المواضيع التي استظرفتها النخب الجديدة واندرجت ضمن التقاليد الوليدة للتونسي. وهو نفس ما تبين لنا حال الاطلاع على مضمون القسم المطبوع من "موسوعة" تاريخ الأدب التونسي لزين العابدين السنوسي، وهو مشروع خلُص للدفاع على نفس التوجهات التي وظفت الانقلاب الحاصل على المعالجة الأدبية التونسية شكلا ومحتوى قصد إثبات حقيقة النقلة الفكرية التي عاشتها نخب الأدب والفن، وذلك من خلال تركيزها على شواغل مُحدثة، أخذ ضمنها الإحساس بالانتماء الوطني والرغبة في التحرّر والانعتاق ومقاومة الظواهر الاجتماعية والثقافية البالية المفرطة في الحسيّة، موقع الصدارة ضمن جميع ما تمكن ممثلوها من نظمه أو نثره طوال النصف الأول من القرن العشرين.
على أن نعمل وفي جانب موازي على استدعاء عينات اتسم خطابها بكثير من الطرافة من بين زخم البحوث والمراجعات التي خطّها المنقطعون لدراسة خصوصيات الشخصية التونسية ميدانيا والعاملين على التعريف بسكان البلاد عرقا ولغة وتراثا وسلوكا وأعمالا وأياما. وهي عينات ممثِلة أثّث مضمونها الاثنو-تراثي مؤلَف محمد بن عثمان الحشايشي "الهدية أو الفوائد العلمية في العادات والتقاليد التونسية"، بينما تعرّضت لما شدّه إلى جذوره العربية الإسلامية وماضي التونسيين اللاتيني الروماني وفق قراءة مشوبة بنَفَسٍ استشراقي، العديد من الأبحاث والاستطلاعات التي خلّفها الأب الكاثوليكي "أندري ديميرسمن" (André Demersseman ).
وهكذا يتبين لنا أن تحرير مختلف الفصول المكونة لهذا الكتاب قد تم بطريقة متساندة، اتصل غرضها بمحاولة استرجاع ذاكرة ضائع الأزمنة وبالتعويل على تغيير زوايا الإضاءة أو مقاييس المقاربة في مراوحة بين "زمن الحكاية" المستندة على الأساطير المؤسسة المدرجة ضمن مدونة الخرافات الشعبية، و"زمن المجال" من خلال البتّ في كيفية توسيع أبعاد الانتماء أو الانتساب بربط تاريخ التونسيين وأخبارهم بتواريخ مجالات ثبت تأثير تاريخها في صناعة مختلف انتماءاتهم. في حين حاول ما نعتناه بـ "زمن الرزنامة" البتّ في انقلاب النظرة إلى الخبر تونسيا عبر ربطه بفضول الشعوب الراغبة في اللحاق بركب الانعتاق والتقدّم، وذلك قبل التفرغ في الأخير إلى استقراء أزمنة "الذات أو الوجدان" من خلال مراجعة عينات مختارة من العروض التي بتّت فيما ميّز شخصية التونسيين وحدّدت تطور مدلول الانتماء والإقبال على معايير وقِيَمٍ بشّرت بها حداثة الغرب المهيمنة بعد تطعيمها بما تمت مراكمته أصالة من ممارسات وعادات مألوفة شكّلت عصارة ثقافة التونسيين وحدّدت طبيعة شخصيتهم الجامعة على الحقيقة.                 



[1]    تودوروف (تزفيطان)، مفاهيم سردية، ترجمة عبد الرحمان مزيان، منشورات الاختلاف، الجزائر 2005.
[2]   ليكوف (جورج)، النظرية المعاصرة للاستعارة، (مختارات 1)، ترجمة طارق النعمان، مكتبة الإسكندرية 2014.  
[3] الخميري (الطاهر)، منتخبات من الأمثال العاميّة التونسية، الدار التونسية للنشر، تونس 1981.
بلحاج عيسى (قاسم)، الأمثال الشعبية في تونس، دار بوسلامة للطباعة والنشر والتوزيع، تونس 1977.
[4]    Delaroix (C), Dosse (F), Garcia (P), Offenstadt (N), Historiographie, II, Concepts et débats, Paris, Folio histoire, Gallimard 2010, Récit, p. 862 – 876.
[5]   Cicéron, De Oratore, Paris, Les Belles Lettres 1921.
[6]       Goyet (Francis), « Racine et le mystère de la bonne rhétorique : repérage de discours dans La ThébaïdeBritannicus et Mithridate », dans Exercice de Rhétorique, [En ligne], 1 | 2013, mis en ligne le 12 novembre 2013, consulté le 25 août 2018. URL : http://journals.openedition.org/rhetorique/98   

[7]     Michelet (Jules), Histoire de France, choix de Textes présentés par Paule Petitier, Paris, Champs classique 2013.
[8]  White (H), Metahistory: The historical imagination in nineteenth-century Europe, Baltimore and London, The Johns Hopkins University Press 1973.
[9]    Historiographies II…, option citée, p. 903 – 911.   

mercredi 20 février 2019

"كثير هذا القليل الذي نمتلك"[i]

















           أن ينخرط التونسيون بما في ذلك القائمين على شأنهم العام بشكل حاسم في انجاز "حلم في المتناول" لا ينتظر سوى اعتباره أفقا لمستقبل قابل للمثول مع حلول العقد الرابع من القرن الواحد والعشرين، ذلك هو الهدف الذي أجهد الهادي بن عباس ومحمد التومي مؤلفا كتاب "تونس في أفق سنة 2040: حلم في المناول"[ii] نفسهما لإقناع المطلعين على ما أوجزاه بقابلية تحقيقه في المستقبل المنظور. فقد تأولت عروضهما تفاصيل خطة محكمة هدفها تحقيق نماء عميم بمواصفات تونسية صرفة.
اعتبر مؤلفا هذا الأثر بحاجة التونسيين الملحّة إلى تطوير سرديتهم الجماعية، وذلك من خلال تصويب النظر نحو حاضر أيامهم وأعمالهم ومستقبلها، معتقدين أن السبيل لتحقيق الرفاه هو الانقطاع نهائيا عن تشغيل آليات الاصطفاف الايديولوجي والدخول في مرحلة جديدة تتسم بالتنافس من أجل تطوير التصوّرات الفكرية والأخلاقية المشجّعة على مواجهة مخلفات الماضي بغرض التحرّر من مساوئه. وهو مجال خصب ينبغي على جميع الفاعلين السياسيين أن يعتبروا بأهميته متنافسين بحماس في اقتراح توجّهات سياسية مجدّدة تسمح بالإقلاع نهائيا عن المناكفة الأزلية والتسويّة إلى أسفل ورفض مبارحة منطق الانحياز لأخف الضررين، والحال أن تضافر الجهود من أجل صياغة ما أسمياه بـ "ديناميكية التميّز" لدى جميع المعتبرين بقيم الجمهورية كما النجاح في تخطي التدبير الخاضع كليّا للحتمية، بوسعهما أن يمكّنا التونسيين من الانخراط بثبات فيما وسماه بـ"عصر السرديات الإيجابية".

توصيف نقدي لأبرز مضامين الكتاب

تم تقسيم مضامين الكتاب منهجيا إلى محورين كبيرين: خُصص أولاهما وقد حمل عنوان "ما الصورة التي يتعين أن تكون عليها تونس في أفق سنة 2040؟" للوقوف عند مؤهلات البلاد وكيفيّة تحويلها تدرّجا إلى قطب انصهار ثقافي متعدّد الدلالات قابل للإدماج والتفتح، وباعتبارها أيضا "فردوسا" للطاقات المتجددة والنظيفة وللمنتجات البيولوجية ولسياحة الرفاه الخضراء، وجميعها أهداف تقتضي الإقدام على إعادة صياغة شاملة لمسألة تدبير الشأن المجالي بالحرص على مزيد عقلنته حضريا وجهويا والعمل على بعث أقطاب تخصّصية كبرى والتدرّج في الانتقال من مركزة الأنشطة الحيوية حول الشاغل التنموي الثقافي إلى محورتها حول القطاعات الاقتصادية، والنجاح تبعا لذلك في بعث عصب للتنمية المتضامنة يربط بفاعلية وذكاء بين شمال البلاد وجنوبها، وبين شرقها وغربها.
اقتضى التبسّط في مثل هذه الصيرورة تحديد كيفية انقلاب سُلم أولويات الفاعلين وتوضيح الأدوار الجديدة للدولة المبنية على التحكيم، والتوجيه، والقيادة السياسية، والتشريع، وللشركاء الاجتماعيين من باعثين، ومُشغلِين، ومُستهلِكين، وموظَفين، وللمجتمع المدني، وللمواطنين وللمحيط الدولي كذلك. في حين احتاج الخوض في توضيح ديناميكية الانتقال إلى تحديد طبيعة محرِّكها والحامل عليها والدافع للدخول فيها. كما شمل الاشارة إلى الطاقات المولِدة لها وقدرة تلك الطاقات على تغطية كامل المدة الزمنية التي من المنتظر أن تستغرقها مرحلة الانسلاخ أو التحوّل، فضلا عن الحاجة إلى تحلّي جميع الفاعلين بالقدرة على التآزر قصد بلوغ الأهداف المرسومة مع مزيد عقلنة الجهود المبذولة وتقسيمها إلى جملة من المحطّات تذليلا للمصاعب، وتوفّر قيادة حكيمة تتسم مختلف مبادراتها أو تصرّفاتها بالدراية المطلوبة. كما تحتاج تلك الديناميكية إلى رسم استراتيجيات تتضمن محاور مُهيكِلة ومُدمِجة قادرة على التعبئة والتقييم الجيّد للنتائج الجزئية التي من المؤمّل تحقيقها، وقراءة الواقع بشكل دقيق قصد الاستباق وتعديل المسارات تفاديا للكبوات وتطويرا للمكتسبات.
تم افراد المحور الثاني من الكتاب الذي حمل عنوان: "كيف يتعين أن يكون التونسي في أفق سنة 2040"، لاستجلاء أهمية التحوّلات المؤدية إلى الرفع من مستوى التنمية البشرية والارتقاء بسجل القيم الأخلاقية حتى تنسجم مع الحاجيات الجديدة للديمقراطية الناشئة المُعتبِرة بنهاية عصور الأيديولوجيات. ومن بين تلك الشروط التي أصر المؤلِفان على إثارتها تمّ التركيز بالخصوص على السيّر في الطريق الصعبة لبناء مصالحة حقيقية للتونسيين مع مؤسسات الدولة والبرهنة على أهليتهم للانقلاب إلى كمال المواطنة بما يتضمنه ذلك من حقوق ويقتضيه من واجبات.  كما شملت تلك الشروط تكريس مفهوم الديمقراطية التشاركية بالاحتكام إلى الشفافية والتعويل على الاستشارة والدفع باتجاه لامركزية القرار وترشيد الحوكمة والقبول بالمساءلة وتحمّل المسؤولية. في حين تم وصل تحقيق كرامة التونسيين بالتدرّج على درب الحصول على حقوقهم الأساسية في التعليم، والثقافة، والوصول إلى المعلومة، والصحة، والطاقة، والماء، والتنقل، والاتصال.
يتبيّن لنا من خلال استعراض المحاور الكبرى لهذا المؤلَف أن الهدف المعلن منه يبقى موصولا بالتفكير في أمثل السبل التي تمكن من إخراج البلاد من المنطقة الرمادية التي تردّت فيها حاضرا، ودفعها إلى الانخراط بثقة ضمن ديناميكية نماء جديدة تنسجم مع أفق سنة 2040. ويمر ذلك ضرورة بالعمل على بناء سردية إيجابية تستند إلى نمذجة استباقية تساعد القارئ على مغالبة جميع دواعي الهروب إلى الأمام أو السقوط في التغريب، وتدفعه بالتعويل على التخيّل الخلاق إلى الاعتبار بأن اختيارات الحاضر هي التي سيبني ما نتطلع إلى عيشه مستقبلا. لذلك يعتقد المؤلفان بأن أمر أي انتقال منظور موصول كأوثق ما يكون بعملية إعادة تفكير شاملة في اختياراتنا الثقافية والنأي نهائيا عن مواصلة الجدل العقيم والهابط الذي تتسم به ساحة الفعل السياسي تونسيا.
وحدها المقاربة الشاملة والمجدّدة للمسألة الثقافية على الشاكلة التي ارتضتها عبقرية مؤسس الدولة الوطنية تونسيا، بمقدورها أن تشكّل رافعة تنمويّة لجميع القطاعات، سياسية كانت أو اقتصادية واجتماعية، توافقا مع ما اقرّه "أندري مالرو" من أن "الثقافة لا تورّث بل تُكتسب".  فالمطلوب هو صياغة مشروع إصلاحي عميق للفرد من خلال تغيير شامل للواقع الذي يعيشه، والاعتبار بما يقتضيه ذلك التحدّي من كفاءة ومسؤولية. وهكذا فإن طرافة مشروع "التونسة" على حد تعبير المؤلفين تكمن في القبول بالانفتاح الداعم للاندماج والرافض لدواعي الاقصاء بالشكل الذي يحوّل تلك الحقيقة الماثلة إلى مكوّن أساسي في موروث التونسيين الثقافي أو في جيناتهم الثقافية. لذلك فإن مستقبل تونس لن يكون إلا في صفّ التعدّدية والادماج والتنوّع الثقافي مع استعصائه على الدغمائية والأحادية. فهذا البلد الصغير بوسعه تشرّب ثقافات الكون قاطبة دون أن يتخلّي عن جيناته الثقافية. لذلك فإن قوته الحقيقة تكمن في طاقته على الادماج وتطوّر تصوّرات نخبه واعتمال أفكارها التحرّرية، مع الاعتبار دائما بسِنة التحوّل.
لذلك فإن التساؤل الحقيقي الذي حاول المؤلفان اقتراح بعض العناصر الكفيلة بالإجابة عنه قد تمثل في أن الاعتراف بحصول ثورة حقيقة تونسيا مرتهن كأوثق ما يكون بقدرة التونسيين على مأسسة التنوّع وتسليط أضواء جديدة على ميراثهم الثقافي المترجم لجماليات عيشهم المشترك؟ أما آية ذلك فتكمن في مدى نجاحهم في تحويل بلادهم إلى أرض لقاء وحور وإدماج ثقافي وفردوسا أخضرا ومركزا لنشر قيم السلم والتدبير العقلاني للمجال، وانتقالها بالتدرج إلى محور اقتصادي وجيو-استراتيجي موجَّه بالكامل لخدمة التنمية المتضامنة.

ملاحظات برقية للإثراء والمساجلة الفكرية

لا مراء في أن مختلف الأفكار المعروضة ضمن هذه العجالة مهمّة ومثيرة للانتباه بل ودافعة إلى الجدل المخصّب للتصوّرات أيضا، فقيمتها الحقيقة موصولة فيما نعتقد في انخراطها التام في تركيب رواية تحمل أفقا حقيقيا للخلاص تخيّر لها المؤلفان تسميته "السردية التونسية الإيجابية". غير أن استحضار ذلك والعمل على بلورته بيانيا ضمن مختلف فصول الكتاب وجداوله التوضيحية، لا يجب أن يُلهينا عن حقيقة الواقع المتشعب الذي نحياه راهنا، سواء على الصعيد الكوني بعد أن تمكّن اقتصاد السوق المعولم الخاضع لنوازع رأسمالية متوحّشة من شطب صورة الدولة الكافلة لمواطنيها والقادرة على الحفاظ على سيادتها، وذلك لفائدة هيكل مفترس تحوّل وفي أقل عن عشرية من الزمن إلى دولة لّوبيات مالية مورّطة في دعم شبكات غامضة لا ترى أي غضاضة في التعامل مع المهربين ومحركي العصابات "المافيوزية". علما أن التحولات التي طالت العديد من الدول مع نهاية القرن العشرين وحال انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط جدار برلين قد أفضت إلى ضرب جميع آليات العودة إلى المؤسسات في العمق، مستعيضة عن جميع ذلك تدريجيا بإخضاع مختلف المعاملات إلى منظومات زبونية على الشاكلة التي تحيل عليها نماذج التنمية المشبوهة التي أفرزتها العديد من الأنظمة المرتهنة لسيطرة الشركات العابرة للقارات، سواء بالمجال المتوسطي والشرق أوسطي، أو بالكيانات الناشئة عن انهيار الأنظمة الشيوعية والاشتراكية بأوروبا الشرقية وبجنوب القارة الأمريكية.
فجميع تلك الكيانات الحادثة كونيا تعيش اليوم واقع متشعّبا يتسم بشدة التعقيد مع تراجع ملحوظ للأدوار الاستراتيجية التي تولتها المؤسسات العمومية القائمة على الخدمات القضائية والإعلامية والتأهيلية أو التكوينية وصناديق التأمين على المرض والمعاشات، تلك التي لم يعد بوسع جميعها مجابهة احتياجاتها أو نفقاتها بالقدر المطلوب من الفاعلية والجوّدة الضامنة لمدلول كرامة البشر. وهو ما ضخّم من شعور المنظورين وفقا لما عايناه تونسيا بعد أحداث بداية سنة 2011 بالمرارة والحرمان وتعاظم خيبة الأمل مقارنة بحجم الوعود والأوهام الأحلام التي راودت التونسيين حال حصول ذلك الحدث الفارق. فقد تم تجاهل شعارات الثورة وتراجعت سلطة الدولة وانحسر مدلول السيادة وضاق أفق الفاعلين السياسيين الذين اكتفى أغلبهم بالركون للمعالجة السطحية للمشاكل الهيكلية المتراكمة. واستشرت سيطرة الفئات العابثة بالقانون التي كادت تجهز على ما بقي من مقدرات الدولة وقُدراتها. وساهم مثل هذا المناخ الموبوء في عودة التصوّرات البدوية المزرية بجميع القوانين وبروز النعرات القبلية والجهوية والمِهنية الضيقة والتمسّك بتدين شعيرة شرّع جميع أشكال التجهيل والانتهازية.
على أن المعضلة الكبرى لا تتمثل على الحقيقة في غياب الأفكار المجدّدة التي يسمح تطبيقها بالدفع نحو تفادي الوقوع في المجهول على غرار الرفع من مستويات الادماج جهويا وتقليص مستويات التهميش وتطوير الاقتصاد التضامني والحدّ من هيمنة القطاعات التجارية الريعية وإحداث أقطاب تنمية أو قاطرات جهوية للنماء وإعادة النظر في تدبير الشأن الترابي وتلافي أزمة المالية العمومية بالانخراط في تصوّر شجاع وإرساء مسطرة جبائية عادلة ومتضامنة تحقّق قولا وفعلا الإدماج الضريبي مع إعلان قانون للطوارئ الاقتصادية يحمي مسار التنمية ويعبئ التمويلات العمومية الذاتية من أجل تطوير تجهيزات البنية فحسب، بل في القدرة على الاقناع بضرورة وضع حدّ لجميع أشكال المداورة والتحيّل والانتظام داخل شبكات غامضة وتفريخ أشكال جديدة من الزبونية غير الممركزة تلك التي قوّت إحساس أغلب الفاعلين الاجتماعيين والاقتصاديين بتفشي الفساد في مفاصل الإدارة وتشظي السلطة وانعدام حضور طرف قادر على حل المشاكل البسيطة قبل المستعصية.
لذلك فإن تدبّر مختلف مكونات "ورقة الطريق" التي اقترحها علينا مؤلفا "تونس في أفق سنة 2040: حلم في المتناول"، مُعتبرٌ من حيث علاقته بالثورة المنظورة في تفكير التونسيين أكثر من اتصاله بالبت في عدم قدرتهم على تجاوز إكراهات ما بعد الهزة العنيفة التي أخرجتهم من حالة الخوف والذهول تلك التي استسلموا لها صاغرين لعشريات متتالية./.

صدرت هذه القراءة النقدية في صحيفة المغرب التونسية بتاريخ 20 فيفري 2019. 



[i]  تضمين مستعار عن ديوان الشاعر التونسي مْحمد الغزي "كثير هذا القليل الذي أخذت".
[ii]  Ben Abbes (Hédi) et Toumi (Mohamed), Tunisie 2040 un rêve accessible. Apollonia Editions, Tunis 2019. 173 pages.