jeudi 19 octobre 2017

مقدسات ومحرمات وحروب: ألغاز الثقافة
















... لا مشكلٌ في الموت .. لا لغزٌ ..
الموتَ يعرف جيّدا ماذا يريدُ .. الموتُ أوضحُ ما يكونُ،
 المشكل الأبقى الحياةُ المشكل الأعصى الحياة"
منصف الوهايبي




      لم يدر بالخلد أن نتائج الملاحظة الميدانية في التمارين المتصلة بمعارف الأثنوغرافيا أو الأنثروبولوجيا بوسعها أحيانا الارتقاء بقرائها إلى الاشتراك في إدراك جوانب متشعّبة بل وعصية مما عاشته ولا تزال العديد من المجتمعات البشرية ساد الاعتقاد في بساطتها الظاهرية، حتى تابعت بفضول طفل البدايات ونضج المُكّب على تفكيك التراث الثقافي اللامادي الترجمة العربية الموضوعة أخيرا لمؤلف "مارفن هاريس" "مقدسات ومحرمات وحروب: ألغاز الثقافة"[i]. وهو أثر توليفي لظواهر هيكلية عاينتها مجالات حضارية قصيّة لعبت مشاهدات "هاريس" وملاحظاته حولها دور مبعض الجراح الذي يسبر الأغوار كاشفا لمتابعي أبحاثه وعامة قراءه - وبالتعويل على تأويلات طريفة غير مبذولة- جوانب مُغرية تفسّر بطريقتها ما وسمه الشاعر القيرواني منصف الوهايبي في قصيدته "شيء من الأبدية أو مديح الدينصورات" حقيقة الحياة باعتبارها "المشكل الأعصى" قياسا لبساطة الموت الذي لا يتوفر على أي لغز. وهو إغراء في الاستزادة حركّه الجهد الاستثنائي المبذول من قبل المترجم في نقل مضمون هذا التأليف بكثير من الأمانة، على الرغم من الحضور اللافت لصياغة مختلفة لعنوان الكتاب الذي حملت نسخته الأصلية المكتوبة بالإنجليزية عنوان: "أبقار وخنازير ومواجهات وسحرة: ألغاز الثقافة"، بينما اقتراح المترجم (أو قد يكون الناشر هو الذي أومأ له بذلك؟) عنوانا جديدا، فضّل - وفيما بدا لنا - التركيز على الأبعاد الثقافية والفكرية المُختَبَرة ونقصد "المقدسات والمحرمات والحروب"، من دون ربطها بمجالها الميداني المباشر الحاضر ضمن العنوان الأصلي. وهو ذات ما عاينته الترجمة الفرنسية التي اختزلت من جانبها العنوان الأصلي، مستغنية على لفظة "سحرة"، دون المساس ببقية العناصر أو المفردات الأخرى.    
يشكّل الموضوع المقترح ضمن عروض هذا الكتاب إطار تجريبيا حدّيّا سمح لـ "مارفن هاريس" بصياغة مختلف عناصر عرضه وفق منطق ردّ مختلف الظواهر البشرية المدروسة إلى تفسيرات مادية أو ايكولوجية بسيطة، حتى وإن بدت تلك التفسيرات غير متوقّعة بالنسبة لغير المختصين من قرائه. فقد دفع الكاتب بالشواغل المنهجية التي ارتكزت عليها تجريبية المدرسة الأثنولوجية الأنجلو-سكسونية إلى مداها الأقصى، غير عابئ بالتعارض في التوجهات بين هذا التيار المعرفي التجريبي ورصيفه المحسوب على التقليد الفلسفي الأوروبي الذي غالبا ما آثر تفسير ذات الظواهر بردّها إلى معطيات ثقافية معقّدة ومتشعّبة.  
قد نخطئ كثيرا لو يذهب في مطلق ظننا أن "هاريس" قد حاول ومن خلال هذا البحث أن يجعل من الحسّ الجيد أو من الحكمة الشعبية أسلوبا مخصوصا في المعالجة الأنثروبولوجية، حتى وإن عبّر هو نفسه وبشكل معلن وفي أكثر من مناسبة عن تحيّزه لوجهة النظر القائلة برد جميع الظواهر أو الأشياء إلى ما تبدو عليه في الطبيعة، إذ ليس من المجدي في شيء إقناع باحث على شاكلته بضرورة إعادة تقطيع الظواهر المختبرة، حتى وإن اتصل ذلك بخدمة حاجيات ابستيمية، والحال أن مؤلف هذا الكتاب من أكثر الذين اعتقدوا جازمين في الجاهزية الطبيعية للظواهر المدروسة للملاحظة والتأويل.
وبالفعل يعتبر "هاريس" أن كل ظاهرة اجتماعية تجد تبريرها الواقعي في بساطة الحضور أو الوجود، حتى وإن ثبت لديه ميدانيا أنه لا يتعيّن الاكتفاء في ذلك التبرير بالوجود الوقتي، بل يحسن بالباحث تعقّب امتدادها أو اتساقها الزمني. فقد تلاشت جميع الظواهر الوقتيّة على غرار اشتغال سكان المجالات الشرقية الحارة بتربية الخنازير، لأنه لم يسع أولئك أو قل لم يكن بمستطاعهم أقلمة ذلك النشاط مع مقتضيات المحيط وإكراهاته. فالظواهر التي تمكّنت من الاتساق في الزمن أو أظهرت قدرة على التأقلم مع المحيط هي التي طبعت، ومهما بدا أمرها غريبا أحيانا المشهدين الجغرافي والثقافي.
يصدق هذا التقدير وفق منظور "هاريس" دائما على الاعتقاد في قداسة الأبقار لدى الهندوس حيث يتوفّر حب "البقرة الأم" على شبكة من الرموز المقدسة والقيم الفاضلة التي ساهمت بلا جدال في حماية المزارعين الهنود من مختلف الحسابات الضيقة التي لا ينطوي منطقها غالبا إلا على توجّهات ِربحية سريعة جدّ مهلكة على المدى المنظور". ويمكن سحب نفس التفسيرات على الاحتفالات التي تسبق منافسات أو مواجهات هنود شمال غربي أمريكا، تلك التي تمثلت وظيفتها العملية في الحيلولة دون تراجع قوى الانتاج إلى مستوى متدنّي لا يسمح بالاحتفاظ بهامش معقول لمجابهة وضعيات سوء المحصول أو الخروج بأخف الأضرار في صورة حصول مواجهات دامية بين المزارعين. كما يلعب ذات المخزون دورا أساسا في الحدّ من ضراوة الأرزاء، حال حصول المساغب المترتبة على أشكال استغلال الأراضي الزراعية ضمن محيط يتسم بالهشاشة تعاين أوضاعه المناخية كثيرا من التقلّب ويقع غالبا عند الأراضي الجبلية المجاورة للسواحل أو على تلك التي يتم احياؤها على حساب البحيرات وعند سفوح المرتفعات ومساطبها". 
ما بنا حاجة للمبالغة في ربط تأويلات "هاريس" بالنزوع نحو المثالية، فالتوازنات التي وقف عندها لا تتجاوز ما وسمه هو ذاته بـ "برهان الدسامة" ويقصد توفر الأنظمة المعاشية على الحدّ المطلوب من القيمة الغذائية، إلا أن التقارب بين مادية مؤلف "مقدسات ومحرمات وحروب" وما تتوفر عليها الصيغ المبسّطة لنظريات فيلسوف المادية "كارل ماركس" يفرض نفسه على قارئ عمله، وخاصة حال تعلّق الأمر بالجوانب السلبية التي تفرضها البنى التحتية الايكولوجية، تلك التي تحول دون عدد من الممارسات باعتبارها تشكل خطرا على ضمان العيش وتواصل البقاء. فقد فسّر "هاريس" مثلا الوجه السلبي لتحريم الأناجيل وسور القرآن الإقبال على استهلاك لحم الخنازير باعتبار أن التوسّع في تربيتها يمكن أن يشكّل تهديدا واقعيا لسلامة المنظومة الايكولوجية الطبيعية والثقافية لبلدان المشرق الحارة. في حين اتصل الوجه الايجابي لذلك التوسّع في تربية نفس الحيوانات وفق ذات التأويلات التي عولت على استنتاجات "روي رابابور Roy Rappaport"[ii] في النظام الذي أحدثته مجموعة المارينغ Maring البابوازية بغينيا الجديدة Papouasie-Nouvelle-Guiné والمتمثل في إيجاد توازن طبيعي ناجع بين نمو الاجناس النباتية والحيوانية والبشرية وفقا للقوانين الايكولوجية التي صاغها ذكاء بني البشر (مُجسَّما في المهرجانات الضخمة لولائم أكل لحم الخنازير أو "الكايكو" التي تسبق لدى سكان غينيا الجديدة أو "المارينع" قيام المواجهات بين الأطراف المتنافسة، مُحيلة بتلك الطريقة على أفضل صُور الحرب في بدائيتها).
ليس هناك من شك في أهمية النتائج التي يمكن أن يجنيها الباحث في علم الانثروبولوجيا حال تواصله مع التقليد الذي ركّزته المدرسة الأنثروبولوجية الأمريكية منذ ظهور أبحاث "لسلي وايت Leslie White [iii]  حال الاشتغال على تدبير مسألة التوازن الاكيولوجي في تربية الأبقار والخنازير والتعرّض بدقة إلى أنساق الانتاج والاستهلاك وضبط كميات الماء المتبخّرة عن جلود الحيوانات نتيجة تعرّقها بالساعة والمتر المربع، إلا أن التركيز المبالغ فيه أحيانا على الجوانب الطبيعية على قيمتها التي لا تضاهى، لا يخلو من تصورات أحادية في قراءة مختلف المسائل المشار إليها. وهو ما قد يدفع الباحث إلى الذهول عن التعقّد المتزايد للظواهر في جميع مستويات هيكلتها تلك الجوانب التي ما انفكت دراستها تتسم بمزيد من الصعوبة. فالضرورة الايكولوجية المزعومة لتربية الخنازير من قبل جماعات "المارينغ" لا تسمح مثلا بالكشف عن طبيعة الأرباح الاقتصادية والرمزية أيضا الناجمة عن تشغيل آليات التبادل اللامتناهية التي تتخفّى وراء هذا النوع من الأنشطة الزراعية الرعوية، لذلك فإن التعلّل بالفرضية الموازية القائلة بإن عمليات التبادل الاقتصادية والرمزية لا يمكن لها أن تتحوّل إلى حاجز أمام إكراهات المحافظة على التوازنات الايكولوجية للمجموعة، لا تحتفظ في الأخير إلا بقيمتها كحقيقة طبيعية، كما هو الشأن لدى دراسة "الهمجية الذكورية" لدى مجموعة "اليانومامو" المحسوبة على الهنود الأمريكيين المقيمين على الحدود بين البرازيل وفينزويلا، أو تعقب رمزيات "مهرجان الشتاء" الذي سبق الكشف على استناده على تضخيم التنافس من أجل البروز أو الحصول على الحظوة من قبل الباحثة "روث بنديكت  Benedict, Ruth".
ولكي نستعير تمثلّا يحيل على مجال تخصّصي قريب من ذاك الذي اشتغل عليه مؤلفنا كثيرا ما يسقط العاملون فيه في ذات المطبّات، نشير إلى أن أيّ من الفرضيات التي انتجتها عبقرية المشتغلين على فهم أصول الكائنات البدائية لم تستطع مدنا بالسبب الموضوعي الذي يجعل الانسان وحده من بين "كبار القردة"، هو القادر على عرض حصيلة ملاحظاته بخصوص بقية الكائنات ضمن نص تركيبي مكتوب.
ومهما يكن من أمر فإنه ليس بمقدورنا إلا الثناء على مثل هذا النوع من التأويلات التي تبدو عبقرية كلما تعلّق الأمر بتفسير مستوى الانضباط الايكولوجي الذي اتسمت به العديد من أنظمة تربية الحيوانات كالأبقار أو الخنازير داخل المجتمعات التقليدية، مركزية كانت أم طرفيّة. [iv] غير أن مستوى الإجرائية الذي تتسم بها تلك التأويلات يتضاءل حال فتح المؤلف وضمن بقية فصول كتابه ملفات جديدة تبتعد عن أنساق الإنتاج لتعمل على تفسير ظواهر بشرية وثقافية أخرى، على غرار انتشار الديانة المسيحية (ضمن الفصول الموسومة بـ "عقيدة الأحمال الوهمية" و"المخلّصون" و"سرّ أمير السلام")، وملاحقة الساحرات (في الفصول الثلاثة الموسومة بـ "عصا المكانس" و"مجمع السحرة" و"هوس السحر الأكبر")، والرواج المذهل للتوجهات الاشراقية ضمن كتابات "كرلوس كستاندا"[v] الذوقية المعوّلة على قوة التأمل والتأويل الباطني للظواهر ضمن الفصل الموسوم بـ"عودة الساحرة".
يتراجع حماسنا بشكل ملحوظ في مواصلة التعرّف على فحوى الفصول الأخيرة حال اشتغال "هاريس" على جوانب تتصل بـ "الثقافة المضادة التي ستنقذ العالم من "أساطير الوعي الموضوعي" وفقا لتصوّرات أحد "أنبياء حركة الراشدين تيودور روزاك"، وذلك إلى حدّ الخشية من سقوط مختلف تأويلات المؤلِف بهذا الصدد في نفس التوجهات الفكرية التي طبعت تقليدية الجنس الموسيقى المعروف بـ "الكونتري والوسترن Country and Western"، بحيث يُعلي مجمل التمشي المعتمد من قبل "الانثروبولوجي الايكولوجي" من قيمة التفسيرات أو التأويلات المستندة على الحتمية الطبيعية تلك التي لا تخلو وفي حالات عديدة من بعض ساذجة خاصة لما نجد أنفسنا نستعيد وبطريقة لا واعية المقولة المشهورة: "كل شيء على ما يرام ضمن عالم يحصل فيه كل فرد على ما هو أهل له" [vi]./. 
 (صدرت هذه القراءة ضمن عروض موقع "ضفة ثالثة" بتاريخ 15/ 9 / 2017).                 
         


[i]  هاريس (مارفن)، مقدسات ومحرمات وحروب ألغاز الثقافة، ترجمة أحمد م. أحمد، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة - قطر 2017. (الطبعة الأولى).
Harris (Marvin), Cows, pigs, wars and witches : The riddeles of culture, Random House, New York 1974.
مارفن هاريس (1927 - 2001) انثروبولوجي أمريكي درّس بجامعتي كولومبيا وفلوريدا تدور مختلف أبحاثه حول إشكاليات تحيل منهجا على "المادية الثقافية matérialisme culturel" بينما شكلت أتنولوجيا سكان غابات "باهية" بمنطقة الأمازون البرازيلية وسكان جزر الموزمبيق الإفريقية مجال بحوثه الميدانية الكبرى. ومن تأويلات هاريس الأكثر شيوعا رد أكل قبائل الأزتيك المكسيكية لحوم البشر بالأساس إلى ضعف نسبة البروتينات ضمن أنظمتها الغذائية.
أما مترجم هذا الكتاب إلى لغة الضاد فهو محمد م. أحمد وهو شاعر ومترجم سوري يعيش بكارولينا بالولايات المتحدة الأمريكية. ترجم من الإنجليزية إلى العربية العديد من الآثار القيمة التي كتبها "بول أوستر" و"تشارلز سيميك" و"ديريك والكوت"، و"ألبرتو مانغويل"، و"مارفن هاريس"، و"بيلي كولينز"، وغيرهم كثير.       
[ii]  عاش "روي راببور بين 1926 و1997 وساهم في تطوير أنثروبولوجيا الطقوس والأنثروبولوجيا الإيكولوجية ومكنت أبحاثه من البرهنة على حضور علاقة في الاتجاهين بين الثقافة والاقتصاد، احتل ضمنها الطقس دائما دورا محوريا. 
[iii]  عاش "لسلي وايت" بين 1900 و1975 ودرّس بجامعة ميشغن الأمريكية حتى سنة 1970. وهو من المحسوبين على تيار المادية الثقافية ومن المدافعين -حتى وإن نفى ذلك- على النظرية الجديدة لتطوّر الأجناس. أثرت كتابته بشكل لافت في العديد من كبار المشتغلين بالأنثروبولوجيا مثل مرشال ساهلينس Marshall Sahlins ومارفن هاريس. وترتكز نظريته التي عرفت لدى الدارسين بـ"قانون وايت" على أن كل تطوّر ثقافي مرتبط بكمية الطاقة المتوفرة لكل فرد وخلال السنة الواحدة.     
[iv]   حول الفرضيات الانثروبولوجية المشتغلة على الجوانب الطبيعية والتوازنات الايكولوجية يمكن العودة إلى مساهمة O. K Moore « Divination. A new perspective »    (التقديس: تطلّعات جديدة ) وذلك ضمن مؤلف جماعي يحمل عنوان "السلوك البيئي والثقافي" أشرف عليه A. P. Vayda, Environnemental and Culturel Behaviour, New York, The Naturel History Press 1969, p. 121 – 129.   
[v]  عاش كرلوس كاستايندا Carlos Castaneda بين 1925 و 1998 في لوس أنجلس بكاليفورنيا وتعرضت مؤلفاته إلى التكوين المسرّي الذي تلقاه عن شيخه أو مربيه "ياكي Yaqui" "دون خوان ماتوس" في المعرفة الذوقية والعلوم التأملية المرتكزة على مزيد التعرف على الباطن. وشكلت مؤلفاته "كُتب شباك" جد مشهورة بِيع بعضها في 28 ملون نسخة وتُرجمت إلى ما لا يقل عن 17 لغة على غرار "دروس دون جوان (ماتيوس)" الصادر سنة 1968 والذي حملت ترجمته الفرنسية عنوان: "عشبة الشيطان والدخان الصغير" أو "قوة الصمت" الصادر سنة 1987 أو عجلة الزمن" الصادر سنة 1998 و"السفر النهائي" وهو كتاب صدر سنة 2000 بعد سنتين من رحيله الأبدي.
[vi]  تم الاستناد في وضع هذا العرض وبكثير من التصرّف على القراءة التي صاغها "بول جوريون" ونشرها ضمن دورية "الإنسان أو المجلة الفرنسية للأنثروبولوجيا Homme, Revue Française d’Anthropologie"، المجلد عدد 16، العدد 4 لسنة 1976، ص ص، 161 – 162. M. Harris, Cows, Pigs, Wars and Witches. The Riddeles of Culture
انظر الرابط ضمن موقع Persée " الالكتروني.
http://www.persee.fr/doc/hom_0439-4216_1976_num_16_4_367707