mardi 10 mars 2020

مع سبق الاصرار والترصد











       قلّب محمد القاضي الأستاذ الجامعي المختص في اللغة والآداب العربية في أوراق الناقد الأدبي فعثر على مقاربات أنجزها بحقّ مجموعة من الروايات التاريخية العربية في الفترة الفاصلة بين موفىالقرن الماضي وانقضاء الخمسية الأولى من القرن الحالي.
تكاملِ عروض هذه المقاربات وتجانس الأغراض المطروقة داخلها هو ما دفع بمؤلف هذا الكتاب إلى عرضها بالصيغة المقترحة على قرائه علّهم يفكّكون من خلال الاطلاع على مضمونها النقدي المتوهّج جوانب هامة من شفرة الخطاب الروائي التاريخي العربي من خلال عيّنات أدبية روائية امتدت عملية اجتراحها على ما شارف النصف قرن.
فمن أجواء “محروسة” تونس المنكوبة بدخول الأسبان والأتراك في روايتي “بلاّرة” و”برق الليل” للبشير خريف تقصّى محمد القاضي الأجواء الكدرة لـ”محروستي” القاهرة وغرناطة زمن انهيار المماليك البُـرجية بمصر وأفول الدولة النصرية بالأندلس في روايات جمال الغيطاني ورضوى عاشور. ولا يطول مقامنا في هذه الحواضر المسلوبة المغلوبة على أمرها بعد أن ابتلاها الزمان بأرزائه وأشاح التاريخ بوجهه عنها، حتى يطوّفنا الناقد سالكا بنا التعاريج المؤدية لمنافي “كتاب الأمير…” و”تغريبة أحمد الحجري” لواسيني الأعرج وعبد الواحد براهم. “تغريبة” أو “ساقا” لفّق “براهم” مضمونها أدبيا من رحم كتب صفراء مبللة بعرق متداوليها، سردت على قرّائها يوميات سنوات الجمر وجحيم محاكم التفتيش ولعنة الطرد من الفردوس المفقود، ومنافي بعيدة على الضفة المقابلة اختارها واسيني الأعرج إطارا انزوى داخله أمير جزائري قاوم توحش الاستعمار الفرنسي، في صحبة مفارقة لها أكثر من دلالة جمعته بأسقف مسيحي، لتأمل مزالق تجربة سلوكه النضالي.
ما علاقة التاريخ بالرواية ؟ وأي رهان هو ذاك الذي يُقدم عليه كاتب الرواية التاريخية حال دخوله ومن بوابة الإلهام الفني فيما وسمه محمد القاضي بـ”تخييل المرجعي” ؟
هذه ببساطة شديدة الأسئلة التي رام مؤلف هذا الكتاب الإجابة عنها متمحّضا في ذلك جملة من الأدوات التحليلية النقدية المتصلة بتخصصه البحثي دون إغفال التدقيق بشأن  حقيقة الأخبار الواردة ضمن العينات الروائية التي اشتغل عليها في أمهات كتب الأخبار وبحوث المؤرخين أيضا.
فلئن تموقعت الرواية التاريخية غربا ومنذ مطلع القرن التاسع عشر بين “مشاكلة الزمان والمكان لسرد ما كان يمكن أن يكون” أو بلغة بخلاء الجاحظ “ما يجوز أن يكون في الناس”، وبين انعكاس أسئلة الحاضر وشواغله الراهنة في الأثر الروائي، فإن ذهاب “هنري بيراس Henri Pérès” إلى القول بأن المروية التاريخية في حكايات “عنترة بن شداد” و”سيف بن ذي يزن” و”الجازية الهلالية” لم تنتظر هذا الزمن المتأخر لملأ أسمار العرب الطويلة، لا ينفي إعادة زرع الرواية التاريخية نباتا مأخوذا من تربة الغرب في حقل الثقافة العربية منذ “زنوبيا” سليم البستاني في بداية سبعينات القرن التاسع عشر.
يكمن قدر الرواية التاريخية إذا ما استقام ما وسمه محمد القاضي بـ”تخييل المرجعي” إذن في طاقتها المذهلة على إيهام قرائها بقدرتها على توليد المعنى من تجاويف سكوت سجلات الأخبار وصمتها عن ذكر الوقائع. غير أن نمط إنتاج الحقيقة في تشكيلها كنص إبداعي وإذا ما أدركنا ما انجلت عليه مقاربة المؤلف لروايتي “الزيني بركات” و”غرناطة” يتوسل مشاكلة الخبر روائيا والقدرة على تحويله عبر ما أسماه بـ”المرآوي والتمثيلي” إلى شكل من أشكال معارضة الخبر أدبيا، إما باستدعاء الماضي لمزيد التبصر بالحاضر أو بالتجاور معه لاستدراك ما أهمله والتكشّف تبعا لذلك على حقيقة الإنسان.
بهذا المعنى تصبح الرواية التاريخية مثلما أكدت على ذلك الدراسات المختصة أنسب مجال لتحقّق جدلية “الواقع” و”الممكن”. ولعل في تساوق هذا المقصد مع ما أعرب عنه “ميلان كوندورا” لما سئل حول ما نعته تعريفا لفن الرواية حاضرا بـ”إرث ثربنيس الحقير” بـأنها “حكمة اللايقين” ما يدعونا إلى مزيد التدقيق في منـزلتها المعرفية كخطاب يتوفر، وكغيره من الخطابات المعرفية المضارعة له أو المختلفة عنه، على مصداقيته الخاصة.
فعندما يستلهم “كوندورا” مثلا نظرة “مرتان هيدغر” للوجود بوصفه “كينونة في العالم” فإنه يرمي من وراء ذلك إلى وضع تعريف بسيط وعميق للرواية في آن، مفاده أنها أبلغ مجال لاستكشاف الوجود شاعريا. فقطب الرحى في الرواية هو دفع الظروف التاريخية إلى خلق وضع وجودي جديد لشخوصها يمكّن من فهم التاريخ وتحليله في حد ذاته بوصفه وضعا إنسانيا ذا مدلول وجودي. لذلك لا يحتاج قارئ “ثربنتيس” غالبا إلى التعمق في معرفة تاريخ إسبانيا بل هو مدعو في قراءة آثاره أو آثار غيره الروائية من بوكاتشيو مرورا بـ”رتشاردسون” و”قوته” و”ستندال” وصولا إلى “بروست” و”جويس” و”كافكا” وحتى “بروخ” و”كوندورا” و”إيكو” أيضا إلى المسك بعموميات مغامرة أوروبا التاريخية منذ تأسيس إمبراطورية “شارلمان” حتى حاضرها المجسم في إتحادها الأوروبي.
المطلوب واقعيا هو فهم ما في الرواية، فالتاريخ يقص علينا أحداثا نملك براهين موضوعية عن حصولها بصفة ما في الواقع، في حين أن أحداث الرواية وتشعّباتها لا تحتاج في وجودها إلا لعرض نفسها كإمكانية إنسانية قابلة للحصول. فالروائي “يرسم خريطة الوجود أثناء اكتشافه لإمكانيات غير معروفة تعكس أعماق العالم الإنساني”.
غير أن اختلاف الجنسين لا يلغي حضور تداخل بينهما يقوم بالأساس على إقحام كاتب الرواية التاريخية لأجواء الوقائع تعميقا لأبعاد نصه الوجودية، متمحّضا في ذلك أعقد أشكال الدهاء والمخاتلة، مع سبق إصرار وترصّد لا حد لهما.
يعود محمد القاضي إلى المدلول الإبستيمي لصناعة التاريخ عند حكماء الإغريق وقدامى المؤرخين ومحدثيهم للتساؤل عن حدود أولوية الوثيقة إزاء أولوية الإشكالية، فيتبين له تلاقي الخطاب الروائي مع رصيفه التاريخي في ماهيتهما الإيديولوجية. فالتخييل ضمن فن الرواية يتم في ضوء قناعات المؤلف ورؤيته الكونية، أما تركيب الوقائع في صناعة التاريخ فيُستدعى للتبئير حول القيم الراهنة. تداخل الصناعتين في الرواية التاريخية هو الذي شرّع من منظورنا تساؤل مؤلف هذه المقاربات عن حدود ما وسمه بـ”التواشج” و”التنافذ” و”المناورة” و”الاستظلال” و”التحويل” بين “الفن والواقع، بين الجمالي والمرجعي، بين الحاضر والماضي”؟ مثول التاريخ في الرواية التاريخية ممتزجا بالمتخيل أو اندغام الواقعي والمتخيل هو الذي رصده محمد القاضي من خلال تعقّب كيفية اشتغال عدد من الروائيين العرب الذين فتنتهم الوقائع التاريخية فتلقفوها في أدق تفاصيلها عامدين إلى إعادة دسها وفق أحبولة تمتزج داخلها أصول الحرفة بكيمياء الإبداع، ويشتبه على العارفين بسجلات التاريخ أنفسهم فصل الخبر فيها عن المتخيل. فلئن ذهب “الغيطاني” في معارضته لكتاب “ابن إياس” إلى حد التماهي والحلول في النص التاريخي روائيا، فإن تفنن “خريّف” في دسّ مادة الخبر ضمن رواياته التاريخية إلى حد الرقش بالصورة الحية والتجسيم هو الذي حيّر “الطاهر الخميري” وهو من أكثر التونسيين علما بتراثهم اللغوي وأجبره في غواية دالة على تفضيل التخيل على الخبر معتبرا قصة “برق الليل” أقرب إلى الحقيقة من الخبر في الروايات المتواترة والمنقولة ضمن “مؤنس” ابن أبي دينار.
والغالب على الظن وفقا لما أفصحت عنه عملية استكشاف “فوزي الزمرلي” لـ”مخبر” البشير خريف زمن نحته لرواية “بلارة” أن تلقّف الأخبار ورصد الوقائع وحدهما لم يُشبعا نهم المؤلف لولا عثوره على “مرآة النور” – وهو تضمين للدلالة حال في عنوان الرواية نفسها- التي مكنته من فك شفرة الحرف والقراءة حتى شفاء الغليل. يكتشف “خريّف” وهو يتعمد مخاتلة قرائه فجأة أن حدود خطاب كتب الأخبار والوقائع وجموح الرواية التاريخية إلى صناعة أفقها المستقل بذاته أمران مختلفان لأن الرواية في استكشافها لكينونة الإنسان ومعنى وجوده لا تأبه بالسطح ولا يشفي غليل مبدعها غير التوغل بعيدا في سمك المساحة البشرية مشغّلا في تعامله مع الوقائع مهارات فائقة تقوم على الاختزال والحذف والجمع والاستبدال، مضْفيا بذلك على السرد خفّة لا حد لها تحيل على حكمة “اللايقين” حيث الـهُزء في أشد مواضع الجد وطأة على ضمير القارئ، وهذا لو ندري مجال تجاذب وتداخل بين صناعة السينما على شاكلة ما أبلغ في التعبير عنه المخرج الإيطالي “بانيني” في شريطه “الحياة حلوة La vie et belle” مثلا وفن كتابة الرواية التاريخية حاضرا.
لكن ما علاقة التاريخ بالرواية عندما يعيد الروائي تكييف الوقائع دافعا بها إلى قول ما لا تستطيع مادتها الخبرية قوله ؟ يحاول محمد القاضي الإجابة عن هذا السؤال بالتعويل على مقاربة معيارية تكشف عن طريقة اشتغال مؤلفي “كتاب الأمير: مسالك أبواب الحديد” لواسيني الأعرج و”تغريبة أحمد الحجري” لعبد الواحد براهم. لم يتم استدعاء الوقائع والأخبار في هاتين الروايتين فحسب بل نهض هيكل الرواية برمته من داخل الأثر المصدري. فقد خرج “كتاب الأمير” من معطف المقابلات التي جمعت “مونسينيور دوبيش :  Monseigneur Dupuch  بالأمير عبد القادر وهي مقابلات جمعها أسقف الجزائر في كتاب “عبد القادر في قصر أمبواز” الصادر سنة 1849 وأهدى نسخة منه لـ”لويس نابليون بونابرت” لإقناعه بفك أسره وتسريحه من منفاه. بينما خرجت تغريبة عبد الواحد براهم من كتاب أحمد الحجري “ناصر الدين على القوم الكافرين” وهي صيغة مختصرة لـ”رحلة الشهاب إلى لقاء الأحباب” ذلك الأثر المفقود الذي رفع “براهم” رهان استكشافه روائيا واستعادة شخوصه في صيغة “خلاسية” لرواية ترفع تحدي كسر الفواصل بين التخييل وبين الواقع.

البحث في الأوراق القديمة والكتب الصفراء وإعادة تشييد عمرانها داخل حكاية متعددة “الأبواب” و”المسالك” و”الأميراليات” و”الوقفات” وفقا لتقنية “التغوير la mise en abîme” حتى تتراكب الحكايات وتسلم كل قصة القارئ إلى قصة جديدة تساوقا مع ما وسمه محمد القاضي بـ”التخييل التوسيعي” الذي ينطلق من الوثائق ساعيا إلى إعادة بنائها عبر التصوّر، نجده متلبسا بنص رواية “التغريبة” أيضا كما صاغتها عارضة عبد الواحد براهم حيث تعددت الأبواب في “ساقا” أحمد الحجري فنقلته الأقدار من “باب الأندلس” إلى “باب مراكش”، “فباب أوروبا” ليحط الرحال “بباب تونس”. ورغم تقدم الكاتب في خطته المبيتة والممنهجة من وراء الأقنعة السميكة داخل المتاهة التي يُمسك وحده بأسرار معابرها، فإن ما يفعله يعيدنا بطريقته الخاصة إلى صناعة التاريخ. فلو تساءلنا لحظة عمّا إذا أخفق المؤرخ في حدس اتجاه المفهومية بعد إلمامه بـمُتاح الأخبار والشواهد والوثائق واللُقى، فإن ما يعرضه على قارئه لن يتجاوز ترداد ما حملته تلك الشواهد. لن يركّب وفقا لاتجاه المعقولية وبدهاء ومخاتلة لا حدّ لهما أيضا فرضيات ترقى إلى مستوى الجاذبية والطرافة وتجيب في نفس الوقت عن تعقيدات استمارته ونهم قارئيه لمعرفة أحوال من سبقوهم بأسئلة حاضرهم وحدها. فما صلة الحدس التاريخي والحال على ما بيّنا بالإلهام الروائي ؟ قد يكون للمخاتلة إذا ما تنبهنا مليا وقلّبنا أوجه الشبه بين الصناعتين دور ما في ذلك، غير أن القارئ ساعة توغله وانسجامه مع “الأثر” في مدلوله الواسع والعميق لا يرغب مطلقا في مفارقة أنيسه حتى وإن علم مسبّقا أن خلف ذلك الأنيس من يتربّص به مع سبق الإصرار والترصد، فالإقلاع عن تلك المتعة إيذان صريح بالرجوع مجددا إلى جحيم عالم الشهادة والناس .

(عرض تقديمي لكتاب محمد القاضي، بين الرواية والتاريخ، الصادرعن دار المعرفة بتونس سنة 2007).


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire