dimanche 8 mars 2020

حوار مع مجلة ذوات صدر ضمن عددها الواحد والستين


















1 - في أعمالك الأخيرة، وبالخصوص في كتاب "بين الذاكرة والتاريخ"، يظهر اهتمام أكبر بكل ما هو نظري قبل الدخول في ما هو تأريخي. لماذا هذا التأكيد على البعد النظري؟
       يمكن أن يحصل مثل ذلك الانطباع المتصل باعتماد نوع من التكثيف اللغوي والمعالجة النظرية لدى عامة القراء من غير المتخصصين، غير أن طبيعة التمرين الذي تساءل وفق عروض جمعت أربعة فصول، استقصت تباعا أشكال التعبير عن التعسّر إدراك مدول الأزمة، وتحديد طبيعة العلاقة التي ربطت ساكنة مجال المغارب بمؤسسة الدولة الترابية الحديثة، كما خاضت في كيفية تمثل المجال بالتعويل على المواضع الروحية، منتهية في خاتم فصولها إلى توضيح صعوبات الاندماج وتوسيع مدلول الانتماء في علاقة العناصر الوافدة بتلك التي استقرت من قبلها بمختلف أوطان المغارب. ولا مراء في أن تلك المعالجات المتنوعة والمتضامنة قد عولت على متون متنوعة الأجناس يحيل جميعها على ما سمّي بـ "الاستوغرافيا التقليدية" التي عكست طبيعة الثقافة العالمة العربية الإسلامية عامة والمغاربية على وجه التخصيص، مُشددة على موقع الذاكرة الجماعية في تشكيل ما قد يستقيم تسميته بتاريخ الـمُتمثِّل ودوره في تطوير المعرفة التاريخية، هو ما استوجب في تقديري الشخصي ذلك التوطين النظري المستفيض، قبل تنزيله في شكل معالجة تطبيقية حاولت البت في سياقاته التاريخية وخطاباته الفكرية.
2 - الملاحظة الثانية تتعلق بكون المرجعيات النظرية هي بالأساس فرنسية (هالفاكس، ريكور..)، هل ترى بأن المدرسة التاريخية الفرنسية كافية لتطوير الكتابة التاريخية العربية؟
هذا ليس دقيقا، حتى وإن كانت القراءة والكتابة في تلك اللغة أيضا مسألة لها آصرة بالثنائية اللسانية والازدواجية الثقافية، وهو ما لا يتعارض في تصوّري مع متابعة التراكم المعرفي في غير الفرنسية بالعودة إلى التراجم أو/ وقراءة ما يتم نشره في اللغة الإنجليزية مباشرة. على أن أصالة المدرسة الفرنسية التاريخية منهجيا وموقعها ضمن دورة الإنتاج التاريخي الكوني مسألة لا تحتاج إلى مزيد توضيح، بيد أن المنعرج الثقافي أو اللساني الذي عاينته الدراسات التاريخية وخاصة ضمن منجز المؤرخين والمشتغلين على المعارف الإنسانية والاجتماعية بالجامعات ومراكز البحث الأنجلوسكسونية تدعونا إلى مزيد الاطلاع على مُنجزها بل والعمل على الانخراط في ديناميته والاستفادة من مكاسبه وإعادة تملّك أو/ وأهلنة مناويله المنهجية. وهي نماذج بحثية طالت مستويات تحليل تحيل على تاريخ الحس والمحسوس على غرار ما أنجزه "ألان كوربان" في مؤلفاته الكُثر حول تاريخ السمع وتاريخ المذاق وتاريخ الروائح، أو ما ألفه "روجي شارتي" بخصوص أهمية الاعتبار بالثقافي في توضيح الموقع الاجتماعي للأفراد كما الجماعات من خلال تشغيل آليات الصراعات بين الأجيال ودور النوع الاجتماعي وغيرها من العناصر المحايثة، تجاوزا لرد الاختلاف إلى الانتماء الطبقي دون سواه. على أن مبلغ تلك النقلة المعرفية المتصلة بما وسم بالمنعرج الثقافي في الدراسات التاريخية يحيل على علاقة الفعل المدني بالثقافة السياسية وأهمية فضاءات الاختلاط والوساطة وديناميكية الانتقال وأشكال مرور المعارف أو التجارب في تعيير ثقافة الفعل السياسي، كما هو ماثل ضمن العديد من دراسات "جون فرنسوى سيرينلي" على سبيل المثال لا الحصر.
3- هل يمكن اعتبار عملك الأخير "أخبار التونسيين" بمثابة الامتداد لأعمالك السابقة، أم أنه يشكّل قطيعة معها، خصوصاً وأن انشغالك الأبرز قد تمثل في التجسير زمنيا بين العهود الوسيطة والعهود الحديثة عبر مسائلة مدونات المناقب المغاربية؟
أعتقد أن مشروع مراجعة السردية الجماعية التونسية بشدّها إلى مختلف انتماءاتها زمانيا ومكانيا، رهان يتوافق مع سياقات ما بعد نُقلة أو/ و"ورطة" حلول سنة 2011 تونسيا، لذلك تم تحويل الاهتمام إلى مركبات تلك السردية قصد الاسهام في إعادة تشييدها، حتى وإن تواصل وفي تقديري الخاص الاشتغال على القراءة في تاريخ التمثلات وفتح ملف التاريخ الثقافي بمختلف مفرداته التي تحيل على شواغل غير مبذولة وعلى نماذج تحليل جديدة، تطلبت عملية أهلنتها توظيف مصادر مخصوصة مكّنت من ارتياد مظان لم يسع بلوغها من دون الاقدام على مراجعتها مجددا، وذلك بغرض تطويع مضامينها لإتمام المعالجتين السياقية والتفكيكية التي تحيل على نقد الخطاب. فقد تم التعرض ضمن هذا الكتاب إلى أربعة مستويات للتحليل انفتحت على الزمن الأسطوري من خلال مساءلة الخرافات والأمثال الشعبية التونسية والزمن المجالي من خلال مقاربة بناء السردية الجماعية التونسية وتوسيع أفقها بالاستناد إلى العروض الواردة ضمن كتاب "مفتاح التاريخ" لأب النهضة التونسية الثاني (بعد خير الدين التونسي) "محمد البشير صفر" (ت 1917). كما تم البت وضمن بقية الفصول في انتقال التونسيين من التقويم بالزمن الديني إلى اعتماد زمن الرزنامة، وفقا لما وجدناه ماثلا ضمن أعداد "الرزنامة التونسية" السبعة عشر للمؤرخ التونسي محمد خزندار (ت 1943)، وكذا ضمن كتاب "الأدب التونسي في القرن الرابع عشر"/ العشرين بالتقويم الملادي، وهي أول موسوعة أدبية تونسية خطها بمواصفات حديثة الأديب التونسي زين العابدين السنوسي. على أن الخوض في خصوصيات الشخصية التونسية قد ألجأنا من ناحيته إلى مراجعة عرضين مهمين بهذا الصدد خطهما كل من محمد بن عثمان الحشايشي (ت 1912) في كتابه حول العادات والتقاليد التونسية و"أندري ديمرسيمن" (ت 1994) في مقالاته الكثيرة حول شخصية التونسيين وطبيعة أيامهم وأعمالهم.
عموما شكل الاشتغال على مثل هذه المسائل نقلة نوعية تمثلت أساسا في تقييم محتويات السردية الوطنية ومراجعتها وفق شبكة تساؤلات جديدة تسمح بإعادة تركيبها وفق منوال جديد يشرع البحث عن أزمنها المفقودة قصد العثور على صيغ مفارقة في كتابتها لا تعمد إلى القفز على ما سواها بقدر ما تشاكله وتشيّد عروضها بالتعويل على مادته ومن داخل روايته وبجانبها ومن خارجها في آن.  
4 - لديك أعمال كثيرة، بعضها أصبح مرجعياً حول موضوع تاريخ التصوف ودور الأولياء، على غرار "كتاب السير" و"أخبار المناقب"، و"مغرب المتصوّفة". كيف تقيّم هذه الأعمال اليوم؟ ولو أنك أعدت نشرها، هل ستفكّر في إعادة صياغتها؟
أعتقد أن مختلف البحوث التي ذكرتها وغيرها أيضا قد حاول اختبار متونه المصدرية من بوابة معالجة المتمثَّل التاريخي، وذلك بالتعويل على تصوّر مقارن انتحى إراديا توجّها أفقيا طال المجالين التونسي والمغربي بالأساس. وما من شكّ في أن جميع تلك الأبحاث قد استوفت موضوعيا أفقها المعرفي، وذلك بصرف النظر على الهينات التي تسربت إلى محصلتها المعرفية بالضرورة. ومع ذلك فإن الاقدام على إعادة نشر تلك العناوين أو غيرها قد تخطى مستوى التفكير والتقدير ومرّ إلى التكريس الواقعي، وذلك من خلال صدور صياغة جديدة (مختصرة ومحيّنة) لمؤلف "مغرب المتصوّفة" في أواخر سنة 2018.   فقد تم اختزال محتوى الأطروحة وتخفيف جهازها النقدي، حتى يتمكن القراء من التعرّف على مختلف تساؤلاتها واستيعاب مجمل الاستنتاجات التي توصلت إليها. كما أقدمنا على إضافة فصل جديد حمل عنوان "الانتظام الصوفي حاضرا: تاريخ المتمثل" توقف عند واقع التصوّف وزواياه تونسيا بعد سنة 2011، وذلك بالتعويل على نتائج استجواب ميداني حول ظاهرة التصوّف أنجز سنة 2015 وظفناه لإنجاز عروض عالجت الظاهرة من بوابة التجسير بين الآماد لفهم أبرز التحولات التي طالتها وتحديد طبيعة حاجتنا إلى التصوف حاضرا.   كما أننا نستعد لنشر طبعة تونسية جديدة لكتاب "بين الذاكرة والتاريخ" حدّد موعد نشرها بشهر فيفري من السنة الحالية 2020.       
5-بشكل عام، كيف ترى علاقة الكتابة التاريخية اليوم مع دور النشر؟
تزايد منذ تسعينات القرن الماضي الاهتمام بمنجز المشتغلين معرفيا بالعلوم الإنسانية والاجتماعية، وساهمت العديد من دور النشر المعروفة تونسيّا ومغربيّا ولبنانيّا وغيرها (الناشطة بألمانيا ولندن) في التعريف بالعديد من البحوث المهمة بل والفارقة أحيانا، تلك التي صاغتها أقلام تحوّلت بالتقادم إلى علامات معرفيّة مهمّة. كما أن حصول بعضها على جوائز تقديرية مرموقة قد وسّع مجال الاطلاع على مضامينها من قبل عامة القراء، مطوّرا مستوى إنتاج الدلالة في البحوث وخاصة تلك المنشورة في اللغة العربية. غير أن مثل ذلك الجهد على أهميته التي لا تجادل لم يتحوّل إلى تقليد يُنبئ عن حصول نقلة فارقة في هذا المجال، لا سيما وأن فتور الاهتمام بمشاغل المعارف العالمة عامة والإنسانية والاجتماعية على وجه التخصيص لفائدة التأليف في أجناس أخرى كالمقابسات ذات الشواغل المتصلة بالقضايا الراهنة التي اتصلت بشكل يكاد يكون آليا بمسألتي الإسلام السياسي والهجرة غير القانونية، أو/ واجتراح النصوص الإبداعية وخاصة الروائية، قد زاد في التعتيم على متابعة تحوّلات المنجز المعرفي التاريخي بمختلف فروعه ومكاسبه حاضرا.    
6-تراوح بين اللغتين العربية والفرنسية في الكتابة. كيف تختار بينهما حال الشروع في صياغة مؤلف جديد؟ وكيف تجد أثر هذه الازدواجية على إنتاجك؟
ليس خافيا أن معظم كتابتي المعرفية أو المدنية والجمالية قد صيغت في اللغة العربية، حتى وإن لم تعدم مسيرتي مساهمات وضعت في غير تلك اللغة، سواء في الفرنسية وحتى في غيرها ترجمة. على غرار تنسيق أعمال العديد من المؤتمرات الدولية حول "واقع الأنثروبولوجيا التاريخية ومكاسبها ومستقبلها" (2010) أو "تمثلات المجال بالمغارب وبخارجها" (2011) و"في التونسة" (2014) و"بصمات حول الحضور الاسباني بتونس" (2016) وغيرها من المؤلفات والمقالات الأخرى. وعموما فليس من الخاطئ في شيء الاعتبار بتمحور مقصد ذلك التوجّه الرامي إلى إنتاج المعرفة التاريخية في اللغة العربية، حول الإسهام في "أهلنة" المناويل المنهجية وتعريب المصطلحات والمفاهيم وتوسيع نطاق تبنيها أو إعادة تملّكها بين العاملين ضمن هذا الحقل المعرفي الـمُهمّ، وذلك بغية القطع مع كل انشائية وتطوير الجهود المبذولة من أجل تجويد إنتاج الدلالة.    
7-كيف تجد علاقة الجامعة في تونس بالتاريخ؟ مثلاً أي تكوين تتيحه للباحث في التاريخ،
وهل أنت راض عنه؟
الجامعات التونسية كغيرها من جامعات بقية البلدان العربية والإفريقية مؤسسات فتيّة تلازم ظهورها أو تزامن مع تصفية الاستعمار وبقيت متأثرة بتقاليد مؤسساته الجامعية والمعرفيّة، فرنكوفونية كانت أم أنجلوسكسونية. إلا أن فشل مشاريع النماء بالعديد من تلك الدول وتراجع قيمة المعرفة العالمة والبحث العلمي وصعوبة ضمان تجديد أجيال الباحثين وإخضاع ذلك لما يقتضيه التكوين المعرفي من شروط الدقة والتكافؤ على الصعيد الكوني، يضع جميعها سياق التراكم المعرفي الرصين المعافى من كل تحريف أو انتحال أو منافسة غير شريفة، موضع تساؤل حقيقي ليس من الحصيف في شيء تجاهله أو الدفع باتجاه الهروب من مجابهته وعدم الاعتراف بحقيقة تدني قيمة المنجز المعرفي عامة، بل وحاجته الملحة إلى مراجعة متأنية تعالج هناته الكثيرة في العمق.
فقد انصب اهتمام الجيل الأول من الباحثين وإثر تصفية الاستعمار مباشرة وتأسيس جامعات المغارب على مسائل تحيل على تأصيل تجارب المركزة السياسية تاريخيا ودفع مسيرة النماء، غير أن تلك المضامين قد عانت تحولا باتجاه الاعتبار بالتعبيرات اليسارية ضمن تجارب التحرر الوطني المحلية والكونية، ثم الاشتغال منذ تسعينات القرن الماضي على مسائل ركزت على الفرد والهامشية والنوع الاجتماعي والاحتجاج الديني وغيرها من المواضيع الأخرى التي ساهمت في توسيع دائرة المعرفة العالمة عربيا، حتى وإن لم تفض إلى ظهور مدارس قائمة الذات وتجارب علمية تنبئ بالتمكن من استكشاف مناويل بحث تضارع تلك التي تم استنباطها ضمن دراسات "التابع" أو الدراسات "ما بعد الاستعمارية" في العروض التي صاغتها أقلام إفريقية وأسيوية مرموقة على غرار "سبيفاك" و"مبامبي" و"ديانغ" و"بن مخلوف" وغيرهم.       
8 -كثيراً ما يقال بأن الدولة وظّفت الكتابة التاريخية، وكيف يفلت المؤرخون من هذه الإكراهات؟
أعتقد أنك تثيرين مسألة حضور الشاغل النضالي في منجز المؤرخين، وهو شاغل مُهم ينخرط في مدى استجابة انتاج المعرفة العالمة لمبدأ الالتزام بالحريات الأكاديمية وأشكال الدفاع عنها. لكن أفول نجم المثقف العضوي ضمن الفضاء العمومي كونيا والاستعاضة عن دوره بالتعويل على الاستشارة أو الخبرة أو المساهمة في صناعة الرأي العام إعلاميا عبر اتخاذ موقع المحلّل المالك للسلطة المعرفية، قد أدى جميعها إلى خلط للأوراق وعدم التورّع عن تبادل الشرعية بين وجهاء الصيت والماسكين بالسلطة من خلال تزايد أعداد مستشاري البلاطات أو "ناصحي السلاطين" وفقا لتعابيرنا التراثية القديمة. وهي ظاهر توشك أن تأتي على مصداقية العمل المعرفي لتجعل من الجامعات موضعا لتجارب تكوين مهني وبرمجة موجهة لتكوين الكوادر التي تحتاجها عملية التنمية المعولمة والعابرة للأوطان، تلك التي توشك على ضرب أخلاقية المعرفة العالمة المعولة على الفضول الخلاق وتطوير مستوى الاعتبار بسلامة الإنسان والمحافظة على محيط في تطوير المحصلة المعرفية.   
9-هل تمثّل سنة 2011 نقلة في الكتابة التاريخية في تونس؟
ليس ذاك بالأمر المحسوم، ففعل الصدمة لا يزال وبعد مرور ما يقارب العشرية ماثلا بقوة في ضمير التونسيين. لذلك يتعين في اعتقادي مجابهة حقيقة "الورطة" (بمعنى النقلة التي استعصى عليها القطع مع القديم واستحثاث ولادة الجديد أو المحدث)، فقد تم تأليف العديد من البحوث الهامة حول مسألة الانتقال وظروفه وملابساته وتأويلاته واستتباعات ذلك، على غرار ما ألفه بكار غريب وعياض بن عاشور وشكري المبخوت وحكيم بن حمودة والهادي التيمومي ومحمد كرو وفتحي لسير وعادل اللطيفي تونسيا على سبيل المثال لا الحصر. الشيء الذي يدعونا جميعا إلى تعديل عقارب الساعة وفهم الثقافة السياسة بشكل مفارق يضع في اعتباره ثالوث الوساطة والانتقال وضمان المرور الجيّد والفهم الدقيق للخبرات والمعارف، في صدارة الاهتمام. بحيث يصبح دور العارف بالتاريخ أو القائم على إعادة صياغة السردية الجماعية مشدودا إلى اعتبارات مدنية وتوجّه تحرّري يتحاشى الوصاية المعلنة كما الضمنية، ويبني إطارا جديدا للمعرفة التاريخية يحفل رأسا بأيام التونسيين وأعمالهم، بعد أن قصر همته وخلال ما لا يقل عن نصف قرن على الانخراط في صياغة السردية التاريخية الرسمية.       
10-بشكل عام كيف ترى واقع الكتابة العربية في التاريخ؟ وما هي أكثر ما يشدّك في هذا الإنتاج كقارئ؟
لا مراء في حضور تنوّع شمل منجز المؤرخين العرب، ومكّن حال تشكّل الدُول الوطنية وتصفية الاستعمار من صياغة مضامين عالمة قطعت مع أفق الهواية أو التبحّر في كتابة التواريخ، حتى وإن بدا منجزها عامة متأثرا بالمناهج المعتمدة من قبل المدارس الغربية.
فقد بينت العروض التي تضمنها المؤلف الجامع لأعمال مؤتمر بيروت المنعقد سنة 2016 حول أشكال "كتابة التاريخ العربي وتاريخ العرب" وهو مؤتمر نظمه معهد الدوحة ونشره المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات سنة 2017، توزّع ذلك المنجز على أربعة محاور أو مضامين اتصلت تباعا بشواغل سياقية تعيد التفكير في الحقب الاعتبارية للتاريخ الغربي وتقرأ في مدى انخراط المعرفة التاريخية العربية في التصوّرات الكونية الملازمة لصناعة الأخبار. كما بتّت في صعوبات تحرّر تلك المعارف في مضامينها الوطنية من هيمنة السردية الرسمية المنحازة سياسيا لمشاريع الدول الوطنية، أو تلك المنقطعة عن تلك السرديات والمتكئة على تصوّرات وحدويّة عربية أو سلفية إسلامية غير خافية. على أن تحيل بقية الشواغل المرصودة وضمن تقييم مساهمات ذلك الكتاب الجامع لمنجز الكتابة التاريخية العربية على مدى رسوخ التواريخ المقارنة الأفقية بين البلدان العربية، وكذا الاشتغال بالجوانب الأثرية والتراثية والانثروبو-تاريخية في مقاربة العلاقة التي تربط ببن الذاكرة والتاريخ. وجميعها تقييمات أو مراجعات مفيدة يحسُن بالقائمين على تلك المعارف عربيا الاستفادة منها بغرض توسيع أفق الكتابة التاريخية والتفكير - على غرار ما أنجزته مدرسة الحوليات على أيام آبائها المؤسسين- في طرح سؤال "التاريخ المقارن العربي"، تساوقا مع ما راكمه منجز "التاريخ المقارن الأوروبي" منذ صدور مقال "مارك بلوك" التوجيهي في الغرض والصادر منذ نهاية الثلث الأول من القرن الماضي. (انظر العرض النقدي الذي خصصناه لمحتوى المؤلف الجماعي "كتابة التاريخ العربي..." الصادر ضمن العدد الأخير من مجلة أسطور الصادرة عن مركز الأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة).     
11 - ماهي مشاريعك البحثية المستقبلية، وهل تخضع هذه المشاريع إلى تخطيط مسبق؟
لدي ورشات مفتوحة تتصل باستكمال العروض التي تضمنها مؤلفي الأخير الموسوم بـ"أخبار التونسيين: مراجعات في سرديات الانتماء والأصول"، وهي محاولة في "البحث عن الزمن المفقود تونسيا بالتعويل على مختبر الكتابة في الأنثروبولوجيا التاريخية تحصلت على جائزة الدورة الفارطة لمعرض تونس الدولي للكتاب. لذلك آمل أن يتوفّر لي الوقت والجهد - على تعدّد مشاغلي وتشعبّها حاضرا- قصد التفرّغ لإتمام ذلك.
كما تتصل توجهاتي المستقبلية أيضا بوُرود تجارب مفارقة تحيل على الكتابة للصورة أو بناء عروضها الحوارية توثيقا ورواية، وهو ضرب من "الهوس" ما فتئ يراودني منذ مرحلة الشبيبة الأولى، حتى وإن لم يتجاوز أمره حتى الساعة ومع بالغ أسفي عتبة الاستهام أو الافتتان./.        

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire