samedi 5 janvier 2013

"الإصبع الصغيرة" أو Main-tenant le monde










     
        يعتبر الفيلسوف ومؤرخ العلوم والأديب الفرنسي "ميشال سير" بمثابة غرفة للمراقبة ركزت في أعلى موضع من سفينة زماننا الحاضر . فمن أعلى السنوات الاثنتين والثمانين التي قضها على متنها ومن خلال تكوينه الموسوعي وتدبّره اليومي للمسك بالثقافتين الفرنسية والأمريكية بحثا وتدريسا، يصف لنا هذا الفيلسوف والأكاديمي التحولات التي ما فتئ يرصدها على مختلف المسافرين الموجدين على ظهر مركب الإنسانية. فقد دفعه فرط الفضول المشوب باندفاع ونهم كبيرين إلى الانغماس في استكشاف التحولات التي تعصف بزماننا الحاضر، تماما مثل البحارة الذين رافقوا كولومبس في رحلاته، والذين اشرأبت أعناقهم إلى الأفق راجين العثور على أراضي بكر لم يسبق لغيرهم وطئها.  
بسيط هو الاستنتاج الذي خرج به "ميشال سير" حول المرحلة التي نعيشها، فمنذ نصف قرن يمر العالم وفقا لتصوره بثورة لم تعرف لها الإنسانية مثيلا إلا في مناسبتين. ولئن كان مثل هذا الاستنتاج مدعاة إلى الحيرة، فإن فيلسوفنا الذي يحدوه تفاؤل لا يفتر يعتبر أن مستقبل الإنسانية هو من نصيب من وسمهم  بـ"الإصبع الصغيرة Petite Poucette"، وهو الاسم الذي أطلاقه على أنموذج "الإنسان الجديد" تعبيرا على ارتباطه العضوي بمختلف وسائل الاتصال الجوالة (الهواتف الذكية والحواسيب) ومختلف الأدوات التي تؤشر مختلف استعمالاتها على تأهب "العربة الصغيرة" للمسك بمقاليد الكون ودفعه باتجاه مباغتتنا بشكل مستمر.
يبدو الإعلام منشغلا كونيا، وباعتبار الأزمة التي نمر بها بالجوانب الاقتصادية، فما من حملة انتخابية إلا وقد احتدم السجال خلالها بخصوص المسائل المتعلقة بالتشغيل والمديونية والميزانية، والحال أن عالمنا يخترق مرحلة انتقالية فارقة غالبا ما نبتسر معالمها في تلك الأزمة الاقتصادية، متغافلين عن جوانب لها فاعلية أكبر بكثير في جميع ما نعيشه حاضرا من تحولات سريعة.
فنحن نعيش حالة اصطدام ذهني مع الواقع، فقد كانت نسبة المزارعين لا تقل عن 50 % من مجموع سكان فرنسا بعيد نهاية الحرب العالمية الثانية إلا أنها لا تتجاوز حاضرا  الـ 1 %. كما تضاعف  على مرّ فترة حياة  "سير" العدد الجملي للبشرية مرتين، وهو أمر غير مسبوق في التاريخ. فعند ولادته كان عدد سكان العالم مليارين في حين جاوز اليوم سبعة مليارات. في نفس تلك الفترة الوجيزة تضاعف أمل البشرية في الحياة ثلاث مرات عما كان عليه. جميع هذه التحولات هي ما نضرب غالبا صفحا عن التبصر به بشكل متأني.
فعندما يحصل زلزال على السطح، فإن تفسيره يحتاج إلى إحالته على نظرية حركة الكتل الصخرية المنصهرة la théorie des mouvements des plaques " وربطه بالتحركات الباطنية العميقة، هذا ما يحاول "سير" القيام به تماما حال تفسير واقعنا الراهن. إنها ذات التحركات العميقة، نهاية المجتمعات الزراعية، تجاوز  الإحساس بالوجع، المد في حبل الحياة... جميع ذلك وغيره ترتبت عليه نتائج جد مربكة.
فعندما تزوّج جده الأول أقسم حسابيا على الوفاء لزوجته مدة لا تزيد عن الخمس أو العشر سنوات، بينما نُدعى نحن حسابيا إلى اصطحاب زوجاتنا/ أزواجنا مدة لا تقل عن الستين سنة، وهو ما ينهض حجة على أن  الأوضاع قد تبدلت بالكامل.
تبدلت أشياء كثيرة حتى وإن أعوزتنا القدرة على إدراك ما طرأ عليها، وأسهم تحوّلها السريع بلا جدال في قلب العالم رأسا على عقب. ففي أقل من نصف قرن وجدنا أنفسنا اليوم نعيش في عالم جديد. لقد عاينت فترة الستينات من القرن الماضي حصول ثلاث رجات سبقت زلزال السنوات الثمانين. ففي أواسط الستينات (1965 - 1966)، حصلت العديد من الثورات الزراعية في العديد من المدن الفرنسية، تفطّن المزارعون أثنائها بغتة أنهم مقبلون على زمن جديد، وخلال نفس الفترة تقريبا (1962 - 1965) قبلت الكنيسة الكاثوليكية بالانفتاح على الحداثة والتواؤم نهائيا مع الليبرالية السياسية. وعقب ذلك الانفتاح مباشرة حصلت ثورة طلابية عارمة سنة 1968 مثلت ثالث هذه الرجات وآخرها.
وهكذا فقد جد زلزال أول خلال تلك المرحلة، أعد لوقوع زلزال حقيقي مع ظهور التكنولوجيات الجديدة خلال ثمانينات القرن الماضي. ولدت "العربة الصغيرة" في بداية الثمانينات، لذلك شارف سنها على الثلاثين حاضرا. جميع الأشخاص الذين ولدوا مثل "ميشال سير" قبل مجيء الحاسوب يعملون معه ويحيون خارجه، إلا أن ما وسمه بـ"العربة الصغيرة" يعيش داخل الحاسوب، لذاك لا تمثل تلك الآلة بالنسبة إليه مجرد أداة، بل شرطا من شروط توازنه. فتلك "العربة" هي ما يصله بمختلف الشبكات الاجتماعية حيث يربط الهاتف الجوال بينه وبين  الجميع بشكل فوري ومباشر.
يعرض "سير" إلى حكاية ذات دلالة في هدا المضمار، مشيرا إلى زيارة حفيده الذي قدم راكبا على متن دراجة نارية حصل لها عطب في الطريق، فقام الحفيد بتفكيك المحرك ثم طلب من جده أن يعيره هاتفه الجوال لكي  يسترشد الشبكة في تحديد موضع قطعة من المحرّك نسي مكانها من المحرك على وجه الدقة.  وفي أقل من لحظة من الزمن وجد حل لمشكلته...وهكذا يبدو الحفيد مختلفا عن الجد فهو من جيل يعيش داخل الحاسوب وليس بموازاته.
نفس هذا الوضع يصدق على طلبة جامعة ستانفورد الذين كلّفهم "سير" بإصلاح مؤلفه الأخير (Petite poussette)، وكذا على مرضى المستشفى وغيرهم...يجب أن نتعقل النتائج المترتبة على جميع ما ذكر، فعندما كان "ميشال سير" شابا لم يكن يخطر ببال جميع من انتسبوا معه لنفس الجيل مثلا أن يسألوا الجراح بعد إجراء العملية ما الذي فعله داخل بطونهم، أما اليوم فإن أي مريض وإذا ما حصل له مجرد "ريح معكوس" فإنه ينقر على حاسوبه كلمة "ريح معكوس"، وذلك  قبل التوجّه لمقابلة الطبيب ومخاطبته في المسألة. وهو ما يغير قضية الحال تماما، ففي حالة "العربة الصغيرة" يمكن أن نحمل هذا التصرّف على "شكوك حول كفاءة" جميع من نلجأ إلى الاستعانة بهم. 
اليوم وحال دخول المدرّج لإلقاء محاضرة حول "الفول السوداني" مثلا يعلم المحاضر يقينا أن جانبا من الطلبة قد نقروا تلك الكلمة بعدُ على موسوعة "ويكيبيديا Wikipidea "، لذلك يتعين أن يُعِدّ درسه في تفاعل مع تلك الحقيقة. لقد دخلت "العربة الصغيرة" بعد سوق الشغل، ونحن نعثر اليوم على مربّين وأساتذة من هذا الصنف، وهم بصدد بناء عالم جديد.
لقد اخترقت "العربة الصغيرة" عالم التبادل المالي في البورصات حيث يهمن الرقم وتتم المبادلات العالمية بشكل فوري...وهذا النوع من المضاربات هو المتسبب وفي جانب ما في الأزمة المالية التي نعيش سلبياتها حاضرا.
لقد سبق وأن عاينّا جانبا من نتائج تلك الثورة الإعلامية وتأثيرها الكارثي على مجال الإبداع الموسيقى، فقد أزرت القرصنة الرقمية بسوق الاسطوانات...مما يبيّن أنه ليس من الهين إدعاء السيطرة على مدخلات العلاقة بين الرقمي والمالي ومخرجاتها. فما السبيل لفرض القانون ضمن مجال اللا قانون الرقمي؟ وكيف يمكن أن ندرج صيغ آمنة للتبادل ضمن هكذا مجال؟ لسنا على بيّنة بخصوص الكيفية التي ستتطور بها تلك العلاقة التبادلية، إلا أن الأمر سيجد طريقه إلى التسوية في غضون العشرية القادمة وفقا لما يؤكده "ميشال سير".
لنحاول أن نتعقل عمق التحولات الحاصلة: الصحافة الورقية تعيش على وقع الأزمة، لكن واقع الإعلام يختلف عن ذلك، فقد تمكنت "العربة الصغيرة" من توسيع مجال اطلاعنا فأصبحنا أفضل معرفة بما يحيط بنا مقارنة بما كان يحصل عليه قارئ الصحف الورقية حتى في أوج أيام ازدهارها. ما السبيل للنهوض بعملية تبليغ المعارف بعد أن أضحى ارتياد المكتبات أمر غير وجوبي وتمكنت "العربات الصغيرة" من الحصول على جميع ما تحتاجه دون الاضطرار إلى مغادرة بيوتها؟
لقد عثرت تلك "العربة" على المعنى الحقيقي لكلمة "الآن maintenant" لذلك أضحى بوسعها أن تقول "اليد main" "ماسكة tenant "، فهي تمسك العالم بيدها.
لم يشغل زمننا وحده هذا الشعور بالقلق من سرعة نسق التغيير، فقد تعرض مؤلف "العربة الصغيرة" إلى مرحلتين سابقتين تزامنتا مع ثورتين حقيقيتين عاشتهما الإنسانية: حصلت الثورة الأولى حال المرور من وضعية المشافهة إلى حالة التدوين، أما ثاني تلك الثورات فقد اتصلت بالمرور من التدوين إلى الطباعة. والآن ومع بدايات الثورة الثالثة فنحن بصدد الانقلاب من وضعية الطباعة إلى مرحلة الرقمنة.
تتصل بكل واحدة من هده الثورات حالات متشابهة من القلق أو التهيّب وعدم الارتياح. فخلال الثورة الأولى انتقد سقراط المعطيات المدونة معتبرا أن للشفوي حيوية لا تضاهى. كما وُجد وأثناء مرحلة المرور إلى الطباعة أشخاص اعتبروا أن ذلك الكم المخيف من الكتب المطبوعة لن يترتب عليه سوى مزيد من التوحّش والبربرية. لذلك ينبغي أن لا نعجب من حضور كثير من الارتياب حيال ما نعيشه حاضرا من تحولات عميقة تتصل بالمرور من الطباعة إلى الرقمنة أو بالثورة الثالثة. لقد قام واحد من أصحاب "سير" بتأليف كتاب حول "الألياف العصبية المتصلة بالقراءة"، وتمكن من تحديد موضع الإثارة عند الانكباب على القراءة. وها نحن نتفطن اليوم إلى أن موضع الإثارة العصبية لا يشغل نفس الموضع بالضرورة عندما نكون بصدد الاشتغال على الحاسوب، لذلك فإن ما هو بصدد التحوّل اليوم ليتصل بالعالم فحسب بل وأدمغتنا أيضا.
لقد عثرت "العربة الصغيرة" على المدلول الواقعي لكلمة "الآن maintenant". ما الذي يعنيه هذا اللفظ إن لم يكن "الإمساك باليد"؟ فالعربة الصغيرة تمسك بيدها عبر الهاتف الجوال جميع الناس في هذا العالم، جميع مربيه أو مدرسيه، ومختلف مواضعه التي يسعفنا النظام الكوني للمواقع GPS حاضرا في تحديدها.
لفقد أضحى بوسعنا أن نقول ما لم يكن بوسع غيرنا التجرؤ على إدعائه: "الآن أمسكنا بيدنا العالم". لم يكن ذلك بوسع إمبراطور الرومان أغسطس ولا كبار العلماء والعباقرة أيضا، لكن الـ 3.7 مليار من البشرية الذين يحتكمون على هاتف جوال قابل للربط بالنيت بوسعهم اليوم إدعاء مسألة تتوفر على مثل هذا القدر من الخطورة ! ألا ينطوي وضع كهذا على تصوّر كوني غير مسبوق للديمقراطية؟ إنه لأمر مدهش وجد مثير تبدو جميع أشكال انتظامنا إزائه متخلّفة !
يتعين علينا أن نعيد بناء كل شيء، أن نبني كونية جديدة ومجالس نيابية مختلفة وأشكال تمثيل سياسي جديدة وقوانين مستحدثة تواؤم مقتضياتها الواقع الجديد، ولا تواجه بذلك الفشل الذريع الذي منيت به مؤسسة "السلطة العليا لبث الأعمال الفنية وحماية الحقوق على الأنترنت" (  Hadopi)، فأمر كهذا لا يحتمل أي نوع من أنوع التسويف أو الإرجاء.
يعرض "سير" إلى حكاية معبرة بهدا الصدد، ففي يوم من الأيام وبينما كان بصدد إلقاء محاضرة بمدرج بجامعة ألمانية ضم قرابة ألف مدعو خطر على باله أن يلقي على حميعهم السؤال التالي: لنتصور هل بوسعنا توحيد فرنسا وألمانيا؟ تمحور نقاش المتدخلين حول معضلة الرئاسة، بينما ترائ للمحاضر أن المسألة تتعلق بما يجمع حاضرا  بين الأجيال الجديدة للـ"بروتون" و"الريهنان" و"البيكارديين" و"البروسيين"، ويقصد هويتهم الرقمية على الشبكات الاجتماعية. فهل سيوافق هؤلاء على فكرة توحيد البلدين أم لا ؟ ينبغي أن يلقى السؤل عليهم، ثم يعاد النظر مجددا في الموضوع، وهو ما يقوم حجة على فشل كل توجه يرمي إلى العودة بنا إلى مربع مركزة القرار. فحال اختراع الديمقراطية في أثينا لم تكن المركزة شاغلا محوريا، حيث تم الاتفاق على منح الجميع (دون العبيد والنساء) الحق في الانتخاب. وهكذا فإنه بفضل الثورة الرقمية أضحى بموسعنا الاشتراك في اتخاذ القرار بشكل آني أو فوري، والالتزام بوضعه موضع تنفيذ أيضا.
بلغت "العربة الصغيرة" سنتها الثلاثين وستكون في السلطة بعد عشر سنوات، لتغيّر بالضرورة الواقع الذي نحياه حاضرا. فلنتبصر بما أحدثه الربيع العربي وبالدور الذي عاد للتكنولوجيات الحديثة في حصول ذلك، وكذلك بالدور الذي عاد للمرأة المتعلّمة في هذه البلدان. كل هذه الآليات هي بصدد الاشتغال بعد. يكفي أن نستعيد لبرهة أحداث الماضي الإنساني: فمع ظهور الكتابة في اليونان ظهرت الهندسة والديمقراطية والديانات  التوحيدية والكتب السماوية، ومع ظهور الطباعة برزت التيارات الفكرية الإنسانية ونشطت البنوك وتشكّل الفكر البروتستانتي ونظرية غاليلي والفيزياء الرياضية...ويكفي أن نتفحّص مختلف التحولات الحاصلة إبان المرور من مرحلة الكتابة إلى مرحلة الطباعة حتى ندرك أن ما تحدثه "العربة الصغيرة" من تحولات ليس مجرد اختلاف  في مواقف الأجيال أو حادثة حصلت لبطلة رواية ظهرت إبان العودة الأدبية، إنها ببساطة مسألة تاريخية. فجانب من الأزمة المالية والاقتصادية التي نحياها نابع بالأساس من صعوبة التعايش بين نوعين من الذوات البشرية: "الأصبع الصغيرة" وبقية المنتسبين إلى العالم القديم ممن طوي زمانهم لكي يتركوا المكان لـلــ"يد الماسكة" بالعالم main – tenant le monde.
              
Serres (Michel), Petite Poucette, Éditions Le Pommier, Paris 84 pages. 



2 commentaires:

  1. أرجو أن تنتصر العربات الصغيرة-و أرى أنها ستنتصر- و أن لا نبقى كما كان الأمر بالنسبة للطباعة مُرتهنين لمقولات غيبية
    مقال جميل و منشط، لامس إحدى مواضع الإثارة العصبية ...تحياتي، من إحدى العربات الصغيرة

    RépondreSupprimer
  2. Heureux de le constater, "petite poussette".

    RépondreSupprimer