mardi 15 novembre 2011

رجع صدى : الدولة الدينية والدولة المدنية



تتفاعل هذه العروض بطريقتها الخاصة مع ما تعيشه المنطقة العربية من تحولات من خلال فتح نافدة تدبّر لمحتوى حوار معرفي رصين دار بين الفيلسوف الفرنسي "روني جيرار René Girard " وزميله الإيطالي "جياني فاتّيمو Gianni Vattimo " صدرت ترجمته الفرنسية عن اللغة الإيطالية في بدية سنة 2009 ضمن مؤلف يحمل عنوان "المسيحية والحداثة Christianisme et modernité".
في هذا الحوار الذي أبلغ "بيار بولو أنطونيلو Pierpaolo Antonello" في توليف مضمونه واستجماع أبرز استنتاجاته، تصورات معبِّرة بخصوص حراك الفاعلين الحقيقيين غربا وشرقا تتجاوز دعاوى النضال المكذوبة أو المضلّلة لجميع العاملين عن قصد أو من دونه على إرساء ممارسة دينية مسيّجة لمدلول الدولة المدنية. لذلك نقدم وضمن هذه العجالة عينات من هذا الحوار توضّح ما تبيّن لنا من تواصل بين القراءتين.
ينطلق هذا الحوار من فرضية مؤيدها أن من بين "الحروب الدينية" المتعدّدة التي تسيطر حاضرا على الجدل الفلسفي والإعلامي - المتوَهَّمة من بينها أو الواقعية- تطفو المواجهة بين اللائكية والدين، كواحدة من أكثر تلك المساجلات حيويّة. ولأن ذلك الحوار غالبا ما يكون عرضة للاستقطاب الذي لا يخدم غير السجال التبسيطي الذي تفرضه أشكال الأداء المتصلة بوسائل الإعلام، فإن المقترح البديل الذي صاغه مضمون الحوار الذي وضع المقاربة الفلسفية المفتوحة على الشاغل المدني كما صاغتها تجربة الفيلسوف الإيطالي "جياني فاتّيمو" الفكرية، إزاء المعرفة الأنتروبو-دينية المتفحّصة لأساطير التأسيس الكبرى كما اقترحتها علينا مقاربات الفيلسوف الفرنسي "روني جيرار" ، يشهد على تعدد حالات التوافق بين طرفيّ التنازع مُنبئا على ترابطهما الوثيق، مقدّما تصوّرا بناءا جدّ مفيد حول حقيقة تلك "المواجهات" الحامية.
انطلق الحوار من فرضية اتخذت شكل الحدس لدى عالم الاجتماع الألماني "ماكس فيبر"، مؤيّدها أن العلمنة واللائكية قد انحدرتا بالأساس عن مبادئ الفكر الديني المسيحي، وهو عين ما توصّلت إليه حاضرا نظرية "جنيالوجيا الحداثة" العاملة على اتخاذ مسافة أمان إزاء ما أحدثته الممارسة الديمقراطية من اختراقات سلبية على غرار عودة الديني، مع الدعوة إلى تحليل تناقضاتها بإدراج عملية فهمها ضمن سياق تاريخي تجاوزا لحالة "الاستياء" التي يعيشها العالم نتيجة لتراجع الدور المهيكل الذي لطالما لعبته القيم الدينية ماضيا، إلى حدّ وسم المسيحية بـ"ديانة الخروج عن الدين"، مع اعتبار أن الديمقراطية واقتصاد السوق والحقوق المدنية وكذا الحريات الشخصية وإن لم تكن المسيحية وراء "اختراعها" بالمعنى الحرفي والمطلق للكلمة، فأن الثقافة المسيحية قد كان لها دور ما في "تسهيل" عملية استيعابها وامتلاكها.
قدّم الحوار الدائر بين هاتين الشخصيتين المعرفيتين المرموقتين غربا نموذجا رفيعا على المجهود الذي بذله كلاهما من أجل فهم وإقناع الآخر، مؤشّرا عن قدرتهما على التواصل وتلاقي تساؤلاتهما بخصوص إشكالية تراجع فكرة الاعتقاد التي تجد أصولها في فلسفة "نيتشه"، ذاك الذي اعتبره "جيرار" من أكبر علماء اللاهوت المحدثين.
ارتكز الرهان النظري والتأويلي الجامع لمختلف الأفكار المعروضة من قبل المفكريّن على وعيهما التام بأن المسيحية لم تمثل "دينا" بالمعنى المباشر للكلمة، ولكنها قد شكّلت يقينا المبدأ الأساسي الذي كان وراء تحطيم جميع أشكال التعبّد العتيقة التي أدى تحوّلها أو انقلابها ديانة منظمة إلى تمّكنها من إرساء حوارا مع جميع المعتقدات التقليدية. لكأنها بصفتها تلك حصان طروادة الذي أُدخل وسط القلعة الحصينة للأديان عاملا على نخرها من الداخل، مستعينا في ذلك بالاستعارات الرمزية لخطابها بعد قلب مدلولها بالكامل والكشف تبعا لذلك عن الحقيقة العنيفة التي ارتكزت عليها عملية تشييدها.
فالعلاقة بين الدين والعنف التي تبدو وفي زمن الحداثة وكأنها أمر بديهي، لا تنبثق من الطبيعة الداخلية العنيفة للأديان، بل من أن الدين هو أولا وقبل كل شيء معرفة تستهدف فهم الطبيعة العنيفة للبشر.
تمت عملية تخليص الدين من الأسطرة وفقا لما بيّنه "جيرار" من خلال الدور الذي لعبته رسالة الهداية المسيحية في الكشف عن براءة الضحايا الذين شملهم الإقصاء أو التصفية الجسدية على امتداد تاريخ البشرية المضطرب، معتبرا أن حادثة صلب المسيح وإعادة استحضار تلك الحادثة من خلال تأمّل الروايات التي قدمتها الأناجيل، فضلا عن الطقوس التعبّدية المتصلة بإحيائها، توجّهٌ نحو حالة من مزيد الوعي بوضعية الاضطهاد التي تعرّض لها الأشخاص كما المجتمعات على مرّ العصور. بتلك الصورة تتحوّل الأناجيل إلى مفتاح تأويلي يتيح إعادة قراءة الأساطير المؤسسة كما الكتابات المقدسة القديمة على أساس الوعي التدريجي بالجذور العنيفة للمنظومة الثقافية، وفهم تضحية المسيح باعتبارها قطيعة فارقة حيث مثلت المسيحية مرحلة متقدمة لتطوّر التفكير الديني، واجه أثنائها الإنسان كفرد خطر عدوى الطابع العنيف للمجموعة التي ينتسب إليها. وهو واقع لم يتم إيجاد حل له إلا من خلال البحث والعثور بشكل مستمر على ضحية جديدة، تعمد المجموعة إلى اتهامها باقتراف جريرة هي منها براء.
ويرتكز المنطق الذي تستند عليه آلية التضحية إلى اعتبار أنه "من الأفضل التضحية بشخص واحد بغرض تلافي تعريض الجماعة إلى الهلاك". تُنبِّه سيّر المسيح ذاته إلى تلك الوضعية في إنجيل القديس يوحنا من خلال استنتاج معروض في صيغة التعجب: "إنهم يكرهونني بلا سبب". فقد شكّلت المسيحية لحظة تحرّر الإنسان من ضرورة البحث المستمر عن ضحية يقدمها قربانا، راجيا من وراء ذلك الطقس العنيف فض النـزاعات أو تجاوز الأزمات التي تتعرض لها الجماعة بشكل دوري، لما عمّقت اقتناعه ببراءة ضحايا ذلك التصرف، كاشفة عن الطبيعة الاعتباطية البحتة للتوجه العامل على تذنيبهم.
إن تلك التضحية التي قدمتها المسيحية كأساس أو ككشف والتي أستبطنها الميراث الغربي بشكل عميق، هي التي كانت وراء تشكّل ما يعيشه الغرب المستند حاضرا على مجموعة من المبادئ أو الأخلاقيات المشدّدة على حفظ حقوق وحريات جميع الأفراد، والعاملة جاهدة على نجدة الضحايا وحمايتهم من جميع أشكال العنف المسلّطة عليهم. إلا أن إنجاز تلك القطيعة مع الحلقة المفزعة للتضحية التي كرّستها الرسالة المسيحية، هي التي كانت وراء الكشف حاضرا على تعارض غير مسبوق بين تحرّرها الكامل من ضغوط جميع التوجهات الدينية والوعي بالطابع العميق لجذورها المسيحية. فجميع الأيديولوجيات الغربية يولي سندها النظري راهنا مختلف الضحايا، سواء أولئك الذين تعرّضوا إلى الإبادة أو الإقصاء أو الظلم الاجتماعي أو الحروب أو التعذيب السياسي أو الكوارث الطبيعية أو التمييز العنصري والجنسي والديني، موقعا محوريا ضمن خطابها وضمن أفق تفكيرها. وإذا ما افترضنا بمقتضى ذلك أن علاقة المسيحية بالعلمنة جد متينة، فإن السؤال الذي يفرض نفسه عند هذا الحد هو تحديد طبيعة الأطوار التاريخية التي اتخذتها تلك المسيرة.
يحمل اهتمام الفيلسوف الايطالي "فاتّيمو" طبيعة مزدوجة. فهو يحاول تجاوز الطابع المهيكل للمزاعم الثبوتية لماهية الإنسان، مشهّرا بجميع الحقائق الأبدية، على أساس وضعيتها الحقيقية كمجرد إنتاج تاريخي سياقي يخضع لقانون المصادفة، وكأداة للترهيب تسيطر عليها الأطراف المتداولة على امتلاك السلطة الرمزية والسياسية والاقتصادية. أما الشاغل المكمّل لذلك الاهتمام فيتمثل في البحث على تسهيل انخراط التقليد الفلسفي التأويلي ضمن التاريخ العام لكافة الرسالات الدينية.
بينما لا يؤمن الفيلسوف ومؤرخ الأديان الفرنسي "جيرار" بأن الوعي المميز لمرحلة ما بعد الحداثة، والذي ينبني على "تصوّر للحياة مرتكز على أشباه حقائق نسبية، بوسعه أن يمنح الإنسان المعاصر فرصة حقيقية للإفلات من معاناة حالات الحيرة التي تترصّده. فالقيم التي تشكّل ركيزة للمجموعة البشرية والمؤسسة على التراحم، تتسم حاضرا بكثير من التهافت اعتبارا لتجاهلها لما تنطوي عليه العلاقات البشرية من مخاطر وتحاشيها إثارة المشاكل العويصة الناجمة عن حقيقة التجاذب والتزاحم بين الأفراد، معبّرة من وراء ذلك على قلة نجابة في التوقّي من الوقوع في شرك التصادم العنيف المنغرسة عميقا في شخصيتها.
يضع "جيرار" ثقة الفيلسوف في حضور مسار تصاعدي لتاريخ الرسالة اليهودية المسيحية بين هلالين، مشرعا بذلك الباب للتفكير في انطواء الأحداث التاريخية على تشنجات لا يتردد في تسميتها بالمآسي التراجيدية التي يتوقع حصولها في الحاضر أو في المستقبل. وعلى هذا الأساس يفضّل التسليم بالمعنى المجازي الذي يتضمنه مفهوم "القيامة" بعد أن فرض ذلك المفهوم نفسه على الإنسان المعاصر طبقا لمدلول مزدوج يحمل معنى الرسالة الخُلقية وانتشار العنف في آن. فإذا لم يعد بوسع الآليات المتّصلة بالتضحية الاشتغال بعد أن تم التوصّل إلى كشف طابعها الاعتباطي غير العادل، فقد وجد المجتمع الحديث نفسه بصدد عيش مرحلة تجريبية تحوّل ضمنها التاريخ إلى ما يشبه مخبر بحث عن آليات مستحدثة تضمن تحقيق التوازن والاستقرار.
يعول الإنسان الحديث على الإعلاء من شأن مجموعة من الضوابط المدنية على غرار إيديولوجية الدولة الديمقراطية، والتكنولوجيا والرأسمالية المتطورة، والمساجلات الإعلامية، وإخضاع علاقات الأشخاص لمنطق التسليع، لكي يرجئ حصول الفوضى المعمّمة أو ما ينعته "جيرار" بـ "الحدث القيامي". ومن هنا تأتي حاجة الغرب إلى عدم تسريع عملية ذوبان الطابع المقدس لمختلف هياكل الضبط السياسية منها أو التابعة للأجهزة التنظيمية للدين، والتي لم يزل بوسّعها ومن منظور فلسفته الحد حاضرا ولو بشكل وقتي من الطابع العنيف الملازم لحياة المجموعة البشرية.
إن الخلاف بين رؤيتي "فاتّيمو" و"جيرار" يتخذ منحى سياسيا تسهل ملاحظته في حالة الاستقطاب التي تفصل بين تصوريهما والتي يطلب ضمنها "فاتّيمو" التقدمي القبول بجميع الأوليات التي ترتكز عليها تصوّرته الفكرية حول الديانة المسيحية التي يعتبرها ديانة تنهض على رسالة أساسها كشف واقع اضطهاد الضحية في الثقافة البشرية، وهي بتلك الصفة ديانة تعمل على نسف جميع الديانات من الداخل وتفكيك جميع الهياكل المتصلّبة المترتبة على سياق التاريخ، كأجهزة الدولة والهياكل الناظمة للكنيسة وجميع التعريفات المفروضة بشكل متسلّط للحقيقة أو للطبيعة.
وتشهد تصورات "فاتّيمو" عن توجه نضالي باعتبار أن مساره الشخصي يفرض نفسه كمحاولة للتوفيق بين الإرث الكاثوليكي والمشروع التحرّري السياسي الذي أفرد له منذ مدة طويلة جانبا من أنشطته. ويتمسك مشروعه النضالي بالدفاع عن الحق في الاختلاف مُصطدما بمبادئ الكنيسة الهادفة إلى تقييد ممارسات للأفراد من وجهة نظر أخلاقية، وهو ما لا يرى "فاتّيمو" من فائدة في احتساب الفاعلين الدينيين التابعين إلى الكنيسة بخصوصه.
ويعتبر "جيرار" أن تراجع نفوذ الكنيسة وضعف هياكلها لا يحمي بالمرة، وعلى عكس ما يمكن تصوّره، المجتمع من السقوط في منـزلقات عنيفة. فالبروتستانتية بأجهزتها الكنيسية الأكثر بساطة والأكثر تواصلا مع "العلمنة" والأنضج تأويلا للمتن الإنجيلي، غالبا ما أنتجت منظومات عقدية طُهرية اتسمت بقلة اتصافها بالرحمة قياسا لغيرها، مفضية إلى تصورات أكثر تطرّفا بالقياس لما يمكن أن تكون عليه المسيحية. فالبدع تنشأ باسم حقيقة نقيّة غالبا ما لا تعترف بالفوارق. ويجسم مثال الولايات المتحدة الإطار الثقافي النموذجي للانـزياح باتجاه الفردانية أو الخصوصية الدينية، حتى وإن لم ينجم عن التزايد اللافت لعدد الكنائس والطوائف الدينية واقع اجتماعي يتسم بالتمسّك بالسلم وبضمور التوجهات العنيفة قياسا لما عاينه المجتمع الأوروبي الذي استفاد من السياق التاريخي لحالة "التسييج" المفروض على الممارسة الدينية من قبل المذهب الكاثوليكي.
فماذا يتعين على الحداثة القبول به حاضرا، هل يتعين عليها أن تختار الحقيقة أم أن تقبل بضمور فاعلية العقيدة ؟ فنحن نجد من جانب الحقيقة المعبر عليها من وجهة نظر الضحية في الرسالة المسيحية في ثنايا الخطاب الحداثي، ونعثر في الجانب المقابل على حالة ضمور للعقيدة تستجيب للحاجيات التحرّرية الملحة لمرحلة ما بعد الحداثة، عاكسة صورة الديانة المسيحية المتنصّلة عن مسيحيتها.
يتواءم هذا التراجع في الاعتقاد مع التوجه الدافع باتجاه شخصنة وتفكيك المعتقد، لكأنه قد فُصّل وفقا "للمقاس الشخصي" لكل فرد لكي يتواءم بالكامل مع حاجياته الخاصة. فلئن جسمت تلك العقيدة توافقا مع الحاجيات الوجودية المشروعة، فقد عبّرت في الآن نفسه على نوعية من المفاضلة أسعفت "سوق" التديّن في هيكلة مختلف الاختيارات الشخصية، وشكّلت ما قد يستقيم وسمه بـ"المغازة الكبرى" لاختيارات التديّن الشخصية المتعددة.
يعتقد "فاتّيمو" أن الوفاء للتقاليد طريق سالكة لتحقيق الخلاص، مقتنعا بأن مثل ذلك التصرّف هو الذي أكسب مساره الفكري مستوى معقولا من التماسك. وإذ يتفق "جيرار" معه حول ضرورة العيش داخل مجتمع مدني لائكي يكفل استقلالية مطلقة للفعل السياسي داخل المجال العام، فإنه يعتقد فيما يخصّه في أهمية الوفاء للكنيسة ويقصد طبعا الكنيسة الكاثوليكية، التي يعتبرها بمثابة النواة الرمزية القوية المواجهة للمنـزلقات المرضية للفكر الفرداني المعاصر، وكأداة تاريخية ضرورية تمكّن من احتواء العنف وجميع مخاطر التحطيم الذاتي للإنسان، تلك التي تبدو على تمام الاستعداد دائما للاحتدام.
ولئن اعتقد "فاتّيمو" في المسيرة التدريجية للتحرّر من جميع الأنطولوجيات، فإن الإنسان المعاصر - المنتسب للعولمة والمرتبط بوسائل الاتصال الحديثة والمشبع حاضرا بجرعات متزايد من التبعية والتغريب- يبدو على نقيض ذلك غير مستعد للقبول بالفراغ الذي تركه انهيار جميع الأيديولوجيات والديانات والفلسفات التقليدية. ويعود هذا المشكل إلى ضمور تأثير جميع ما يتصل بالتأسيس والأسس، الشيء الذي ترك الباب مشرعا أمام الصورة الساخرة التي شكّلتها جميع التيارات الأصولية حاضرا، والتي استوعبت بما يخدم مصالحها مختلف أنماط التعبير عن الاضطهاد المتّصلة بالمقدس وفقا لمنطق مفارق تمكّنت بفضله الجماعات الأصولية من الاعتراض بتبصر على العلاقة التي تربط حاضرا بين التوجه العامل على مزيد القطع مع القداسة والديانة المسيحية. فالأصولية لا تواجه العالم الغربي كمجال لانتشار المسيحية، بل باعتباره مُوغلا في العلمنة ومتمسك باللائكية ومتقبّل للفكر الحداثي المعترف بالنسبية.
لا يخشى الأصوليون رسالة الهداية المسيحية ولا نفوذ البابا وصيته الواسع، بل يتهيّبون من توجه تلك الديانة المتّسق باتجاه توسيع انتشار العلمنة والقوة الكبيرة التي أبدتها في تقويض المنظومة الدينية التقليدية. ويكشف دخول المجموعات الأصولية في صراع ضد بعضها البعض، وبطريقة طريفة عن طبيعتها الحقيقية كنتاج للمسار التفاوضي القلق الذي ربطها بالعلمنة والحداثة. فعندما تستعيض الأصولية عن انغلاقها واكتفائها بذاتها بتبني توجه صدامي مفتوح، فهذا دليل على أنها قد أضحت تتقاسم جانب من الاهتمامات والمصالح أيضا مع من اعتبراهم أعداء لها. فالعنف المتستِّر بالدين الذي يقوم الأصوليون بإضرام فتيله على الدوام، ما هو على الحقيقية غير علامة على بداية تحلّل تلك التوجهات الدينية المتطرّفة.
أُشربت الثقافة الإسلامية التي ينتسب إليها معظم الأصوليين وعلى غرار بقية الثقافات الكونية حاضرا بحالة من التعلمن والعقلانية التقنية والنفعية الاقتصادية والدعاية الإعلامية والشبه إيديولوجية، متدرّجة نحو حالة من التعارض مع الغرب من بوابة التنافس المحض معه. فكيف يمكن بناء أو تنظيم حوار بين الأديان بالتعويل على ما عرضناه ؟
بإمكاننا أن نعثر ضمن ما تم طرحه من تصوّرات على بعض العناصر التي بمقدورها أن تُسهم في التأسيس لنقاش جديد وبنّاء بخصوص حالة التمدن الخفيّة للعالم عبر اتساع اقتصاد السوق وامتداد الحداثة التقنية القانعة باقتناء الأدوات من ناحية، وتوسّع حضور المؤسسات الديمقراطية من جانب آخر. وإذ تتسم المسيحية بأهمية تاريخية حاسمة في تفكير "فاتّيمو" و"جيرار"، فإن مرد ذلك قد يعود إلى العلاقة التي ربطت تلك الديانة بمسار تطوّر الفكر المدني اللائكي.
وهكذا فإنه بمستطاع الإرث اليهودي المسيحي التأسيس لحاور متكافئ ومتساوي مع بقية الديانات، شريطة أن لا يغرب عن تفكيره توجه بقية الثقافات إلى اعتبار تكريس الممارسات المدنية الموسومة باللائكية، وحتى ضمن المجال السياسي الضيق، بمثابة التهديد المسلط على أصالتها، وتمثّل ذلك المسار لا كشرط موضوعي لتحقيق الحريّة، ولكن كخط أحمر يتعين رفضه بكل شدة.
ضمن هذا الإطار الداعم لسنّة التحاور يتفق كل من "فاتّيمو" و"جيرار" على ضرورة البحث ضمن مختلف التقاليد الدينية على نواة صُلبة للمعنى تسمح بتقليص العنف وتحول دون تفاقم الصراع. وتتخذ التوجهات التأويلية التي يقترحها الفيلسوف أهمية أساسية باعتبار ما يحققه تشغيل تلك الآلية من نتائج إيجابية فيما يتصل بالتحرّر من هيمنة التبريرات الدينية وجميع أشكال التصلّب في تفسير مقاصد النصوص المقدسة، بقبول إخضاع مضمونها للقراءة التاريخية بغية التحرّر من جميع الأشكال النموذجية للاضطهاد المتستّرة بالمقدس.
وليس من باب المصادفة أن نعثر ضمن هذا الإطار المحدّد للتحاور على نقاط تلاقي مذهبية وسياسية مع ما يُوسم بالإسلام المعتدل على غرار الحوار الفكري والمدني الذي ينشطه المثقف الإيراني "محسن كاديور"، وهو جامعي وفيلسوف وعالم دين ومناضل سياسي ومدني إيراني، عارض بشدة نظرية ولاية الفقه ممّا عرضّه إلى التتبع والاضطهاد والسجن من أجل أفكاره ونشاطه السياسي، الذي يعمل على تناول مسائل محورية مثل احترام القوانين الكونية الضامنة لحقوق الإنسان وحقوق الأقليات وتحرير المرأة وتحريم العقوبة الجسدية، من خلال بناء علاقة تأويلية متجدّدة مع التقاليد الموروثة والكتابات المقدسة.
ويعتبر "جيرار" أن مثل هذا التوجه يحتاج أيضا وبالأساس إلى الاعتراف والانخراط المشارك ضمن أفق أطلق عليه توافقا ما سماه بـ"علم التضحية victimologique" الذي برفض إنتاج مزيد من الضحايا، باعتبار أن المواجهات بين الديانات أو بين القوميات غالبا ما تؤوِّل تصرفاتها من زاوية تقمّص دور الضحية الذي تسعى إلى احتلاله على الدوام، زاعمة أن موقع المظلوم هو الذي يُلجئها إلى استعمال العنف للدفاع عن نفسها والانتقام ممن تعتبرهم أعداء لها. وهو ما ينهض حجة على تسرّب التصورات المسيحية، عبر نوع من الإدراك التثاقفي الأفقي لمختلف الآليات الناظمة للإيذاء، ضمن الخطاب الرمزي للمجموعة الدولية.
ومهما يكن من أمر فقد بينت مجمل مؤلفات "جيرار" الأخيرة أن جميع الديانات تمتلك وإلى حد ما طبعا، مدلولها الخاصة لرسالة الهداية، مُسهمة من موقعها في إماطة اللثام عن حقيقة معاناة الضحايا، تلك الحقيقة التي لا يمكن أن تكون حكرا على المسيحية أو على الكنيسة الكاثوليكية أو على الغرب وحده، بل هي ملك مشاع تفتّق عليه الإرث الحضاري والذكاء الإنساني المشترك. مما يُفيد أن الفعل المتردد أو المتشنج إزاء توسّع الممارسة الموصوفة بالعلمانية كونيا يحتمل التقدم والتوثب كما النكوص والإحجام. وهي حقيقة يشي بها الخطاب النـزق لمختلف من شملهم الإقصاء حال التعبير عمّا ينتابهم من غضب أو إحساس بالغبن مع استحالة حضور توازن مقبول بينهم وبين من يعمدون إلى مصادرة حقوقهم، فضلا عن طريقة تواصلهم المخصوصة مع الواقع القلق الناجم عن صعوبة التأقلم مع مسار التحديث وعدم القدرة على إعادة تملك فكرة الحداثة، تماما مثل ما تكشف عنه حالات الضيق بالواقع المعقّد والمتشعب. لذلك فإن مختلف البدائل المعروضة على جميع من طالتهم مظاهر الحيرة تثبت أن أرضية التديّن وعلى الرغم من إغراقها في إشهار التُقى والورع حاضرا "علمانية" بالضرورة رُغما عن دور القِناعة الذي يلعبه التديّن وعدم تخطي مختلف الفتاوى الخارجة عن الفصل أو التي خَلُصَت "مدة صلاحيتها" مستوى الوهم القادم من غابر الأزمنة.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire