mercredi 31 mars 2021

لعنة المواعيد التاريخية المهدورة












 


 

       

         لا ينبغي لقارئ هذه الأسطر الموضوعة في حق مؤلَف صلاح الدين البرهومي الموسوم بـ "الدولة الوطنية التونسية وتدبير التنوع السياسي (الإسلام السياسي في تونس بين 1981 و1992)" تقدير العثور على مراجعات منحازة لأحد طرفي المنازلة الحاصلة بين الطرفين الدستوري والإسلامي بين مفصلتين هامتين تحيلان على عشرية 1981 و1992. فقد أخفقت الدولة الوطنية التونسية خلال تلك العشرية في صياغة مشروع حداثتها السياسية المتدرّجة وضرب موعد حقيقي مع التاريخ. وهو ما لا ينبغي التعجيل بالحكم عليه والتسليم بخيبة الأمل، قبل مباشرة قراءة مختلف فصول هذا الكتاب وتدبّر مضامينه المنقلبة على سائد البحوث المنجزة من قبله، بُغية مزيد فهم تطور الاحتجاج الإسلامي تونسيا، سواء ناصرت تلك البحوث تصوراته أو ناصبته العداء وتعقّبت سلبياته وسقطاته. فالانزلاق في الرجم بالغيب بادعاء تبنيّ هذا البحث سرديّة الإسلام السياسي في تقييم علاقته بالنظام السياسي طول عهدة الرئيسين بورقيبة وابن علي، توجه فاقد لكل سند معرفي.

في تجاوز "المظلومية" والاعتبار بالتنوّع السياسي   

       إن السؤال الحقيقي الذي يتعين طرحه هو ما الذي أضافه الرصيد الأرشيفي بخصوص سياقات محاكمات الإسلاميين؟ وهل آن وقت الدراسة الموضوعية الباردة لعلاقة الدستوريين بالإسلاميين بالمقارنة مع خصوصيات المرحلة الدقيقة التي تعيشها البلاد حاضرا؟ وما جديد المعطيات التي تضمنها أرشيف تلك المحاكمات حتى نستطيع المسك موضوعيا ومن خلال تجاويف ما تعرضه علينا تلك التقارير بتصوّر مُباين أو فارق، يجنّب تبني السرديّة الرسمية القائمة على تكييف الإجراءات الأمر الذي يختزل الاحتجاج السياسي في بعده الجنائي، في مقابل قراءة الإسلام السياسي التي ركزت على الاستثمار في المظلومية؟ فليس من الدقيق بالمرة القول بأن الإسلام السياسي ردّ فعل على فشل الدولة الوطنية في مسيرة التحديث. كما أننا لسنا على تمام اليقين من أن مشروع تلك الدولة قد انتهى إلى طريق مسدودة، وذلك لأسباب ينبغي أن تُدرس بكثير من المصابرة والأناة. فقد تكون ثمّة خصوصيّات وسمت مسارات التحديث في مجتمع عربي إسلامي رزح تحت وطأة قرون مديدة من استبداد ثقيل وإرث استعماريّ مكبّل.

كما أنه من غير الدقيق أيضا اعتبار نشأة الإسلام السياسيّ ردّة فعل ضد السياسة التحديثية للدولة الوطنية، لأن الظاهرة السياسية الإسلامية الموسومة بـ"الإخوانية" أقدم بكثير من الدولة الوطنيّة، فضلا على أن مسار زعيمها راشد الغنوشي يؤكّد تأثره بحاكميّة السيد قطب وبالفكر الإسلامي الهندي في تجسيم الحاكميّة عند أبي الأعلى المودودي. على أنه لو قارنّا بين ما حصل في تونس وما وقع في مصر من صدام بين جمال عبد الناصر وتنظيم الإخوان قبل إعادة ترتيب العلاقة بين أنور السادات والإسلامين الأزهري والسياسي، فإننا سنقر بأن التأثير السلبي للاحتجاج الديني مصريا كان أدهى وأمر بكثير مما عاينته البلاد التونسية، وأن كبوة مصر بل وانسحاقها الثقافي والاستراتيجي يعود إلى هذا الضغط المزدوج الدي سلّطه تبادل الشرعية بين الاسلامين التقليدي والسياسي، وكذا تحالف العسكر والرأسماليّة الليبيراليّة المتوحشّة من جهة، والتوحّش الدينيّ الذي تقاسمت من خلاله مؤسسة الأزهر و"الإخوان" والحركات الجهاديّة المواقع، بحيث يبدو  أن ما شهدته مصر كان أخطر بكثير مما جدّ بتونس بموجب التفاوض مع الإسلاميين أيضا وليس بموجب هيمنة المؤسّسة العسكريّة فحسب.

فما الذي كان بوسع هؤلاء تقديمه لتونس حال إدماجهم في الحياة السياسية غير اعتراضهم على المشروع الحداثي ولو في مظاهره البسيطة والأساسيّة؟ ثم أي فكر تنوري كانوا قادرين على التبشير به؟ وأي رؤية إصلاحية أو ثورية كان بوسعهم موضوعيا تقديمها من موقع المنافسة السياسية؟

فليس دقيقا الزعم بأن النهضة قد انخرطت في معركة الحريات والحال أن العديد من الدلائل تثبت تهافت هذا الادعاء، كما أن حقيقة توفر الإسلام السياسي على تنظيم سري مسلح قد تحولت إلى أمر مقطوع به بعد الشهادات المؤكدة لذلك منذ اعترافات المنصف بن سالم المورّطة. الشيء الذي يدعونا إلى التحفظ من مغبة الانخراط في التنويه بمشاركة الإسلام السياسي تونسيا في معركة الحريات. مع التوجّه إلى مزيد الاشتغال على سرديّة النهضة والبت في خطابها بكثير من التريث، لأن البناء عليها غير كاف لوحده في فهم موضوع إدارة الاختلاف وإقرار التنوع تونسيا.

ومع ذلك فإن تشعّب السياقات ومنعرجات الصراع السياسي بين الدستوريين والإسلامين تدعو بإلحاح إلى الخروج عن رفاه الثنائيات البسيطة للتفكير في تدبير ترياق هذا الزمان الحزين وأهله، والتعويل في ذلك على إشكالية "تدبير التنوّع السياسي" بوصفها منوال منهجي أو أنموذج لتحليل السياقات التاريخية الخصوصية التي حفت بمحاكمات الإسلاميين أثناء عشرية ثمانينات القرن الماضي تونسيا، وهو أمر بليغ الدلالة يسمح بتخطي جميع البديهيات المظلّلة، التي كثيرا ما ابتسرت حيثيات تلك المواجهة في ارتدادات الصراع المحموم بين المشروع الحداثي الوطني المناهض لمشروع "الأخونة"، حال انقلابه على ايديولوجيا الإصلاح والنماء لدولة الاستقلال. لذلك تم التعويل في تحليل مختلف مراحل ذلك الصراع ومزيد فهم سياقاته السياسية على المنجز النظري لمدرسة فرانكفورت منهجا وفكرا ونقدا. وهي مدرسة ذات توجه يساري تحليلا وانفتاحا ومرام، حتى وإن ثمنت الليبرالية السياسية بما هي حقوق وديمقراطية تمثيلية وحرية، ملتقية في ذلك مع الليبرالية الأمريكية ومنظّريها في الكشف عن توسيع دائرة الحيف وعدم المساواة ودور الدولة في مقاومة الفوارق الاجتماعية. على أن زاوية النظر التي شغلت بال مؤلف هذه الدراسة قد تمثلت في محاولة قراءة مختلف التحولات التي عاينها حركة النهضة تونسيا، وتدرّجها من الجماعة إلى الاتجاه الإسلامي، وجملة التغيرات التي مرت بها سواء في خطابها أو تنظيمها أو علاقتها بخصومها ومنافسيها. فهذا الجسم السياسي ومهما طوّحت أطروحاته التي بدت للبعض نشازا يتعيّن مواجهته باعتباره خارج إطار مشروع الدولة الوطنية، قد ضمن لمناصريه الحضور بقوة على ساحة الفعل السياسي بعد عقود من التعقّب والسجن والحصار، الشيء الذي أثبت محدودية الخيارات الأمنية والسياسة الردعية والعقابية وإجراءاتها المجانبة للقانون. كما ضمن له المنجز الدستوري حق النشاط، فضلا عن ضرورة التأكد من حقيقة حضور تحوّلات طالت قناعات البعض من المحسوبين على نخبه. فقد شدّد مؤلف هذه الدراسة -وهو على تمام صواب- على أن استعادة ماضي الحركة وتجربتها لا يعنيان التصديق بشكل آلي على القراءات التي تتعامل مع هذا الجسم السياسي باعتباره خطرا محدّقا بالبلاد، وذلك تأسيسا لإدارة التنوع والاختلاف، وفق قواعد قانونية وثقافية تهدف في الأخير إلى تعبئة موارد البلاد البشرية فكرا نضاليا وممارسة سياسية أيضا.

مراجعة في مضامين الكتاب:  

      اقتضت الخطة المتبعة من قبل واضع هذه الدراسة وبعد تقليب النظر في مدونة محاكمات الإسلاميين إلى تقسيم مختلف العروض المستجلبة إلى قسمين: اتصل أولاهما بردود فعل الدولة الوطنية وايثارها للحلول الأمنية بعد اختراق الإسلام السياسي العلني والسري للمؤسسات الرسمية وللنسيج المجتمعي، في حين اهتم القسم الثاني بتعثّر مشروع الدولة الوطنية وصراع الشرعيات السياسية. بحيث خاض أول الأقسام في طبيعة ردود الفعل الأمنية للدولة الوطنية إزاء تأسيس حركة الاتجاه الإسلامي والتضييق على الإسلاميين بعد تأسيسهم السري لحركة إسلامية لها مرجعية دينية وهيكلة محليّة وجهويّة ووطنية وآليات عمل حركية مكّنتها من النشاط السري بالمؤسسات التربوية والطلابية والشبابية، وذلك في إطار المنافسة بين الأحزاب السياسية - الحاكمة والمعارضة- من أجل السيطرة على تلك التشكيلات، فضلا عن إقحام المؤسسات الحاملة للسلاح في عمليات التعبئة، على الرغم من أن تلك المؤسسات لم تكن لتحتمل الزج بها في مثل تلك السياسية الرعناء غير محسوبة العواقب.

أُفرد القسم الثاني لدراسة تعثر مشروع الدولة الوطنية وصراع الشرعيات السياسية. وتناول أزمات الدولة الوطنية ولجوئها إلى التهدئة إزاء منافسيها، وتعدّد مظاهر الأزمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. كما خاض أيضا في تنازع الشرعيات بين حركة الاتجاه الإسلامي والسلطة القائمة، وهو تنازع وصل إلى حد التشكيك في مؤسسات الدولة وأهدافها وآليات عملها. وامتد ذلك التنازع ليشمل مجالات تفصيلية أو ترتيبية تحيل على عدم التوافق بخصوص مواعيد الأعياد الدينية وبرامج التعليم الديني ومحتوى العروض الثقافية وغيرها من المسائل التي طالها سجال حامي بين الطرفين. وعلى العموم فقد تمكنت الحركة من فرض خطابها بخصوص التوسّع في التعريب بالجامعات، وفي البرامج التعليمية الابتدائية والثانوية. وعملت على اعادة الاعتبار للهوية العربية الإسلامية كقاسم مشترك بين جميع التونسيين، والتصدي لما اعتبرته "غزوا فكريا وموجات إلحاد مثّلت إيديولوجية الدولة والمعارضة اليسارية"، تلك التي كان لها تأثير بالغ - بحسب رأي راشد الغنوشي طبعا- في أوساط "نخبة الفكر والسياسة ومؤسسات المجتمع المدني". ومع ذلك يبدو من الثابت تاريخيا أن الاسلاميين قد استفادوا من خطاب النخبة اليسارية في الجامعة وخارجها، وساهم ذلك بـقسط وافر في تطوّر الخطاب الإسلامي من حيث المضامين والتوجّهات وآليات التحليل المعتمدة للبنية الاقتصادية والاجتماعية المحلية والعالمية، الامر الذي أدى الى تقارب بين الاطروحات النظرية والفكرية لليساريين والاسلاميين بخصوص قضايا التحرّر والانعتاق ونضال الطبقات الكادحة. فقد بدا من الواضح اطلاع الطلبة الإسلاميون بالجامعة على الفكر اليساري وذلك بشكل أكثر وضوح قياسا لمعرفتهم الضحلة بـالتفكير الإسلامي. لذلك ذهب زعيم الإسلاميين التونسيين التاريخي وفي تقييمه لنشاط الحركة إلى أن الإعلان عن تأسيسها يعد بمثابة مواصلة لمشروع التحديث الذي انطلق منذ القرن التاسع عشر وأجهض مع حلول النصف الثاني من ذات القرن، حتى وإن اعترف بـتواصل الصعوبات النظرية المرتبطة ببطء التطور الفكري والتنظيري للحركة الاسلامية ككل. بحيث خلُصت الحركة الى ضرورة مراجعة بعض الأفكار التي وردت لدى زعماء الاخوان ومنظريهم على غرار سيد قطب مثل مفهوم "التميز والانفصال" أو ما عرف بـ "القاعدة الصلبة في تفكيره"، ومسألة "التكفير"، ملاحظة "وجود فراغ روحي وضعف فكري" لدى عناصرها برز بالخصوص خلال المحاكمات الأولى. مما يؤشر على اهمية التفاعل في الساحة العمومية بشكليه السلمي والمتشدّد بين مكونات الطبقة السياسية المختلفة، ودور ذلك في تطوّر الافكار والمواقف التي تبنتها الحركات القريبة من الإسلام السياسي.

وعموما لم تفض المحاكمات الى إضعاف مواقف الحركة وعزلها سياسيا واجتماعيا بقدر ما رسخت حقها في النشاط السياسي وذلك تزامنا مع حصولها خلال تلك الفترة على مساندة الاحزاب السياسية المعارضة والمنظمات المهنية والحقوقية التي وقفت ضد المحاكمات والملاحقات الأمنية دافعة إلى مزيد من التضامن والوحدة بين مختلف مركبات المعارضة في مواجهة السلطة الحاكمة. لذلك يستقيم الزعم بأن حركة الإسلام السياسي قد دفعت بشكل واعي إلى الاستفادة من عملية إثمار رمزية لنتائج تجربة نضال الحركة الوطنية التونسية ضد الاستعمار ودور السجون والمنافي والمحن في تطوير معارضتها للإدارة الاستعمارية. فخطاب قادة حركة الاتجاه الإسلامي وعلى الرغم من تواصل وفائه لتصورات الفكرية المؤسسة للجماعة الاسلامية ومن بينها "الغربة الفردية"، و"غربة الإسلام في البلاد" قد عمد إلى تطعيمها بتصورات جديدة تدور حول حقوق من وسموهم بـ "المستضعفين" ضد ما نعت بـ "الاحتواء البرجوازي الاستكباري"، والتمسك بالأصالة ضد "فقاقيع النخب الثقافية المتغربة الطافية على السطح". كما لاحت مظاهر تأثر الفكر الإسلامي تونسيا بالتصوّرات التي قادت الثورة الايرانية وبخطاب الاحزاب اليسارية المنحازة الى الفئات الشعبية والطبقات المسحوقة. فتعدّدت المصطلحات الجديدة التي استعملت في أدبيات الحركة على غرار "المستكبرين والبرجوازية المحتوية للنخب"، و"الفئات الاجتماعية"، دون تحديد موقفها الايديولوجي والسياسي بخصوص تلك الفئات وعلاقة ذلك بتحديث المجتمع. لذلك يعتقد المؤلف بأن ما أورده راشد الغنوشي يستوجب إعادة النظر في محتواه لا من حيث مصادره الشرعية فحسب، بل ومن حيث مدلوله الاجتماعي، وتأثيره في علاقة المعارضة السياسية بالسلطة الحاكمة وطبيعة التوازنات بينهما، وأهمية إدارة الاختلاف والتنوع وتضمين ذلك في دستور البلاد عن طريق سنّ قوانين واضحة وجليّة، وأساليب دقيقة وثابتة.

يخلص مؤلف الدارسة وبعد استعراض العديد من المعطيات التفصيلية التي تحيل على سياقات العشرية التي استهدفها بالدراسة أن الاحتجاج السياسي قد جاء نتيجة للأزمة الشاملة التي عرفتها البلاد خلال ثمانينات القرن الماضي وفشل السياسة التنموية التي اتبعتها السلطة الحاكمة وتوجهاتها الوطنية، مما ضرب في العمق تصوّراتها التحديثية المعلنة واضطرّها إلى الجنوح مرارا الى التهدئة إزاء خصومها ومعارضيها من السياسيين ومن بينهم الإسلاميين. غير أن تلك المبادرات السياسية لم يتم تضمينها في دستور البلاد وبقيت مجرد قرارات واجراءات رئاسية شخصية مرتبطة بظروف استثنائية. لذلك هدّد الصراع بين الاسلاميين والسلطة الحاكمة أمن البلاد ووصل الاختلاف الى حد التشكيك في مؤسسات الدولة وقرارتها وإجراءاتها، كما في المشروع السياسي والثقافي للدولة. وفي المقابل شكّكت السلطة القائمة من جانبها في وطنية المنتمين الى الإسلام السياسي معتبرة إياهم إرهابيين مجيرّين لأنظمة سياسية خارجية ومصدر تهديد حقيقي للسيادة الوطنية، مضيفة إلى ذلك تهم خطيرة وتصرفات تدينها الشرائع والقوانين الدولية وفي مقدمتها جرائم العنصرية والتطرّف. واثبتت تلك التوجّهات المتصلّبة تباين وجهات النظر بين النظام ومعارضيه، بل وطبيعتها الحدّية، وهو ما أوشك على تهديد الامن العام وضرب سيادة الدولة.

في إعادة انتاج المنظومة السياسية القديمة أو لعنة الفرص الضائعة:

         اختزالا للقول يمكن التذكير وفق ما انتهى إليه بحث صلاح الدين البرهومي حول عشرية ثمانينات القرن الماضي بتواصل اعتبار الانتماء للحزب الحاكم والانخراط في شُعبه الدستورية مقياسا للفرز السياسي من منظور السلطة الحاكمة خلال عهدتي الرئيسين بورقيبة وابن علي. كما شكّل ذلك الانتماء أيضا مقياسا للفرز الاجتماعي والثقافي بحق الإسلاميين لاحقا، وترجمته جملة من المعايير والتدابير من بينها أداء الصلاة الجماعة في المساجد، والتضامن مع الحركة، والتضحية في سبيلها. بحيث طغى معطى الانتماء على مجمل المعايير والمقاييس الأخرى، وحكم سياسة كل طرف تجاه المنظمات الوطنية والمهنية والأطر الشبابية والتربوية، حتى بدا الأمر أشبه بسباق محموم بين الطرفين من أجل السيطرة عليها وتطويعها لخدمة سياسة كل طرف، وهو ما عرّض كيان الدولة إلى حالة من التطاحن، بل والتسابق في استغلال المنظمات الوطنية والمؤسسات التربوية والطلابية والمساجد لخدمة أهداف هدامة غير معلنة. الشيء الذي حال دون فسح المجال لهذه الأطر لخدمة المجتمع دون تمييز، والحافظ على دورها في تماسك مشروع الدولة الوطنية.

ولم تعمل المعارضة السياسية التونسية من جانبها على النضال من أجل صون استقلاليه المنظمات والأطر الاجتماعية المطالبة بتحرير الإعلام ورفع الوصاية على القضاء، بل انزلقت وعلى عكس ما كان  منتظرا، في سياسة اختراق المؤسسات التربوية والطلابية والثقافية للسيطرة على زخمها التعبوي وتطويعها لخدمة توجهاتها السياسية، معتبرة ذلك انتصارا على المنظومة القديمة، والحال أنه دلالة بليغة على لعنة إهدار فرص تحديث المؤسسات المموّلة من خزينة الدولة وتكوين نُخب جديدة تعكف على إنتاج المعارف والتقنيات وتطوير الحياة المدنيّة والسياسية.

إن الفشل في تدبير الاختلاف وإدارته بين الأطراف المتنازعة على السلطة، هو الذي أدى في النهاية إلى قرارات تعارضت بالكامل مع المصلحة العامة من بينها: تصفية المعارضين بالقوة المادية عبر توظيف آلية التجنيد العقابي، وتدجين القضاء، والسيطرة على الإعلام، ومراقبة المنظمات الوطنية والمهنية بشكل لصيق. مما نتج عنه حرمان المجتمع من خدمات النُخب وتحرير الطاقات وخسارة أجيال من القوى الحيّة المتحفزة لاحتلال مواقع متقدّمة في خدمة الصالح العام. وهو ما تعارض مع فكرة سيطرة الدولة الوطنية الحديثة على مجالها، وتعبئة موارده البشرية والاقتصادية والطبيعية والثقافية من أجل الزيادة في الإنتاج وخلق الثروة وتوسيع دائرة النماء.

ولعل ما يسترعي الانتباه ضمن صراع النظام القائم مع الإسلاميين هو عدم إثارة القضايا الاقتصادية والتنموية ضمن الخطاب الرسمي للسلطة ولمعارضيها، بحيث لاح التحديث الذي تم التسويق له في تونس أقرب إلى تحديث هلامي غير معلن عن مقاصده، لكأنه وَجِلٌ من ردة فعل المجتمع، مع التهيب من التصريح علنا بحقيقة تأثره وتنسيقه أيضا مع الدول الغربية سياسيا واقتصاديا وثقافيا. وهو ذات الموقف الذي وجدت فيه المعارضة الإسلامية نفسها بعد أن أبدت حرجا مبالغ فيه بدورها في الإعلان عن تكيّفها مع مقاصد الحداثة كما أنتجها الفكر الإنساني غربا، بحيث بقيت عاجزة عن التفاعل بشكل فارق مع الإرث الحضاري الإسلامي، وذلك نظرا لتباين مستويات المعرفة بين المنتمين لها، بل وخواء وطابهم مقارنة بقدراتهم على صعيد ممارسة الفعل النضالي الميداني والدعاية له.

وهكذا وقف الإسلاميون والنظام القائم في تونس في ذات المواقع، واتسمت ردود أفعالهم بالاضطراب والتشكيك والمراوحة، مع الاكتفاء بما تخيّره المصلح خير الدين التونسي وقَبِلَ به المجتمع من مظاهر التحديث الغربي. ومع ذلك فإن ذات الموقفين يعكسان، كل بطريقته الخاصة طبعا، محاولة لوضع حد لظاهرة إعادة إنتاج ذات المظاهر السلبية والتحرّر من جميع التصورات البالية التي ران عليها الزمان، وتلك ميزة إيجابية ثبت بالتحليل والتقصّي تشوّف مختلف فئات المجتمع التونسي ونخبه الحيّة لبلوغها وصون مكتسباتها والإبقاء عليها.

ما الذي حاول صلاح الدين البرهومي أن يشدّد عليه من خلال ربط عروض بحثه بملف محاكمات الإسلاميين تونسيا وعلاقة ذلك بفشل السلطة القائمة والإسلاميين أيضا في ضرب موعد حقيقي مع التاريخ؟ لا شيء في اعتقادنا سوى الإيمان بقدرة هذا البلد الصغير حجما وسكّانا على القطع مع الجمود السياسي والتحوّل بالتدرج إلى تجربة من أبرز تجارب التصالح بين مقاصد الإسلام والديمقراطية على قاعدة الفصل التام بين الدين والسياسة قولا وفعلا. فتدبير شؤون المدينة لا يحيل إلا على تطبيق القوانين السائدة، وليس له أي علاقة بقضايا الاعتقاد حلالا أو حراما. فما من خلاص من ورطة تجسيم شروط "الانتقال الديمقراطي" تونسيا دون إثمار للمسار الذاتي للحداثة، وهو مسار انطلق منذ إصلاحات القرن التاسع عشر، مع صياغة مضمون عقلاني لمعادلة الاقرار بحقيقة تنوّع المجال العمومي وحسن تدبير مركّباته المتباينة فكريّا وسياسيّا./.    

صدر هذا العرض النقدي بالصحيفة اليومية التونسية "المغرب"، بتاريخ الثلاثاء 30 مارس 2021 (ص ص، 8 و9). 

https://ar.lemaghreb.tn/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/item/48963-%D8%AA%D8%AF%D8%A8%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%86%D9%88%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A-%D9%88%D9%84%D8%B9%D9%86%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%B9%D9%8A%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%87%D8%AF%D9%88%D8%B1%D8%A9?fbclid=IwAR3LG_HgFpYHH8xFanMQouoVyMtBhgEOYh0T6moTA7G7Y-Osr3HoP2qjrIE

lundi 1 mars 2021

بين المعرفي والسياسي: مساءلة الإنتماء من منظور المباحث التاريخية

 











 

        لا يجافي هذا التأليف الجماعي الذي أنجزته أيادي متعددة التصوّرات التي فرضتها سياقات ما بعد سنة 2011 تونسيا، وهي سياقات أعلت من القيمة الاعتبارية -وبشكل غير منتظر- للمعرفة التاريخية التخصصية وللنضال من أجل الحريات الأكاديمية في آن.

كما أن الأبحاث المتخصّصة التي أفردت للبتّ في مدلول السرد باعتباره قرين للثقافة وفق ما بينته حفريات "رولان بارت" اللغوية، قد حسمت في حقيقة "وجود[ه] ببساطة شأنه شأن الحياة ذاتها، وأنه عابر للتاريخ والثقافات. لذلك يستقيم أن نعد حضور السرد إجابة عن التساؤل حول كيفية ترجمة المعرفة إلى حكاية، وصوغ التجربة الإنسانية في شكل يمكن تمثّله في بُنى المعنى"[1]، حتى وإن تجسّم ذلك في أنماط متعددة استخدمتها مختلف الثقافات لإضفاء معنًى على تجاربها المنقضية. لذلك يمثّل اللجوء إلى السرد شاغلا قارا وشفرة عابرة للخطابات Metacode، تسمح بنقل رسائل قادرة على اختراق جميع الثقافات.

ولئن عمد كبار العارفين بمهنة التاريخ، على غرار "توكفيل" و"بوركهارت" و"هويزنجا" و"بروديل"، إلى تحاشي الوقوع في السرد باعتباره نقيض للتاريخ، فإنَّ مرد ذلك متصل بالتمييز "بين خطابٍ تاريخيٍ يَسْرُد، وخطاب يفرض الطابع السردي، بين خطاب يطلّ على العالم ويبلّغ عنه، وخطاب يتكلّف كي يجعل العالم يتكلّم عن نفسه على غرار ما يحدثه الحكّي أو القصّ.[2]"

ومهما يكن من أمر هذا الجدل الثري الذي أحالت عليها التعريفات الخاصة بمعنى السرد أو الرواية، فقد اقتضت مساءلة موضوع الانتماء من منظور المعارف التاريخية التونسية، رده إلى جملة من الاشكاليات والأبعاد المعرفيّة، التي خضع جميعها إلى مراجعة الصياغة والتشذيب لغة ودلالة، حتى يستجيب مضمونها لمقتضيات الإشكالية الجامعة لهذا التأليف، تلك التي اقترحها من تولى الاشراف على جمع مختلف تلك المساهمات، وقدّم لها وركّب مختلف استنتاجاتها الختامية، عاملا على ضبط مضامينها المدرجة ضمن فهرسة محتويات هذا التأليف. وقد احتفظنا من بينها، لاعتبارات منهجيّة بحتة اتصلت بطبيعة المساهمات، والشواغل المخصوصة لمن ركّبوها أو أسسوا لمنطقها الداخلي أيضا، بخمس محطات متواشجة خاضت تباعا في:

 "رهانات الانتماء في المباحث التاريخية الاستعمارية"، وتضمن ذلك عرضان متكاملان حررتهما باحثتان، واحدة يحيل تخصّصها الضيق على تاريخ مقاطعة أفريقيا القديم وتحليل النقائش الرومانية، في حين اتصل تخصّص الباحثة الثانية في التاريخ الحديث لتونس في ضوء تمثيلها الخرائطي خلال القرنين الماضيين. فقد قاربت "ثريا بالكاهية" نقديا رحلة استكشافية فرنسية استهدفت البلاد التونسية ونشرت في أواخر القرن التاسع عشر، وذلك ضمن مساهمة حملت عنوان: " بين الرهانات السياسية والاستلاء على هوية تونسية ما قبل إسلامية: مروية سبيبة في كتاب "رحلة إلى تونس" لــ "روني كانيا" و"هنري صلادان"". بحيث استجلت التحاليل المقترحة ثلاثة محاور هي: طبيعة المهمّة الاستكشافية لـ "كانيا" و"صلادان"، فواقعة سبيبة من منظور القراءة الإيديولوجية الاستعمارية، قبل التفرّغ لتوضيح كيفية انخراط تلك المروية تحديدا في محاولات الاستحواذ على ما نعتته صاحبة هذا الاسهام الافتتاحي بـ "الهوية ما قبل الإسلامية للبلاد التونسية".

وبالتوازي مع ذلك تولّت "هدى بعير" وبطريقة لا تخلو من توارد للخواطر والأفكار، وضمن مساهمة حملت عنوان: "التجديد الكرتوغرافيّ في القرن التاسع عشر: أيّ مكان لتونس؟ البتّ في ثلاثة محاور متضامنة هي: إدارة مشاريع رسم الخرائط ونصيب تونس من ذلك، فأشكال التواصل بين المستكشفين والمناطق المشمولة بالمسح التوبوغرافي ورسم الخرائط، قبل أن تتفرّغ للحديث عن صناعة الخرائط واستخداماتها السياسية.

تعرض الفصل الثاني من هذا التأليف الجماعي إلى ما نعتناه بـ "خطاب الانتماء في الأدبيات التاريخية للوطنيين التونسيين"، واتصل ذلك تحديدا بمساهمة أمّنتها "لمياء عبيدي" باعتبارها باحثة متخصّصة في علاقة العائلات العالـِمة بالتحوّلات العميقة التي طالت الحياة الفكرية والثقافية تونسيا. لذلك اقترحت علينا ومن وجهة نظر اختصاصها الدقيق الحفر في تقاطيع شخصية "عبد العزيز الثعالبي المؤرخ"، وعلاقة ذلك بما سمـّته بـ "السرديات الممكنة للانتماء والأصول. بحيث تضمنت عروضها لحظتين: خُصصت الأولى لعلاقة "الراوي ببناء المروية أو السردية التاريخية"، في حين فكّك المحور المكمّل علاقة تلك السردية بما أسمته نفس الباحثة بـ "النكهة" أو المهجة التي حدّدت ما سمته بـ "وصاية المشرق" على المغرب، وذلك من خلال تتبع طريقة تركيب عبد العزيز الثعالبي للقراءة التاريخية التي اقترحها علينا ضمن عدد من مؤلفته بوصفه مثقّفا مسلما ومناضلا وطنيا في ذات الوقت.   

استأثر البعد الثالث بفصل مُفرد حمل عنوان "مساءلة الانتماء من منظور الدراسات التاريخية الموريسكية"، أمّن تحريره حسام الدين شاشية، وهو باحث متخصّص في الدراسات الموريسكية خلال الفترة الحديثة، اشتغل بطريقة طريفة ومجدّدة على أشكال المثاقفة بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط وتاريخ تهجير الموريسكين وتوطينهم بالبلاد التونسية، لذلك حمل مقترحه التاريخي عنوان: " الموريسكيون في تونس: إعادة قراءة لروايات الانتماء"، وراوح التخطيط بين مساءلة النصوص الإخبارية المحلّية والنصوص التي وضعتها النخب الأندلسية الوافدة بخصوص الحرج الذي عاينته سيرورة إدماج الموريسكيين والتصديق على اتصالهم الوثيق بما يجمع مختلف الشرائح الاجتماعية المحسوبة على "التونسة" والتونسيين.     

اتصلت عروض الفصل الرابع، وهو فصل حمل عنوان "قلق الهوية في مؤلفات الرحالة التونسيين"، بمراجعة أثّثها "عادل النفاتي"، وهو باحث متخصّص في علاقة أدب الرحلة العربي بتحوّلات المشاهد الجغرافية الثقافية أوروبيا، سلطت الضوء على رحلتي "محمد السنوسي" و"سليمان الحرايري"، وأسند لها الباحث عنوان: "سؤال الانتماء ومدلول الهوية التونسية زمن الاصطدام بالغيرية الأوروبية"، عامدا إلى التمييز بين ما نعته بـ"الهويّة الناجزة في عروض محمد السنوسي"، وبين علاقة "فتاوى سليمان الحرايري بحاجة المسلمين إلى الانفتاح على الغير".  

ولئن لم يـَخْلُصْ المبحث الخامس والأخير بالكامل للبتّ في التاريخ التونسي مُؤْثِرًا التعرّض لما وسمناه بـ "صناعة التواريخ في ضوء التنافذ بين القراءتين المعرفية والسياسية"، وذلك من بوابة التاريخ المقارن بين العروض التركيبية في التواريخ الجامعة التونسية ورصيفتها المغربية، فإن مقصدنا من تأثيثه بتلك الطريقة هو مواصلة البتّ في علاقة الكتابة التاريخية الأكاديمية تونسيا ومغربيا بما قد تستقيم تسميته بالحكايات التاريخية المؤسسة لهذين الشعبين الخارجين ومع حلول خمسينات القرن الماضي عن الهيمنة الأجنبية، والتساؤل بخصوص المناهج المعتمدة من قبل المختصين في كتابة التاريخ بكلا البلدين في صياغة العروض التأليفية التي غطت مختلف الأزمنة الاعتبارية، من عصور ما قبل التاريخ إلى تاريخ الزمن الراهن، وذلك من منظور المنافسة القائمة بين صيت المعرفة العالمة وسلطة الزعامة السياسية، حول طبيعة الدور الموكول لكلهما في التصديق على "السردية الوطنية" أو / و الرسمية وبناء استعاراتها، وأشكال تبادلهما للشرعية من خلال التقريب بين متنافر التصوّرات. فقد تمثل الهدف من إتمام ذلك في الكشف عن حقيقة التنافذ بين ما هو سياسي وما هو معرفي في عملية التركيب، وهو أمر سبق وأن أثرناه وفق تصوّرات مغايرة ضمن مؤلفات جماعية وأخرى شخصية نشرناها بالتتابع منذ سنة 2014[3].

لذلك حملت المساهمة الأخير ضمن هذا المؤلف الجماعي، الذي مكّننا من خوض تجربة تقاسم التصوّرات والأدوار مع زملائنا الحاليين وطلبتنا وطلبة غيرنا القدامى، بخصوص وجهات نظرهم لمسألة لانتماء في ضوء انتسابهم الأكاديمي للمعرفة التاريخية، عنوان: "إشكالية التركيب في تواريخ المغارب الجامعة". وتضمن ذلك ثلاث محطات كبرى راجعت تباعا تاريخ المغارب القديم بين المحلي والوافد، وسلّطت الضوء على تواريخ المغارب الإسلامية التي وجدت صعوبة جمة في الانسلاخ عن هيمنة المشرق، قبل توضيح كيفية تركيب تواريخ المغارب الجامعة لمشاريع الإصلاح وأشكال انغماس مختلف السرديات المقترحة في مأزق تبرير عدم توصّل الفاعلين السياسيين إلى استكمال بناء أسس الدولة الحديثة.




[1]     Roland Barthes, "Introduction to the Structural Analysis of Narratives," in: Image, Music, Text, Stephen Heath (trans.) (New York: Hill

and Wang, 1977), p. 79.

[2]   للتوسع أكثر في هذا الموضوع يمكن الإفادة من مقال وايت (هايدن)، "قيمة السردية في تمثيل الواقع"، ترجمة ثائر ديب، مجلة أُسطور للدراسات التاريخية، عدد 11، كانون الثاني/ يناير 2020. ص ص، 177 – 196.  

[3]   Aïssa (Lotfi), (Sous la direction de), Être tunisien, opinions croisées, éd., Nirvana, Tunis 2014.

عيسى (لطفي)، بين الذاكرة والتاريخ، في التأصيل وتحولات الهوية، إفريقيا الشرق للنشر، الدار البيضاء 2015.

عيسى (لطفي)، أخبار التونسيين، مراجعات في سرديات الانتماء والأصول، مسكيلياني للنشر، تونس 2019. 

mardi 9 février 2021

"سنوات الرمل" لعدنان المنصر بين منجز المؤرخ وتأملات الفاعل السياسي

 












 

       لم يحصل أن التقت بعدنان المنصر بعد اغتيال شكري بلعيد الذي نُحي الذكرى الثامنة لاغتياله الغادر في السادس من شهر فيفري سنة 2013. لكنه أصرّ وفي بداية السنة الجديدة على الاتصال بي للإعراب عن ابتهاجه بقيمة المنجز الذي حمله كتاب "أخبار التونسيين..." الصادر في غضون سنة 2019 بعد أن قُيّد له الاطلاع على محتواه. على أن يجمعني به منذ أيام لقاء ودّي أهداني خلاله مشكورا نسخة من قطافه الجديد، وهو أثر صاغ ضمنه جملة من الخواطر أو التأملات السياسية المفيدة بخصوص محصلة مباشرته لإدارة الديوان الرئاسي في الفترة المتراوحة بين 2011 و2014.

اختار عدنان المنصر لتأملاته عنوانا لا يخلو من إيماء أو من تضمين لمنسوب الحيرة التي انتابته ولا تزال بخصوص طبيعة القراءة التي ينبغي على مؤرخ الزمن الراهن وكذا الناشط المساهم في صناعة القرار السياسي أن يقترحها بخصوص ما حملته تلك المرحلة الحساسة من وقائع مفصلية. فـ "سنوات الرمل..." طباق لفظي يحيل على "سنوات الجمر" وهو عنوان شريط سينمائي أنجزه الأخضر حامينة وحاز على السعفة الذهبية لمهرجان كان الذائع الصيت. كما يحيل أمر تلك الاستعارة على ألة قيس الزمن الرملية Sablier  أو رصيفتها المائية clepsydre  تعبيرا على فكرة محورية تحيل على ما نعته المؤلف، بعد تحليل وتفكيك للوقائع وفي غواية دالة، بـحالة "التسرّب" قاصدا بذلك انفراط عقد الثورة الذي اغتالته حسّا ومعنى -وبدم بارد- أشكال معقّدة هدفها إعادة انتاج منظومة الاستبداد والتظليل على ذلك بالتعويل على بريق الانتقال الديمقراطي، ذاك الذي استحكمت المعادلات المحافظة على مضامينه ولوّنت مختلف تمظهراته.

من دواعي الانصاف أن نعترف لصاحب هذا الكتاب في البدء بقيمة منجزه باعتباره شهادة مهمّة ترسم بصدق مدركاته أو تمثله الشخصي لما عاشه باعتباره فاعل سياسي وصانع قرار احتل مع غيره الصف الأمامي في متابعة ما عاينته تلك الفترة من أحداث سياسية مهمّة ومفصلية في تاريخ تونس، سواء قبل موعد حصول أول انتخابات ديمقراطية تونسيا، أو بعد ذلك (الانتساب إلى حزب المؤتمر من أجل الديمقراطية، وأمانة حزب حراك المواطنين العامة، وعضوية الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة، والاستشارة لدى الرئاسة المنبثقة عن المجلس التأسيسي والنُطق باسمها، والاشراف على الديوان الرئاسي، وإدارة حملة المرشح للانتخابات الرئاسية المنصف المروزقي في دورتيها الأولى والحاسمة).

كثافة التجربة السياسية وحصولها في سياق محدود زمنيا اتسم بالتسارع الجنوني لنسق الاحداث، هو ما أضفى على هذه الشهادة أهمية مضاعفة، باعتبارها محاولة لتملي تلك المرحلة العصيبة من موقعي المؤرخ المختصّ في تاريخ تونس المعاصر والفاعل الذي خاض تجربة النضال السياسي وشارك في صناعة القرار.                  

جاء في الكتاب:

تضمنت عروض الكتاب الذي ورد في أكثر من مائتي صفحة، وبالإضافة إلى التقديم والفصل الختامي الذي حمل عنوان "أسئلة الأمس أسئلة اليوم"، أربعة فصول تعرّضت تباعا لما وسمه المؤلف بـ: "السرديات المتصارعة"، و"ورقصة النخب"، و"الدولة المغلقة"، و"مآزق...أنفاق بلا نوافذ".

فقد بتّ التقديم في محدودية الفعل الثوري تونسيا بوصفه مجافيا للدولة، معتبرا أن هذه الأخيرة لم تبرح الأفق الذي أحدثت من أجله، وأن "مسارها الهجين" قد تراوح حاضرا "بين المحافظة على التوازنات الاقتصادية والاجتماعية القديمة والتعايش مع مقتضيات الحرية، قصد تسويق نفس السياسات". وهو ما يفسر في تقديره دائما عملية الدوران في الفراغ طوال العشرية المنقضية، مع الامعان في السطو على ما مثّلته الثورة من طموح لتحقيق العدل والكرامة والحرية.

أما بخصوص الأفق المنهجي لهذا العرض فقد سارع المؤلف بالتنويه إلى أن موضوعه قد "نشأ في ضميره كرغبة في الفهم" واقتراح منهج لذلك، تحدوه "مسافة مزدوجة" تحيل على الوقائع وتأمل التجربة الشخصية، قصد رؤية الأشياء بأكبر قدر من الوضوح، ضمانا لاتساق مقترحه التركيبي.

يقّر عدنان المنصر منذ البداية بأن الجميع قد أخطأ الطريق منهمكا في ما أسماه بعملية "بناء في الرمل"، لذلك بدت الثورة غربية عن التونسيين والديمقراطية أيضا، مضيفا أن معالجته ليست توثيقية أو أدبية ذاتية، بل خليط من "التفكّر في التجربة وفي المرحلة"، في ضوء ما بوسع مرآة الاشتغال بالعلوم الإنسانية أن تعكسه.     

"من لا يعرف الحكاية لا يملك أرض الحكاية"  

ليس بنا أي حاجة للدخول في مساجلة مع المؤلِف بخصوص مختلف ما تصدى لصياغته من مضامين، غير أننا لن نكتف مع ذلك بإنجاز تغطية شاملة لها من شأنها أن تدفع إلى الاقبال على اقتنائه، وهو ما لا نترفّع عن اتمامه. غير أن ما نبتغي التركيز عليه بشكل تفضيلي هو مناقشة بعض التصوّرات الطريفة واللافتة التي لا يمكن ألاّ تحرك فضول المؤرخ فينا.

فقد عقد المؤلِف فصلا كاملا لما نعته بـ "السرديات المتصارعة" (37 صفحة)، وهو ما شكّل من منظورنا الشخصي نوع من المصادرة الفاقدة لما يسندها ضمن أشكال صياغة ما تمّ الاتفاق على اعتباره "سردية رسمية". هذه الحقيقة لم يكن الكاتب - وهو العارف بتجربة الدولة الوطنية - ذاهلا عنها، فقد بادر بالإشارة إلى مختلف المحاولات التي دفعت باتجاه ما سمي بـ "إعادة كتابة التاريخ"، سواء بعد سنة 1987 أو مع حلول سنة 2012. وهو توجّه اعتبر بوضوح أنه لا يخرج عن إطار التهويم الذي أوشك على تحويل سردية الثورة إلى "مجرد شعوذة"، لا يرجى منها معرفيّا أي طائل. لذلك فإن المطلوب هو الكفّ عن استدعاء "المظلومية" بالتعويل على لبوس "العمالة"، من جانب، أو تشغيل آليات التخويف والدعوة إلى مزيد الانغلاق تحصينا للمكتسبات من محترفي الدعاوى الحاقدة "غدرا وخيانة وتآمرا". هذا الاصطفاف له ما يبرره تاريخيا في النظرة الدونية لسكان الحواضر والسواحل لأهل البداوة والنجعة، وذلك منذ خروج الفواطم والزحف الهلالي على إفريقية، وهو ما يؤصّل لحقيقة "التوجس" بين المتبنين للسردية الرسمية والمحترزين عليها، مع ندرة المحاولات الرامية لإنجاز مراجعات شجاعة بخصوصها، تسمح بفتح قنوات التنافذ بينها والترفّع عن جميع دواعي تحويلها إلى رقعة تصويب أو التحشيد باسمها.

يقرّ المؤلِف وهو على تمام الصواب أن تدمير أي سردية وإحلال أخرى مكانها يحتاج إلى قراءة متجانسة، لا يمكن أن تنبني على تصريحات متهافتة على شاكلة تلك التي صدرت عن رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة، حتى وإن اتخذ مسافة أمان من "غضبة المؤرخين" تجاه حملات الـ "تجني على التاريخ بعامة والسردية الوطنية بخاصة". لأن في ذلك تناقض مع دور المؤرخ باعتباره "مثوّر للسرديات وكاشف لعاهاتها". وحتى وإن أستنكر المؤلِف بهذا الصدد الانزلاق باتجاه وسم الغاضبين بـ "حوقة ناكري الاستقلال"، فإنه قد حذّرهم من السقوط في حديّة مقابلة باللجوء إلى تحويل ما أسموه بـ "السردية الوطنية" إلى "عقيدة أو إلى نوع من الإيمان الذي لا يجب أن يقترب من حدوده أحد"، وخاصة بعد أن سارع المنتصرون في انتخابات 2014 إلى إعادة تسمية جانب من "شارع ثورة 14 جانفي" بـ "شارع بورقيبة"، وإعادة تماثيله حيث مواقعها، كما التبرؤ من فترة حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي والسعي إلى إعادة "رسكلة" المحسوبين على حزب التجمّع، وجميعها تصرفات لا تزيد إلا في تعطيل صياغة حكاية جديدة تسمح بامتلاك أرض الحكاية وإعطاء مضمون واقعي للتدرّب على المواطنة وصياغة عمودها الفِقَري.                      

"دولة مغلقة" أم عدم قدرة على اختراع مشروع مجتمعي بديل؟

عقد عدنان المنصر فصلين للاستعراض جملة من التصوّرات بخصوص أشكال تجدّد النخب السياسية تونسيا (43 صفحة) ومعضلة ما وسمه بـ "انغلاق الدولة بعد انتخابات أكتوبر 2011 (41 صفحة)، مبيّنا أن العنصر المحفّز في تجدّد النخب هو "المفاصل الزمنية الكبرى"، سواء بالنسبة لانتقال السلطة من أيادي المماليك إلى الأعيان الموالين للإدارة الاستعمارية، فمناضلي الحركة الوطنية المحسوبين على الخط البورقيبي من متعلمي جهات الساحل التونسي لاحقا، وصولا إلى نخب السلطة المنبثقة عن تبدّل المشهد السياسي في غضون سنة 2011.

ولئن أقر المؤلِف بأن أمر ذلك لا يستقيم غالبا إلا من داخل الجهاز الحاكم، فإن حقيقة ذلك لم تتعارض مع الحضور الدائم لما سمّاه بـ "نُخب الظل"، تلك التي تكون في حالة تحفّز دائم بغرض الإطاحة بالمنظومة التي همشتها. على أن يتمثل القانون الناظم للعبة السياسية تونسيا في قدرة الدولة على إعادة انتاج نفسها كلما طالتها عوامل التفكّك، وذلك على غرار ما أثبتته انتفاضة 1864 أو ثورة 2011 أيضا في صراعهما الـمُعلن ضد المنظومة القديمة أو ما أسماه بـ "الطبقة السياسية" الموصومة بـ "العجز والفساد والفشل". وهي حقيقة توسّع المؤلِف في تحليلها من خلال توضيح علاقة المنظومة القديمة ممثّلة في الرئيسين فؤاد المبزع والباجي قائد السبسي بزعامات المعارضة النقدية ذات النفس اليساري، قاصدا بذلك "الحزب الديمقراطي التقدمي" و"حزب المسار" في البداية، ثم النقابيين فالإسلاميين لاحقا، وذلك عبر تشغيل آليات ما أسماه بـ "بتبادل الهواجس والطموحات" أو "تبادل الشرعيات وتنافذها" من منظورنا الشخصي.

ومهما يكن من أمر فقد بدت لنا عروض المؤلِف بهذا الصدد متأثرة بالتاريخ السياسي من زاوية إعادة تملّك مكتسبات التاريخ الاجتماعي للنخب المثقفة، وفقا لما أفاضت في تحليله منهجيا مباحث "بيار بورديو Pierre Bourdieu "، غير أن تعريف الحراك الاجتماعي وتعقّب مسار إدماج المثقفين داخل أجهزة الدولة قد عفا عن العديد من المفاهيم الإجرائية التي أقحمتها تلك المدرسة على غرار "إعادة الإنتاج reproduction" و"التمايز الاجتماعي différenciation sociale" و"العادة habitus" و"الرأسمال الرمزي capital symbolique" و"العنف الرمزي violence symbolique". فقد تبيّن منذ أواخر ثمانينات القرن الماضي وطوال مرحلة التسعينات تركّز البحث في الثقافة التاريخية على مفاهيم جديدة تحيل على "الوساطة"، و"الانتقال"، و"كيفية التلقي" Médiation, transition et transmission ، وهي مجالات لوّنت تيارا كاملا في كتابة التاريخ لدى أغلب المختصين في قراءة التحولات السياسية للقرن العشرين وتوسّع الحديث عن "الثقافة التاريخية" بعد إخراجها عن مجال العلوم السياسية ومواءمتها مع خصوصيات البحوث التاريخية.

فأي خطب هو ذاك الذي حمل الضالعين في تفسير القوانين وأبرز الوسطاء السياسيين (بما في ذلك "البرجوازي الصغير "عدنان المنصر) على مجاراة ما نعته بـ "العقل الدستوري" التونسي، ذاك الذي فضّل على الدوام فضّ نزاعاته وحل أزماته بـ "طريقة تجارية، أي بمنطق لا غالب ولا مغلوب"؟ هذه السجيّة أو الطبيعة الثانية للتونسيين هي ما يكشف مرة أخرى على الشفرة الـمُغلقة للتعويذة المتلبّسة بـ "السردية الوطنية"، وهي التي تحيل أيضا على الثالوث الحاسم الذي أغلق على الحقيقة "قوس الثورة"، المتكوّن فيما نزعم من "الاستقرار والمرونة والتشعّب". فقد تم الاتفاق على تقاسم منافع السلطة بين الدستوريين والإسلاميين ودخلت كبريات منظمات المجتمع المدني على الخطّ معتّمة على حقيقة إرجاء مسألة التداول السلمي إلى أجل غير مسمّى. الشيء الذي أفادت منه الدولة وإدارتها المترنحة والمتورّطة بشكل مخزي في تشغيل الآليات المشعبة والشبكات الغامضة لنوع من "التحيّل المشروع"، وذلك بالتوازي مع عدم اكتمال مشروع تمدين الدولة الوطنية الأخرس l’inachèvement de sa sécularité muette  ، وهي حقيقة ماثلة أبلت السردية الوطنية بلاء حاسما في التغطية على كارثيتها.   

تعابير سعيدة وأخرى مجافية لها  

اصطفى المؤلف وضمن الفصل الرابع من كتابه (38 صفحة) واقعة حصلت له شخصيا مع أحد بؤساء دواخل ولاية القصرين قصد التدليل على انفراط كل أمال في احترام "أحلام الناس [التي] لا [ينبغي أن] يُنسَّب منها شيء" تجنّبا للانزلاق في الإهمال واحتفاظا بما يكفي من شحنة "النزوع الرومنسي للثورة" والسقوط تبعا في "غواية السلطة" بالانصياع لمنطق العادة الذي ينظم الحقل السياسي ويفصله عن الحقل الاجتماعي ويقرب الفاعلين السياسيين تبعا لذلك من مطحنة "ساعة الرمل". فقد تم الاغضاء عن مفردة الثورة لصالح عبارة الانتقال الديمقراطي، قبل أن يتم السقوط بالكامل في الشعبويّة السياسية والضجر من النخب ومن الديمقراطية في آن، مع ابتسار الثقافة السياسة في الثنائيات المتضادة: تقدميين/ رجعيين / لائكيين/ مؤمنين، والنفخ في سعير التخويف قصد مزيد الاستقطاب والتحشيد، فضلا عن رسوخ الاعتقاد بأن جميع أشكال التحيّل ليست سوى مظهرا من مظاهر الشخصية التونسية.

جميع ما سقناه وغيره ينم عن فهم دقيق ومعمّق لما حصل بين 2011 و2014 لو لم يتم النزوع ببقية العروض نحو نوع من المصادرات الصادمة أو الجمل المتنمرة بالغيرية السياسية "expressions malheureuses et phrases assassines"، هدفها التورية على سقطات الفريق الرئاسي زمن عهدة الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي أو الإشادة بمنجزاته. من ذلك مثلا:

-      التشكيك من إمكانية قبول الاسلاميين الاعتراف بمسؤوليتهم الأخلاقية في اغتيالات سنة 2013 وقبولهم التكتيكي للحوار مع خصومهم من أجل انقاذ البلاد من الوقوع في شرك الاقتتال فحسب.

-      اعتبار ما حصل من حوار بين الخصوم برعاية منظمات المجتمع المدني عملية إخراج لاتفاق سياسي مسبق تقاسم بموجبه حزبا النهضة والنداء الحكم على قاعدة عودة المنظومة القديمة وتشريك الإسلاميين. الأمر الذي أزرى بمراجعة السردية وتوسيع قاعدة تبني مضامين التحديث والديمقراطية ومكافحة الشبكات الغامضة للتحيّل ومحاسبة الضالعين فيها طوال العهد السابق. مع التوجّه بشكل مدروس وضمن حقلي التعيين السياسي الدستوري والإسلامي نحو الاحتفاظ بالأشكال القديمة لحسم الصراعات، من دون التعرّف بشكل واضح على الطرف الغالب في مقابل الشق المغلوب.

-      انعدام أي ثقة في الخصوم السياسيين الإسلاميين أولئك الذين تعاملوا مع الثورة باعتبارها "فرصة للسيطرة على المشهد"، مع رفض تقديم أدنى تنازل كلما كانوا في موقع القوة، واندفاعهم حال التراجع سياسيا نحو نوع من "إعادة الانتشار" الذي سمح لهم على المدى المنظور بالسيطرة بشكل أفضل على دواليب الدولة. لذلك لم تلعب الأفكار دورا محوريا في توجهات زعاماتهم إلا من أجل التحشيد، على أن يتم ركنها بمجرد النجاح في ذلك.

-      استحواذ النهضة على الطاقة المحتدمة للثورة وعلى العقلانية الباردة للدولة معا.

ومع ذلك فإن مختلف هذه التحفظات لم تحل بين المؤلِف وبين التفطّن إلى أن "الورطة" الحقيقة لما بعد سنة 2011 قد تمثلت ولا تزال في قدرة التونسيين على اختراع مشروع مجتمعي جديد تلتقي حوله إراداتهم على شاكلة ما حصل بعد تصفيّة الاستعمار الفرنسي، وهي مهمّة محورية ينبغي على نخب النضال السياسي كما على الفكرين التصدي لها. فما حصل مع بالغ الأسف لم يتمثل في فشل المستبدين في التحوّل إلى ديمقراطيين، بل في عبور الديمقراطيين النهر للالتحاق بضفة جلاديهم، وذلك في انسجام تام مع نموذج الثقافة السياسية المهيمنة. لذلك فإن ما تعيشه البلاد في جميع شتاءاتها الحارة ومنذ عشرية كاملة ينم عن فشل ذريع في إكساب الفعل السياسي مضمونا اقتصاديا واجتماعيا. فـ "الناس لا يرفضون الاستبداد إذا ما توفّر على مضمون اجتماعي، غير أنهم لا يقبلون بالديمقراطية إذا ما تبين عجزها عن تلبية حاجياتهم الاجتماعية."./.                           

mardi 26 janvier 2021

محمد الهادي الشريف: أي جذور متوسطية لتاريخ تونس؟

 












          

 


 

رحل أستاذ الجميع "سي حمادي الشريف" من عالم الشهادة والناس إلى عالم أفضل. لذلك أود توديعا لروحه العطوفة الزكية أن أعيد التقليب في هذه الخواطر التي وضعتها بحقه، والتي لا تشكل سوى قراءة تكريم تعكس مدى التواصل بين أجيال الجامعين الذين تداولوا على التدريس والتأطير بالجامعة التونسية، وتؤكد الحرص على تدعيم مكاسبها وتأصيل توجهاتها البحثية الطموحة، توثيقا للصلات التقليدية بين جيل المؤسسين - والأستاذ الشريف "أستاذ الجميع" كما يحلو لكل من صادفه حظ التتلمذ على يده تسميته، من أبرزهم وأجلهم عِلْمًا ومكانة في قلوب الأجيال التي عرفته أستاذا باحثا ومؤطرا مُلهِما، وكذا غيرهم ممن نهل من بحوثه القيمة الغزيرة دون أن تسمح له الظروف بالتعرّف عليه شخصيا.

قد تبدو هذه المهمة سهلة نسبيا، فأنا واحد من جمّ غفير من المدينين لـفقيد الجامعة التونسية وكبير مؤرخيها بالتدريس والتأطير على مدى زمني طويل قارب الأربع عشريات، وهي مدة تبدو كافية للتعرف عن قرب عن الباحث والمؤطِر وربما على الإنسان أيضا. غير أن دواعي الإنصاف تقتضي عدم الانسياق وراء هذا الزعم، لذلك فإن ما يمكن أن أعرب عنه في مثل هذا المقام لن يتجاوز الانطباعات التي لن تخلو بالضرورة من الانحياز بل ومن الذاتية أيضا. 

كنت طالبا استعد لإنهاء آخر سنوات الأستاذية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتونس في مستهل الثمانينات، وكان "سي حمادي" قادما لتوّه من رحلته الثانية لفرنسا وقضاء مدة للتدريس بدار المعلمين العليا بعد تجربة مديدة في البحوث توّجت بمناقشة أطروحة فارقة في البحث التاريخي التونسي اتصل موضوعها بعلاقة الدولة بالمجتمع على أيام مؤسس الدولة الحسينية حسين بن علي تركي (1705 - 1740) ونشر خلالها عزيز المقالات في العديد من الدوريات التاريخية المحكمة وفي مقدمتها مجلة "الحوليات" الفرنسية الذائعة الصيت.

عرفته مدرسا قديرا مثل أبناء جيلي من طلبة قسم التاريخ، كما صادفني حظ التدرّب على البحث العلمي الدقيق على يده بشكل غير منتظر وذلك لـمّا أصرّ على إدماجي كمتربص ضمن مشروع بحث هام أشرف على إدارته. وتمثّل طموح ذلك المشروع في إنجاز مباحث تاريخية وأنثروبولوجية مصدرها أرشيف ضخم احتوى بالأساس على مدوّنة سجلات وعقود الأوقاف أو "الأحباس" بعد تصفيتها سنة 1957.

لست على يقين وبحكم المسافة التي تفصلنني عن تلك الفترة البعيدة حاضرا وظهور نتائج أبحاث الفريق خلال تسعينات القرن الماضي، أنني كنت مطّلعا على تفاصيل تلك التجربة المعرفية التي ساهمت من موقعي المتواضع مع غيري من الطلبة والمبتدئين والباحثين من ذوي التجربة في تذليل البعض من صعوباتها والتحضير لخطواتها الأولية، وحتى وإن لم أستطع مواكبتها حتى النهاية فإن ما خرجت به من جلسات التدرّب على العمل المطولة التي جمعتني بـالأستاذ الشريف قد مكنني من استكشاف معرفته الواسعة بتفاصيل مهنة المؤرخ، فضلا عن العديد من الجوانب الإنسانية التي فاقت جميع ما كنت أتوقّعه، الشيء الذي كان كافيا لربط مصيري نهائيا بمجال البحث التاريخي.

وحال العودة إلى الجامعة لأستكمل دروس المرحلة الثالثة بعد بضع سنوات من الانقطاع للتدريس عاودت الاتصال بـ"سي حمادي"، متابعا الدروس التي كان يلقيها على طلبة مناظرة التبريز، وتلك مناسبة خبرت من خلالها بشكل تفصيلي سعة توجهاته البحثية والينابيع العلمية التي نهل منها والمدارس التاريخية والنماذج المنهجية المتعدّدة التي حاول بشكل قصدي دفعنا باعتبارنا طلبة ثم باحثين ناشئين إلى الاطلاع عليها بشكل دقيق، قبل اختبارها ضمن مجالات بحوثنا الشخصية لاحقا. يدرك جلّ الذين أموا دروس الأستاذ الشريف أنه بالإضافة إلى القيمة المعرفية لمضمون محاضراته وسهولة جانبه تعاملا وكريم سلوك وسجايا، توجهاته المعرفية وأُفقه السياسي بوصفه مثقّف عارف بما يدور من حوله أيضا. فالأستاذ محمد الهادي الشريف قارئ حصيف لصنوف متعدّدة وألوان من المعارف تشمل تخصصات عدة وآفاقا زمنية وأعراض جغرافية متباعدة وأجناس علمية وأدبية أيضا لا تقف عند تخصصه الدقيق. فبدايات معرفتي بالأنثروبولوجيا التاريخية مثلا، وكذا توسع قراءاتي للبحوث الجامعية المتخصّصة بما اصطلح على تسميته بـ "الدراسات العثمانية Etudes ottomanes"، وكذا أمهات البحوث التاريخية المتصلة بالمجالين الأوروبي والمتوسطي أيضا، كانت بتوجيهه. وهناك أسماء عديدة لمؤرخين أتراك أو غربيين يكتبون بغير اللغة الفرنسية كان له فضل التركيز على إسهاماتها العلمية في الجامعة التونسية. على غرار "هارولد جيب" و"الكاي سونار " و"حوري أسلاموغلي " و"لطفي بركان " و"إمانويل فالرشتين" وإفانس بريتشارد و"كليفورد غيرتس " و" وإرنست كلنير" وغيرهم كثير.

مِثْلُ هذا التكوين المتنوع هو الذي سهّل في اعتقادي على عدد من أبناء جيلي ممن كان لهم حظ التتلمذ والتأطير على يد الأستاذ الشريف أن يغامروا بتوجيه بحوثهم الأكاديمية نحو مسالك أو مواضيع لم تكن مقصودة من قبل غيرهم. وهي مواضيع أعتقد أن لمواكبتهم لدروسه ومعرفتهم بشخصه أيضا، دور لا يمكن أن ينكر في تحديدها. غير أن هذا الاعتراف بالدور الذي لعبه أستاذ جامعي من طينته وعلو كعبه وقدرته الفائقة على تحريك سواكن المعرفة والبحث التاريخيين، لا يلغي حضور الاختلاف معه وحتى الجدل الحامي أحيانا بينه وبين طلبته ممن اختاروا ائتمانه على مشاريع بحوثهم الجامعية. وهناك مؤشرات بليغة على حقيقة هذا الاختلاف يمكن لأي قارئ متفحّص أن يرصدها ضمن أبحاث منشورة أنجزت من قبل عدد من طلبة الأستاذ الشريف تحوّل بعضها بالتقادم إلى عناوين معروفة في تفكيك التاريخ السياسي وتوضيح علاقة ذلك بتعدد الانتماءات، وكذا التدقيق في التاريخ الاجتماعي والاقتصادي الحديث للبلاد التونسية والتاريخ الاجتماعي المقارن لمجال المغارب أيضا. بحيث لم يعمل من تولى الإشراف عليها مطلقا على مصادرة توجهاتها أو الحدّ من الطموحات الواقعية لمنجزيها. ولنا في أعمال دقّقت في السياسة المجالية وفي تاريخ المِلْكية أو في مواضيع تعرضت مجهريا للواقع الاجتماعي للفئات المهمّشة، وكذا الأمر بالنسبة للتوجهات التي حاولت اختراق الحاجز الاعتباري للحقب الزمنية ومدّ جسور بين التاريخ الوسيط والحديث بغية الكشف عن البنيات الناظمة للظواهر الدينية والاجتماعية والثقافية المحورية بالدواخل المغاربية، فضلا عن البحوث التي واصلت تعقّب سياسة الدولة المخزنية الحاكمة تجاه مختلف أشكال الممانعة الاجتماعية، دلالة بليغة على سعة أفق المؤطر وقدرته على استيعاب مختلف التوجهات والتلاؤم مع الاختيارات المنهجية المتباينة التي عولت عليها مختلف البحوث التي تم إنجازها بعد سنوات من العمل والجهد المضنيين والممتعين في آن.

والظن بعد جميع هذا، أن مسيرة الأستاذ محمد الهادي الشريف المعرفية الطويلة والسخيّة قد تمحورت حول إشكاليتين: ركّزت أولهما على أعادة تعريف تاريخ البلاد التونسية من حيث ربط هويتها بالبحر واتصال معيش سكانها ومتخيلهم الجمعي أيضا بالمتوسط. أما ثاني تلك الإشكاليات فقد اتخذت أفقا سياسيا لا يخلو من حالة قلق دائم والتزام أخلاقي يتصل بما وسم بـ"تاريخ الحركة الوطنية". فبخصوص الإشكالية الأولى لا مراء في تأثر مختلف البحوث المنجزة بتوجهات مدرسة الحوليات الفرنسية. فمعظم الأبحاث المنشورة للأستاذ الشريف حول تاريخ تونس الحديث تكشف بسهولة عن مدى التأثير المنهجي الذي أحدثته الدراسات التاريخية المخصّصة للمتوسط من قبل رواد تلك المدرسة على غرار "هنري بيران " مؤلف كتاب "محمد وشرلمان" و"فرناند بروديل " الذي لم يفلت من تأثير "بيران" منتهيا إلى تحويل مجال المتوسط إلى شخصية تاريخية ذات هوية سردية مستقلة. فعلى غرار هؤلاء المؤرخين وغيرهم كـ"بيار فيلار"  "وجورج دوبي " و"وبيار شوني " وعند السواحل الجنوبية لـلمتوسط  نزعم أن للبحر حضورا محوريا في شخصية محمد الهادي الشريف الذي تكتنف شخصه تماما مثل "ميسترال " و"فالري " و"كامو" وغيرهم ممن فتنتهم زرقة السماء ووهج الشمس وعافية الماء، نوازع أو هواجس خاصة، حولت آثارهم المكتوبة إلى عمل إبداعي بالمعنى العميق للكلمة.

اكتهال الرؤية واكتمال المعنى حدّده ثالوث السماء والشمس والماء الذي تحوّل بالتقادم إلى معيارا لذات الفرد ولتاريخ مختلف الشعوب المطلّة على البحيرة المتوسطية أيضا. هذا السخاء العارم وهذه "السعادة القلقة" التي توحي بميتافيزيقا تقف على مسافة متساوية من التشوّف إلى مطلق الفضيلة والجمال والاعتقاد في خالص الكد والعمل، هي تعبير غير مكتمل لفلسفة المكان. فالمتوسط مثل ما شدّد على ذلك "جون جييونو " في تأملاته حول هذه البحيرة " لا يفصل بل يوحّد، فارضا على جميع الشعوب التي عاشت وتلك التي تعيش في كنفه نفس الإيماءات، لذلك لم تنتظم المبادلات على سطح هذه البحيرة رغما عنها بل بفضل وجودها. وهب فرضا أننا وضعنا قارة بأكملها مكانها، فإننا سنتفطّن أن لا شيء كان ليَعْبُر من اليونان إلى بلاد العرب، ولا شيء من بلاد العرب إلى إسبانيا، ولا شيء من المشرق إلى "البروفانس" ولا شيء من روما إلى تونس. فمنذ آلاف السنين "كان تبادل القتل والحب أيضا أمران شائعان ومألوفان بين ضفتيه". من أرض العبور المفضّلة للمواريث الثقافية المشتركة نشأ نسق متوسطي خاص انخرطت ضمنه مجمل الرؤى متقاطعة حينا ومتباعدة أحيانا أخرى. بحوث "الأستاذ الشريف" حول تاريخ تونس الحديث شكلت - من منظورنا الخاص - وفي جوهرها زيارة مختلفة ومتجدّدة لتاريخ المتوسط من منظور الضفة المقابلة، أي من منظور الفقراء الذين كلما حلموا باكتمال إنساني ما، اتجهت أنظارهم صوب البحيرة المتوسطية، فـ"متوسط الفقراء" الذي تعكس "نوستالجيا الاستشراق" فطرته السعيدة لا ينبغي أن ينسينا عذابات سكانه وحرمانهم وغضبهم المكتوم وليد قرون مديدة من الاستبداد والجور. وإذا كان لبحوث الأستاذ الشريف حول تاريخ تونس من معاني تُستجلى فمقصدها الأساسي فيما يخصّنا هو ما ذكرت قبل أي شيء سواه.

بقي أن نحبّر كلمتين بخصوص الهاجس البحثي الثاني الذي اختار الأستاذ الشريف أن يخصّص له جانبا من مسيرته والمتعلق بـ"تاريخ الحركة الوطنية". لا يمكن هنا أن نفصل بين السياق التاريخي والمسيرة الخاصة للأفراد حتى وإن زعم علم آخر من كبار أعلام الجامعة التونسية في أول أجزاء الثلاثية التي خط بها السيرة المحمدية تأسيا بفلسفة التاريخ عند هيغل أن: عظماء الأفراد لا يخضعون إلى السياق بقدر ما ينشئوه. لا يمكن هنا أيضا أن نفصل سياق البحث عن مسيرة الباحث، فبعد حصول البلاد عن استقلالها وحتى نهاية الخمسينات تقريبا ناضل الأستاذ الشريف في صفوف حزب الدستور، مفضّلا مع نهاية الخمسينات أن يضع بينه وبين النضال الحزبي مسافة أمان كافية فقد الانكباب على البحث العلمي المحكّم، دون أن يرفض الحوار والإسهام في إعادة صياغة التاريخ السياسي "الوطني" من زاوية المسؤولية النقدية للخبير العلمي أولا، وللمواطن في مقام ثاني. مكّن هذا التوجه شيخ المؤرخين التونسيين المتخصصين في التاريخين الحديث والمعاصر من أن يلزم الاستقلالية وأن يتفادى الانحياز والتورّط الإيديولوجي، ليُبلي بلاء لا حدّ له في مجاهدة دواعي النفعية العاجلة المبنية عن المحاباة وتشغيل آليات الخدمة المهينة والتملق السافر. وهذا لا يعني عدم حضور نوازع ذاتية وحتى إعجاب مضمر بشخصيات وطنية كبيرة عرفها الأستاذ الشريف عن قرب وأجهد نفسه فيما أعلم في تكوين متن مصدري مكتمل حولها، دون أن يحزم أمره مع بالغ الأسف لإعادة صياغة مساراتها بخبرة العالم المؤرخ والمناضل المدني والسياسي أيضا. وهو ما حققه عدد من من كبار المؤرخين المغاربة والأوروبيين المحسوبين على جيله مثل "عبد الله العروي" و"جاك لوغوف" و"بيار شوني" و"برتولومي بنصار" و"فرنسوى لوبران" و"هشام جعيط" وغيرهم من مباحث فارقة ساهمت في توسيع دائرة المعرفة التاريخية والبحث الرصين والتأمل الخلاق أيضا.

تلك بعض الذكريات التي وددنا اقتسامها مع واسع القراء بخصوص مسيرة حافلة خصّصاها فقيدنا الجليل لخالص البذل وسخي العطاء، فليخلد "سي حمادي" لراحته الأبدية بعد بلاء ذوي العزم وتواضع العلماء الأجلاء في أمن وسكينة وسلام.

صدرت هذه التحية لروح الأستاذ محمد الهادي الشريف بصحيفة المغرب بتاريخ الثلاثاء26 جانفي ،2021