mercredi 19 octobre 2016

وحدهم الشعراء...











       في الوقت الذي يجتاح فيه جبروت المال مجال الفعل البشري، معتما عمّا سواه وتزداد حيرة بني البشر بخصوص ما يخبئه المستقبل، يتضاعف البحث عن مسالك لا تمر من بوابة ارتهان الحياة لدافع الاستهلاك دون سواه، سامحة بالعودة صراحة لإنتاج مفور المعنى.
نحن نبحث عن فسحة يملأها عَفِيُّ المدلول كي يتسنى الإصغاء برويّة وتركيز لما يُعرض على مسامعنا وتصطدم بها أنظارنا من مروّع الحدثان. الكل مُتشوّف إلى موثوق الدلالة رافضا تشويهها غلثا وتلفيقا ومغالاة، أو تأويلها تحت طائلة حرية تحليل كاذبة تُضمر وصاية فكرية أو شطط إيديولوجي. الكل يهاب ساحة حرب مفتوحة لا تعلن عن اسمها، حتى وإن تحوّل عن وعي أو من دونه إلى عود حطب لآتون بهتانها وطرفا ضمن حامي مواجهاتها.
سنوات من الحوادث المدوّية لا تزال تعصف بمغارب بلاد العرب ومشارقها، وما من دليل على أن مدها متوقّف عند حد، وأن إعصار الغضب لن يعُم مستقبلا مجالات أوسع من خريطة العالم، تستوي في ذلك بلدان الجنوب الفقيرة مع بلدان الشمال الغارقة في أزمة مالية واقتصادية تؤشر موثوق الدلائل على تفاقم أرزائها بالضعفاء. فبعد أن وقفنا مطولا عند شفى المنحدر، ها نحن نحث الخطى لنسقط في قاعه، وما من دليل على توقف انحدارنا عند حد طالما لم يستعد التاريخ حقوقا ذهب في مطلق ظن جميعنا أن جغرافيا العولمة قد انتزعتها  دون رجعة.
لا تتشابه الثورات حقيقية مع بعضها البعض، فلكل منها بيئتها وتاريخها الخاص وفاعلوها الذين صادفهم التوفيق عند مفصلة زمنية محدّدة في توفير التعاطف مع مشروعهم، غير أن الجميع يتفق حول مدلول ينفي تغييبه القصد من اندلاع تلك الهبات الفارقة، ونقصد الوثوب لسدة الحكم. فمهما تعددت المؤشرات الدالة على حضور التواصل بين ما حصل قبل ذلك الحدث وما جد بعده، فإن مضمون القطيعة كامن لا محالة في بلوغ كتلة اجتماعية جديدة تلك السدة.
انتقال السلطة أو التناوب عليها مربط فرس في خروج الغاضبين أو الثائرين ضد من شرّعوا لأنفسهم ضرب وصاية على مسار حياتهم أو الاستبداد بتصريف شأنهم. وحدهم الشعراء قد استوعبوا سر تحويل عنف لحظة المنازعة ووهج دماء البررة من ضحاياها ملحمة مهيبة أو مرثية مأثورة تستكشف المعنى المنبث في اللفظ لتكسبه عَفِيَّ العبارة الـمُوفية بالغرض الـمُنجّمة على الألسن كفلق الصبح يجلو غبش الظلمة. وذاك لو ندري عين ما قصده شعراء الرومنطيقية على شاكلة "فيكتور هيغو Victor Hugo 1802 - 1885 " و"أرتير رامبو Arthur Rimbaud (1854- 1891) حال تنصّل هذا الأخير من قول ذاته الواعية شعرا، وتعلّله بأن أناه في استلهامها للحكمة قد حوّلت الخشبة كمان، وأبلج النحاس لسماعها مزمارا. فهل يعقل أن نُحمّل مادة وضيعة ورز ما انسلخت إليه، والحال أن ليس لها في انقلابها خلقا جديدا اختيار؟ ذاك بالضبط حال قارض الشعر إزاء انقلاب الواقعة الرتيبة إلى نظم يُوحى في الخلد ويسترق سمع خلجات الروح، ثم لا يلبث أن يشد قوس المعني ليدفع برمية سهم يتحوّل حسن الظن بوقعها وفي غفلة ممن صوبّها إلى سنفونية معافاة تمزّق ترانيمها وحشة الصمت.
لنحاول الاستماع إلى موسيقى الشعر في هذه المقاطع من قصيدة "فكتور هيغو" "الشاعر في خضم الثورات Le poète dans les révolutions " أو قصيدة نثر أرتير رامبو "إضاءات   Illuminations"، علنّا نرصد وخارج حيز العقل القابض على ملكة الرد والقبول، ما الذي يحوّل الاستعارة الشعرية في ما آل إليه حال الخشب مع الكمان أو النحاس مع المزمار، إلى مرقاة تمنح ولو للحظات عابرة متعة التحرّر من أسر الذات الواعية، لتحلّق عاليا في فسيح زمن الدهشة الأولى المستعِيد لمفور غبطة لحظات الإشراق والتجلي.
" ليس بشاعر على وجه الأرض من لم يواس غربة "فولتير"
 مَهِيبٌ هو كلام هيغو عن الثورات فقد جال في الطبيعة مستعيرا لنصه الحِواريّ، بين مُتوثب لتغيير ما بنفسه وقانع باجترار سلفه، لحظات غضبها كما أوقات صفائها. فالريح تُذهب عن فسيح البراري حطبا يسقط من خُضر الأغصان. والعاصفة تعبث بأضخم الأشرعة وتودي بصواريها. تلبد السماء مُنذر بسوء الـمُنقلب، شجر البلوط يهوى من أعالي الجبال ومراكب السفر تحطّمها زمجرة الأمواج في عميق البحار.
أقدار تُفرَض على ضعاف النفوس ومصائر ينحتها توهج مزاج من أمعنوا الطرق مصرّين على الوصول إلى مراقي المجد. فإما أن ترضى لنفسك بمعرّة الرضوخ، أو أن يكابر عشقك الفناء فيندفع على شاكلة "أورفي Orphée" وسط سعير الغاضبين في شموخ. وليعلم كل من تهيّب من التضحية مُتنعّما بالراحة دون شرف الخلود، أن عظام النفوس لا تبغي غير المجد مثوى. فبسيط المرجان عند زمجرة البحار يخشى أن تزعزع عاتي الأمواج لطيف منامه والضجعة، بينما لا تُلفي أشبال النسور طريقها إلى النور إلا بعد أن يخترق الأعاصير من بينها كل محلّق جسور.
ليس في حـــــياة الحــــواضر من ثراء:
 طريف هو التعريف الوارد في"القاموس الكوني الكبير Le Grand Larousse Universel" لمدينة باريس: 
"في السطح هي مدينة باذخة تضِجّ بأصوات الفنون والمتع واللامبالاة، وفي العمق ساحة صراع أزلي بين من يناضلون من أجل الرُقيّ والحرية، تعضُدهم حرارة التعاطف الذي يبديه نحوهم جميع من يعنيه انتصار تصريف أمور المجتمع بشكل يحترم إنسانية البشر."
يبدو قصيد "متروبولتان Métropolitain" في مجموعة "اضاءات" لأرتير رامبو، وفيّا بالغرض كلما تعلق الأمر بالوقوف عمّا يجعل "المدينة" مرآة تنعكس على سطحها جميع مظاهر الحداثة المتلازمة مع ثورة صناعية لم يقف تغوّلها عند حدّ. فقد عرّف هذا القصيد النثري في خمس فقرات متشابهة شكلا تنتهي باسم لاحق للتعريف يختزل مضمونه ما سبق، عارضا حكاية برقيّة تروي مشهدا يتحرك بنسق سريع، يَرُمُ الاسم منه فوصى المعنى في تعبير الشاعر والدلالة. ينقلب فعل الكتابة عند رامبو على جميع القواعد الأدبية فتأبى عناصر الفقرة أن تنتظم وفقا ترتيب منطقي يمنح معنى محددا لفعل ما أو لمشهد دقيق، وتبدو الكلمات عندها وكأن لا علاقة تربط بينها في الأصل. فالكلمة الواحدة مشهد مستقل بذاته، والقصيد خليط من مشاهد تُجاوز الحصر. واعجاز ذلك بقاء دلالات القصيد في متناول فكر من يُقبل على مواءمة منهج القراءة ونسقها مع تكثيف النسج عند مُنشئ العبارة.
في قصيد "المدينة الحاضرة Métropolitain" تتحوّل القراءة إلى تفحّص في العمق لكل مفردة وعملُ تخيّلٍ خلاق يجعل من الانكباب على تجميع عناصر الدلالة مغامرة فاتنة ومقاربة جمالية تُسعف في فك طلاسم الرموز الواحد تلو الآخر. فيها يكتشّف قارئ ما وراء السطور أن عبارة "شوارع بلور الكرستال des boulevards de cristal" في قصيد النثر عند رامبو، توصيف مُحجَّى لأنهج مدينة اصطفت على أرصفتها متاجر تعرض واجهاتها نفيس البضائع، وتعكس عبارة "بحور الأوسيان mers d’Ossian" تعبيرا مفارقا يدل عمّا يحيط بالجزر البريطانية من مياه. كلمة الختم في لفظ "مدينة" ليست سوى تلخيصا بارعا للفقرة التي تنتهي الدلالة عند ذكرها، فتسمية "المدينة الحاضرة Métropolitain" توصيف للمشهد الناشئ عن أسلوب عيش سكان المدن وتصرّفات أهل الحواضر ونسق حياتهم الجنوني في آن.
يُنشئ المقطع الأول من القصيد تقديما للمدينة على خلفية اللقاء الأول، نصف للدهشة وبقية للتوجّس الحذر. ثاني مقاطع القصيد، تشبيه بليغ للمدينة بساحة للنزال تحسُن مفارقتها توقّيا من شرور مخاطرها. يسرد ثالث المقاطع فيما بدا للعارفين من شراّحه جولة نزقة في ليالي السمر بضواحي لندن الباذخة، مستودع الإقبال على متـرع اللذات الممزوج بقلق التهويمات ومُفزع الكوابيس. يُجيد المقطع الرابع توصيف قصور الميسورين ودورهم الآخذ بريقها بالألباب، لكأن لمعان جدرانها يحركّ ما غاض من حسد المعدومين وغيرة المطحونين. في حين يعوّل خامس المقاطع وآخرها على الاستعارة، راسما بريشة الفن الواهم لقاء بين عاشقين، وهو الـذي يرمِّز لمدلول الصراع الأبدي بين بني البشر في الحقيقة، صراع الفرد مع شواغل أيامه واضطراره كلما رام البقاء لتحمّل شدة المنازلة وقهر ما يخبئه القدر.
مربط الفرس في قصيدة نثر "أرتير رامبو" العيش في المدينة. مدينة مكتظّة مترامية الأطراف وحاضرة مغرية فاتنة تعكس الحياة في حياضها كثرة الشواغل اليومية والنسق الجنوني لتطوّر مجتمع الرفاه المصنَّع والـمُصطنَع. وتنقسم فيها الجموع أقوام متصارعة تُعرّي بُنية أحيائها وأشكال معمارها فوارق صارخة تُنبئ بانعدام التكافؤ، كاشفة عن ضراوة الصراع بين من أبلاهم العوز وتقطّعت بهم السبل ومن وَلَغُوا في استعبادهم وكدّسوا الثروات على حسابهم. ذاك واقع الأحياء اللندنية أيام جالت فيها أقدام رامبو الشاعر في العشريات الأخيرة من القرن التاسع عشر، وهو واقعها السريالي الـمُـجلّل بالفوارق الاجتماعية الصارخة التي تعكس أحداث العنف من حين إلى آخر حلقة جديدة من تجلياتها. 
وحدهم كبار الشعراء يقدرون على تخصيب العبارة من نظرة لكي تُثْمِرَ معنى وفيّا بمدلول القطيعة، عامدين إلى عرض مضمونه على الحافلين بقولهم في لبوس نخبوّية لا تتأبَّى عن استلهامٍ مَبْذُولٍ للجميع.    

mercredi 12 octobre 2016

بألوان الطيف تُروى المسارات لا بالأبيض والأسود










      من "روحية" الرُبْعِ بوطن سليانة التونسية وإليها في عود على بدء، اختارت نفس الطاهر المنصوري المطمئنة أن تخلد لراحتها السرمدية بعد عنت مع تصاريف الحياة مشوب بحيرة جازعة وفضول خلاق وتطواف لم يشأ أن يستقر طوال أربع عشريات من الزمن. تأبى أسبارنا أن نعرض إلى غير مآثر من عاجلهم حمامهم ممن عرفناهم أو جايلناهم، وحده الأبيض هو ما يليق بطُهر مثاويهم وتعظيم مناقبهم واستعراض حسناتهم، مع أن ما يجمع مساراتهم بعالم الشهادة والناس يأبى هو أيضا أن ينفضّ من حوله الأهل والأصحاب حتى وإن شيّدنا لذكراهم أضخم النُصب وأبهاها. ولأن فقيدنا كان "إنسا من خيار الجنس"، فإنه قد تورّط مثلنا تماما في خلط طيب بخبيث، شأن بني البشر حال استعار حبّ الحياة في نفوسهم واستيلاء عشقها على شغاف قلوبهم النابضة.
قليلا ما كان يحبّذ سليل سفوح الظهرية ووليد باديتها اصطناع الامتثال للإكراه حتى وإن أوحت تصرفاته بغير ذلك. لم تكن ترضيه أنصاف الحلول وأدنها إلى تصاريف بني البشر من أمثاله، إذ لا تراه إلا واقفا لشد الأزر ومدّ يد المعونة والمساعفة رفعا للضرّ أو الحيف، أو كافرا في عنت وصلف من تصرّفات من اعتقد بحق أو من دونه أنهم لا يرون رأيه لاعنين كِبْرَه، طاعنين في نخوته وإبائه.
عرفت محمد الطاهر المنصوري أواسط التسعينات بعد أن صدر لي عن دار سراس مؤلفان حاولا فتح ملفات قليلة الورود زمانها، تشبه توجهاتها والمناهج المعتمدة في تحليلها منازع الجيل الذي أنتمي إليه، في حين استقام هو بعد عارفا في اختصاصه وعالما بالمرحلة التي اختار الاشتغال عليها، تلك التي بدت من خلالها بصمات المؤرخ الفرنسي المتخصّص في تاريخ علاقة المسلمين بالمسيحيين طوال الفترة الوسيطة "ألان دوسولي Alain Ducellier" واضحة المعالم جليّة القسمات.
إلا أن رغبته في تخطي ما تم انجازه قد بدأت تتسرب إلى برد يقينه وخاصة لمّا قرّبت السُبل والصدف أيضا بينه وبين زملاء أوائل التسعينات من المهتمين بالآثار والنقديات مثل ناجي جلول وفوزي محفوظ وعبد الحميد فنينة وأحمد السعداوي، حتى وإن لم يمثل جميع هؤلاء رفقاء دربه المهنيين على الحقيقة، أولئك الذي تقفز من بينهم أسماء ومسيرات أُخر لمحمد حسن ومحمد ياسين الصيد وراضي دغفوس الذين سبقت تجاربهم البحثية وانتساب أغلبهم إلى الجامعة التونسية مرحلة التحاق المنصوري بها. فقد تقاطعت بعض شواغلهم وأبحاثهم المنشورة ونتائج كتابتهم مع اهتماماته وتوافقت نماذج أدائهم المنهجية بحثا محكّما وتراكما معرفيّا مع تلك التي ألِفها حتى ذلك التاريخ.
والحق أن كثيرا من الضيق وانعدام الثقة قد علّم علاقة المنصوري بأغلب زملائه أو رفقاء درب مهنته بالجامعة، حيث لم يكن من السهل أو حتى من الممكن أحيانا اتساق التواصل بينهم وبينه على قاعدة التعايش والاحترام بين الجميع، وهذا على علاّته الكُثر سلوك معهود لدى جميع المحسوبين على نفس الصناعة عاينته ولن تزل أكبر المؤسسات الجامعية عراقة في إنتاج المعرفة ونقلها. ولأنه "أراد من زمنه أن يبلّغه ما ليس يبلغه من نفسه الزمن"، وتهيأ له في مناسبات عدة أنه "ينام مِلأ جفونه عن شوارد" التاريخ ونوادره، فقد اتّضح للكثير من زملائه وأصدقائه بما في ذلك الخلّص منهم، أنه قد استعدى الجميع بجريرة ظاهرة ومن دونها، بل وحمّلهم أحيانا وعن إسراف وكِبر ذنب الكدر الذي لحق بمزاجه. والحق أيضا أن حساسيته المفرطة وشخصيته المتقلّبة هما ما جعلاه يضيق بزمانه ولا يرى لنفسه موضعا بين أضرابه يناسب إيمانه القاطع بتميّزه بل وتفوّقه على جميعهم. 
فقد اتّصل تكوين محمد الطاهر المنصوري بالتاريخ الوسيط وبتاريخ العلاقات بين المسلمين والبيزنطيين تحديدا، وتموضع تخصّصه المعرفي بين مجالين متصارعتين امتلأت كتب الحوليات والأخبار بتفاصيل المشاحنات والمواجهات التي دارت بينهما. ويحتاج البحث في هكذا تخصّص إلى تبحّر موسوعيّ ومعرفة باللغات قديمها وحديثها وامتلاك لمناهج دقيقة وتوفّر على أهلية واضحة في قراءة ركام من المصادر القديمة الملغزة المضامين. على أن تفرغ المنصوري وانكفائه الرهباني أحيانا لخالص الكدّ والجهد لم يحل بينه وبين الرغبة في الانفتاح والاستزادة من خلال التعرّف على العديد من المدارس التاريخية وعدم التهيّب من تجريب نماذج بحثية متحدرة عن تخصّصات إنسانية واجتماعية بعيدة عن الشواغل السياقية المباشرة للمؤرخ . 
فمن "حوار الثقافات والحضارات" إلى التمرّس على مناهج الثقافة المادية والتاريخ الاقتصادي والاجتماعي فالديمغرافيا التاريخية والاستكشاف الأثري وفهم عالم التمثلات والجماليات الذهنيات، لم ينقطع فقيدنا عن التوسّل بأحدث المناهج قاصدا تطوير استمارته وتطويع تساؤلاته كي تتلاءم مع مقتضيات مكافحة الروايات المستجلبة وتعقّب اتجاه المعقولية في الاشتغال عليها.  الشيء الذي سمح له بعد طويل كفاح ومثابرة من دخول مرحلة جديدة فتح خلالها ملفات بِكر غير مبذولة داخل الجامعات ومراكز البحوث العربية وتعارض سياق تناولها مع "مواضعات" الفعل الاجتماعي وأسباره ضمن المجال الثقافي العربي الإسلامي. 
وليس من دليل أبلغ على انخراطه ضمن تلك التوجهات المجدّدة المُثرية لتساؤلات المنتسبين إلى المعارف الإنسانية، أولئك الذين خاض العديد من المحسوبين على جيله داخل الجامعة التونسية أو من التحقوا بها في بداية التسعينات البعض من تجاربها التي علّمت بَعْدُ مشهد المعرفة التاريخية والاجتماعية والحضارية تونسيا مع حلول الألفية الثالثة، من تصدّره لترجمة مؤلف "التاريخ الجديد La Nouvelle histoire"  الذي أشرف على تنسيق مساهمته الفارقة المؤرخ الفرنسيّ الذائع الصيت جاك لوغوف Jacques le Goff ، وهي مهمّة شاقة عويصة تضمنت الكثير من المحاذير الاصطلاحية، تجهّز المُترجم لتجاوز فخاخها وحلّ المشاكل المترتبة عليها بدراية واسعة وحسّ عال نعثر على البعض من لمساته ضمن التصدير الذي وضعه لتلك الترجمة وخاصة حال اشارته إلى خصوبة الحراك المعرفي الذي أفضت إليه نتائج أبحاث العديد من زملائه التونسيين أولئك الذين توقّف عند اسمائهم في العديد من هوامش تقديمه. 
كما ساهم استكماله لترجمة كتاب فرنسوى دوس François Dosse "التاريخ المفتّت" الذي اختزل مسار الانتقال المنهجي من أزمة مدرسة الحوليات الفرنسية إلى بروز مناهج التاريخ الجديد، في وقوفه على طبيعة النقلة التي فتحت مهنة المؤرخ على عوالم التفكيك والتأويل وعدم اكتفاء المحسوبين عليها حال محاولة استجلاء المامضى على العقلانية والحتمية التاريخية وحدهما.  
والظن بعد هذا، أن اهتمام الباحث بتاريخ الثقافة المادية غربا وشرقا هو الذي أمضى تحفّزه ووسّع اطلاعه على نماذج البحث في تاريخ الذهنيات والأفكار، دافعا إياه إلى فتح العديد من الملفات التي لا يمكن أن لا تذكّرنا بالتوجهات الفارقة التي قادت أبحاث وجوه المعرفة الانسانية العالمة فرنسيا على شاكلة فوكو، وبورديو، وريكور، ودي صرتو، ولوغوف، وشارتي وسير، Foucault, Bourdieu, Ricœur, De Certeau, Le Goff, Chartier, Serres.  . 
فقد برز جليّا وضمن المحاور المقتصدة لمؤلفه "استعمالات اللباس ورمزياته في الحضارة العربية الإسلامية" مثلا، تأثره الكبير بتلك المناهج لدى تعرّضه إلى دور القيافة والملبس في رسم الفوارق الاجتماعية والجنسية والملّية والأثنية، وتأكيد تمايز الهويات أو تباينها في استعمالات اللّباس ورمزياته.
كان المنصوري واعيا بجسامة ما حاول الحفر فيه شديد الإصرار على وضع عمل يطمح إلى إعادة صياغة علاقة المتخصّصين التونسيين في الفترة الوسيطة بمناهج الكتابة التاريخية من خلال تحسّس وظيفة اللباس كميسم وهوية. فقد عالج مسألة لباس الفقر والتصوّف متوقّفا عند وظائف ودلالات "الحجاب" و"النقاب" و"الخمار" و"البرقع"، منـزّلا إياها ضمن سياقها التاريخيّ المخصوص، مُستجليا اللَبْس المقصود المكتنِف لاستعمالاتها حاضرا، متوقفا عند مدلول لباس أهل الذمّة في ارتداء الغيار وشدّ الزنانير من قبل جميع من طالتهم ماضيا حماية خلفاء المسلمين وسلاطينهم.
كما تصدق نفس الملاحظات على مختلف الفقرات التي خصّصت للتعرض لإشكالية الحجاب داخل المجال الإسلامي وللأبعاد الراهنة التي أخذتها مسألة ارتدائه، الأمر الذي ساهم بلا جدال في تنسيب حالة تركيز الإعلام الغربي راهنا وبطرق لا تخلو من توجس مهووس ومرضيّة مزرية وخلط مبتذل على التزمت الملازم للإسلام وللمسلمين، وهي قضية حارقة غالبا ما تم التعامل معها بحسيّة مفرطة زادت في تعميق الهوّة بين المسلمين وبين التصوّرات الواقعية المتّزنة. على أن يتّسم تعرض تلك الدراسة لمدلول رموز الألبسة المفروضة على الذمام من أهل الكتاب بتجديد بيّن، حيث تم التشديد على أن التمييز يندرج ضمن تفريق ملّيّ مفروض على غير المسلمين من أهل الكتاب منذ ميثاق عمر بن الخطاب، لذلك عوّض الاشتباه بالملبس الاشتباه بالسحنة أو الوجه، ممثِلا في بلاد الإسلام كما في بلاد النصارى علامة بارزة لهوية السطح. أما بخصوص علاقة اللون بالمنـزلة الاجتماعية والانتماء العقديّ ودورهما كرامز marqueur اجتماعي وملّيّ، فقد تم ردّ الألوان إلى ما حملته في المخيال الجمعي من إيحاءات إيجابية مرغوبة أو سلبية منبوذة وذلك بمجرد تحوّل الألوان منذ العباسيين إلى ميسم اجتماعي وعرقيّ وملّيّ.
وبالجملة فقد أبلى الفقيد بلاء المجدّدين في الكثير من أبحاثه، وتمكّن باقتدار من ترتيب أفكاره واضعا إياها في متناول ذائقة أبسط القراء بل وأقلّهم اطلاعا ومعرفة بخبايا التاريخ وزواياه، وتلك خصلة من أعظم خصال الكتابة قراءة وتدبّرا ماضيا وحاضرا، واضعا بذلك حجر الأساس لتفحّص جملة من الإشكاليات من نافذة التاريخ الجديد، مضيفا لمختلف الملفات المعقّدة والشائكة التي فتحها لبنات جديدة استهوت بَعْدُ طلبته الكثر، أولئك الذين اختار العديد منهم السير على هدي خطاه، متسلّحين بسخاء بذله وشغفه اللامحدود بالحياة وإقباله على استلهام حكم أهل بادية السباسب التونسيين، أولئك الذين أخفق بلاء الزمان في إطفاء بريق عيونهم، بينما مثّلت ابتساماتهم العريضة قِناعة للاستهزاء من بؤس الزمان وأهله، لذلك أراني وبالرغم عن فراق من غادر صحبتنا دون استئذان في غاية المسرّة الجذلى حال ردّ هذا الطالع الجميل في لفظه العميق في مدلوله بعد أن سمعته منه أول مرة منذ أكثر من عشريتين إليه على سبيل التحيّة الصادقة إلى أجمل ما في روحه وابهاه:
تْمَنِيتْ عُمْرِي شَي ما طُلْتَاشِي     ./.    المُوتْ فَمّا الكُبُرْ ما فَمَاشِي.   

صدر ضمن العدد الأخير من مجلة الفكر الجديد