samedi 13 janvier 2018

سؤال الانتماء ورهان التنوع الثقافي *



















          يخترق سؤال الانتماء حاضرا جميع المجتمعات البشرية[i] وذلك بالتوازي مع سيطرة الاقتصاد المعولم وثقافته وتشويشهما على جميع العناصر المعلِّمة للانتساب ماضيا. لذلك تحوّل سؤال الهوية وبمجالات عدة من بلدان العالم إلى نزوع نحو حالة من الهلع الحقيقي حال الإحساس بتراجع المهابة دوليا، وذلك على غرار ما تبديه راهنا عدة شرائح اجتماعية أوروبية أو فئات بيضاء بالولايات المتحدة الأمريكية، أو بالمناطق التي تظافر ضمنها تجدّد لفتح مثل هذا الملف مع إقحام الغرب لنفسه في خلافاتها الداخلية، متواريا وراء الدفاع عمّا وُسمه بـ"حق التدخلle droit à l’ingérence". وتجد جميع الايديولوجيات المحافظة في هذا المنزع مطيّة للدعوة للعودة إلى أصول نقية متوهّمة تنمّ التعبئة بخصوصها عن سلوك طفوليّ لا تخطئه كل عين بصيرة.
هذا بالضبط حالُ العديد من البلدان العربية التي طرحت داخلها مسألة الهوية نفسها بشكل متشنّج، حتى وإن تم ذلك وفق معايير تبدو متباينة أحيانا. فبينما تحوّل التنوع الثقافي إلى سمة تميّز الحياة المشتركة داخل مجالات واسعة من بلدان العالم وخاصة بالديمقراطيات الأوروبية والأمريكية، فإن العديد من البلدان المحسوبة على المجال العربي لا زالت تجد صعوبة كبيرة في إدراج مثل هذا البعد في واقع حياتها اليومية. فجميع الايديولوجيات الوطنية كما تلك التي تصدر عن تصوّرات دينية تتسم برفض للتعدّد الفكري وتدفع باتجاه اتساق الهيمنة المطلقة للأصول العربية أو/ والإسلامية على مجمل التأويلات التي صاغها الإرث الثقافي، كما على كيفية تصريف الواقعين السياسي والمجتمعي لمختلف البلدان المحسوبة اعتباريا على المجال العربي الإسلامي.
ومهما يكن من أمر هذا الانكفاء الذي أثّر بشكل سلبي على تمثل الغيرية بمختلف البلدان المتصلة بهذا الفضاء، فقد اتسمت مرحلة ما بعد تصفية الاستعمار مغاربيا باتباع سياسات عملت بشكل واعي على تهميش الأقليات العرقيّة والقضاء شبه الكلي على الأقليات المليّة، في حين درجت العديد من البلدان المتقدّمة أو الناهضة وبشكل متزامن تقريبا باتجاه مزيد صون الاعتراف بالتنوّع الثقافي وتوسيع قاعدة الاعتبار بذلك كشرط من شروط "العيش بذكاء"[ii]، والتحلّي بخصال المواطنة، والحال أن أغلب بلدان المجال العربي لا تزال متمسّكة وبشكل مرضي أحيانا بالبحث عن أصولها المفقودة. حيث لا يزال السجال حاميا حول مسألة الهوية، وكأن تهميش الأقليات أو القضاء عليها لم يحل مثل تلك المعضلة. بل إن حدّة السجال حول هذه المسألة قد أدت إلى مزيد انقسام تلك المجتمعات بين المدافعين بشراسة على انغراس تاريخ المغارب في التعدّد العرقي والديني، وبين الداعين إلى حضور حالة من التجانس والاندماج بين جميع تلك المركّبات انتهت إلى الذوبان في هوية واحدة أو موحّدة.
تعيش النخب وأغلبية ساكنة هذا المجال حالة من التجاذب القوي بين هويّة مغاربية قابلة لاحتضان مختلف مستويات الانتساب في اتصالها بمختلف التطورات التاريخية وما خلّفته من علامات لازالت حاضرة راهنا، وبين ادعاء توصّل الثقافة العربية الإسلامية إلى استيعاب مختلف العناصر الناظمة للانتماء أو لهوية أهل المغارب برمتها.
الارث الاستعماري وتاريخ ما قبل الإسلام[iii]:   
ويمكن للتدليل على مثل هذه التوجهات العودة إلى اتساق تأثير تاريخ الحضور الفرنسي على حاضر التونسيين، حيث يحتاج تاريخ ذلك الحضور وفي العديد من محطاته الكبرى والفارقة إلى عملية مراجعة حقيقة. هو ما يمكننا استخلاصه بيسر بعد الاطلاع على مختلف المقاربات التي أنجزتها الأبحاث التاريخية المتخصّصة في تاريخ البلاد التونسية المعاصر. فجميعنا على بينة تامة من الأهمية التي يكتسيها اطلاع المتعلّمين وفي مستوى مرحلة ختم الدروس الثانوية على مختلف التطوّرات التاريخية التي شهدها نضال التونسيين من أجل تصفية الاستعمار، غير أننا لا نعثر في الغالب وضمن هكذا تكوين على أي توجّه ينبئ بحضور تدبّر دقيق لمسائل تتصل باهتمام الإدارة الاستعمارية بالتمثيل الخرائطي للمجال الاعتباري لسيادة التونسيين، أو عن إدراك دقيق لمختلف التدابير المتّخذة من قبل نفس تلك الإدارة من أجل إكساب ذلك المجال هوّية فارقة تدفع باتجاه ادراج عصور ما قبل الإسلام ضمن ماضي التونسيين المشترك.
كما أن مختلف البحوث الجامعية المنجزة في اختصاص التاريخ، وبصرف النظر عن تنوّع المسائل أو المواضيع التي اشتغلت عليها، لم تر كبير فائدة في تسليط الضوء على الحركيّة التي أدخلتها حملات التنقيب والاستكشاف الأثري لمجال البلاد التونسية سواء قبيل إمضاء معاهدة الحماية أو طوال الفترة الاستعمارية نفسها. 
ولئن بدا لنا أنه ليس من السهل الدفع باتجاه معاودة زيارة المنجز المعرفي التاريخي والأثري الاستعماري، وذلك باعتبار ما اتسمت به معظم الأبحاث الصادرة عن المنتسبين له من انحياز مكشوف، فأن كل رغبة في التعرّف على كيفية استكشاف التونسيين لما يربطهم بتاريخ الحضارات القديمة لا يمكن أن تصيب مقصدا، كلما ازداد إصرارنا على فصل الاصطدام الحقيقي الذي عاشته النخب المتعلمة تونسيا بالأدوار التاريخية المحوريّة التي عادة لحضارات ما قبل الإسلام، والتعرّف بدقة على الدور الذي عاد للأثريين الاستعماريين في بروز مثل ذلك الوعي الجديد.
يجدر بنا بدءا تقديم تعريف مختزل لما وسمه الغرب حاضرا بالعهود القديمة. فقد دشنت تلك المرحلة التاريخية سياسيا ظهور نظام المدينة والديمقراطية والحرية والخضوع للقوانين المنظمة للحياة الجماعية. أما على الصعيد الاقتصادي فتحيل تلك العصور على هيمنة نمط الإنتاج العبودي وسيطرة منظومة إعادة التوزيع التي علّمت مرحلة ما قبل اقتصاد السوق، على أن تساهم حضارة الإغريق ومن خلال تعويلها على الألسن الهندية الأوروبية، في تركيز أحرف الهجاء التي يتواصل استعمالها داخل مجال شاسع من العالم الغربي حاضرا. 
ويتّضح من خلال هذا التعريف أن التجربتين الإغريقية والرومانية قد شكلتا بالنسبة للمدافعين على التمييز بين البدائية والعهود القديمة، الفجر الحقيقي للتاريخ، وذلك اعتبارا لتبني تلك الحضارات للكتابة المستندة على أحرف الهجاء. كما مثّلت الحرب ضد الفُرس واحدا من أبرز المواضيع التي اهتمت بها الآداب الإغريقية والتي ترتب هذا التفريق النوعي بين أوروبا القديمة وآسيا البدائية - وهو تمييز لا زلنا نعيش تبعاته السلبية حاضرا على صعيد التأليف في التاريخين الثقافي والسياسي- على الخوض في تفاصيلها.  وهكذا فقد تم تحويل أوروبا قصْديا إلى مهد أساسي للعهود القديمة، مما ضيّق مجال التعيين الثقافي للحضارتين الإغريقية والرومانية على الناطقين بالألسن الهندية الأوروبية دون سواهم، في حين تمّ ربط آسيا الغربية وهي مهد الشعوب الناطقة بألسن سامية، وعلى العكس من ذلك، بحضارات الشرق القديم[iv].
هذا في اختزال شديد ما يمكن الاحتفاظ به بخصوص أشكال تمثّل العصور القديمة بالنسبة لنُخب الغرب الحديث وجميع شعوبه، لذلك فإن السؤال الذي يحتاج إلى وقفة تدبّر هنا: هو لماذا لم يحصل سحب نفس أُطر الانتساب للحضارات القديمة وبالمدلول الذي تعنيه كلمة "أنتيكتي Antiquité" على بقية الحضارات التي عاينتها منطقة الشرق الأوسط والهند أو الصين مثلا؟ ألا يتعين أن نفهم من ذلك نزوعا مقصودا لإقصاء بقية مجالات العالم وتحويل حضارات الغرب القديمة إلى ما يشبه الاستثناء؟ فمدلول مرحلة امتلاك تقنيات الري والزراعة أو "العصر النيوليتيكي le néolithique" لا يحتمل كونيا أي استثناء، بينما يحيل مصطلح "أنتيكتي antiquité"، الذي لم يبرز غربا للوجود قبل حلول القرن الثامن عشر، على مضمون تم الحرص معرفيّا على ربطه عمدا بأوطان الحداثة الغربية دون سواها وذلك بعد استعادة تلك المجالات لمورث قدامى الإغريق والرومان حال انبثاق عصر النهضة.     
ويشكّل التأريخ لسياقات البحوث الأثرية في البلاد التونسية واحدا من أقل المواضيع ورودا من قبل المختصّين في تاريخ الحضارات القديمة، وكذلك الأمر بالنسبة لأضرابهم المختصين في التاريخ المعاصر. حيث قلّما تمّ إفراد هذا المبحث وخلال العشرين سنة المنقضية بدراسات معرفية محكّمة. ويعود السبب في ذلك إلى المغالاة في الفصل بين التخصّصات التاريخية وقرينتها المتّصلة بعلوم الآثار، فضلا عن كثرة الحواجز الفاصلة بين الباحثين المهتمين بالحفر في خصوصيات المراحل الاعتبارية الأربع لعلوم التاريخ. حيث يسمح الاعتكاف على إنجاز مثل تلك الأبحاث بمزيد إضاءة ملابسات سياق ما لا نتهيب عن نعته بالترميق الأدبي bricolage littéraire الذي أسعف في ربط تاريخ تونس خلال مراحل ما قبل الإسلام بعصور الحضارات القديمة وفق ما تم تعقّله غربا. فقد أضحى بيّنا للعيان حاضرا أن الدفع باتجاه تطوير حملات الاستكشاف أو تشجيع القيام بالحفريات الأثرية قد شكّل، وفي عميق تصوّر من أشرفوا على تكريس سياسة الإدارة الاستعمارية الفرنسية، ضربا من الإحياء لتاريخ تونس الرومانية، ذلك الذي طمسه سياق الأسلمة النهائية والتعريب الشامل. لذلك اعتُبر العثور على مزيد من الشواهد الأثرية الرومانية موردا مهمّا يمكّن من إعادة تشييد الذاكرة اللاتينية العميقة للمستعمرة الإفريقية، ومصدرا مُلهما في دفع مشروع "فَرْنَسَةِ" الهوية الجماعية للتونسيين. فقد تمثل هدف المنقّبين عن الآثار في الكشف عن مغمور المواقع والمنشآت العمرانية الكبرى على غرار المسارح، وملاعب المصارعة، والساحات العامة، والحمامات، والكنائس، وخزانات المياه، والسراديب، والمدافن... وغيرها، فضلا عن استعادة مخلّفات مواضع الطرقات الرومانية القديمة، وذلك من أجل إنشاء شبكة مستحدثة يُؤخذ في مدّها الاعتبار باستلهام عبقرية القدامى التي تحيل عليها بقايا منشآتهم المائية، قصد النجاح في الرفع من مردود المستغلات الزراعية الممنوحة للمعمّرين الفرنسيين، والربط مجدّدا مع ذاكرة الوفرة أو السِعَةِ الواردة ضمن روايات مصنفات كبار كتاب العهود القديمة المتّصلة بتاريخ ولاية أفريقا الرومانيةProconsulaire ou Afrique romaine الأثيلة.
وعموما فقد شكّل ما حصل حالة توافق تامة بين المستكشفين والباحثين عن الآثار وضباط الجيش ورجال الدين وسامي موظفي الإدارة والمهندسين بخصوص جدوى التعويل على علم الآثار التطبيقي، بُغية استيعاب دروس الماضي، تطلّعا لإنجاح الرهانات المتّصلة بالحاضر وبالمستقبل في آن. فقد تم في هذا الإطار التركيز على ضرورة صيانة المنشآت المائية الرومانية، قصد السماح للمّعمرين الجُدد بالاستقرار على ذات المواقع التي تسمح بإحياء تلك التقنيات القديمة وتطوير أدائها في استخراج مياه العيون ومجاري الأودية أو الأنهار. كما شجّعت الإدارة الاستعمارية مُعمّريها على زراعة الزياتين بالسهول الساحلية التونسية، مُستندة في ذلك على تفنّن الرومان في تحويل البلاد إلى ما يشبه البستان الشاسع الذي ضم غابة من الأشجار المثمرة، بينما انتشرت بمئات المزارع وعلى كامل المساحة الاعتبارية للمقاطعة الرومانية معاصر الزيت ومطاحن الحبوب، التي توفّر أغلبها على خزانات أو دواميس وآبار ومنشآت ربط وتصريف تسمح بإيصال الماء أو نقله على آماد شاسعة. 
انخرط رجال الدين ضمن هذا السياق العامل على استعادة الإرث الروماني القديم للبلاد التونسية وصيانة منشآته، ضمن استراتيجية معلنة ترمي إلى إحياء تاريخ مقاطعة قرطاج المسيحية. وهو ما تم الإعداد له من خلال دفع الباي حسين الثاني (1824 - 1835) إلى القبول بمنح السلطات القنصلية الفرنسية أرضا على هضبة بيرسا بقرطاج، بُغية تشييد كنيس يخلّد ذكرى القديس لويس التاسع (ت 1270م)، وذلك حتى تعود للنصرانية بأرض إفريقية أمجادها السالفة بقيادة "الكردنال لافيجري Le Cardinal Lavigerie" الذي عوّل على عمق الروابط التي تشدّ البلاد التونسية إلى إرثها الروماني قصد إكساب الحضور الاستعماري الفرنسي مزيدا من الشرعية. فما إن تمت عملية الإنزال العسكري الفرنسي بنجاح، حتى أَوْكَلت الكنيسة الرومانية لهذه الشخصية مسؤولية "إحياء تاريخ تونس المسيحية" والكشف عمّا خلفته من مواقع أثرية مهيبة. والبين أن النجاح الباهر في أداء تلك المهمة هو الذي كان وراء حصول ضاحية قرطاج على لقب مركز أسقفية Archidiocèse  وتحوّلها إثر ذلك إلى عاصمة لإفريقيا المسيحية بعد أن استقبلت بداية من سنة 1930 الدورة الثلاثون للمؤتمر الأفخرستي. وعلى الرغم من تنوّع أهداف الحملات الاستكشافية وخصوصياتها، فقد تم الاحتفاظ بالتوجّه الرامي إلى استعادة ماضي عصور البلاد التونسية القديم على الشاكلة التي كان عليها زمن الولاية الرومانية. 
وهكذا يتضح لنا أن الخوض في سياق عمليات الاستكشاف والتنقيب عن الآثار يحتاج بالضرورة إلى تفحّص الجوانب الأيديولوجية وإدراك حقيقة الرهانات وطبيعة المصالح المرتبطة بمختلف تلك الممارسات عن قرب. فقد كشفت لنا الروابط المتينة التي نسجت بين الباحثين في الآثار والمُشرّع الاستعماري عن طبيعة الممارسات التي تواصل التعويل عليها خلال ما لا يقل عن قرن من الزمن، والمتمثّلة في وضع نتائج الحفريات الأثرية في خدمة السياسة الاستعمارية الفرنسية بتونس، بحيث ساهمت البعثات الأثرية الفرنسية طوال الفترة الاستعمارية بشكل محوري في إعداد البلاد للتوطين الاستعماري، في حين هيأت البحوث المتصلة بالتمثيل الخرائطي واستخراج النقائش اللاتينية وجردها واستكمال جمع محتوياتها، البلاد التونسية للوقوع تحت الوصاية الفرنسية بالكامل[v]
ويستوجب الخوض في هذه المسألة الإشادة بالمبادرة النضالية التي قام بها عدد من الشبان الوطنيين التونسيين المنخرطين بـ"جمعية قدماء الصادقية"، من أمثال الحبيب بورقيبة والباهي الأدغم والطيّب المهيري، والمتمثلة في العمل على جرد القُبريات والنقائش العربية épitaphes et inscriptions arabes التي ضمتها مقبرة القرجاني، وهو مشروع لم تكن مصالح الإدارة الاستعمارية ذاهلة عن مضمونه، لذلك دفعت بقوة إلى التخلي عن إنجازه قبل أن ينجح في استكماله عالم الأثار التونسي مصطفى زبيس لاحقا وحال استعادة البلاد لسيادتها الوطنية[vi]
ومهما يكن من أمر فإنه لا مندوحة من الاعتراف بأن الحضور الاستعماري قد ساهم في تطوير حملات الاستكشاف الأثري دافعا بشكل لا إرادي باتجاه إعادة تملّك النابهين من المتعلّمين التونسيين لمختلف تقنيات التمثيل الجغرافي، عبر بعث مؤسسات في الغرض ساعدت على تطوير المعارف الخرائطية والأثرية وفكّ شفرة النقائش البونية والرومانية، وذلك على غرار معهد الآثار والفنون الذي تحوّل بعد الاستقلال إلى المعهد الوطني للتراث. حيث تمثل الهدف من إنشائه في صيانة المواقع والمعالم الأثرية والمحافظة عليها، فضلا عن بعث مصلحة تُعنى بالقيس الطبوغرافي لتمثيل مختلف المواضع الواقعة داخل الحدود الاعتبارية للبلاد التونسية بعد التعرّف على مركباتها بدقّة. ولئن تعيّن التشديد على كارثية الخسائر التي تكبّدتها مختلف مواقع التراث المادي التونسي طوال المرحلة الاستعمارية جراء إعادة استعمال مختلف اللقى الأثرية والحجارة القديمة في تشييد المعالم الجديدة والدور الخاصة، ونقل المسلاّت، ولوحات الفسيفساء، وشواهد القبور، والنقائش، والمزهريات البلورية، والتماثيل الرخامية، والوثائق، والقطع الفنيّة النادرة، لعرضها ضمن محتويات المتاحف الفرنسية، فإن ما يتعيّن الاحتفاظ به مع جميع ذلك هو إسهام هذا التوجّه في وضع حد لعلاقة الإقصاء التي ربطتنا لقرون خلت بإرثنا القديم ونزعة التحفظ المقصودة التي أبدتها مختلف الأطراف المتزمّتة بخصوص مختلف المعالم المتّصلة بجذورنا التاريخية القديمة الضاربة عميقا في تاريخ تونس المتوسطي، وهي معالم لا زالت تتحدى في خيلاء نظيرتها التي تحيل على إرثنا العربي الإسلامي أو على موروثنا الزنجي الذي يربطنا بجذورنا الإفريقية الصحراوية[vii]
التنوع الثقافي من منظور تونسي:
لكن ما الذي يعنيه مدلول "التونسة" في تمثّل من أوجدوا هذا التصوّر سواء خلال مرحلة النضال ضد الاستعمار أو بعد تصفيته وبناء الدولة الوطنية؟ حاول الفاعلون السياسيون وممثلو النخب المتعلّمة أيضا توضيح هذه مسألة المتصلة بالهوية الجماعية للتونسيين ضمن مختلف أدبياتهم أو/ وخطاباتهم، وذلك منذ مرحلة ما قبل الاستقلال[viii]، على أن تتلوّن العودة إلى هذه المسألة بعد الانقلاب الفارق لسنة 2011 بتطوّر التصوّرات وتباين المشارب الفكرية والتعبيرات الثقافية، وخاصة بعد أن أضحت حرية التعبير مكسبا مبذول على الساحة العامة[ix].
وتسمح مقاربة أربعة جوانب تتصل بالجذور العرقية البربرية وبالمسألة الملية اليهودية وبالانتساب إلى المجال المتوسطي وبالعلاقة بالأصول الافريقية، من تعيير مدى اعتبار المغاربة عامة والتونسيون تحديدا بتنوّعهم الثقافي.
1 – "التونسة" والانتماء العربي الإسلامي:
 تم في غضون القرن العشرين وبالتزامن مع المَدَيْن الاصلاحي والوطني استنباط مصطلح "التونسة" الذي فرض نفسه بشكل واضح خلال مرحلة بناء الدولة الوطنية على أيام رئيسها الأول وزعيم الحركة الوطنية الحبيب بورقيبة (1903 - 2000). ويعود التشديد على هذا التوجّه - وفق ما أكدته الدراسات المختصة- إلى سببين رئيسيين: هما الاعتقاد في جدوى مثل هذا التمثل في صياغة مشروع حكاية مشتركة للتونسيين تسعف في مجابهة تحدي النماء، مع العمل على الحدّ من التوجهات القومية العروبية التي هيمنت على المشهد السياسي المشرقي والجزائري حال تصفية الاستعمار. فالتشديد على شخصية تونسية متفرّدة وإن كانت غير مقطوعة عن أصولها العربية قد شكل من منظور الرئيس الأول للتونسيين ضمانة للاستقلال عن أي تبعية لإيديولوجية عروبية مهيمنة لم يكن يُنظر إليها بعين الرضا. لذلك وفي تباين صريح مع بقية الدول العربية المجاورة شمل تدريس مادة التاريخ تونسيا تنويها بجميع مراحل ما وسم بالتاريخ الوطني التونسي منذ الفترة "البونية"، وهي مرحلة عاينت عظمة حضارة قرطاج. كما أن الرغبة في تدعيم الدولة- الوطن على المنوال الراديكالي أو "اليعقوبي" الفرنسي هي التي كانت وراء تنقية الانتماء الوطني من جميع مستويات التعيين الثقافي الساندة، كالقبلية والانقسامية، وتهميش الأدوار التي لعبتها الأقليات ضمن المرويّة التاريخية الرسمية. فقد تم الاعتراف بالعمق الحضاري للوطن دون التصديق على تنوّع مكوناته، وهو ما ترتب عليه صياغة مشروع رسمي مُلتبس "للتونسة". فالتونسيون ليسوا عربا فحسب، غير أنهم ليسوا بقادرين على تحديد ماهية الشيء الآخر الذي يشكّل عنصرا ناظما لشخصيتهم[x].
إلى جانب هذا التعريف الرسمي واصل شقّ من المثقفين التونسيين التشديد على تنوّع الأرضية البشرية والثقافية التونسية، حتى وإن لم يكن لأصواتهم حضور لافت بين ستينات وثمانينات القرن الماضي. والغريب أن تجدّد الحوار حول تنوّع أصول التونسيين قد انطلق حال تجسّم نوع من التجانس بين مختلف مركبات سكان تونس المستقلة، لكأن جميعهم قد تفطن إلى حالة التفقير الناجمة عن المرور من تعدّد الانتماءات إلى فردانيتها[xi].
وعموما فمن السذاجة بمكان إنكار المكانة المركزية التي احتلها ولا يزال الانتماء للعروبة والإسلام في الشخصية الأساسية للتونسيين. غير أن جانبا غير قليل من المدافعين على مثل تلك المكانة لا يكتفون بطابعها الأساسي، بل يدفعون باتجاه التشديد على مدلولها المطلق وعلى قدرتها الخارقة على صهر جميع ما هو دونها. وهو ما من شأنه أن يدرج "التونسة" ضمن المجال الأرحب للـ"وطن العربي"، وفسخ كل مكوّن آخر للهوية بوسعه أن ينئ بها عن حاضنتها الحقيقية خارج المجال الاعتباري للوطن[xii].
وتبرز ضمن هذا التمثّل طريقتين لتعقّل الانتماء، واحدة تدفع باتجاه فسخ جميع ما لا يحيل على الجذور العربية الإسلامية من الذاكرة الجماعية للتونسيين، في حين تعترف الثانية بالتنوع مع التشديد على غلبة الانتماء العربي الإسلامي، حتى وإن أحالت مكوّنات الشخصية التونسية تاريخيا على مستويات انتماء مفارقة تتصل بالماضي الما قبل إسلامي. وعموما يتأرج مختلف الفاعلين السياسيين والثقافيين حاضرا بين إدانة مرحلة الاستبداد التي قلّصت من أهمية هذا البعد أو "جففت منابعه" على حد تعبير المنتسبين إلى تيارات "الإسلام السياسي"، أو يشدّدون على أولويته مع القبول بحضور أبعاد مكمّلة أو ساندة له، في حين يدعو ممثلو الفكر السلفي بشكل صريح إلى دولة الخلافة وفق تصوّر "أممي إسلامي" يرفض جميع رموز الانتساب القطري بما في ذلك الراية الرسمية أو العلم الوطني.
وعلى أهمية هذا البعد، فإن مستويات الانتماء لا تنحصر تونسيا في التمسّك بالجذور الحضارية والثقافية العربية الإسلامية، بل تحيل أيضا على جملة من الأبعاد الساندة لشخصية التونسيين المشتركة يمكن أن نحتفظ من بينها بالمتوسطية والبربرية واليهودية والزنجية.                           
2 – الأبعاد المكمّلة للانتماء (المتوسطية والبربرية واليهودية والزنجية الإفريقية)
تم تقديم البعد المتصل بجذور التونسيين المتوسطية عبر ربط أصولهم بالحضارات البونية والرومانية والوندالية والبيزنطية، فضلا عن العلاقات التاريخية التي شدتهم إلى المجالين الأيبري والعثماني واستقبالهم لجاليات متوسطية على غرار المورسكيين في بدايات الفترة الحديثة، ثم اليونانيين والإيطاليين والمالطيين والفرنسيين من بعدهم.
ولم تكتف تونس بالانتساب إلى البحيرة المتوسطية جغرافيا بل ثبت بالدليل القاطع إسهامها التاريخي في كتابة العديد من صفحات تلك البحيرة الزاهية. وهو ما عملت السياسة الرسمية التونسية سواء خلال فترة حكم الرئيس بورقيبة أو بعد إزاحته عن الحكم في السابع من نوفمبر 1987 على توظيفه. وحتى وإن بدا الاجماع حول حضور مثل هذا البعد ضمن العناصر المشكّلة للشخصية التونسية، وخاصة إثر دخول مسار برشلونة أو مشروع الشراكة الأورو- متوسطية حيز التبني في أواسط التسعينات، فإن ذلك التبني قد اتسم بالالتباس خصوصا بعد ربط ذلك المسار بمراقبة تيار الهجرة غير القانونية وتجاوز المخلّفات الاقتصادية الناجمة عن الفشل في إيجاد حلّ مجزي لمعضلة الاستعمار الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية، مما جعل من تبني بلدان جنوب المتوسط لمثل تلك التصوّرات الأوروبية أمرا جد صعبا[xiii].
طفت صعوبة تأويل الانتساب المتوسطي على السطح تونسيا مجدّدا بمناسبة مناقشة توطئة الدستور التونسي، حيث أصرّ المدافعون عن أولوية الانتساب إلى العروبة والإسلام على أهمية الروابط التي شدّت التونسيين ولا تزال للفضاء العربي الإسلامي ودور تلك الروابط في تحديد الدرجة العالية لاندماجهم الثقافي، وذلك قياسا لمحدودية الروابط التي تشدهم للمجال المتوسطي المتّسم بضعف التجانس، فضلا عن اقحام الدولة الإسرائيلية ذات التوجهات الصهيونية المعلنة جيو-استراتيجيا ضمنه. لذلك وجب الحرص على حماية استقلال البلاد الوطني عبر تعميق وعي التونسيين بالمصير العربي المشترك دون الإغضاء عن ربط علاقات متكافئة بالبلدان المحسوبة على المجالات الافريقية والمتوسطية والدولية، تلك التي لم يحصل أي إجماع بخصوص محوريّة اتصالها بالشخصية الجماعية للتونسيين.
ما من شكّ إذن في أهمية الموقع الذي يشغله البعد المتوسطي في انتماء التونسيين وخاصة بعد أحداث 2011 الفارقة، إلا أن هذا التأكيد يتعين ألاّ يهمل التصوّرات المتباينة بخصوصه بالنسبة لساكنة السواحل مقارنة بأهل الدواخل، ولدى قاطني السهول الساحلية قياسا للمحسوبين على المناطق المرتفعة وخاصة بعد امتداد بقعة الزيت التي شغلتها التصّورات الدينية المتشدّدة واحتضان جانب من مرتفعات البلاد للجماعات الإرهابية الرافعة للسلاح ضد الدولة والرافضة بشكل جذري لمشروع التونسيين المجتمعي. وحتى وإن غلب الانبساط على معظم تضاريس البلاد التونسية مقارنة ببقية بلدان مجال المغارب، فإن التّشديد على الطابع البديهي لانفتاحها على الضفة الشمالية للمتوسط لا ينبغي أن يتجاهل التقسيم التقليدي لنفس الفضاء لعائلتين ثقافيتين بالمدلول الانثروبولوجي للكلمة، واحدة ساحلية منفتحة على البحر، والثانية داخلية اتسمت تصرفات نسبة عالية من سكانها بالانطواء والمحافظة.
ولئن حرص باني الدولة الوطنية على وضع تمثالين نصفيين بارزين لحنبعل ويوغرطة وراء مكتبه، قاصدا من وراء ذلك التعبير عن تمسّك تونس الرسمية بجذورها المتوسطية والبربرية النوميدية، فإن علاقة تونس بجذورها البربرية لا تخلو هي أيضا من حضور تصورات مُلْتَبسة. فمن دون أن يدفع باتجاه معادة البربرية عمل بورقيبة بمعيّة من تشيعوا لتصوّراته الوطنية الراديكالية ومشروعه التحديثي، على فسخ مختلف البصمات الثقافة البربرية التونسية. وذلك عبر إقرار سكان القرى البربرية المحصّنة جبليا بمواضع جديدة بعد إخلاء مواطن سكناهم القديمة بالقصور الواقعة بالجنوب الشرقي. كما لم تشجع الدولة الوطنية سكان تلك المواضع على المحافظة على خصوصيات المعمار البربري التقليدي وصون اللهجات المحليّة. وهو ما انتهى بها موضوعيا إلى استكمل تعريب البلاد عبر تعميم التعليم تَوَافُقَا مع التوجهات الوطنية التحديثية للمشروع البورقيبي.  
ولئن كشفت تمثيلية الاقليات البربرية التونسية عن تراجعها الملحوظ مقارنة بما عرفه واقع التركيبة البشرية بالجزائر أو بالمغرب الأقصى، حيث تراوحت نسب تمثيل المحسوبين على البربر بين 20 % و40 %، الشيء الذي دفع بالسلط الرسمية هنا وهناك إلى الإقرار دستوريا بحضور البعد البربري ضمن المكونات الناظمة لهوية البلدين، فأن المدافعين عن الحساسيات المحسوبة على الفكر العروبي أو الاسلامي قد واصلت رفضها لحضور البربرية ضمن عناصر الانتماء الناظمة للشخصية التونسية.  إلا أنه وعلى الرغم من سلبيات تلك التوجّهات فإنه من المفيد الإشارة إلى حضور حالة اعتزاز كبير في صفوف أجيال ما بعد الاستقلال بأصولها البربرية. ويبرز ذلك مثلا في عدم تصديق جانب كبير من الفاعلين الثقافيين والمدنيين على حصر انتماء المغارب للعروبة، باعتبار ما تحمله تسمية "المغرب العربي" من نفي مقصود لبقية المكونات الناظمة لشخصيتهم[xiv].
ولئن اعترف الخطاب الرسمي التونسي بتونسية اليهود، فإنه لم يحرص بشكل واضح وجليّ على استبقائهم بعد تصفية الاستعمار، الشيء الذي ترتب عليه انحدارا لعددهم الاجمالي من قرابة المائة ألف نسمة خلال خمسينات القرن الماضي إلى ما لا يزيد عن الألف وخمسمائة نسمة حاضرا. وتعود هذه الازدواجية في التعامل مع المسألة اليهودية تونسيا إلى عدة عوامل ساهم تظافرها في التّعمية على الطابع الأهلي العريق للحضور اليهودي. حيث احتجب التعرّض لذكرهم بالكامل ضمن محتويات كتب التاريخ المدرسيّة. كما ذهل متحف "حومة السوق" بجزيرة جربة لسنوات عن تأثيرهم في معاش الجزيرة، قبل أن يخصّهم بمساحة صغيرة لا تتوافق مع الأدوار المحورية التي ثبت بالبحث والتنقيب عودتها إليهم. على أن حضور اليهودية ضمن الخطاب السياسي لا يخلو من نوازع تحريفية مسيئة للذاكرة الجماعية التونسية، مع توجّه مقصود نحو التضييق على التعريف بالكشوفات التاريخية والأثرية المتّصلة بقدم حضورهم على المجال الاعتباري للبلاد التونسية.  ومع ذلك فإن انغراس ذلك الحضور في الذاكرة الجماعية للتونسيين قد اتخذ شكليين لا ثالث لهما، فإما أن يحيل على منسوب الكراهية إزاء اتسام تصرفاتهم بـ"المراوغة والافتراء". ويصدر ذلك بالخصوص عن المؤيدين للتصورات التحريفية التي تعتبر أن حقيقة تصفيّة اليهود من قبل النازيين لم تمثل غير أكذوبة حاكها الخيال الصهيوني وانطلت على المجتمع الدولي، وأن سياسة الدولة الاسرائيلية إزاء الفلسطينيين تماثل ما اقترفه زعيم النازية الألمانية ضد اليهود. بينما يعلن الطرف الثاني، وعلى العكس من ذلك عن حضور مشاعر حنين قوية تجاه التاريخ المُشرق الذي شكّله حضور اليهود التونسيون ماضيا.
وعموما فإن خطاب التشنيع ضد اليهود لا ينحصر ضمن الجماعات المُسيّسة أو المنحازة إيديولوجيا، بل يتجاوزها لحيل على حضور خلط كبير لدى غالبية التونسيين بين اليهودية والصهيونية، بحيث تحوّلت معاداة الصهيونية بوصفها نفي لوجود الدولة الاسرائيلية التي تشكل كيانا محكوما عليه بالاضمحلال، إلى أداة للتعْمِية على تصرّفات جميع القُصْوِيين من الجهاديين ضد المدنيين العزل. ويتشكّل ذلك واقعيا وضمن مخيال التونسيين الجماعي في تصوّراتهم الطفولية أو المثالية لعلاقات المسلمين باليهود على مر التاريخ، وذلك تماشيا مع ما نص عليه ميثاق الذمام إسلاميا، حيث عاش الجميع في وئام كامل وفي كنف الدول الإسلامية المتعاقبة، حتى وإن تخلّل ذلك بعض العثرات التي تم تجاوزها استبقاء للتعايش بين مختلف المجموعات أو الأقليات العرقية والمليّة. فلئن اتّسم تاريخ العلاقات بين الأقلية اليهودية التونسية والأغلبية المسلمة من سكان البلاد بثرائه وتشعّبه فقد اخترقته أحداث صعبة ووقائع جد مظلمة وذلك حتى خلال المراحل التاريخية التي أبدى خلالها السكان تمسّكا واضحا بشروط التعايش بين مختلف الأعراق والملل.
ولأن ما يعنينا تحديدا هو تمثلات مختلف تلك الأطراف للعلاقات التي ربطت بينها، فإنه من الواجب التشديد على غياب التذكير، حتى عند أولئك الذين يصدرون عن تصورات حنينيّة للحضور اليهودي تونسيا، بالمنزلة القانونية الدون التي رزحت ضمنها الأقلية اليهودية قبل التصديق على بنود عهد الأمان سنة 1857م. كما أن أغلبية من يصدرون عن تصوّرات لا تطعن في أقدمية الحضور اليهودي تونسيا لا يرون أي غضاضة في وضع اليهود في موقع الأجنبية عبر وسمهم بـ"الجالية اليهودية"، تلك التي خضعت طيلة تاريخها لميثاق أهل الذمة، والتي وإن امتزج جانب من تاريخها بتاريخ البلاد عامة، فإنها لم ترق في مخيّلة معظم المسلمين منهم إلى مستوى المجموعة المنخرطة طبيعيا في مرويّة التونسيين الجماعية أو الوطنية[xv].
بقي أن نعرف وبخصوص علاقة الزنجية الإفريقية برهان التنوع الثقافي تونسيا أن هذا البعد يمثل القريب الفقير والحلقة الأضعف في سلسلة انتماءات التونسيين، حيث يعمد الطرفان الشمال إفريقي والجنوبي الصحراوي إلى نوع من التغاضي المتعمّد، الذي تنفي بمقتضاه العروبة عن نفسها أي انتماء للزنوجية الافريقية، في حين تعتقد شعوب إفريقيا جنوب الصحراء أن سكان شمال القارة من البيض غير معنيين بالمرة بالانتساب إلى الزنوجية الإفريقية. وليس بعيدا أن يكون مرد هذا التنافر الثقافي متّصل بالطابع العنصري لعلاقات الطرفين، وذلك حتى مرحلة غير بعيد من تاريخهما الحديث. لذلك يكتسي الاهتمام بتطوير التصوّرات الرامية إلى تجاوز هذه الحواجز من خلال تمثّل الصدمات التي عاشتها شعوب أفريقيا الزنجية جراء أشكال التعامل العنيفة والعنصرية التي وسمت علاقات الافريقيتين العربية والزنجية، من خلال التعرّف بشكل دقيق على مختلف ردهات تاريخها وتحديد طبيعة القواسم المشتركة التي ربطت بينها ماضيا وحاضرا، بعدا استراتيجيا في ضوء متغيّرات سياق ما بعد الانقلاب السياسي والمجتمعي الفارق الذي تعيشه البلاد التونسية ومتطلّبات المرحلة الراهنة التي يحتل ضمنها الانتقال الديمقراطي موقعا محوريا.
ولأن ذلك الاهتمام يطرح بإلحاح ضرورة تمتين الأواصر التي تشدّنا ولا تزال إلى مجالات انتسابنا الحيوية، فإن التفكير بخصوص طبيعة العلاقات التي ربطت تونس بالقارة الإفريقية طوال الثلاث عشريات التي تلت إرساء دولة التونسيين الوطنية، ينبغي أن يحفّز على إجراء دراسة تحليلية لتلك العلاقات بالتعويل على ما احتفظ به الأرشيف الديبلوماسي التونسي الرسمي من وثائق، وإدراج تلك التجربة ضمن سياقها المخصوص قصد الالمام بالتوجّهات التي قادتها وتحديد المكاسب التي حقّقتها، فضلا عن التبصّر بمواضع تقصيرها وكيفية الارتقاء بمضمونها والرفع من نسق أدائها بشكل يتوافق مع الموقع الذي احتلته والعلاقات الطموحة التي ربطت البلاد التونسية بمختلف بلدان إفريقيا إبّان تصفية الاستعمار أو من بعده، سواء اتصل ذلك بالعلاقات الثنائية التي عاينت طوال حكم بورقيبة توسّعا في مجالات التعاون والتنمية وتبادل الخبرات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والتربويّة والصحيّة والثقافيّة، أو فيما يتصل بتطوير أشكال التعاون الاقليمي والرفع من مستواه بين مختلف شعوب القارة ودولها، وخاصة بعد تأسيس منظمة الوحدة الافريقية في ربيع سنة 1963. حيث يتراءى لنا وبالاستناد إلى جملة الوثائق الأرشيفية التي أمكن استغلال جانب منها ضمن إطار يتجاوز من حيث أفقه وإشكاليته ما نحن بصدد عرضه[xvi]، أن مختلف التوجّهات التي قادت تلك السياسة قد صدرت عن رؤية استراتيجية حدّد معالمها باني الدولة الوطنية. فقد تم تركيز الجهود المبذولة على رصيد الثقة المتبادلة التي ربطت بين زعماء الكفاح الوطني وأقطابه الكبار، من بورقيبة إلى سنغور، مرورا بـ"نكروما"، و"لومومبا"، و"بوانيي"، و"سيكوتوري"، و"هولدن"، و"سافمبي"، و"طامبو"، وصولا إلى رمز النضال ضد نظام الميز العنصري بجنوب إفريقية "نيلسون منديلا". ويتمثل ذلك التوجّه في تقديم التعاون الثنائي ذي النفس الاقتصادي والاجتماعي الميداني، دفعا لمسار النماء وبناء لتدرّج سليم بوسعه أن يُفضيَ لاحقا إلى إدراك مدى ارتباط قيمة الحرية بتحقيق معنى الكرامة والضفر بمعركة ما راق لبورقيبة وسمه بـ"الجهاد الأكبر". فاستكمال تحرير القارة السمراء وتصفية الحضور الاستعماري وإن شكّل هدفا استراتيجيا قاريا، لا يمكن في منظور القائمين على السياسة الخارجية التونسية أو المناصرين لتوجّهاتها أن يصيب غايته دون ربطه بتحقيق نتائج مُجْزِيَة في مسيرة التنمية والقطع مع الأميّة والارتقاء بالمستوى المعيشي تشوّفا إلى بناء ركائز المواطنة المسؤولة. على أن اتسام تلك التوجهات بالرصانة لم يمنع من الوقوع في العديد من المحاذير لعل أبرزها الفشل في بناء الثقة وفرض الحضور على الصعيدين الاقليمي أو القاري. وهو واقع وإن ترتّب جانبيّا عن تقلّب العلاقات التي ربطت تونس بأجوارها وكذا إلى الشطحات الوحدوية العروبية والإسلامية الماضوية للعديد من بلدان المشرق والمغرب العربيين.
فحال انقلاب الأوضاع الجيو- استراتيجية كونيا نتيجة انهيار المعسكر الشرقي، اتضحت حدود الاستراتيجيات التي قادت السياسة الخارجية التونسية وديبلوماسيتها تجاه بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، إذ لم تفض توجهاتها العاملة على لعب دور الوساطة أو همزة الوصل بين بلدان إفريقيا السمراء والعالمين العربي والأوروبي الغربي إلى النتائج المأمولة، بل وأدت عكسيا إلى حالة اكتناف ولا مبالاة غير مسبوقة جعلت الفاعلين السياسيين والمدنيين والاعلاميين فضلا عن الجامعين المؤتَمنين على انتاج المعرفة ونقلها في حالة ذهول مُحيّر عمّا تعاينه القارة الافريقية حاضرا من تشكّل للعديد من التكتلات الإقليمية الفاعلة سواء بغربي القارة أو بشرقيّها. حيث تبدو بلدان شمال إفريقيا الخمسة وكأنها غير معنيّة بالتحولات الاقتصادية النوعيّة التي تعيشها أعماق القارة الإفريقية، لذلك تُشكل العودة إلى الساحة الافريقية بالعمل على إعادة موقعة هذا البعد ضمن مختلف مستويات الانتماء الناظمة لهوية التونسيين الجماعية رهانا أساسا لصياغة مدلول واقعي لتجسيم علاقة التونسيين بانتمائهم الإفريقي في مرحلة ما بعد 2011.
تنوع الانتماء ورهان المواطنة:
عاينت أوضاع البلاد خلال مرحلة ما بعد انهيار النظام السابق سنة 2011 ارتفاع منسوب الارتياح، وتوثقت الصلات بشكل مفاجئ يتخطى النوايا الطيبة واللغة الخشبية الرديئة بين مختلف الفئات الاجتماعية والجهات والأجيال من أجل إكساب الإيمان بالمصير المشترك مدلولا عمليّا وقيمة أرقى. فقد كشفت التوجّهات الإصلاحية المتّصلة بالممارسة السياسية توافقا مع الرغبة في مباشرة إتمام تحوّل ديمقراطي يعكس حقيقة التساوي بين جميع التونسيين أمام القوانين الناظمة لعلاقات الأفراد بالدولة وعلاقاتهم ببعضهم البعض. وتبيّن ذلك خاصة حال السجال الذي عاينته مسألة الازدواج في الجنسية تلك التي شكّلت وضعية نصف المهاجرين التونسيين الذين جاوز عددهم المليون حاضرا، أولئك الذين لم يتمتعوا بجميع حقوقهم المدنيّة قبل حصول هذا الحدث الفارق. فإن كانت تتم دعوتهم للاقتراع على المرشح (أو المرشحين) للانتخابات الرئاسية، فقد كانوا غير معنيين برصيفتها التشريعية، وهو ما تم تجاوزه من خلال تمكينهم من ذلك الحق رسميا. وتكريس ذلك الحق ضمن بنود الدستور الجديد، حتى وإن اكتفى نواب المجلس التأسيسي بالتنصيص على ضرورة انتساب المترشح لانتخابات رئيس الجمهورية إلى الديانة الإسلامية.  
نستطيع القول إجمالا أن أغلبية التونسيين بما في ذلك فاعليهم السياسيين الأكثر ليبرالية لا يبدون مهيئين موضوعيا للقبول بإمكانية حضور أي تنوّع ملي من دون التنصيص دستوريا على هيمنة الإسلام بوصفه دين الأغلبية والاعتبار مبدئيا بالعروبة والإسلام بوصفهما عنصرين محوريين ضمن شخصية التونسيين وانغراس ذلك عميقا في عادات السكان وفي طباعهم الاجتماعية والثقافية، مما ينهض حجة على تواصل الحنين وضمن الخطاب الناظم لواقع الأقليات إلى التصوّرات المحافظة المتّصلة بالذميّة، عبر استحضار تصرّفات كبار خلفاء وسلاطين الفترة الذهبية من التاريخ الاسلامي مشرقا ومغربا أو  الحرص على استعادتها بطريقة لا تخلو من وعظ فجّ.
ما الذي بالوسع وفي أعقب هذه العروض التركيبية المختزلة التي نقلنا جانبا كبير منها عن التصوّرات التي صاغتها صوفي بسيس، التركيز عليه؟ لعل ما يسترعي الانتباه حقيقة هو تعامل التونسيين بعد تحوّلات ما بعد سنة 2011 ومع مسألة تنوّع الانتماءات دون تحريم أو انزعاج، لكأنهم يحاولون من خلال التشديد على حقيقة حضور ذلك، الوقوف في وجه التصوّرات الاقصائية المنغلقة التي يدافع عنها جانب غير قليل من المحسوبين على التوجّهات السياسية المحافظة.
لكن ما الذي يحول حقيقة دون الاعتراف بشكل واضح بالتنوع الثقافي كعنصر ناظم للهوية المغاربية المتعدّدة؟  لعل أكبر العراقيل متّصلة بالشحنة الثقافية والدينية مع شدة المقاومة التي تبديها التوجهات العربية الإسلامية تلك التي لا تفتأ على تثبيت الأسطورة القائلة بالأصول العربية لسكان المغارب الأصليين وذلك في مقابل تاريخية التنوّع وموضوعية حضوره على مرّ الأزمنة والتواريخ. فالمطلوب هو اقلاع الجميع نهائيا عن اعتبار الهوية مركزا للكون لأن فوق جميع ذلك يوجد النوع البشري بصرف النظر عن عرقه أو ملّته. لكن على الرغم من تزايد عدد المجاهرين بتعارض قناعاتهم مع التصوّرات الايديولوجية الرسمية ذات التوجهات الدينية المعلنة من بين المثقفين أو المحسوبين على النخب السياسية والاقتصادية والثقافية، فإن التهيب من مجابهتهم اجتماعيا باعتبار تجرؤهم على المواضعات السائدة مع حرص الدولة دوما على اعتبارها خطوط حمراء ليس بالوسع تجاوزها يدفع باتجاه الحدّ من ذلك. ففي نفس الوقت الذي يتعين فيه على مرويتنا الجماعية المشوبة بتوجهات أيديولوجية غير خافية، أن تترك المكان لكتابة تاريخية جديدة قادرة على تجاوز ضيق المفاهيم السائدة ومنفتحة على تصوّرات نقدية تقبل بتعدّد الأصوات وتوسيع الفضول مع النظر بشكل يتخطى المربع الوطني الضيق. وهو ما يضعنا وجها لوجه مع معضلات قلة معرفتنا بنتائج الأبحاث المنجزة حول تاريخ شعوب الشرق القديم وحضاراته. فليس لدينا أي مختص في التاريخ القديم لمصر أو فينقيا وبلاد ما بين الرافدين، فضلا عن الغياب التام لمختصين تونسيين في تاريخ حضارات الشرق الأقصى وأمريكا الجنوبية وإفريقيا جنوب الصحراء ومختلف الأقاليم الاعتبارية أو الثقافية والسياسية الكبرى لأوروبا. كما نفتقر تونسيا لمختصّين في الدراسات العثمانية والفارسية وحتى العربية المشرقية، بوسعهم تغطية تاريخ تلك المجالات خلال الخمسة قرون المنقضية. فالمعرفة الجيّدة بالآخر لا يمكن إلا أن تساعد في تعميق التعرّف على تاريخنا والحصول في نفس الوقت على تمثل أدق حول أنفسنا[xvii].                      



[i]   تعيد العروض المقترحة وفي أجزاء متعددة من بينها تركيب وصياغة التصوّرات الواردة ضمن مساهمة "صوفي بسيس" في الكتاب الجماعي الذي جمعنا مساهماته ونشرته دار نرفانا بتونس خلال سنة 2014.
Bessis (Sophie), « Être tunisien après le 14 janvier 2011 », dans Être Tunisien : Opinions croisées, Tunis, éd. Nirvana 2014, p. 29 – 40.
[ii]  Sous la direction de Johanne BouchardStefania Gandolfi et Patrice Meyer-Bisch, Les Droits de l’homme : Une grammaire du développement, Paris, L’Harmattan 2013.    

[iii]  عيسى (لطفي)، "المسألة الاستعمارية وصعوبات استيعاب التونسيين لتاريخهم القديم : ملاحظات سياقية"، مقال صدر بمجلة الفكر الجديد، العدد الرابع، ربيع 2016. وضمن مدونة المؤلف الشخصية (الرابط: http://lotfiaissa.blogspot.com/2015/07/blog-post.html ).
[iv]     Goody (Jack), Le vol de l’histoire Ou comment l’Europe a imposé le récit de son passé au reste du monde, Paris, Essai Gallimard 2010.   
[v]    Gutron (Clémentine), « Archéologies maghrébines et relectures de l’histoire. Autour de la patrimonialisation de Paul-Albert Février », L’Année du Maghreb, 10 | 2014, p. 163-180.
[vi]  Zibiss (Slimane Moustafa), Inscriptions du Gourjani, contribution à l’histoire des Almohade et des Hafsides, publication de l’INAA, imprimerie La Presse, Tunis 1962.     
[vii]    Nicolet (Claude), La fabrique d’une nation. La France entre Rome et les Germains, Paris, Perrin 2003.
[viii]   ابن سلامة (البشير)، الشخصية التونسية ، مقوماتها وخصائصها، نشر مؤسسات عبد العزيز بن عبد الله، تونس 1974.
[ix]   التيمومي (الهادي)، كيف صار التونسيون تونسيين، نشر دار محمد علي الحامي، تونس 2015
[x]   Cock (L de), « Entre paternalisme, populisme et prophétisme, Bourguiba et le peuple tunisien à travers ses discours », dans Bourguiba, les bourguibiens et la construction de l’Etat national, Actes du IIème Congrès, Fondation Temimi, Tunis 2001, p.65 – 75.   
[xi]     Alexandropoulos (Jacques) Patrick Cabanel (dir.) La Tunisie mosaïque: Diasporas, cosmopolitisme, archéologies de l'identité, éd., Presses Universitaires du Mirail, 2000.
[xii]   الأبيض (سالم)، الهوية : الإسلام، العروبة، التونسة، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت لبنان، 2009.
[xiii]      El Khissassi (Abdelkader), Les enjeux des relations euro-méditerranéennes entre la chute du Mur de Berlin et les déboires du Printemps arabe, Sarrebrucken, Éditions universitaires européennes, 2016.
[xiv]       Lugan (bernard), Histoire des berbères des origines à nos jours : Un combat identitaire pluri-millénaire. Ed., L’Afrique Réelle. 2012
[xv]   تم نقل مختلف المعطيات المتصلة بعلاقة الشخصية التونسية المتعددة الانتماءات بجذورها اليهودية والتصرّف في ترجمتها عن مساهمة "صوفي بسيس " المشار إليها أعلاه.
[xvi]   عيسى (لطفي)، بن خليفة (رياض) بن يدر (كريم)، البعد الافريقي في السياسة الخارجية التونسية 1956 – 1986. منشورات المعهد العربي لحقوق الإنسان والأرشيف الوطني التونسي، تونس 2017. (قيد النشر) 
[xvii]    Hamza (Hassine Raouf), « L’Historien et ses étrangers », dans», dans Être Tunisien : Opinions croisées, Tunis, éd. Nirvana 2014, p. 55 – 67.   


* صدرت هذه المساهمة ضمن كتاب جماعي يحمل عنوان "جدلية الهوية والتاريخ قراءات تونسية في مباحث الدكتور هشام جعيط" عن مركز الأبحاث ودراسة السياسات، فرع تونس 2018. 
















mardi 2 janvier 2018

منجز المؤرخ العالم وتأملات المسلم القرآني



















      
          محمد الطالبي مؤرخ تونسي خبر البحث في تاريخ إفريقية الوسيط لا تحتاج أعماله الكثر لمن يعرّف بها أو لمن يقدّمها لجميع المشتغلين في مجال الدراسات التاريخية والحضارية المتصلة بمجالات المغرب والأندلس في الفترة الوسيطة. فقد انطلقت أبحاثه كمُبَرِّز في اللغة العربية وأستاذ للتاريخ الوسيط من خلال تحقيق كتاب "المخصّص" لعلي بن الحسن الأندلسي المعروف بابن سيده سنة 1956 ليناقش سنة 1966 أطروحته حول "الإمارة الأغلبية" وينشر بعد ذلك بسنوات (1973) مؤلفه "ابن خلدون والتاريخ"، فـيجمع في كتاب مفرد مقالاته حول "تاريخ إفريقية والحضارة الإسلامية الوسيطة" في اللغتين العربية والفرنسية في بداية ثمانينات القرن الماضي.
تمحّضت كتابات الطالبي بعد هذه المرحلة وبشكل مطلق لتدبّر مختلف القضايا التي طرحتها ولا تزال المسألة الإيمانية لدى المسلم المعاصر، معوّلا في جميع ذلك على شخصيته المولعة بالمعرفة العالمة وبيئته الأسرية المحافظة المنغرسة في ضرب من "الإسلام الشعبي" اليقيني. وتمكّن الراحل بفضل هكذا توجّه من الانخراط في مجال رحب اشتغل على "الإسلاميات" المعاصرة من وجهة نظر نقدية، حيث تمحورت تساؤلاته حول توضيح مقاصد النص الديني المؤسس وتبيان معنى الحقيقة في الإسلام. ونستجلي ذلك من خلال ما أصدره تباعا منذ تسعينات القرن الماضي وحتى قبيل رحيله بسنة عن عالم الشهادة والناس، على شاكلة مؤلفه الحواري "عيال الله" 1992 وكذا كتبه الصادرة تباعا مثل "مرافعة من أجل إسلام معاصر" 1998 و"كونية القرآن" و"مفكر حر في الإسلام" 2002 و"أمة الوسط" 2006 و"ليطمئن قلبي" 2007 و"قضية الحقيقة" 2016.
تثير جميع هذه المؤلفات ضرورة مساءلة التصوّرات الضيقة التي تسم تعامل التونسيين مع المسألة الإيمانية، والطرق الكفيلة بتجاوز الانكفاء ووضع التوجهات التقليدية موضع أزمة قصد بناء حوار مثمر أو منتج للدلالة، مع عدم التهيّب من المساجلة والاحراج في حق جميع القانعين بمواقفهم النمطية سواء من بين دعاة المحافظة أو الغلوّ في الدين، أو من بين أولئك الذين أضمروا باسم حداثة واجهة القطع مع المسألة الروحية والتشنيع على التديّن اعتقادا وممارسة.
عالج الطالبي ضمن إسهاماته الكُثر في التفكير الإسلامي مسائل خلافية تحيل على المعنى العميق للإيمان والحاجة إلى إعمال الفكر فيه حاضرا، وتوضيح الخلل الحضاري للمسلمين عامة ولنخبهم على وجه التخصيص، وضرورة الاستفادة من التجارب الفكرية المتنوّعة في طرح المسألة الروحية بغية مصالحة المؤمن مع دينه ومساعفته في مواجهة وصاية من تصدّروا سرا وعلانية لصد العقول عن إعمال الرأي وتعقبّ تصرفات الناس والتشنيع عليهم في دينهم ودنياهم. فـ "حيرة المسلم المعاصر" تحتاج إلى تدبّر عميق يمكّن من إدراك مقاصد النص المؤسس ويراعي تطوّر الحاجيات الروحية المتعارضة بشكل صارخ مع التصوّرات الفلكلورية السائدة للإسلام، تأصيلا لمدلول الإيمان وفهما لجوهره الذي يُعلي من شأن الإنسان في الحياة وما بعدها. لذلك حرص الطالبي على التصدّي لواقع الاستقطاب بين الداعين إلى تجاوز المسألة الدينية باسم الانخراط في الحداثة الكونية، وبين الحاملين للواء الهويّة الثقافية والدينية الإسلامية، لأن أخطـر ما في ذلك الاصطفاف هو تسطيح الواقع الفكري للمسلمين مع عدم نجابة مربكة في تخطي الصعوبات القائمة ورفع تحديات الاشتراك في العيش بذكاء.
فقد ظل مقتنعا طيلة العشرات الثلاث الأخيرة من حياته بأن تجاوز "الوعي الحداثي المُستعار" مرتهن بتبني الفكر النقدي في صيغه المتعدّدة، وعدم التهيب من الخلاف والسجال حتى وإن قلب ذلك المسألة الإيمانية برمتها رأسا على عقب، فتحقيق التقدّم المنشود لديه مشروط بالاستنارة تلك التي تشكل من منظوره الخاص واقدا حقيقيا لفكر الفرد المؤمن المتسلِّح [وعلى حدّ عبارة حميدة النيفر الرائقة] "بفاعلية نقدية وتاريخية ومدنية"[1] أيضا.
على أن ما تصدّر الطالبي لإنجازه من موقع المناضل الغيور على إيمانه وعَرَضَهُ على قرائه وجميع من نافحوه ضمن مؤلفاته الكثر يطرح مع ذلك عدة تساؤلات مربكة، فالأستاذ “الطالبي” يعرض على أضرابه من داخل الجامعة التونسية ومن خارجها وبعد عشريات مديدة من معاناة مصاعب البحث المعرفي، أسئلة لا نخال أن من خبر مثله التعامل مع فخاخ الآثار التراثية والنصوص التاريخية لم يكن مدركا لحدود الإجابة عنها.
فقد أثار بلا مقدمات إشكالية مطلق الإيمان بما جاء به النص القرآني، من دون أن يحدّد سياق تصوراته ولا الجمهور الذي توجّه له بالخطاب. فحتى وإن بدا لنا واضحا أنه قد صاغ خطابه رأسا لمن وسمهم ضمن بيانه الممهور "ـليطمئن قلبي" إلى "الحائرين و[...] المغرّر بهم [كذا] من عموم المؤمنين"، وأن من تمام حقه أيضا أن يعلن للملإ عن تمسّكه بما احتوى عليه الكتاب المقدس دون سواه، فإننا نعتقد أن الشرط التوجيهي في القبول بذلك لمن تمرّس مثله على سجلات التاريخ وكتب التراث هو ضمان مسافة أمان كافية والانتصار للحياد المعرفي دون سواه.
فقد توهم أستاذنا الجليل، وفق منهج سجالي لا تخطئه كل عين بصيرة، أن لا شيء يفصل بين المعرفة والإيمان، والحال أن مغامرة البحث ليست على نفس تلك الشاكلة بالمرّة. فقد "نطمئن" كما كان حاله إلى مدلول متعالي للخطاب الديني، دون أن نترك مجالا لتسلل السجال حال التصدّر لدحض مسلمات أولئك الذين اعتقدوا في جدوى تنـزيل نفس الخطاب المقدس منـزلة الفعل البشري.
عند هذه النقطة أصرّت تأملات الطالبي على تشغيل آليات السجال المنفلت من خلال وصم مخالفيه في التوجه أو الرأي عنتا بـالدفاع عن الفكر التبشيري أو بـالدعوة إلى إعادة فكرة الله إلى التراث الديني اليوناني، متغافلا في حق نفسه عن زلاته الكُثْرِ، فاعلا منحازا للسياسة الرسمية داخل الجامعة وحلقة تنفيذ مباشرة للسياسة الثقافية المُسقطة طوال عهدة الرئيس الأول لدولة الاستقلال تونسيا، ثم انقلابه المربك بعد أن "فُطم" عن ممارسة السياسة من الضدّ إلى الضدّ، وجميعها أمور تشرّع شكّنا في حقيقة التزامه النضالي وسلامة توجهاته الإيمانية. فقد ترصّد الطالبي هنات مخالفيه المعرفية دون حق، متناسيا أنهم بَشَرٌ دعوا مثله -وإن كابر- إلى مطلق الفضيلة، متمسكين بمكافحة الروايات المتاحة عن غابر الأحداث، دون أن يملكوا لمناهجهم حجّة حسم أو حقيقة مطلقة وتلك قمّة الإيثار، حتى وإن اثبتت براهين الطالبي الدامغة أن تصوّراتهم المعرفية لم تصادف دائما الصواب.
فالطالبي رجل علم آثر الإيمان على ما سواه، وغيره رجال إيمان آثروا خوض تجربة البحث دون استباق لنتائجه، فهل يتعيّن على المؤمن أن يشنّع على من استمسك بالمعرفة دون سواها مستكثرا عليه تشوّفه تجاوز "فساد الزمان وأهله"؟
فلمن يا ترى انتصرت تأملات الطالبي القرآنية وهو أعلم بأن ما كشفت عنه لا يُزيل غشاوة ولا ينضج تمرُّسا على مضمون الاشتراك في الحياة ومواجهة المصير بحرية وإباء. يَصْدُقُ “الطالبي” عندما يقارع الحجّة بالحجّة، ويتلوّن أيّما تلوّن عندما يجافي ما تعلّمه طالبا وباحثا ثم نقله لغيره مشرفا ومكوّنا، مكتفيا بإعلاء حجة الإيمان على ما سواها. فلسنا على يقين من أن تساؤلاته بخصوص معنى الوجود وما بعده يمكن أن تحتملها علوم الإنسان، حتى بعد أن تطورت مناهجها ونماذج بحثها القابلة بنسبية العقل، الرافضة لكل حتمية حاضرا. لذلك لم يتخط فقيدنا موقع المساجلة في تعامله مع الغيريات العقدية والفكرية، حتى وإن أصرّ على إثبات عكس ذلك لأنه رجل إيمان يُعمل مِعْوَل الشكّ بهدف نشر الاطمئنان في النفوس القلقة، دون أن يجرؤ على القبول بالواقع احتمالا أو تمثُّلا من خارج منظور الحدود التي وضعها له، حتى وإن أزرى تصرفه بتشوّف وجدانه إلى الخلاص بوصفه مطلبا بشريا يتعدى حدود ما نادت به جميع الأديان، مكتفيا بتعقّل الفعل البشري وفق منطق النفع والضرّ دون سواهما. لذلك كان غالبا ما يشتد انفعاله ضد كل من يُقدم على تشغيل معول التفكيك في الخطاب المقدّس بوصفه نصا منزّلا ومعجِزا، محذّرا من مغبة الوقوع في تضليل أو ادعاء القدرة على التنقل بحرية مثيرة بين الأرض والسماء، نظرا لتعارض ذلك مع قداسة القرآن بالحجّة والدليل. فالفارق في الشأو بيّن في تصوّره الطالبي دائما بين "يسوع الإله" الذي "كان يزور بيوت العاهرات فيسرعن لإرضاء رغباته" والنبي محمّد، وهو "رجل ككل الرجال… يأكل ويشرب ويغضب ويرضى ويتألم، ويهوى ويشتهي ويحب ... مع أنه أنه لا يأتي محرّما أو فسوقا أبدا" !
لذلك اقتصّ الطالبي في استهداف شنيع من جميع من خالفوه الرأي في مسائل لا تلغي جوهرية مقاصدها اتصالها بحياة البشر بل وتحدرها من رحم حياة كائنات طينية ناقصة. فتعقّب ببرودة مخزية خطابات خصومه أسرارا مَشْفُوهة ونصوصا مكتوبة، وتعمّد التحريض ضدهم في أشنع أشكاله، معتبرا أقوالهم منتهى التضليل والنفاق، لأن “الحرية” التي جدوا في طلبها مُطلقَة لا يقيّدها سوى ضمير طالبها، والحال أن الأخلاق أو الضوابط بوصفها "مواضعات اجتماعية" قابلة للتحوير غير مُلغية بالمرّة للخوض في تصرفات “المثليين” أو "اللواطيين" وجميع من لم تصب تصرفاتهم لدى غالبيتنا غير الازدراء والتجريح.
لبّ الحوار إذا ما تملّينا منطق معظم مؤلفات الطالبي الجدالية يكمن في "الاحتساب" على الناس، بل وعدّ الأنفاس على مخالفيه رأيا وتوجّها، لأن مطلق الحقيقة في تصوّره لا يوجد خارج النص القرآني ذاته، لذلك فليس لأي مسعى خارج تأوُّل بيانه وبمنطق الراسخين في العلم من غاية ترجى في انقشاع الغمامة وتوضيح الرؤى ونحت المصير.




[1]  النيفر (حميدة)، الراحل محمد الطالبي ومعضلة الحقيقة، مجلة ليدرز العدد 17 بتاريخ 15/5/2017.