samedi 16 décembre 2017

مغرب المتصوفة
















تقدم الطبعة الجديدة لكتاب "مغرب المتصوّفة" للباحثين والقراء، تصوّرا معدّلا لمحتوى أطروحة دكتوراه الدولة التي سبق لنا مناقشتها بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية التابعة لجامعة تونس منذ خمسة عشرة سنة. وهو بحث استهدف معالجة ظاهرة محورية في التاريخ السياسي والاجتماعي والثقافي لبلاد المغارب، ونقصد تاريخ مؤسسات التصوّف التي أسهمت من موقعها في صياغة المشهد السياسي والاجتماعي والثقافي، فضلا عن طبع التدين بسمات يعزّ حضورها خارج هذا المجال الاعتباري.
ولئن سبق لهذا البحث أن أُعدّ للنشر وظهر لعموم القراء منذ موفى سنة 2005 تحت عنوان "مغرب المتصوفة الانعكاسات السياسية والحراك الاجتماعي من القرن 10 م إلى القرن 17 م"، فإن الصيغة المعروضة ضمن هذه الطبعة الجديدة لا تلتزم كليا بنفس تلك العروض سواء على صعيد الشكل أو على صعيد المحتوى، فقد عاودنا الاشتغال على الموضوع من زاوية تعقّب العلامات البارزة لتاريخ التصوّف بالمغرب الإسلامي من خلال التركيز على أشكال تطوّرها على المدى الطويل وربطها بما عاينه المجالين المشرقي والأوروبي الغربي من تطورات مشابهة أو متباينة طالت نفس تلك الظهارة الروحية المعلِمّة للمشهدين الاجتماعي والديني. ولعل في هذا التوجه ما يسعف المطّلع على هذه الطبعة الجديدة في عملية التبصّر بكيفية تواءم الظاهرة الصوفية المختبرة بأشكالها المتعدّدة (الزهد والمرابطة والتزوي والطرقيّة) مع الواقع الذي انتعشت داخله، والاطلاع على طبيعة الأدوار التي عادت لها في نحت خصوصيات الإسلام تصورا وسلوكا داخل المجال الاعتباري المختبر.
لكن ما المقصود بـ "مغرب المتصوّفة"؟ وهل تحتمل المميزات الناظمة لمجمل تاريخ مجال المغارب بعد بضعة قرون من انتشار الإسلام حضور التصوّف كعنصر ناظم لواقعه السياسي والاجتماعي والثقافي؟
تجيب الخصوصيات التي ينجلي عنها المشهد الجغرافي والعمراني حاضرا وبطريقتها الخاصة عن هذا السؤال، إذ يستحيل أن يخلو موقعا واحدا مهما نأت به المسافات وتاهت به الطرق من حضور ضريح أو روضة أو زاوية أو مشهد لشيخ من شيوخ الصلاح. هذا التوازي بين التصوّف في مختلف مظاهره  لا يمكن أن لا يثير فضول الباحث أيا كان تخصّصه. فقد درجنا مغربا على التعامل مع التصوّف من زاوية علاقته بالدين وبالأحكام الفقهية من وجهة نظر المذهب السني المالكي، لذلك تلوّنت المحصلة التي اكتنـزتها الذاكرة كخطاب شفوي أو كخبر مكتوب حول التصوّف بالتباس المعنى وتأرجح وجهات النظر بين دونية التحقير وتضخيم الافتتان.
ولم تتخط مواقف الدولة الوطنية ومثقفيها من ظاهرة التصوّف مغربا هاتين الطريقتين الغائمتين، حتى وإن شكّل المجهود الميداني المبذول من قبل المصالح الإدارية والعسكرية المستعمِرة لتوصيف هذه الظاهرة وتفكيك أشكال انتظام مؤسساتها – وبصرف النظر عن طبيعة المصالح المستهدفة من قبل تلك المصالح- طريقا سالكة طُمست معالمها بالكامل بعد تصفية الاستعمار. كما أن البحث الأكاديمي المحكّم الذي تأثر على صعيد المنهج مغربا بتوجهات المدرستين الوضعية ثم الاقتصادية والاجتماعية، لم يكن بوسعه حتى أواسط ثمانينات القرن الماضي أن يعيد النظر في سلم أولوياته بعد أن حُسمت مواصفات النقد الشكلي للمصادر طبقا لمبدأ التّأكُد من موضوعية المعطى الخبري أثناء بناء القراءة التاريخية. ومع بداية التسعينات كثر الحديث عن الفرد كفاعل اجتماعي وتاريخي وذلك بالتوازي مع  انتهاء توازن الرعب وسقوط الستار الحديدي وتراجع مكانة الدولة الوطنية كجهاز ناظم لحياة المجتمعات، وعاشت "حرفة المؤرخ" سنوات من "التفتت" انفتح خلالها البحث التاريخي على الجوانب الثقافية والاجتماعية والانتروبولوجية، فضلا عن الاهتمام بتاريخ الأديان المقارن وذلك قبل أن يُعَاد الاعتبار إلى التاريخ السياسي من بوابة ما سماه "التاريخ الجديد" بـ "الرهان البيوغرافي". [i]فقد كرّس الاهتمام بالتصوّف وداخل مجال المغارب رفعا لنوع من الحظر على ركام من المصنفات والوثائق المبعثرة رُكنت لسنوات جانبا وتأثرت سلبا بأشكال التعامل الفوقي (اجتزاء الخبر أو المعطى التاريخي)، هذا إذا لم تُزهّد العروض البيو-بيبليوغرافية في مضمونها، دافعة بالباحثين إلى تجاهلها وعدم الاكتراث بوجودها.
توجد السّيَرِ المناقبية على تماس المعرفة الدينية العالِـمة من جانب، وما اكتنـزته الذاكرة الجماعية في شكل موروث مشاع، لذلك قمنا بقاربتها في ذاتها ومكافحتها بغيرها من الوثائق التاريخية. ووضعت لتحقيق هذا الرهان خطة غطت أمدا زمنيا طويلا جاوز السبعة قرون، (فضلا تخصيص إطلالة ختامية على واقع التصوّف ومؤسساته راهنا) تم من خلال أقسامها التعرض إلى جذور الظاهرة المدروسة من خلال تفحّص سير رموزها من أرباب التصوّف المؤسسين وتفكيك تنظيمها والتوقّف عند مميزات الطوائف والطرق وتعيير نتوءاتها الاحتجاجية قبل موفى القرن السابع عشر، وذلك من خلال استعراض عينات مسارية مقارنة تخص ظاهرتي "الجذب" كتعبير عن الضيق بالواقع و"الاحتجاج" الذي استفاد من آليات "الاحتساب" التقليدية المرتكزة غالبا على تشغيل آليات الهداية أو الذهاب بعيدا من خلال إدعاء "المهدويّة".
استجاب التعامل مع سير الصلحاء لرغبة معلنة في توسيع مجال البحث التاريخي من خلال الانفتاح على مدونات مصدرية احتاج رفع الحجر المضروب عليها تجاوز سلبياتها المتمثلة في تعمّد التلفيق وتشويه الخبر الموضوعي عبر تكثيفه رمزيا قصد تضخيم وقعه النفسي على المتلقي وترجيح العبرة والموعظة دون سواهما. فمنطق السّيَر التي راهنا على استنطاقها في ذاتها أو مكافحتها مع غيرها من المصادر الأخرى من وجهة نظر البحث التاريخي تحديدا، لا يمكن أن يدور موضوعيا إلا حول الدور الذي يمكن أن تلعبه التُرَّهة الملفّقة في صنع الواقعة التاريخية اعتبارا إلى أن التاريخ لا تشكّله الوقائع المادية التي يُستَدل على حصولها بفحص اللُقى الأثرية وتوصيف المركبات المعمارية واستنطاق كتب الحوليات والأخبار والتبصّر بوثائق الأرشيف فحسب، بل تُستدعى في إدراك خفاياها مجمل الأحلام والأوهام والتمثّلات والرموز التي ساهمت في حصولها أو تقدّمتها أو نسلت من رحمها.
ومهما يكن من أمر فالمناقب سير تخوض في مآثر الصلحاء غالبا ما تكتب بعد مفارقتهم الحياة، وهذا دليل على انخراطهم التام ضمن نطاق الصيت لا السلطة المحدودة بزمن. وتتحدث هذه المتون بشكل بسيط عن علاقة التصوف بمعيش المجتمع معولة على النقل والمشافهة، لذلك فالحكايات المنقولة بينها وبين التاريخ مسافة، فكل ما هو مشفوه معبأ لخدمة أغراض وعظية. على أن ما يتعين البحث عنه ضمن تفاصيل هذه السير الانطباعية الموحية بسذاجة ناقليها وخواء وطاب متلقيها في آن، هو توضيح طبيعة الأدوار التي عادت لأرباب الصلاح في إعادة تركيب الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي بمجال المغارب طوال أمد زمني جسّر الفترتين الوسيطة والحديثة واستغرق سبعة قرون أو تزيد. فقد شهد النصف الثاني من القرن الحادي عشر حلول الفصائل العربية وانتشارها على مجال المغارب مُعلنة بذلك بداية ما أسماه عبد الله العروي بـ"المعظلة الهلالية"، في حين عرف القرن السابع عشر تجلي الدولة في مفهومها الحديث ودخولها مغربا في عملية "حيازة" أعادت تركيب الواقع الاجتماعي والأدوار السياسية والتمثلات الثقافية، محوّلة منظوري القبائل الممانعة إلى رعايا غارمين خاضعين لمشيئة الدولة. 
هذه الصيرورة لم تخضع في تقديرنا مطلقا إلى عملية شدّ عنيف أو استقطاب ثنائي جسّمه الصراع بين "دولة المخزن" من ناحية والقبائل الممانعة أو "العاصية" لسلطتها من جانب ثان، فقد لعب الصلاح بتوجهاته التوفيقية السلسة وأسلوب "الاستتباع" المبني على مفهوم "الصحبة" المعتمَد من قبل شيوخ الطوائف والطرق، وهو أسلوب دعا أربابه الكافة لتجديد "التوبة" تملّكا للإسلام وتحقيقا للخلاص واقفين صراحة في صفّ المنتجين مُدعّمين آمال المستقرين، نازعين فتيل المواجهة بدفع الأطراف المتصارعة إلى تغليب منطق التفاوض السلمي وتطوير أدوات اللعبة السياسية وقوانينها.
تحوم جميع السير – بصرف النظر على الاستدراكات الكثيرة لمؤلفيها – حول هذه المعاني تحديدا، لذلك تعقّبنا ضمن ما لفّقته مَرْوِياتها قصدا التجارب المسرّية لأبطالها، وهي تجارب آثرنا الحفاظ على السياقات المعتمدة في بنائها كي يتفطن القارئ إلى الشُحنة الحسّية أو الوجدانية التي انطوى عليها النسج الروائي ومفعول المروية المنسجمة بالكامل مع الذائقة الشفوية للأوساط الشعبية أو القاعدية. إلا أن هذا الاختيار لم يمنع منهجيا من مكافحة المعطيات المنقولة ورصد التقاطعات بين مختلف السِّيَر وربطها بالسياقات المخصوصة للواقع التاريخي.كما لم تَغْرُب عن أنظارنا محاولة الاستفادة من النماذج المنهجية المتصلة بالمعارف الاجتماعية والأنتروبولوجية التاريخية، حتى وإن لم يتجاوز طموح تلك المغامرة أحيانا الجوانب الشكلية. فقد جرّبنا الدخول على المدارس الصوفية المؤسسة مغربا كـ"المدينية" (المتأثرة بالقادرية) و"الشاذلية" و"الجزولية" من بوابة التحليل الاجتماعي، مستدعين في ذلك نماذج بحثية ساهمت مقاربات الألمانيين "ماكس فيبر" وغورغ تزيمال Max Weber et Georg Simmel في فتح أعيننا على قيمتها النظرية والاجرائية أيضا.
ساهم هذا التوجه في الحفاظ على النكهة الأدبية للنصوص المدروسة معيدا زيارة المسارات الفردية المعبأة لصلحاء المغارب في علاقتها بمحيطها وتنـزيلها من الإطار القِيَمِي الذي سُجنت داخله لقرون إلى إطار ينفض الغبار عن مضمونها البشري دون التجني على رأس مال أصحابها الرمزي أو الكارزماتي". نحن إزاء بشر كباقي البشر يحالفه التوفيق حينا وتذهب به الأهواء مذاهب شتى أحيانا كثيرة، غير أن إصرار العديد من أولئك الرجال وعلى حد تعبير "مارغريت دوراس" على "تشييد سدّ ما إزاء محيط لا يقاوم"، هو الذي أفاض على تلك "السير" ألقا شديدا، محوّلا الشخصيات التي عرّفت بمسار حياتها ومضمون تجاربها الروحية والدنيوية إلى "متقاسم جمعي".
تعكس المرْوِية المناقبية بما تأصّل ضمنها من تلقائية ناقليها وعفوية متلقيها تصّورات عامة الناس وقناعاتهم وتمثّـلاتهم الاستيهامية، لذلك فإن مقاربة هذه النصوص لا يمكن أن تخرج بطائل إذا ما قصرت همتها في البحث عن المعطى التاريخي، فاستمراء الخبر بمعنى قلبه وتشويهه يُشكِل عنصرا ناظما لكل ذاكرة شفوية، لذلك فإن ما حاولنا استجلاءه من خلال استنطاق هذه "السير" لم يتجاوز البحث عن المنطق الداخلي للسرد في محاولة للكشف عمّا ترسّب في الذاكرة من تصوّرات حول تجارب أرباب التصوف والصلاح وحقيقة الحَراك الذي أدخلته تلك التجارب على الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي داخل مجال المغارب طوال الفترة التاريخية المقصودة بالمعايرة.
يتسم التصوّف من وجهة نظر الحساسية الدينية بطابعه العملي، وهو أوسع من التدين لأنه يخترق سمك البنيات الاجتماعية ومؤسساتها، لذلك لا نعتقد أن هناك واقعيا تصوّف شعبي وآخر راق، إذ ليس هناك في هذا المستوى من عازل حقيقي بين "عامة" و"خاصة"، حتى وإن تعامل أولئك مع الظاهرة من وجهة نظر رغبتهم في التسوية إلى أعلى بإيجاد تواصل بين أحكام المذهب الذي ينتمون إليها والظواهر الدينية المعيشة يوميا تلك التي استأنسوا إليها. أما عامة الناس فلم يفكروا مطلقا بهذه الطريقة بل مارسوا ذلك بالفطرة، وتعاملوا مع التصوّف كمكسب أو موروث جماعي. 
ويتمثل دور المؤرخ أو جهده في تحديد سياق التأويل وليس في البحث عن تأويل، فمهمة المؤرخ هي البحث عن سياق ما كي يستطيع فهم السبب الذي دفع عامة الناس إلى إظهار تمسك بهذا الإرث كجانب من هويتهم يدينون له بالخصوصيات الناظمة لشخصيتهم. فقد تمحورت الأدوار التي عاد للتصوّف تلك التي انشَدّ عامة الناس إليها في:
- تأمين السابلة، أي اتساق حرية الناس في التنقل دون أن يطالهم أي خطر (محتمين بحرمة الولي). هناك بناء للحرمة، وهؤلاء المشايخ بفطرتهم هم أذكى مما قد نتصور. لأن الإطار المعيش شكّل على ما ندعي عامل محوري في تجاوز الحدود الموضوعية للمجتمع وللسلطة في آن. لذلك يتعين علينا الوعي بمحورية ما قامت به مؤسسات الصلاح بصرف النظر عن الدونية التي لازمت تقييم الباحثين والساسة لمساراتها.
- إقامة الأسواق واتساق أنشطتها إذ لابد من حضور التبادل الذي يشكل شرطا وجوبيا في بناء المدينة. لذلك فعندما تتطاول السلطة أكثر مما يستساغ يتدخل الولي رمزيا لردعها. فقد شكل الصلحاء السلطة الرمزية داخل المدينة حيث بوسط لمجتمع المدينة أن يستعمل الصلاح كما استعملت حواضر الغرب الأوروبي الباباوية قبالة السلطة الإمبراطورة أو الملكية. فرغم حضور قوانين تضبط تعامل مجتمع الحضر ويقوم القاضي على تطبيقها، فإن سلطة الولي الصالح يمكن أن تتجاوز ذلك وتخلق أحكاماً زجرية، محوّلة الكرامة إلى حد رمزي ليس له ما يسنده من وجهة نظر شرعية غير أنه هام جداً في تنظيم حياة الأفراد داخل حيز أو مجال ما.
- إيواء الغريب وابن السبيل وهي مهمة أساسية جداً بالنسبة للغريب وللمعدوم الذي يتنقل ضمن المجال ساهمت في توسيع أفق المعرفة بالمجال الإسلامي. لأن الجميع يتعقل وجود شبكة من الزوايا تستطيع أن تأوي الوافدين والمسافرين من دون حاجة إلى فقدان ماء الوجه والتوسل بالآخرين. على أن الأحكام الشرعية تحث من جانبها على الإيواء حيث يطالب المسلم بإيواء المعدوم والتكفل بإطعامه، ويدخل ذلك ضمن الحاجيات الأساسية التي لا يمكن تأجيلها، فضلا على أننا نقدّر أن عدد طالبي هذه الخدمات الملحّة كان كبيرا. على أن الإطعام مهما اتسع مجاله ليس إفراطا في السخاء كما قد يتبادر لإلى الأذهان، فالمؤسسات المتكفّلة بهذا المجهود لا تظهر سخاءها بشكل جلي إلا عند المناسبات، تماماً مثلما تفعل السلطة حال الدخول في عملية استثمار حقيقي ورمزي في آن في اظهار إحسانها أو إنعامها، حيث لا تنفك عن تشغيل هذا النوع من "الاقتصاد" من خلال الاستناد على خطاب التضامن الأمر الذي يَخرج بالمعنى عن سياقه ويكسبه بعدا سياسيا، بينما لا يكتسب التضامن مشروعيته إلا في حال انطلاقه تلقائيا من المجتمع، حيث يبدو الفارق كبيرا -كما أضحى بيّنا- بين مجالي السلطة والصيت.
- الرفد والمساعفة وهو مد يد المساعدة ورفع الضيق عند الحاجة، بالمساعفة عند حصول الضرّ (المرض، والفك من الأسر، والمساعدة على أداء فريضة الحج...) والتعبير عامة عن الاستعداد لمد اليد في جميع ما ينتظم ضمن منطق الكرب والحاجة حيث يتساوى الفقير والغني.
أما الوليّ فهو شخص عادي توفرت ضمن سيرته وفقا للتمثلات الجمعية للمغاربة أربع شروط أساسية، كشف عنها السرد ضمن النصوص المناقبية. شروط تعاد وتكرّر في كل النصوص متحوّلة إلى سَجِيَّةٍ. إذ يتعين على المريد أن يمر بمراحل تسمح له بالانسلاخ من وضعية الممتد ليصبح ممدّا. ولا تنظّم مدونات المناقب الشروط حسب تدرج زمني واضح، فمن الممكن أن تبدأ بالوقوف عند موت الوليّ، مما يقف شاهدا على تعارض النص المناقبي مع حاجيات المؤرخ. 
ومن بين الشروط المعلِّمة لمسار السلوك والولاية نذكر:
- الصدق في الصحبة حيث يتمثل مدلول الصحبة في توجيه الشيخ لمختلف الأحوال التي تعتري مسيرة سلوك المريد. لذلك تتراءى الصحبة في شكل علاقة أفقية بين شخصين لا يعلم كلاهما من هو الولي حقيقة. فعلى المريد أن يبحث عن صاحبه كما يتعين أن يكون الولي "صاحبا في الله" لتحصل الإفادة من سلوكه. فالصدق هو مكاشفة وحديث في كل شيء ما ظهر منه وما بطن، لذلك لا يحمل الأصحاب أو المريدين غير التقدير والاعتقاد في كمال شيوخهم.
- الالتزام بالدعوة والسياحة ولا يتضن ذلك نفس الدلالة المتصلة به حاضرا ولكن الأمر مرتبط بالإقدام على الدخول في سياحة روحية تمثّل شرطا من شروط تشييد مشروع الولي، بحيث تشكّل خروجا من الداخل ورجوع إليه. بحيث تتماهى طبيعة الشخصية للسالك مع الطبيعة الواسعة. فعند متصوفة المغارب لا يصدق الوليّ إلا عندما ينجح في بناء علاقة خاصة بالطبيعة تمكنه من مغالبة طبعه من الداخل أي فطرته الغريزية والانتصار عليها بنقض الجوع والتعب وغيرها من صروف الزمان وأرزائه. فللسفر سبع فوائد وهو على جميع ذلك طواف وطقس ديني لا تنحصر في نقطة انطلاق ونقطة وصول، لأن المهم هو المسافة التي قطعناها، وماذا أضاف الضرب في الأرض لمشروع الوليّ؟
- الانتساب إلى تيار صوفي سني مؤسِس وهو شرط يعكس مركزية المشرق قياساً لبلاد المغارب. فالدين الإسلامي دين مشترك مركزه المشرق. لذلك غالبا ما طرح المغرب اشكالية الانتماء وبناء الشخصية انطلاقاً من دونية مزدوجة، فالمغاربة يشعرون بأولوية المشارقة فيما يتصل باالانتساب إلى الإسلام الذي ولد بين ظهرانيهم. كما أنه حتى وإن احتل الغرب موقع الجار القريب بالنسبة لهم فقد شكّل ضمن مخيالهم الجمعي ثمرة مشتهاة لا يمكن الوصول إليها. وحتى وإن تحقّق ذلك الأمر في حق البعض منهم فإنه يتحوّل إلى مدعاة لتذنيبهم واعتبارهم مغرّبين بل و"علمانيين". ومهما يكن من أمر فإنه من الضروري أن نشدد على أن يكون الولي سنياً مالكياً فقد أجهد مؤلفو المناقب أنفسهم حتى يجعلوا من الولي شخصية تبرهن سيرتها عن أفضليها قياسا لسير علماء السنة. لأن العبرة والموعظة مهمتان جدا بالنسبة لمخيال الجماعة المسلمة مغربا، لهذا نجح أهل السنة المالكية من منظورنا في بناء توازياً بين التصوّف والتسنّن. وشكلوا بتلك الصفة فاعلين سياسيين دهاه وسعوا حضور مذهبهم من مياه المحيط غربا إلى خليج سيرت شرقا فارضين ما لا نتردد في تسميته بالتجانس المذهبي، دافعين بنحو حقيق حالة انسجام بين التسنّن والتصوّف. لذلك بدا لنا الانتساب مسألة حيوية فالتعلق بالمذهب السائد شرط أساسي لمشروع الوليّ الصالح لا يمكن له التموضع اجتماعيا وعقديا من خارجه.الانقلاب من الإرادة إلى المشيخة وهو شرط مزدوج يحيل على القلب كما يعنيه اللفظ لغة، كما يعني أيضاً الانقلاب، حيث يتحوّل السالك إلى شيخ أو إلى ولي صالح حجته في ذلك الانقلاب من أحوال السالكين إلى مقام الشيوخ، لا الأمراء أو علماء الدين. أما برهان المشيخة فهو الكرامة التي يتعين أن تنفلق دفعة بوصفها دلالة عن صفاء قلب الولي وباعتيار الكرامة الجزء الثاني والأربعين من الوحي على حد تعبير الحكيم الترمذي، بحيث تمنح السكينة طالب المشيخة قدرة على الامتلاء بجميل معاني الإيمان. وهو إيمان ينطبع في الداخل ويَقِرُ في القلب تأسّيا بما عبّر عنه الصحابي أبي بكر الصديق. فالسكينة التي يبحث عنها الأولياء تعوّل على التأمل بغرض السيطرة على صروف المعاش اليومي، أي على جميع الشروط التي أوردنها على غرار الحرم وتأمين السابلة والرفد والإيواء والإطعام، لأن الولي هو من يحضر حال تغيّب جميع المؤسسات العائلة، مؤثرا جميع من حوله على خصيصة نفسه مندمجا تمام الاندماج في العطاء من دون انتظر أي مقابل. 
ضمن تكرار هذه الصفات داخل مصنفات المناقب هذه الخصوصيات وهو ما يعني الاقتصار على ما هو مفيد، فمن يدرك ميع هذه المآثر يتحوّل إلى سلطان الحقيقي، لذلك نعثر ضمن شطحات الصلحاء مشرقا ومغربا على مثل هذه الادعاء حال الدخول في الجذب والخروج عن الحسّ: " أنا سلطان".
وعموما فإن ما يتعين الاحتفاظ به تقليب أوضاع التصوّف وأحوال أربابه مغربا هو: نجاعة "التزَوِي" وتوسّعه في إنشاء شبكات محطاته خلال الفترتين الوسيطة والحديثة مما ساهم في الحد من سيطرة الممانعة القبلية بعد اكتساح الفصائل العربية الهلالية لكامل مجال المغارب. وتوسيع الزوايا لآمال المستقرين والمنتجين من خلال ردّ الاعتبار للأنشطة الزراعية بتسهيل الزوايا لعملية التوغل ببوادي الدواخل، نشرا للأحكام الشرعية وتوفيقا بينها وبين مقتضيات العرف والعادة. 
كما تلاقت مصالح مختلف الطوائف وتركزت توجهاتها نحو الحدّ من خطورة "الحرابة" أو الممانعة القبلية ومواجهة التمركز الأجنبي على السواحل بعد انتعاش المد الطرقي. وتوصّلت بعض الطريق إلى تكوين "كتلا تاريخية" كان لها دورا حاسما في توفق الأشراف (السعديين مغربا) في بلوغ سدة الحكم بعد اعتضادهم بمؤسسات التصوّف بل وتأكيدهم على الخروج من معطف الصلاح وأربابه. في حين عبّر "المولّـهون" من "مجاذيب" الطرق الصوفية عن الضيق بالواقع المأزوم وجرّب من تمسّك بـ"الاحتساب" وتخفى تحت غطاء طلب الهداية أو انساق وراء إدعاء "المهدوية"، دخول تجربة الممانعة  السياسية ضد "الشرعية" القائمة، حتى وإن تمثلت السمة الفارقة التي علمت واقع التصوّف ومؤسساته بعد نهاية القرن السابع عشر في إعادة هيكلة دول المخزن لعلاقاتها بمؤسسات الصلاح من خلال حصر أنشطة معظم تلك المؤسسات الاجتماعية والروحية في تعهّد الأنشطة الخيرية والتظاهرات الدينية أو الثقافية. 
تلك موضوعيا أبرز المحطات التي توقفنا عندها في بحثنا عن خصوصيات التصوّف بمجال المغارب وتفحّص سير رموزه وتحديد الأدوار التي عادت لها طوال أمد زمني طويل جسر الفترتين الوسيطة والحديثة. 
ولئن لم تخرج أبحاثنا منهجيا عن الشروط الناظمة لصناعة التاريخ وفضّلت الالتزام بمقوماتها والاستفادة من مكاسبها أيضا، فإن طبيعة المتن المصدري الذي وظفناه لإنجازها قابلة للقيام بأبحاث متنوعة منها ما يتصل بالمأثورات التراثية غير المادية كمدونة الإنشاد وتوصيف الطقوس والمواكب الاحتفالية المقامة بأضرحة الأولياء، وذلك وفق معالجة أنتروبولوجية تتصل بالممارسات الدينية والثقافية تحديدا لآليات"التثاقف acculturation  " وتَعْيِير اتجاه التسوية فكريا نزولا إلى أسفل أو ارتقاء إلى أعلى. وتعكس الأبحاث الميدانية التي تم نشرها منذ موفى القرن التاسع عشر وطوال القرن الماضي، (Westermarck, Bel, Douté, Berque, Dermenghem, Gellner, Geertz, Eickelman… ) حصيلة معرفية هامة لا تزال رغم التقييمات الموضوعة بشأنها في حاجة إلى مراجعات متأنية تنشد الإنصاف وتُـموضع المجهود المعرفي ضمن إطاره الموضوعي، حتى نجسّر علاقة سوية بتوجهات تلك البحوث المنهجية ونتائجها المعرفيّة أيضا. علاقة تسمح بتنـزيل ما تم تحقيقه من نتائج - وبصرف النظر عن الأهداف المتخفية ورائها- المكانة التي هي بها جديرة. بقي أن نذكّر قراء هذه العروض أنّنا آثرنا إدخال تعديل على عنوان هذه الطبعة الجديدة للبحث باختصارها في "مغرب المتصوفة"، مجتهدين في تيسير إطّلاعهم على محصّلة أبحاثنا الحديثة في مجال تاريخ التمثلات والتاريخ الثقافي، مع العمل على تخفيف الهوامش المستجلبة وعرض المضمون في صيغة تتقصى التبسيط استجلابا للتواصل وتحصيلا لمتعة القراءة أيضا.

samedi 9 décembre 2017

التصوّف وتحولات مضمون ذاكرة التونسيين الجماعية












ما الذي يعنيه الانتظام الصّوفي في المجتمع التونسي حاضرا؟ كرست مختلف الممارسات المتصلة بالانتظام الصوفي تونسيا، طوال مرحلة ما قبل حضور الاستعمار، إطارا كشف عن كيفية اشتغال آليات الوساطة الاجتماعية، وتحصين الانتساب المشترك ودرعا ضد عدوانية الماسكين بالسلطة أو الخارجين عن القانون والممانعين ضدها. وتواصل اشتغال تلك الآليات خلال مرحلة الاستعمار، حتى وإن لم تعبر مؤسسات التصوف عن نجابة حقيقية في مقاومة الحضور الأجنبي. لذلك، يبدو من المشروع راهنا التساؤل بخصوص الأسباب الموضوعية التي تفسر تجدّد الاهتمام بالمقدس عامة، وبمؤسسات الانتظام الصوفي بشكل خاص، سواء ضمن المعارف الإنسانية والاجتماعية أو الكتابة الإبداعية والجمالية؟ وما حقيقة اتصال ذلك بنوع من التمسك بالماضي أو الحنين له؟ وما طبيعة علاقته بمأزق التحديث الفوقي تونسيا، بعد ثبوت إخفاقه في صياغة ضوابط أخلاقية جديدة تتماشى مع المدلول الحديث للمواطنة كونيا؟








jeudi 23 novembre 2017

"La dimension africaine dans la politique étrangère tunisienne (1956-1986)" : les Archives mises au service de la vérité historique












"La dimension africaine dans la politique étrangère tunisienne (1956-1986)", tel est le titre  en langue arabe d'un ouvrage collectif à base d'archives, dû à la plume de trois historiens universitaires tunisiens : Lotfi Aissa, Riadh Ben Khelifa et Karim Ben Yedder.
Fruit d'un partenariat entre "Les Archives Nationales de Tunisie", la Faculté des sciences humaines et sociales (Université de Tunis) et la Coalition de L'Etat de l'Union (SOTU) d'une part, et l'Institut Arabe des Droits de L'Homme d'autre part dont il est l'éditeur, ce livre est la somme d'une recherche approfondie et fouillée dans des documents d'archives du ministère des affaires étrangères (notes, correspondances, discours ...) aidant à mettre la lumière sur les relations de la Tunisie avec son environnement africain à l'échelle tant bilatérale que multilatérale depuis son accession à l'indépendance jusqu'à 1986.
Le traitement analytique des documents donne lieu à une évaluation minutieuse de la contribution de la Tunisie au processus de décolonisation sur le continent et à la lutte contre le système d'apartheid en Afrique du Sud ainsi que de la part qu'elle a prise dans la création de l'Organisation de l'Unité Africaine. Cette "belle aventure scientifique", comme l'a qualifiée  M. Abdelbasset Ben Hassan, Président de l'institut Arabe des Droits de L'Homme, met également  en avant les conceptions tunisiennes quant aux meilleurs moyens de conforter la coopération interafricaine et de promouvoir la culture de l'action collective dans le cadre multilatéral.
Rendant hommage à cette louable initiative, le Président de la République Beji Caïd Essebsi, fin connaisseur des arcanes diplomatiques de la Tunisie pour avoir été le ministre des affaires étrangères du 15 avril 1981 au 15 septembre 1986, note dans la préface du livre qu'il est temps de " procéder à une révision profonde de la politique de notre pays à l'égard du continent africain et de développer la coopération avec les pays subsahariens , de l'Est comme de l'Ouest".
Et de poursuivre : "car la réalité nous impose d'appréhender notre situation de manière qui s'adapte au vécu de notre pays depuis 2011, le constat établi par ceux qui ont jeté la lumière sur l'expérience de la diplomatie de la Tunisie sous le règne de son premier Président ... nous commande de revoir de façon profonde notre politique étrangère liée au continent africain. Nous ne pouvons réussir dans cette entreprise que si nous reconnaissons la distance qui nous sépare de notre profondeur africaine... Toutefois nous sommes convaincus de la capacité de notre diplomatie à mettre en place un projet multidimensionnel à même de restituer à nos missions et institutions la place qui était la leur quand elles avaient réussi à tisser des liens de confiance avec les pays de l'Ouest africain...."
Force est de reconnaître que cet ouvrage n'aurait pu voir le jour sans l'apport appréciable d'une institution , désormais fierté de tous les tunisiens : les  Archives Nationales.Cette institution que dirige un éminent historien,  M Hedi Jalleb  a su mettre les trésors qu'elle recèle au service de la connaissance et de la vérité historique.
( cette couverture est parue dans le journal électronique Leaders le 22 - 11 - 2017). 

jeudi 9 novembre 2017

البعد الإفريقي في السياسة الخارجية التونسية 1956 – 1986













تقديم
رئيس الجمهورية التونسية
أ. محمد الباجي قائد السبسي

       إنه لمن دواعي ابتهاجي أن تجتمع إرادات مؤسسات الدولة ممثّلة في رئاسة الحكومة المؤتمنة عبر مؤسسة الأرشيف الوطني على حفظ الذاكرة الجماعية للتونسيين، والجامعة التونسية باعتبارها حاضنة للبحث المعرفي المحكّم الرصين ومؤسسات المجتمع المدني الداعمة لثقافة المواطنة والممثّلة في المعهد العربي لحقوق الإنسان، على إنجاز هذا المؤلف الذي جعل من تعقّب علاقة الدبلوماسية التونسية بالمجال الإفريقي طوال الثلاثين سنة التي تلت حصول البلاد على استقلالها وتركيز الدولة الوطنية، أهم تحدياته.
وحسنا فعل القائمون على هذا المشروع، لما عرضوا عليّ مشكورين تقديم خلاصة ما توصّلوا إليه من نتائج، تقيم الدليل على ضرورة مراجعة التوجّهات التي تقوم عليها سياستنا الخارجية، مستأنسين في جميع ذلك بالإيجابيات التي تضمنتها تجربة الدولة الوطنية، مُعرضين عن سلبياتها التي تستوجب تصويبا في العمق، حتى يحتلّ التعاون بين تونس ومختلف أقطار القارة السمراء موقعا يتناسب مع انتماء بلادنا إلى نفس التربة، واعتراف دستورها بالبعد الإفريقي بوصفه مكوّنا أساسيا لمختلف انتماءاتنا الثقافية والحضارية.     
لقد تسنى لي خلال السنوات الطوال التي قضيتها على رأس العديد من الوزارات، أو من خلال تمثيلي لدبلوماسية بلادي في مختلف المحافل الدولية، سواء عندما تحمّلت أعباء السفارة أو لما أسندت لي مسؤولية إدارة وزارة الشؤون الخارجية التونسية بين 15 أفريل 1981 و15 سبتمبر 1986، السفر إلى العديد من الدول الإفريقية والتباحث مع العديد من قادتها وصانعي قرارها. فتمكنت من الاطلاع عن كثب على المكانة المرموقة التي حظيت بها مواقف الدبلوماسية التونسية المسؤولية والحكيمة، وخاصة فيما يتصل  بتقريب وجهات النظر بين القادة الأفارقة ومواصلة مسار تصفية الاستعمار ومقاومة سياسة الميز العنصري في الجزء الجنوبي من القارة الافريقية، وهو ما تعرضت له تحديدا ضمن المداخلة التي القيتها في الندوة الدولية حول إفريقيا وناميبيا والتي عقدتها بباريس وبمقر اليونسكو في الـ 27 من شهر ماي سنة 1981 منظمة الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الإفريقية. فقد شددت على أنّ تطلّع شعوب إفريقيا لتحقيق العدالة والكرامة يقتضي إجماع جميع الدول الأعضاء داخل المنتظمين على تطبيق العقوبات التي ينصّ عليها ميثاق الأمم المتحدة، بما في ذلك الدول الحليفة لنظام بريتوريا العنصري "لأنه من العبث أن نضحّي بالسلم والضوابط التي تحكم القانون الدولي نظير المصالح الآنية والحسابات الظرفية".
ولن أفشي سرا حال الإقرار بتأثري العميق بل وانحيازي الكامل أحيانا للعديد من التصوّرات التي قادت مسيرة نضال الرئيس الأول للجمهورية التونسية الحبيب بورقيبة، حتى وإن حاولت جهدي تجنّب الوقوع فيما صادفه من عثرات، مستحضرا في جميع ذلك ضرورة التحلّي دائما بقدر كبير من نكران الذات. فقد انضممت لفريق عمل الزعيم الحبيب بورقيبة شابا وخبرت مع تقدّم الزمان واكتساب المَلَكَة سعة أفقه ورصانة توجهاته النادرتين. فقد مزج بذكاء باهر بين ضرورة الاحتفاظ بعلاقات مميزة مع الدول الغربية المتقدّمة وبناء جسور الثقة وتمتين عرى الصداقة والتعاون مع البلدان العربية والإسلامية والإفريقية.
ولأنني أؤمن مثله باستمرارية الدولة التونسية، وأعتقد في ضرورة استعادتها لهيبتها والعمل قصارى الجهد على الحفاظ على مؤسساتها، فإنني أعتقد أن السياق التاريخي الذي نعيشه حاضرا يستوجب مراجعة عميقة للكثير من تلك الاختيارات، واتفق تماما مع واضعي هذا التأليف الطريف على ضرورة إيلاء تاريخ العلاقات الدولية المكانة التي هي بها جديرة ضمن مختلف المعارف المتّصلة بالعلوم السياسية وكذا علوم الإنسان والمجتمع، وتوظيف محصّلة أبحاثها بشكل سليم مُلْهِم في تطوير ثقافة المواطنة عربيا وإفريقيا.
لقد آن الأوان للقيام بمراجعة في العمق لسياسة بلادنا تجاه القارة الإفريقية وتطوير التعاون مع البلدان الواقعة جنوب الصحراء غربا وشرقا، فقد قُدر للرئيس بورقيبة التباحث مطوّلا مع أفذّ زعامات بلدان إفريقيا، من سنغور إلى لومومبا، مرورا بنكروما وسيكوتوري وبوانيي وهولدن وكبرال وغيرهم كثيرون. وتثبت ملاحق الوثائق المدرجة ضمن هذا التأليف مستوى تلك المباحثات الرفيع، حتى وإن لم تبلغ محصلة النتائج العملية المتمخّضة عنها مستوى طموحات معظم أولئك الزعماء في حق بلدانهم وفي حق قارة مكلومة من فرط الاستعباد والاستغلال، تمكّنت بعد تقديم جليل التضحيات من تصفية الاستعمار، موجّهة سهام إرادتها للاستفادة بمنتهى الحرص والعقلنة من ضخامة مواردها الطبيعية والبشرية.
ولأن واقع الحال يحتاج منّا قراءة أوضاعنا بشكل يتلاءم مع ما تعيشه بلادنا منذ سنة 2011، فإن المحصّلة التي أقرّها من ركزوا مجهر الإضاءة على تجربة الدبلوماسية التونسية طوال عهدة أول رؤسائها، وبالنظر إلى ما آلت إليه علاقتنا مع إفريقيا بعد ذلك من انحسار حيث يدعونا تراجع إشعاع تونس وتأثيرها إلى مراجعة في العمق لسياستنا الخارجية المتّصلة بالقارة الإفريقية. ولن يتأت ذلك إلا عبر الاعتراف بالمسافة الكبيرة التي أضحت تفصلنا عن عمقنا الإفريقي تعاونا وتضامنا ومعرفة، مع إيماننا الراسخ بقدرة دبلوماسيتنا على صياغة مشروع متكامل يعيد لتمثيلياتنا الدبلوماسية ولمؤسساتنا المتحفّزة لدفع التعاون المثمر والمتكافئ المكانة التي احتلتها لما توفّقت في بناء جسور الثقة مع بلدان غربي إفريقيا، مُستبقة جميع بلدان القارة في الإيمان المبدئي بضرورة مساندة مختلف حركات التحرير بغينيا بيساو والموزمبيق والرأس الأخضر، مُستغلة جميع الفرص المتاحة لإظهار مناهضتنا لنظام الميز العنصري بجنوب إفريقيا والوقوف في صف الأغلبية السوداء المستضعفة والمقهورة.
لقد أثبتت لي تجارب السنوات الطوال التي قضيتها في التدقيق في الشأن الدبلوماسي وتقلبات العلاقات الدولية أن الصعوبات التي تحول دون تمكّن بلدان شمال القارة الإفريقية من تشكيل قوة إقليمية فاعلة باعتبار صعوبة التوصّل إلى حلول مجدية بخصوص العديد من الملفات العالقة مغاربيا وعربيا، لا يتعين أن تثنينا على إعادة بناء الثقة ودفع التعاون الثنائي مع البلدان الواقعة جنوب الصحراء وأن مثل ذلك التوجّه طريقا سالكة تحتاج إلى طول نفس وإصرار على المثابرة.
إن قدر إفريقيا يكمن اليوم في التعاون بين تكتّلاتها وتطوير أداء بلدانها على الصعيد القاري، مع الإيمان العميق ببناء المواطنة الإفريقية ودعم الجهود القاريّة لدول الاتحاد، وهو طموح عزيز من المخجل تواصل الدعوات إلى تأجيله تحت أي تبرير. فقد انتصر التعاون الأوروبي على تحفظات معظم بلدان تلك القارة في فترة قياسية لم تتجاوز نصف القرن، وتمكنت قواها الناهضة وإمبراطورياتها الاستعمارية التوسّعية من تخطي أحقادها وحروبها الطاحنة لكي تبني اتحادها رغم العثرات المعيقة والصعوبات المحبطة لأصدق العزائم. وما على الأفارقة إن هم عقدوا العزم على مواجهة تحديات القرن الجديد وثورات شعوبه إلاّ التصالح مع أنفسهم وحثّ خطاهم من أجل تحقيق حلم أجيال ناضلت بهمّة وصدق طويّة كي تستعيد القارة السمراء سيادتها على أراضيها المسلوبة، في انتظار أن ينعم جميع سكانها بحريتهم ويعيشوا، بكرامة وإباء، مواطنتهم المسؤولة.

مقدمة الكتاب

" من دون تحقيق الكرامة لا يمكن الحصول على الحرية ومن دون نشر العدالة لا يمكن تأمين الكرامة، وطالما لم نحصل على الاستقلال ليس بوسعنا أن نصبح أحرار."
رسالة "باتريس لومونبا" من سجنه بـ"كاسي" سنة 1960 إلى رفيقة دربه بولين.

         يكتسي الاهتمام بتطوير العلاقات التونسية الافريقية حاضرا بعدا استراتيجيا وذلك في ضوء متغيّرات سياق ما بعد التحوّل السياسي والمجتمعي الفارق الذي عاشته البلاد التونسية ومتطلّبات المرحلة الراهنة التي يحتل ضمنها الانتقال الديمقراطي موقعا محوريا. ولأن ذلك الاهتمام يطرح بإلحاح ضرورة تمتين الأواصر التي تشدّنا ولا تزال إلى مجالات انتسابنا الحيوية، فإن التفكير بخصوص طبيعة العلاقات التي ربطت تونس بالقارة الإفريقية طوال الثلاث عشريات التي تلت إرساء دولة التونسيين الوطنية، ينبغي أن يحفّز على إجراء عرض توصيفي لتلك التجربة بالتعويل على ما احتفظ به الأرشيف الديبلوماسي التونسي الرسمي من وثائق، وذلك بإدراجها ضمن سياقها المخصوص والتعويل على ما راكمته الديبلوماسية التونسية من تجارب قصد الالمام بالتوجّهات التي قادتها وتحديد المكاسب التي حقّقتها، فضلا عن التبصّر بمواضع تقصيرها وكيفية الارتقاء بأدائها والرفع من نسقه بشكل يتوافق مع الموقع المتميز الذي سبق لها احتلاله والعلاقات الطموحة التي ربطتها بمختلف بلدان إفريقيا إبّان تصفية الاستعمار أو من بعده، سواء اتصل ذلك بالعلاقات الثنائية التي عاينت طوال الثلاث عشريات المقصودة بالمعايرة توسّعا في مجالات التعاون والتنمية المشتركة وتبادل الخبرات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والتربويّة والصحيّة والثقافيّة، أو فيما يتصل بتطوير أشكال التعاون الاقليمي والرفع من مستواه بين مختلف دول القارة، وخاصة بعد تأسيس منظمة الاتحاد الافريقي في ربيع 1963 وذلك على أساس مبدأ احترام سيادة كل دولة على مجالها الترابي وعدم المسّ بشؤونها الداخلية.
وليس من المصادفة في شيء أن تكون الهياكل أو المؤسسات القائمة على تحسين مستويات التمكين والمواطنة ودعم القدرات في مجال بناء السياسات والاستحضار العميق لمكاسب منظومة حقوق الإنسان الإفريقية وفضاءاتها بتطوير مستويات امتلاك ثقافة الحوكمة الرشيدة وتحسين المعرفة بالتاريخ الافريقي المشترك والارتقاء بمكانة المرأة داخل المجتمعات الإفريقية، هي التي شجّعت فرع "أوكسفام إفريقيا" الداعم لتوجهات تحالف دول الاتحاد، والمعهد العربي لحقوق الإنسان باعتباره فاعلا استراتيجيا في الارتقاء بمستوى الثقافة المدنية عربيا، على المبادرة باقتراح تصوّر طريف هدف إلى مُقاربة أشكال تمثّل المواطنة الافريقية من خلال تقييم مستوى حضورها خطابا وممارسة ضمن السياسية الرسمية لدولة الاستقلال تونسيا، وذلك عبر دعوة مؤسسات إنتاج المعرفة المحكمّة على إعداد عرض معرفي تكون مؤسسة الأرشيف الوطني التونسي وباعتبار ائتمانها منذ سنة 2009 على حفظ أرشيفات وزارة الخارجية التونسية، وجامعة تونس ممثّلة في كلية العلوم الانسانية والاجتماعية بحكم مستوى الخبرة الذي بوسعها ضمانه، الضلعين المكمّلين لمربعها وذلك من أجل مؤزرة جهود منظمة الوحدة الإفريقية التي تضمنتها "أجندة 2063".   
ويشفّ مثل هذا التوجّه النموذجي الذي يهدف إلى التعرّف وبشكل مجهري على مستوى وعي الدبلوماسية التونسية الرسمية بأهمية البعد الإفريقي في سياستها الخارجية، عن رغبة معلنة في تجاوز المعاينة الفوقية واخضاع عملية تقييم مكاسب تلك السياسة وهِناتها أيضا على مدى العشريات الثلاثة الأولى لدولة الاستقلال للإضاءة التحتية. كما يهدف إلى توسيع مجال المعرفة العالمة من خلال اكسابها مدلولا نشيطا يتساوق مع الواقع التعددي للساحة العمومية التونسية وضرورة العمل على ترسيخ ثقافة القبول بالتنوّع بين جميع المتدخلين أو الفاعلين في الشأن العام، فضلا عن الارتقاء بمستوى الثقافة المدنيّة بعد الانقلاب المسجّل على كيفية تمثّل التونسيين لأشكال صُنع القرار السياسي وحقيقة التزامهم حكّاما ومواطنين بثقافة العمل التشاركي وتعيير درجة نجاحهم في إدارة حوار توافقي بين مختلف مكوّنات الساحة العامة وفاعليها.
تمثلت الخطة المعتمدة للإلمام بمحتوى رصيد أرشيف وزارة الخارجية الخاص بعلاقات تونس بمختلف دول القارة الإفريقية، في انجاز عرض وصفي لمختلف حافظاته وملفاته، والتوقّف مجهريا عند عيّنات نموذجية تحيل على مجالات التعاون الثنائي، وكذا على المستوى الذي بلغه مقارنة بما تم تحقيقه على صعيد التعاون المتعدّد الأطراف. كما تقصّت العروض المستجلبة تقيما مدقّقا لمساهمة تونس في النضال من أجل استكمال تصفية الاستعمار بجميع بلدان القارة ومناهضتها الصريحة لسياسات الميز العنصري ضد الأغلبية السوداء بجنوب إفريقيا، فضلا عن مساهمتها في إنشاء منظمة الوحدة الإفريقية وتوضيح تصوّرتها السياسية بخصوص أنجع السبل الضامنة لدفع التعاون الاقليمي بين مختلف دول القارة السمراء.                                        



dimanche 5 novembre 2017

La gentillesse لطف رحيم


La gentillesse لطف رحيم
Naomi Shihab Nye ,1952
Avant de savoir ce qu'est la gentillesse
tu dois perdre des choses,
sentir l'avenir se dissoudre dans un instant
comme le sel dans un bouillon affaibli.
Ce que vous teniez dans votre main,
ce que vous avez compté et soigneusement sauvegardé,
tout cela doit aller pour que vous sachiez
comme le paysage peut être désolé
entre les régions de gentillesse.
Comment vous roulez et roulez
pensant que le bus ne s'arrêtera jamais,
les passagers mangeant du maïs et du poulet
va regarder la fenêtre pour toujours.
Avant d'apprendre la tendre gravité de la gentillesse
vous devez voyager où l'Indien dans un poncho blanc
se trouve mort au bord de la route.
Vous devez voir comment cela pourrait être vous,
comment il était aussi quelqu'un
qui a voyagé toute la nuit avec des plans
et le souffle simple qui le maintenait en vie.
Avant de connaître la bonté comme la chose la plus profonde à l'intérieur,
vous devez connaître le chagrin comme l'autre chose la plus profonde.
Vous devez vous réveiller avec chagrin.
Vous devez lui parler jusqu'à votre voix
attrape le fil de toutes les peines
et vous voyez la taille du tissu.
Alors c'est seulement la gentillesse qui a plus de sens,
seule gentillesse qui lie vos chaussures
et vous envoie dans la journée pour regarder le pain,
seule bonté qui lève la tête
de la foule du monde à dire
C'est toi que tu cherchais,
et puis va avec vous partout
comme une ombre ou un ami.
Naomi Shihab Nye
Naomi Shihab Nye donne une voix à son expérience d'Arabe-Américaine à travers des poèmes sur le patrimoine et la paix qui débordent d'un esprit humanitaire.

قبل أن تعرف حقًا ما اللطف الرحيم،
يجب عليك أن تعرف ماهية الفقد،
أن تشعر أن المستقبل يذوب في دقيقة،
مثل حبات ملح في حساء رقيق.
يجب أن تنفرط جميع الأشياء
التي تمسك بها ساعداك،
والتي أحصيتها واحتفظت بها بعناية،
لكي تدرك مقدار الدمار الذي يمكن أن يصيب
المشهد بين مواضع الرحمة.
كيف تفكر، كلما ركبت الحافلة،
أن العربة لن تتوقف أبدًا،
وهؤلاء الركاب، الذين يأكلون الذرة وقطع الدجاج،
سيحدقون من النافذة إلى الأبد.
قبل أن تتعرف على الجاذبية الرقيقة للطف الرحيم
يتعيّن عليك السفر حيث توجد جثة الرجل الهندي
في معطفه الأبيض،
ممدة على جانب الطريق.
يتعيّن أن ترى كيف يمكن لهذا الشخص أن يكون أنت،
كيف كان هو أيضًا إنسانًا
يسافر الليل بأحلامه،
وكيف آزرته نسمة الهواء البسيطة
للبقاء على قيد الحياة.
قبل أن تعرف اللطف الرحيم كأعمق عاطفة بداخلك،
يتعين عليك أن تعرف الحزن كشعور عميق بداخلك
عليك أن تستيقظ حزينًا.
وتتكلم عن الحزن،
حتى يلتقط صوتك جميع خيوطه،
وتتمكن من رؤية حجم ردائه.
عندها فقط يصبح اللطف الرحيم هو الشيء المنطقي الوحيد،
وهو ما يساعدك على ربط خيط حذائك
ويرسلك في الصباح لتشتري الخبز،
وتضع رسائلك في صندوق البريد.
اللطف الرحيم فحسب، هو من يرفع رأسه وسط الحشود ليخبرك،
أنه أنا ذاك الشخص الذي تبحث عنه،
وبعدها يذهب معك أينما توجهت
مثل ظل أو صديق.
(ترجمة آية هاشم الصادرة بموقع "ضفة ثالة" بتاريخ 5 نوفمبر 2017 بتصرف)

jeudi 19 octobre 2017

مقدسات ومحرمات وحروب: ألغاز الثقافة
















... لا مشكلٌ في الموت .. لا لغزٌ ..
الموتَ يعرف جيّدا ماذا يريدُ .. الموتُ أوضحُ ما يكونُ،
 المشكل الأبقى الحياةُ المشكل الأعصى الحياة"
منصف الوهايبي




      لم يدر بالخلد أن نتائج الملاحظة الميدانية في التمارين المتصلة بمعارف الأثنوغرافيا أو الأنثروبولوجيا بوسعها أحيانا الارتقاء بقرائها إلى الاشتراك في إدراك جوانب متشعّبة بل وعصية مما عاشته ولا تزال العديد من المجتمعات البشرية ساد الاعتقاد في بساطتها الظاهرية، حتى تابعت بفضول طفل البدايات ونضج المُكّب على تفكيك التراث الثقافي اللامادي الترجمة العربية الموضوعة أخيرا لمؤلف "مارفن هاريس" "مقدسات ومحرمات وحروب: ألغاز الثقافة"[i]. وهو أثر توليفي لظواهر هيكلية عاينتها مجالات حضارية قصيّة لعبت مشاهدات "هاريس" وملاحظاته حولها دور مبعض الجراح الذي يسبر الأغوار كاشفا لمتابعي أبحاثه وعامة قراءه - وبالتعويل على تأويلات طريفة غير مبذولة- جوانب مُغرية تفسّر بطريقتها ما وسمه الشاعر القيرواني منصف الوهايبي في قصيدته "شيء من الأبدية أو مديح الدينصورات" حقيقة الحياة باعتبارها "المشكل الأعصى" قياسا لبساطة الموت الذي لا يتوفر على أي لغز. وهو إغراء في الاستزادة حركّه الجهد الاستثنائي المبذول من قبل المترجم في نقل مضمون هذا التأليف بكثير من الأمانة، على الرغم من الحضور اللافت لصياغة مختلفة لعنوان الكتاب الذي حملت نسخته الأصلية المكتوبة بالإنجليزية عنوان: "أبقار وخنازير ومواجهات وسحرة: ألغاز الثقافة"، بينما اقتراح المترجم (أو قد يكون الناشر هو الذي أومأ له بذلك؟) عنوانا جديدا، فضّل - وفيما بدا لنا - التركيز على الأبعاد الثقافية والفكرية المُختَبَرة ونقصد "المقدسات والمحرمات والحروب"، من دون ربطها بمجالها الميداني المباشر الحاضر ضمن العنوان الأصلي. وهو ذات ما عاينته الترجمة الفرنسية التي اختزلت من جانبها العنوان الأصلي، مستغنية على لفظة "سحرة"، دون المساس ببقية العناصر أو المفردات الأخرى.    
يشكّل الموضوع المقترح ضمن عروض هذا الكتاب إطار تجريبيا حدّيّا سمح لـ "مارفن هاريس" بصياغة مختلف عناصر عرضه وفق منطق ردّ مختلف الظواهر البشرية المدروسة إلى تفسيرات مادية أو ايكولوجية بسيطة، حتى وإن بدت تلك التفسيرات غير متوقّعة بالنسبة لغير المختصين من قرائه. فقد دفع الكاتب بالشواغل المنهجية التي ارتكزت عليها تجريبية المدرسة الأثنولوجية الأنجلو-سكسونية إلى مداها الأقصى، غير عابئ بالتعارض في التوجهات بين هذا التيار المعرفي التجريبي ورصيفه المحسوب على التقليد الفلسفي الأوروبي الذي غالبا ما آثر تفسير ذات الظواهر بردّها إلى معطيات ثقافية معقّدة ومتشعّبة.  
قد نخطئ كثيرا لو يذهب في مطلق ظننا أن "هاريس" قد حاول ومن خلال هذا البحث أن يجعل من الحسّ الجيد أو من الحكمة الشعبية أسلوبا مخصوصا في المعالجة الأنثروبولوجية، حتى وإن عبّر هو نفسه وبشكل معلن وفي أكثر من مناسبة عن تحيّزه لوجهة النظر القائلة برد جميع الظواهر أو الأشياء إلى ما تبدو عليه في الطبيعة، إذ ليس من المجدي في شيء إقناع باحث على شاكلته بضرورة إعادة تقطيع الظواهر المختبرة، حتى وإن اتصل ذلك بخدمة حاجيات ابستيمية، والحال أن مؤلف هذا الكتاب من أكثر الذين اعتقدوا جازمين في الجاهزية الطبيعية للظواهر المدروسة للملاحظة والتأويل.
وبالفعل يعتبر "هاريس" أن كل ظاهرة اجتماعية تجد تبريرها الواقعي في بساطة الحضور أو الوجود، حتى وإن ثبت لديه ميدانيا أنه لا يتعيّن الاكتفاء في ذلك التبرير بالوجود الوقتي، بل يحسن بالباحث تعقّب امتدادها أو اتساقها الزمني. فقد تلاشت جميع الظواهر الوقتيّة على غرار اشتغال سكان المجالات الشرقية الحارة بتربية الخنازير، لأنه لم يسع أولئك أو قل لم يكن بمستطاعهم أقلمة ذلك النشاط مع مقتضيات المحيط وإكراهاته. فالظواهر التي تمكّنت من الاتساق في الزمن أو أظهرت قدرة على التأقلم مع المحيط هي التي طبعت، ومهما بدا أمرها غريبا أحيانا المشهدين الجغرافي والثقافي.
يصدق هذا التقدير وفق منظور "هاريس" دائما على الاعتقاد في قداسة الأبقار لدى الهندوس حيث يتوفّر حب "البقرة الأم" على شبكة من الرموز المقدسة والقيم الفاضلة التي ساهمت بلا جدال في حماية المزارعين الهنود من مختلف الحسابات الضيقة التي لا ينطوي منطقها غالبا إلا على توجّهات ِربحية سريعة جدّ مهلكة على المدى المنظور". ويمكن سحب نفس التفسيرات على الاحتفالات التي تسبق منافسات أو مواجهات هنود شمال غربي أمريكا، تلك التي تمثلت وظيفتها العملية في الحيلولة دون تراجع قوى الانتاج إلى مستوى متدنّي لا يسمح بالاحتفاظ بهامش معقول لمجابهة وضعيات سوء المحصول أو الخروج بأخف الأضرار في صورة حصول مواجهات دامية بين المزارعين. كما يلعب ذات المخزون دورا أساسا في الحدّ من ضراوة الأرزاء، حال حصول المساغب المترتبة على أشكال استغلال الأراضي الزراعية ضمن محيط يتسم بالهشاشة تعاين أوضاعه المناخية كثيرا من التقلّب ويقع غالبا عند الأراضي الجبلية المجاورة للسواحل أو على تلك التي يتم احياؤها على حساب البحيرات وعند سفوح المرتفعات ومساطبها". 
ما بنا حاجة للمبالغة في ربط تأويلات "هاريس" بالنزوع نحو المثالية، فالتوازنات التي وقف عندها لا تتجاوز ما وسمه هو ذاته بـ "برهان الدسامة" ويقصد توفر الأنظمة المعاشية على الحدّ المطلوب من القيمة الغذائية، إلا أن التقارب بين مادية مؤلف "مقدسات ومحرمات وحروب" وما تتوفر عليها الصيغ المبسّطة لنظريات فيلسوف المادية "كارل ماركس" يفرض نفسه على قارئ عمله، وخاصة حال تعلّق الأمر بالجوانب السلبية التي تفرضها البنى التحتية الايكولوجية، تلك التي تحول دون عدد من الممارسات باعتبارها تشكل خطرا على ضمان العيش وتواصل البقاء. فقد فسّر "هاريس" مثلا الوجه السلبي لتحريم الأناجيل وسور القرآن الإقبال على استهلاك لحم الخنازير باعتبار أن التوسّع في تربيتها يمكن أن يشكّل تهديدا واقعيا لسلامة المنظومة الايكولوجية الطبيعية والثقافية لبلدان المشرق الحارة. في حين اتصل الوجه الايجابي لذلك التوسّع في تربية نفس الحيوانات وفق ذات التأويلات التي عولت على استنتاجات "روي رابابور Roy Rappaport"[ii] في النظام الذي أحدثته مجموعة المارينغ Maring البابوازية بغينيا الجديدة Papouasie-Nouvelle-Guiné والمتمثل في إيجاد توازن طبيعي ناجع بين نمو الاجناس النباتية والحيوانية والبشرية وفقا للقوانين الايكولوجية التي صاغها ذكاء بني البشر (مُجسَّما في المهرجانات الضخمة لولائم أكل لحم الخنازير أو "الكايكو" التي تسبق لدى سكان غينيا الجديدة أو "المارينع" قيام المواجهات بين الأطراف المتنافسة، مُحيلة بتلك الطريقة على أفضل صُور الحرب في بدائيتها).
ليس هناك من شك في أهمية النتائج التي يمكن أن يجنيها الباحث في علم الانثروبولوجيا حال تواصله مع التقليد الذي ركّزته المدرسة الأنثروبولوجية الأمريكية منذ ظهور أبحاث "لسلي وايت Leslie White [iii]  حال الاشتغال على تدبير مسألة التوازن الاكيولوجي في تربية الأبقار والخنازير والتعرّض بدقة إلى أنساق الانتاج والاستهلاك وضبط كميات الماء المتبخّرة عن جلود الحيوانات نتيجة تعرّقها بالساعة والمتر المربع، إلا أن التركيز المبالغ فيه أحيانا على الجوانب الطبيعية على قيمتها التي لا تضاهى، لا يخلو من تصورات أحادية في قراءة مختلف المسائل المشار إليها. وهو ما قد يدفع الباحث إلى الذهول عن التعقّد المتزايد للظواهر في جميع مستويات هيكلتها تلك الجوانب التي ما انفكت دراستها تتسم بمزيد من الصعوبة. فالضرورة الايكولوجية المزعومة لتربية الخنازير من قبل جماعات "المارينغ" لا تسمح مثلا بالكشف عن طبيعة الأرباح الاقتصادية والرمزية أيضا الناجمة عن تشغيل آليات التبادل اللامتناهية التي تتخفّى وراء هذا النوع من الأنشطة الزراعية الرعوية، لذلك فإن التعلّل بالفرضية الموازية القائلة بإن عمليات التبادل الاقتصادية والرمزية لا يمكن لها أن تتحوّل إلى حاجز أمام إكراهات المحافظة على التوازنات الايكولوجية للمجموعة، لا تحتفظ في الأخير إلا بقيمتها كحقيقة طبيعية، كما هو الشأن لدى دراسة "الهمجية الذكورية" لدى مجموعة "اليانومامو" المحسوبة على الهنود الأمريكيين المقيمين على الحدود بين البرازيل وفينزويلا، أو تعقب رمزيات "مهرجان الشتاء" الذي سبق الكشف على استناده على تضخيم التنافس من أجل البروز أو الحصول على الحظوة من قبل الباحثة "روث بنديكت  Benedict, Ruth".
ولكي نستعير تمثلّا يحيل على مجال تخصّصي قريب من ذاك الذي اشتغل عليه مؤلفنا كثيرا ما يسقط العاملون فيه في ذات المطبّات، نشير إلى أن أيّ من الفرضيات التي انتجتها عبقرية المشتغلين على فهم أصول الكائنات البدائية لم تستطع مدنا بالسبب الموضوعي الذي يجعل الانسان وحده من بين "كبار القردة"، هو القادر على عرض حصيلة ملاحظاته بخصوص بقية الكائنات ضمن نص تركيبي مكتوب.
ومهما يكن من أمر فإنه ليس بمقدورنا إلا الثناء على مثل هذا النوع من التأويلات التي تبدو عبقرية كلما تعلّق الأمر بتفسير مستوى الانضباط الايكولوجي الذي اتسمت به العديد من أنظمة تربية الحيوانات كالأبقار أو الخنازير داخل المجتمعات التقليدية، مركزية كانت أم طرفيّة. [iv] غير أن مستوى الإجرائية الذي تتسم بها تلك التأويلات يتضاءل حال فتح المؤلف وضمن بقية فصول كتابه ملفات جديدة تبتعد عن أنساق الإنتاج لتعمل على تفسير ظواهر بشرية وثقافية أخرى، على غرار انتشار الديانة المسيحية (ضمن الفصول الموسومة بـ "عقيدة الأحمال الوهمية" و"المخلّصون" و"سرّ أمير السلام")، وملاحقة الساحرات (في الفصول الثلاثة الموسومة بـ "عصا المكانس" و"مجمع السحرة" و"هوس السحر الأكبر")، والرواج المذهل للتوجهات الاشراقية ضمن كتابات "كرلوس كستاندا"[v] الذوقية المعوّلة على قوة التأمل والتأويل الباطني للظواهر ضمن الفصل الموسوم بـ"عودة الساحرة".
يتراجع حماسنا بشكل ملحوظ في مواصلة التعرّف على فحوى الفصول الأخيرة حال اشتغال "هاريس" على جوانب تتصل بـ "الثقافة المضادة التي ستنقذ العالم من "أساطير الوعي الموضوعي" وفقا لتصوّرات أحد "أنبياء حركة الراشدين تيودور روزاك"، وذلك إلى حدّ الخشية من سقوط مختلف تأويلات المؤلِف بهذا الصدد في نفس التوجهات الفكرية التي طبعت تقليدية الجنس الموسيقى المعروف بـ "الكونتري والوسترن Country and Western"، بحيث يُعلي مجمل التمشي المعتمد من قبل "الانثروبولوجي الايكولوجي" من قيمة التفسيرات أو التأويلات المستندة على الحتمية الطبيعية تلك التي لا تخلو وفي حالات عديدة من بعض ساذجة خاصة لما نجد أنفسنا نستعيد وبطريقة لا واعية المقولة المشهورة: "كل شيء على ما يرام ضمن عالم يحصل فيه كل فرد على ما هو أهل له" [vi]./. 
 (صدرت هذه القراءة ضمن عروض موقع "ضفة ثالثة" بتاريخ 15/ 9 / 2017).                 
         


[i]  هاريس (مارفن)، مقدسات ومحرمات وحروب ألغاز الثقافة، ترجمة أحمد م. أحمد، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة - قطر 2017. (الطبعة الأولى).
Harris (Marvin), Cows, pigs, wars and witches : The riddeles of culture, Random House, New York 1974.
مارفن هاريس (1927 - 2001) انثروبولوجي أمريكي درّس بجامعتي كولومبيا وفلوريدا تدور مختلف أبحاثه حول إشكاليات تحيل منهجا على "المادية الثقافية matérialisme culturel" بينما شكلت أتنولوجيا سكان غابات "باهية" بمنطقة الأمازون البرازيلية وسكان جزر الموزمبيق الإفريقية مجال بحوثه الميدانية الكبرى. ومن تأويلات هاريس الأكثر شيوعا رد أكل قبائل الأزتيك المكسيكية لحوم البشر بالأساس إلى ضعف نسبة البروتينات ضمن أنظمتها الغذائية.
أما مترجم هذا الكتاب إلى لغة الضاد فهو محمد م. أحمد وهو شاعر ومترجم سوري يعيش بكارولينا بالولايات المتحدة الأمريكية. ترجم من الإنجليزية إلى العربية العديد من الآثار القيمة التي كتبها "بول أوستر" و"تشارلز سيميك" و"ديريك والكوت"، و"ألبرتو مانغويل"، و"مارفن هاريس"، و"بيلي كولينز"، وغيرهم كثير.       
[ii]  عاش "روي راببور بين 1926 و1997 وساهم في تطوير أنثروبولوجيا الطقوس والأنثروبولوجيا الإيكولوجية ومكنت أبحاثه من البرهنة على حضور علاقة في الاتجاهين بين الثقافة والاقتصاد، احتل ضمنها الطقس دائما دورا محوريا. 
[iii]  عاش "لسلي وايت" بين 1900 و1975 ودرّس بجامعة ميشغن الأمريكية حتى سنة 1970. وهو من المحسوبين على تيار المادية الثقافية ومن المدافعين -حتى وإن نفى ذلك- على النظرية الجديدة لتطوّر الأجناس. أثرت كتابته بشكل لافت في العديد من كبار المشتغلين بالأنثروبولوجيا مثل مرشال ساهلينس Marshall Sahlins ومارفن هاريس. وترتكز نظريته التي عرفت لدى الدارسين بـ"قانون وايت" على أن كل تطوّر ثقافي مرتبط بكمية الطاقة المتوفرة لكل فرد وخلال السنة الواحدة.     
[iv]   حول الفرضيات الانثروبولوجية المشتغلة على الجوانب الطبيعية والتوازنات الايكولوجية يمكن العودة إلى مساهمة O. K Moore « Divination. A new perspective »    (التقديس: تطلّعات جديدة ) وذلك ضمن مؤلف جماعي يحمل عنوان "السلوك البيئي والثقافي" أشرف عليه A. P. Vayda, Environnemental and Culturel Behaviour, New York, The Naturel History Press 1969, p. 121 – 129.   
[v]  عاش كرلوس كاستايندا Carlos Castaneda بين 1925 و 1998 في لوس أنجلس بكاليفورنيا وتعرضت مؤلفاته إلى التكوين المسرّي الذي تلقاه عن شيخه أو مربيه "ياكي Yaqui" "دون خوان ماتوس" في المعرفة الذوقية والعلوم التأملية المرتكزة على مزيد التعرف على الباطن. وشكلت مؤلفاته "كُتب شباك" جد مشهورة بِيع بعضها في 28 ملون نسخة وتُرجمت إلى ما لا يقل عن 17 لغة على غرار "دروس دون جوان (ماتيوس)" الصادر سنة 1968 والذي حملت ترجمته الفرنسية عنوان: "عشبة الشيطان والدخان الصغير" أو "قوة الصمت" الصادر سنة 1987 أو عجلة الزمن" الصادر سنة 1998 و"السفر النهائي" وهو كتاب صدر سنة 2000 بعد سنتين من رحيله الأبدي.
[vi]  تم الاستناد في وضع هذا العرض وبكثير من التصرّف على القراءة التي صاغها "بول جوريون" ونشرها ضمن دورية "الإنسان أو المجلة الفرنسية للأنثروبولوجيا Homme, Revue Française d’Anthropologie"، المجلد عدد 16، العدد 4 لسنة 1976، ص ص، 161 – 162. M. Harris, Cows, Pigs, Wars and Witches. The Riddeles of Culture
انظر الرابط ضمن موقع Persée " الالكتروني.
http://www.persee.fr/doc/hom_0439-4216_1976_num_16_4_367707