samedi 16 décembre 2017

مغرب المتصوفة
















تقدم الطبعة الجديدة لكتاب "مغرب المتصوّفة" للباحثين والقراء، تصوّرا معدّلا لمحتوى أطروحة دكتوراه الدولة التي سبق لنا مناقشتها بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية التابعة لجامعة تونس منذ خمسة عشرة سنة. وهو بحث استهدف معالجة ظاهرة محورية في التاريخ السياسي والاجتماعي والثقافي لبلاد المغارب، ونقصد تاريخ مؤسسات التصوّف التي أسهمت من موقعها في صياغة المشهد السياسي والاجتماعي والثقافي، فضلا عن طبع التدين بسمات يعزّ حضورها خارج هذا المجال الاعتباري.
ولئن سبق لهذا البحث أن أُعدّ للنشر وظهر لعموم القراء منذ موفى سنة 2005 تحت عنوان "مغرب المتصوفة الانعكاسات السياسية والحراك الاجتماعي من القرن 10 م إلى القرن 17 م"، فإن الصيغة المعروضة ضمن هذه الطبعة الجديدة لا تلتزم كليا بنفس تلك العروض سواء على صعيد الشكل أو على صعيد المحتوى، فقد عاودنا الاشتغال على الموضوع من زاوية تعقّب العلامات البارزة لتاريخ التصوّف بالمغرب الإسلامي من خلال التركيز على أشكال تطوّرها على المدى الطويل وربطها بما عاينه المجالين المشرقي والأوروبي الغربي من تطورات مشابهة أو متباينة طالت نفس تلك الظهارة الروحية المعلِمّة للمشهدين الاجتماعي والديني. ولعل في هذا التوجه ما يسعف المطّلع على هذه الطبعة الجديدة في عملية التبصّر بكيفية تواءم الظاهرة الصوفية المختبرة بأشكالها المتعدّدة (الزهد والمرابطة والتزوي والطرقيّة) مع الواقع الذي انتعشت داخله، والاطلاع على طبيعة الأدوار التي عادت لها في نحت خصوصيات الإسلام تصورا وسلوكا داخل المجال الاعتباري المختبر.
لكن ما المقصود بـ "مغرب المتصوّفة"؟ وهل تحتمل المميزات الناظمة لمجمل تاريخ مجال المغارب بعد بضعة قرون من انتشار الإسلام حضور التصوّف كعنصر ناظم لواقعه السياسي والاجتماعي والثقافي؟
تجيب الخصوصيات التي ينجلي عنها المشهد الجغرافي والعمراني حاضرا وبطريقتها الخاصة عن هذا السؤال، إذ يستحيل أن يخلو موقعا واحدا مهما نأت به المسافات وتاهت به الطرق من حضور ضريح أو روضة أو زاوية أو مشهد لشيخ من شيوخ الصلاح. هذا التوازي بين التصوّف في مختلف مظاهره  لا يمكن أن لا يثير فضول الباحث أيا كان تخصّصه. فقد درجنا مغربا على التعامل مع التصوّف من زاوية علاقته بالدين وبالأحكام الفقهية من وجهة نظر المذهب السني المالكي، لذلك تلوّنت المحصلة التي اكتنـزتها الذاكرة كخطاب شفوي أو كخبر مكتوب حول التصوّف بالتباس المعنى وتأرجح وجهات النظر بين دونية التحقير وتضخيم الافتتان.
ولم تتخط مواقف الدولة الوطنية ومثقفيها من ظاهرة التصوّف مغربا هاتين الطريقتين الغائمتين، حتى وإن شكّل المجهود الميداني المبذول من قبل المصالح الإدارية والعسكرية المستعمِرة لتوصيف هذه الظاهرة وتفكيك أشكال انتظام مؤسساتها – وبصرف النظر عن طبيعة المصالح المستهدفة من قبل تلك المصالح- طريقا سالكة طُمست معالمها بالكامل بعد تصفية الاستعمار. كما أن البحث الأكاديمي المحكّم الذي تأثر على صعيد المنهج مغربا بتوجهات المدرستين الوضعية ثم الاقتصادية والاجتماعية، لم يكن بوسعه حتى أواسط ثمانينات القرن الماضي أن يعيد النظر في سلم أولوياته بعد أن حُسمت مواصفات النقد الشكلي للمصادر طبقا لمبدأ التّأكُد من موضوعية المعطى الخبري أثناء بناء القراءة التاريخية. ومع بداية التسعينات كثر الحديث عن الفرد كفاعل اجتماعي وتاريخي وذلك بالتوازي مع  انتهاء توازن الرعب وسقوط الستار الحديدي وتراجع مكانة الدولة الوطنية كجهاز ناظم لحياة المجتمعات، وعاشت "حرفة المؤرخ" سنوات من "التفتت" انفتح خلالها البحث التاريخي على الجوانب الثقافية والاجتماعية والانتروبولوجية، فضلا عن الاهتمام بتاريخ الأديان المقارن وذلك قبل أن يُعَاد الاعتبار إلى التاريخ السياسي من بوابة ما سماه "التاريخ الجديد" بـ "الرهان البيوغرافي". [i]فقد كرّس الاهتمام بالتصوّف وداخل مجال المغارب رفعا لنوع من الحظر على ركام من المصنفات والوثائق المبعثرة رُكنت لسنوات جانبا وتأثرت سلبا بأشكال التعامل الفوقي (اجتزاء الخبر أو المعطى التاريخي)، هذا إذا لم تُزهّد العروض البيو-بيبليوغرافية في مضمونها، دافعة بالباحثين إلى تجاهلها وعدم الاكتراث بوجودها.
توجد السّيَرِ المناقبية على تماس المعرفة الدينية العالِـمة من جانب، وما اكتنـزته الذاكرة الجماعية في شكل موروث مشاع، لذلك قمنا بقاربتها في ذاتها ومكافحتها بغيرها من الوثائق التاريخية. ووضعت لتحقيق هذا الرهان خطة غطت أمدا زمنيا طويلا جاوز السبعة قرون، (فضلا تخصيص إطلالة ختامية على واقع التصوّف ومؤسساته راهنا) تم من خلال أقسامها التعرض إلى جذور الظاهرة المدروسة من خلال تفحّص سير رموزها من أرباب التصوّف المؤسسين وتفكيك تنظيمها والتوقّف عند مميزات الطوائف والطرق وتعيير نتوءاتها الاحتجاجية قبل موفى القرن السابع عشر، وذلك من خلال استعراض عينات مسارية مقارنة تخص ظاهرتي "الجذب" كتعبير عن الضيق بالواقع و"الاحتجاج" الذي استفاد من آليات "الاحتساب" التقليدية المرتكزة غالبا على تشغيل آليات الهداية أو الذهاب بعيدا من خلال إدعاء "المهدويّة".
استجاب التعامل مع سير الصلحاء لرغبة معلنة في توسيع مجال البحث التاريخي من خلال الانفتاح على مدونات مصدرية احتاج رفع الحجر المضروب عليها تجاوز سلبياتها المتمثلة في تعمّد التلفيق وتشويه الخبر الموضوعي عبر تكثيفه رمزيا قصد تضخيم وقعه النفسي على المتلقي وترجيح العبرة والموعظة دون سواهما. فمنطق السّيَر التي راهنا على استنطاقها في ذاتها أو مكافحتها مع غيرها من المصادر الأخرى من وجهة نظر البحث التاريخي تحديدا، لا يمكن أن يدور موضوعيا إلا حول الدور الذي يمكن أن تلعبه التُرَّهة الملفّقة في صنع الواقعة التاريخية اعتبارا إلى أن التاريخ لا تشكّله الوقائع المادية التي يُستَدل على حصولها بفحص اللُقى الأثرية وتوصيف المركبات المعمارية واستنطاق كتب الحوليات والأخبار والتبصّر بوثائق الأرشيف فحسب، بل تُستدعى في إدراك خفاياها مجمل الأحلام والأوهام والتمثّلات والرموز التي ساهمت في حصولها أو تقدّمتها أو نسلت من رحمها.
ومهما يكن من أمر فالمناقب سير تخوض في مآثر الصلحاء غالبا ما تكتب بعد مفارقتهم الحياة، وهذا دليل على انخراطهم التام ضمن نطاق الصيت لا السلطة المحدودة بزمن. وتتحدث هذه المتون بشكل بسيط عن علاقة التصوف بمعيش المجتمع معولة على النقل والمشافهة، لذلك فالحكايات المنقولة بينها وبين التاريخ مسافة، فكل ما هو مشفوه معبأ لخدمة أغراض وعظية. على أن ما يتعين البحث عنه ضمن تفاصيل هذه السير الانطباعية الموحية بسذاجة ناقليها وخواء وطاب متلقيها في آن، هو توضيح طبيعة الأدوار التي عادت لأرباب الصلاح في إعادة تركيب الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي بمجال المغارب طوال أمد زمني جسّر الفترتين الوسيطة والحديثة واستغرق سبعة قرون أو تزيد. فقد شهد النصف الثاني من القرن الحادي عشر حلول الفصائل العربية وانتشارها على مجال المغارب مُعلنة بذلك بداية ما أسماه عبد الله العروي بـ"المعظلة الهلالية"، في حين عرف القرن السابع عشر تجلي الدولة في مفهومها الحديث ودخولها مغربا في عملية "حيازة" أعادت تركيب الواقع الاجتماعي والأدوار السياسية والتمثلات الثقافية، محوّلة منظوري القبائل الممانعة إلى رعايا غارمين خاضعين لمشيئة الدولة. 
هذه الصيرورة لم تخضع في تقديرنا مطلقا إلى عملية شدّ عنيف أو استقطاب ثنائي جسّمه الصراع بين "دولة المخزن" من ناحية والقبائل الممانعة أو "العاصية" لسلطتها من جانب ثان، فقد لعب الصلاح بتوجهاته التوفيقية السلسة وأسلوب "الاستتباع" المبني على مفهوم "الصحبة" المعتمَد من قبل شيوخ الطوائف والطرق، وهو أسلوب دعا أربابه الكافة لتجديد "التوبة" تملّكا للإسلام وتحقيقا للخلاص واقفين صراحة في صفّ المنتجين مُدعّمين آمال المستقرين، نازعين فتيل المواجهة بدفع الأطراف المتصارعة إلى تغليب منطق التفاوض السلمي وتطوير أدوات اللعبة السياسية وقوانينها.
تحوم جميع السير – بصرف النظر على الاستدراكات الكثيرة لمؤلفيها – حول هذه المعاني تحديدا، لذلك تعقّبنا ضمن ما لفّقته مَرْوِياتها قصدا التجارب المسرّية لأبطالها، وهي تجارب آثرنا الحفاظ على السياقات المعتمدة في بنائها كي يتفطن القارئ إلى الشُحنة الحسّية أو الوجدانية التي انطوى عليها النسج الروائي ومفعول المروية المنسجمة بالكامل مع الذائقة الشفوية للأوساط الشعبية أو القاعدية. إلا أن هذا الاختيار لم يمنع منهجيا من مكافحة المعطيات المنقولة ورصد التقاطعات بين مختلف السِّيَر وربطها بالسياقات المخصوصة للواقع التاريخي.كما لم تَغْرُب عن أنظارنا محاولة الاستفادة من النماذج المنهجية المتصلة بالمعارف الاجتماعية والأنتروبولوجية التاريخية، حتى وإن لم يتجاوز طموح تلك المغامرة أحيانا الجوانب الشكلية. فقد جرّبنا الدخول على المدارس الصوفية المؤسسة مغربا كـ"المدينية" (المتأثرة بالقادرية) و"الشاذلية" و"الجزولية" من بوابة التحليل الاجتماعي، مستدعين في ذلك نماذج بحثية ساهمت مقاربات الألمانيين "ماكس فيبر" وغورغ تزيمال Max Weber et Georg Simmel في فتح أعيننا على قيمتها النظرية والاجرائية أيضا.
ساهم هذا التوجه في الحفاظ على النكهة الأدبية للنصوص المدروسة معيدا زيارة المسارات الفردية المعبأة لصلحاء المغارب في علاقتها بمحيطها وتنـزيلها من الإطار القِيَمِي الذي سُجنت داخله لقرون إلى إطار ينفض الغبار عن مضمونها البشري دون التجني على رأس مال أصحابها الرمزي أو الكارزماتي". نحن إزاء بشر كباقي البشر يحالفه التوفيق حينا وتذهب به الأهواء مذاهب شتى أحيانا كثيرة، غير أن إصرار العديد من أولئك الرجال وعلى حد تعبير "مارغريت دوراس" على "تشييد سدّ ما إزاء محيط لا يقاوم"، هو الذي أفاض على تلك "السير" ألقا شديدا، محوّلا الشخصيات التي عرّفت بمسار حياتها ومضمون تجاربها الروحية والدنيوية إلى "متقاسم جمعي".
تعكس المرْوِية المناقبية بما تأصّل ضمنها من تلقائية ناقليها وعفوية متلقيها تصّورات عامة الناس وقناعاتهم وتمثّـلاتهم الاستيهامية، لذلك فإن مقاربة هذه النصوص لا يمكن أن تخرج بطائل إذا ما قصرت همتها في البحث عن المعطى التاريخي، فاستمراء الخبر بمعنى قلبه وتشويهه يُشكِل عنصرا ناظما لكل ذاكرة شفوية، لذلك فإن ما حاولنا استجلاءه من خلال استنطاق هذه "السير" لم يتجاوز البحث عن المنطق الداخلي للسرد في محاولة للكشف عمّا ترسّب في الذاكرة من تصوّرات حول تجارب أرباب التصوف والصلاح وحقيقة الحَراك الذي أدخلته تلك التجارب على الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي داخل مجال المغارب طوال الفترة التاريخية المقصودة بالمعايرة.
يتسم التصوّف من وجهة نظر الحساسية الدينية بطابعه العملي، وهو أوسع من التدين لأنه يخترق سمك البنيات الاجتماعية ومؤسساتها، لذلك لا نعتقد أن هناك واقعيا تصوّف شعبي وآخر راق، إذ ليس هناك في هذا المستوى من عازل حقيقي بين "عامة" و"خاصة"، حتى وإن تعامل أولئك مع الظاهرة من وجهة نظر رغبتهم في التسوية إلى أعلى بإيجاد تواصل بين أحكام المذهب الذي ينتمون إليها والظواهر الدينية المعيشة يوميا تلك التي استأنسوا إليها. أما عامة الناس فلم يفكروا مطلقا بهذه الطريقة بل مارسوا ذلك بالفطرة، وتعاملوا مع التصوّف كمكسب أو موروث جماعي. 
ويتمثل دور المؤرخ أو جهده في تحديد سياق التأويل وليس في البحث عن تأويل، فمهمة المؤرخ هي البحث عن سياق ما كي يستطيع فهم السبب الذي دفع عامة الناس إلى إظهار تمسك بهذا الإرث كجانب من هويتهم يدينون له بالخصوصيات الناظمة لشخصيتهم. فقد تمحورت الأدوار التي عاد للتصوّف تلك التي انشَدّ عامة الناس إليها في:
- تأمين السابلة، أي اتساق حرية الناس في التنقل دون أن يطالهم أي خطر (محتمين بحرمة الولي). هناك بناء للحرمة، وهؤلاء المشايخ بفطرتهم هم أذكى مما قد نتصور. لأن الإطار المعيش شكّل على ما ندعي عامل محوري في تجاوز الحدود الموضوعية للمجتمع وللسلطة في آن. لذلك يتعين علينا الوعي بمحورية ما قامت به مؤسسات الصلاح بصرف النظر عن الدونية التي لازمت تقييم الباحثين والساسة لمساراتها.
- إقامة الأسواق واتساق أنشطتها إذ لابد من حضور التبادل الذي يشكل شرطا وجوبيا في بناء المدينة. لذلك فعندما تتطاول السلطة أكثر مما يستساغ يتدخل الولي رمزيا لردعها. فقد شكل الصلحاء السلطة الرمزية داخل المدينة حيث بوسط لمجتمع المدينة أن يستعمل الصلاح كما استعملت حواضر الغرب الأوروبي الباباوية قبالة السلطة الإمبراطورة أو الملكية. فرغم حضور قوانين تضبط تعامل مجتمع الحضر ويقوم القاضي على تطبيقها، فإن سلطة الولي الصالح يمكن أن تتجاوز ذلك وتخلق أحكاماً زجرية، محوّلة الكرامة إلى حد رمزي ليس له ما يسنده من وجهة نظر شرعية غير أنه هام جداً في تنظيم حياة الأفراد داخل حيز أو مجال ما.
- إيواء الغريب وابن السبيل وهي مهمة أساسية جداً بالنسبة للغريب وللمعدوم الذي يتنقل ضمن المجال ساهمت في توسيع أفق المعرفة بالمجال الإسلامي. لأن الجميع يتعقل وجود شبكة من الزوايا تستطيع أن تأوي الوافدين والمسافرين من دون حاجة إلى فقدان ماء الوجه والتوسل بالآخرين. على أن الأحكام الشرعية تحث من جانبها على الإيواء حيث يطالب المسلم بإيواء المعدوم والتكفل بإطعامه، ويدخل ذلك ضمن الحاجيات الأساسية التي لا يمكن تأجيلها، فضلا على أننا نقدّر أن عدد طالبي هذه الخدمات الملحّة كان كبيرا. على أن الإطعام مهما اتسع مجاله ليس إفراطا في السخاء كما قد يتبادر لإلى الأذهان، فالمؤسسات المتكفّلة بهذا المجهود لا تظهر سخاءها بشكل جلي إلا عند المناسبات، تماماً مثلما تفعل السلطة حال الدخول في عملية استثمار حقيقي ورمزي في آن في اظهار إحسانها أو إنعامها، حيث لا تنفك عن تشغيل هذا النوع من "الاقتصاد" من خلال الاستناد على خطاب التضامن الأمر الذي يَخرج بالمعنى عن سياقه ويكسبه بعدا سياسيا، بينما لا يكتسب التضامن مشروعيته إلا في حال انطلاقه تلقائيا من المجتمع، حيث يبدو الفارق كبيرا -كما أضحى بيّنا- بين مجالي السلطة والصيت.
- الرفد والمساعفة وهو مد يد المساعدة ورفع الضيق عند الحاجة، بالمساعفة عند حصول الضرّ (المرض، والفك من الأسر، والمساعدة على أداء فريضة الحج...) والتعبير عامة عن الاستعداد لمد اليد في جميع ما ينتظم ضمن منطق الكرب والحاجة حيث يتساوى الفقير والغني.
أما الوليّ فهو شخص عادي توفرت ضمن سيرته وفقا للتمثلات الجمعية للمغاربة أربع شروط أساسية، كشف عنها السرد ضمن النصوص المناقبية. شروط تعاد وتكرّر في كل النصوص متحوّلة إلى سَجِيَّةٍ. إذ يتعين على المريد أن يمر بمراحل تسمح له بالانسلاخ من وضعية الممتد ليصبح ممدّا. ولا تنظّم مدونات المناقب الشروط حسب تدرج زمني واضح، فمن الممكن أن تبدأ بالوقوف عند موت الوليّ، مما يقف شاهدا على تعارض النص المناقبي مع حاجيات المؤرخ. 
ومن بين الشروط المعلِّمة لمسار السلوك والولاية نذكر:
- الصدق في الصحبة حيث يتمثل مدلول الصحبة في توجيه الشيخ لمختلف الأحوال التي تعتري مسيرة سلوك المريد. لذلك تتراءى الصحبة في شكل علاقة أفقية بين شخصين لا يعلم كلاهما من هو الولي حقيقة. فعلى المريد أن يبحث عن صاحبه كما يتعين أن يكون الولي "صاحبا في الله" لتحصل الإفادة من سلوكه. فالصدق هو مكاشفة وحديث في كل شيء ما ظهر منه وما بطن، لذلك لا يحمل الأصحاب أو المريدين غير التقدير والاعتقاد في كمال شيوخهم.
- الالتزام بالدعوة والسياحة ولا يتضن ذلك نفس الدلالة المتصلة به حاضرا ولكن الأمر مرتبط بالإقدام على الدخول في سياحة روحية تمثّل شرطا من شروط تشييد مشروع الولي، بحيث تشكّل خروجا من الداخل ورجوع إليه. بحيث تتماهى طبيعة الشخصية للسالك مع الطبيعة الواسعة. فعند متصوفة المغارب لا يصدق الوليّ إلا عندما ينجح في بناء علاقة خاصة بالطبيعة تمكنه من مغالبة طبعه من الداخل أي فطرته الغريزية والانتصار عليها بنقض الجوع والتعب وغيرها من صروف الزمان وأرزائه. فللسفر سبع فوائد وهو على جميع ذلك طواف وطقس ديني لا تنحصر في نقطة انطلاق ونقطة وصول، لأن المهم هو المسافة التي قطعناها، وماذا أضاف الضرب في الأرض لمشروع الوليّ؟
- الانتساب إلى تيار صوفي سني مؤسِس وهو شرط يعكس مركزية المشرق قياساً لبلاد المغارب. فالدين الإسلامي دين مشترك مركزه المشرق. لذلك غالبا ما طرح المغرب اشكالية الانتماء وبناء الشخصية انطلاقاً من دونية مزدوجة، فالمغاربة يشعرون بأولوية المشارقة فيما يتصل باالانتساب إلى الإسلام الذي ولد بين ظهرانيهم. كما أنه حتى وإن احتل الغرب موقع الجار القريب بالنسبة لهم فقد شكّل ضمن مخيالهم الجمعي ثمرة مشتهاة لا يمكن الوصول إليها. وحتى وإن تحقّق ذلك الأمر في حق البعض منهم فإنه يتحوّل إلى مدعاة لتذنيبهم واعتبارهم مغرّبين بل و"علمانيين". ومهما يكن من أمر فإنه من الضروري أن نشدد على أن يكون الولي سنياً مالكياً فقد أجهد مؤلفو المناقب أنفسهم حتى يجعلوا من الولي شخصية تبرهن سيرتها عن أفضليها قياسا لسير علماء السنة. لأن العبرة والموعظة مهمتان جدا بالنسبة لمخيال الجماعة المسلمة مغربا، لهذا نجح أهل السنة المالكية من منظورنا في بناء توازياً بين التصوّف والتسنّن. وشكلوا بتلك الصفة فاعلين سياسيين دهاه وسعوا حضور مذهبهم من مياه المحيط غربا إلى خليج سيرت شرقا فارضين ما لا نتردد في تسميته بالتجانس المذهبي، دافعين بنحو حقيق حالة انسجام بين التسنّن والتصوّف. لذلك بدا لنا الانتساب مسألة حيوية فالتعلق بالمذهب السائد شرط أساسي لمشروع الوليّ الصالح لا يمكن له التموضع اجتماعيا وعقديا من خارجه.الانقلاب من الإرادة إلى المشيخة وهو شرط مزدوج يحيل على القلب كما يعنيه اللفظ لغة، كما يعني أيضاً الانقلاب، حيث يتحوّل السالك إلى شيخ أو إلى ولي صالح حجته في ذلك الانقلاب من أحوال السالكين إلى مقام الشيوخ، لا الأمراء أو علماء الدين. أما برهان المشيخة فهو الكرامة التي يتعين أن تنفلق دفعة بوصفها دلالة عن صفاء قلب الولي وباعتيار الكرامة الجزء الثاني والأربعين من الوحي على حد تعبير الحكيم الترمذي، بحيث تمنح السكينة طالب المشيخة قدرة على الامتلاء بجميل معاني الإيمان. وهو إيمان ينطبع في الداخل ويَقِرُ في القلب تأسّيا بما عبّر عنه الصحابي أبي بكر الصديق. فالسكينة التي يبحث عنها الأولياء تعوّل على التأمل بغرض السيطرة على صروف المعاش اليومي، أي على جميع الشروط التي أوردنها على غرار الحرم وتأمين السابلة والرفد والإيواء والإطعام، لأن الولي هو من يحضر حال تغيّب جميع المؤسسات العائلة، مؤثرا جميع من حوله على خصيصة نفسه مندمجا تمام الاندماج في العطاء من دون انتظر أي مقابل. 
ضمن تكرار هذه الصفات داخل مصنفات المناقب هذه الخصوصيات وهو ما يعني الاقتصار على ما هو مفيد، فمن يدرك ميع هذه المآثر يتحوّل إلى سلطان الحقيقي، لذلك نعثر ضمن شطحات الصلحاء مشرقا ومغربا على مثل هذه الادعاء حال الدخول في الجذب والخروج عن الحسّ: " أنا سلطان".
وعموما فإن ما يتعين الاحتفاظ به تقليب أوضاع التصوّف وأحوال أربابه مغربا هو: نجاعة "التزَوِي" وتوسّعه في إنشاء شبكات محطاته خلال الفترتين الوسيطة والحديثة مما ساهم في الحد من سيطرة الممانعة القبلية بعد اكتساح الفصائل العربية الهلالية لكامل مجال المغارب. وتوسيع الزوايا لآمال المستقرين والمنتجين من خلال ردّ الاعتبار للأنشطة الزراعية بتسهيل الزوايا لعملية التوغل ببوادي الدواخل، نشرا للأحكام الشرعية وتوفيقا بينها وبين مقتضيات العرف والعادة. 
كما تلاقت مصالح مختلف الطوائف وتركزت توجهاتها نحو الحدّ من خطورة "الحرابة" أو الممانعة القبلية ومواجهة التمركز الأجنبي على السواحل بعد انتعاش المد الطرقي. وتوصّلت بعض الطريق إلى تكوين "كتلا تاريخية" كان لها دورا حاسما في توفق الأشراف (السعديين مغربا) في بلوغ سدة الحكم بعد اعتضادهم بمؤسسات التصوّف بل وتأكيدهم على الخروج من معطف الصلاح وأربابه. في حين عبّر "المولّـهون" من "مجاذيب" الطرق الصوفية عن الضيق بالواقع المأزوم وجرّب من تمسّك بـ"الاحتساب" وتخفى تحت غطاء طلب الهداية أو انساق وراء إدعاء "المهدوية"، دخول تجربة الممانعة  السياسية ضد "الشرعية" القائمة، حتى وإن تمثلت السمة الفارقة التي علمت واقع التصوّف ومؤسساته بعد نهاية القرن السابع عشر في إعادة هيكلة دول المخزن لعلاقاتها بمؤسسات الصلاح من خلال حصر أنشطة معظم تلك المؤسسات الاجتماعية والروحية في تعهّد الأنشطة الخيرية والتظاهرات الدينية أو الثقافية. 
تلك موضوعيا أبرز المحطات التي توقفنا عندها في بحثنا عن خصوصيات التصوّف بمجال المغارب وتفحّص سير رموزه وتحديد الأدوار التي عادت لها طوال أمد زمني طويل جسر الفترتين الوسيطة والحديثة. 
ولئن لم تخرج أبحاثنا منهجيا عن الشروط الناظمة لصناعة التاريخ وفضّلت الالتزام بمقوماتها والاستفادة من مكاسبها أيضا، فإن طبيعة المتن المصدري الذي وظفناه لإنجازها قابلة للقيام بأبحاث متنوعة منها ما يتصل بالمأثورات التراثية غير المادية كمدونة الإنشاد وتوصيف الطقوس والمواكب الاحتفالية المقامة بأضرحة الأولياء، وذلك وفق معالجة أنتروبولوجية تتصل بالممارسات الدينية والثقافية تحديدا لآليات"التثاقف acculturation  " وتَعْيِير اتجاه التسوية فكريا نزولا إلى أسفل أو ارتقاء إلى أعلى. وتعكس الأبحاث الميدانية التي تم نشرها منذ موفى القرن التاسع عشر وطوال القرن الماضي، (Westermarck, Bel, Douté, Berque, Dermenghem, Gellner, Geertz, Eickelman… ) حصيلة معرفية هامة لا تزال رغم التقييمات الموضوعة بشأنها في حاجة إلى مراجعات متأنية تنشد الإنصاف وتُـموضع المجهود المعرفي ضمن إطاره الموضوعي، حتى نجسّر علاقة سوية بتوجهات تلك البحوث المنهجية ونتائجها المعرفيّة أيضا. علاقة تسمح بتنـزيل ما تم تحقيقه من نتائج - وبصرف النظر عن الأهداف المتخفية ورائها- المكانة التي هي بها جديرة. بقي أن نذكّر قراء هذه العروض أنّنا آثرنا إدخال تعديل على عنوان هذه الطبعة الجديدة للبحث باختصارها في "مغرب المتصوفة"، مجتهدين في تيسير إطّلاعهم على محصّلة أبحاثنا الحديثة في مجال تاريخ التمثلات والتاريخ الثقافي، مع العمل على تخفيف الهوامش المستجلبة وعرض المضمون في صيغة تتقصى التبسيط استجلابا للتواصل وتحصيلا لمتعة القراءة أيضا.

samedi 9 décembre 2017

التصوّف وتحولات مضمون ذاكرة التونسيين الجماعية












ما الذي يعنيه الانتظام الصّوفي في المجتمع التونسي حاضرا؟ كرست مختلف الممارسات المتصلة بالانتظام الصوفي تونسيا، طوال مرحلة ما قبل حضور الاستعمار، إطارا كشف عن كيفية اشتغال آليات الوساطة الاجتماعية، وتحصين الانتساب المشترك ودرعا ضد عدوانية الماسكين بالسلطة أو الخارجين عن القانون والممانعين ضدها. وتواصل اشتغال تلك الآليات خلال مرحلة الاستعمار، حتى وإن لم تعبر مؤسسات التصوف عن نجابة حقيقية في مقاومة الحضور الأجنبي. لذلك، يبدو من المشروع راهنا التساؤل بخصوص الأسباب الموضوعية التي تفسر تجدّد الاهتمام بالمقدس عامة، وبمؤسسات الانتظام الصوفي بشكل خاص، سواء ضمن المعارف الإنسانية والاجتماعية أو الكتابة الإبداعية والجمالية؟ وما حقيقة اتصال ذلك بنوع من التمسك بالماضي أو الحنين له؟ وما طبيعة علاقته بمأزق التحديث الفوقي تونسيا، بعد ثبوت إخفاقه في صياغة ضوابط أخلاقية جديدة تتماشى مع المدلول الحديث للمواطنة كونيا؟