mercredi 31 décembre 2014

جدلية الخيانة والمقاومة في شريط "عمر" لهاني أبو أسعد












شريط “عُمر” للمخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد الذي حصل على التانيت الذهبي لأيام قرطاج السينمائية في دورتها الخامسة والعشرين، إطلالة جديدة على الواقع الفلسطيني تحمل الكثير من الجرأة، من خلال التدقيق في تعقيداته والكشف عن صعوباته وفق حبكة روائية أبطالها ثلاثة شبان وفتاة يحاول جميعهم العيش بكرامة، لكن الاحتلال لا يرحم أحلامهم البسيطة، مستكثرا مدهم بأي فرصة حقيقية للعيش بسلام.
لم يبتعد المخرج كثيرا عن منجزه السابق في شريطه “الجنة الآن” (2005)، فقد بدا لنا وفيا لمنطلقاته الأصلية، متعمدا مع سبق إصرار وترصد الإبقاء على تفكير متابعي أعماله معلقا بين حقائق متعارضة. فقد فكّك شريطه الأول بمهارة عالية استحكام حالة التردد التي وقع فيها مجموعة من شباب المقاومة توجهوا لتفجير حافلة إسرائيلية حال انطلاق العد التنازلي لتلك العملية. لكنه غاص في شريطه الجديد عميقا في إدانة الاحتلال وتفكيك آثاره الكارثية على حياة الفلسطينيين، مقتربا من المقاومة الفلسطينية التي غالبا ما تم تصويرها ضمن الأعمال الفنية بشكل نمطي غير دقيقة.
شرّح هاني أبو أسعد بمبعض جراح ماهر علاقة المقاومة بالمحتل، فاتحا مساحة جدل غير مسبوقة أعادت ترتيب عناصر العقل الفلسطيني وكيفية تفكيره، لمّا أفاض في تفكيك أشكال الابتزاز التي يمارسها الاحتلال على الذات البشرية، عبر التلاعب بأرق العواطف والقيم، لدفع شباب المقاومة للسقوط في مستنقع العمالة والخزي.
يعود المخرج مع شريط عمر إلى ذات التوجه الذي علّم بداياته، حيث يصوغ الشريط ذات النفس الفني، عاملا على مزيد إثمار التوجه المتشعب الأبعاد والثنايا في كتابته السينمائية والسينوغرافية. تمزج حكاية الشريط بين واقع الاحتلال والمقاومة وحرب العصابات والاختراق والتضليل والجوسسة، وجميعها عناصر مهمة للنجاح من كتابة سينما "الأكشن" أو الحركة. فقد عبر المخرج عن تمكّن كبير من رسم تقاطيع شخصياته ودفعها لعيش وضعيات تحتّم اتخاذ ردود فعل سريعة حاسمة. استجلبت جميع تلك الخصال الفنية لخدمة حقيقة معقّدة لا علاقة لها بسذاجة كتابة سينما الحركة وبراءتها. فقد أصرّ هاني أبو أسعد على احتلال موضع متفرّد ضمن خط الكتابة السينمائية. فهو يولي عناية للأداء والنجاعة تتجاوز بكثير مقتضيات التحليل السياسي المتصل بموضوع المقاومة الفلسطينية، متعمّدا الإبقاء على مشاهدي أفلامه في حالة تحفز قصوى بغرض موافاتهم بوجهة نظره النقدية حول ما يراه أو ما يرويه.
ولأنه لا يبدو منخرطا تماما ضمن تيار سينما المؤلف ولا معترفا بضوابط الكتابة السينمائية التجارية، فإنه يقترح على مشاهدي شريطه الجديد قراءة مشوّقة ولافتة نجحت في المزج بدراية بين أسلوب كتابة سينما الحكاية البوليسية الأمريكية وجمالية القصّ السينمائي الفرنسي وفقا لكتابة مالفيل Melville  وطابع الدعابة في كتابة الفيلم البوليسي المصري، مع إضافة حكاية عاطفة نزقة تكون نهايتها غير سعيدة، محدثا بذلك جنسا هجين يطمح إلى إعطاء نفس متجدّد لنوعية أشرطة الثريلر thriller  بفتح أعين المشاهدين على مأساة إنسانية لا يمكن استيعاب تشعُباتها بالتعويل على أساليب الكتابة السينمائية القديمة.
تابع مخرج شريط "عمر" بعين متفحّصة تكوين مجموعة من الشباب الفلسطينيين الذين جمعتهم علاقة صداقة حميمة منذ الطفولة لخليّة مقاومة، عارضا تفاصيل استعدادهم ثم إقدامهم على تصفية أحد جنود دولة الاحتلال. على أن رد الفعل السريع والعنيف الذي جوبهت به عملية الاغتيال بعد إلقاء القبض على بطل الشريط "عمر" وتعذيبه، قد أثبتت انزلاق أحد المنفذين لتلك العملية في الخيانة وجعلت الشك يحوم حول "عمر" الذي اتهم إثر إطلاق سراحه بالتواطؤ والتعاون مع جنود الاحتلال.
كان على واضع هذه الحكاية أن يلتقي بالمساجين كما بالمحقّق معهم من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي. كان عليه أن يتعرّف على من اضطرهم الزمن إلى التحول إلى خونة ومتعاونين. لقد وظّف هاني أبو أسعد الواقع السياسي للفلسطينيين للوقوف على أوضاعهم المعيشية الصعبة ولاستغلال المأزق الذي تردّوا فيه، خدمة لحكاية أو عيّنة مخبرية عرض على مشاهديه مشاركته في توصيف أطوارها وتفكيك ألغازها. فقد شكل تنقل عمر المحفوف بأعلى درجات المخاطرة بالنفس بين عالمين يفصل بينهما جدار عازل تم بناؤه من قبل سلطات الاستعمار بالضفة الغربية، صورة مثالية لتحدي عدمية التمييز العنصري بتحدّ أشد تعنت وأرقى بطولة.
تحيل الصورة التي اشتغل عليها مخرج شريط عمر على بعد إنساني يتجاوز الواقع الفلسطيني الضيق لينخرط في كونية صراع مديد لم يجد طريقه إلى الحل، وظف أشكال متعددة وتقنيات ملتوية للهيمنة، هدفها الحيلولة دون استعادة شعب بأكمله لكرامته ودفعه قسرا ودون رضا إلى الاعتقاد في أن الهزيمة والانكسار قدر محتوم، لذلك ينبغي الخضوع للأمر الواقع والقبول بقواعد اللعبة وفقا لما سطّرته إدارة الاحتلال.
شريط عمر فيلم مهموم بإنسانية الفلسطيني، وفق معايير عالية الحرفية جعلته يعرض في أبرز المهرجانات وفي مقدمتها مهرجان “كان” حيث حصل على جائزة النقاد والترشيح للأوسكار وفق أعلى المعايير التجارية. تم تصوير الشريط على مدى ثمانية أسابيع في مدن الناصرة، ونابلس، وبيسان، ولعب أدواره الرئيسية إلى جانب آدم بكري، ليم لوباني في دور "نادي"، ووليد فاروق زعيتر في دور "رامي"، وسامر بشارات في دور "أمجد"، وإياد حوراني في دور "طارق". ورصدت شركة "إخوان زعيتر" في الولايات المتحدة مبلغا مليون ونصف من الدولارات لإنتاجه. 
https://www.youtube.com/watch?v=CsugbQHN5rc

         

mardi 9 décembre 2014

ما حجتنا إلى التصوّف حاضرا؟








    ما حاجتنا اليوم إلى دراسة الولاية والتصوّف والتعرض إلى مسارات كبار أربابه ضمن سياق يتسم بسيطرة قيم مدنية معولمة؟ تساعد الإجابة على هذا السؤال في توضيح الاهتمام المتزايد الذي نبديه حاضرا بمرجعياتنا الروحية واستكشاف الوسائل الكفيلة بتطويرها بشكل مستديم.
سنكتفي ضمن هذا المقترح بمحاولة البرهنة على توفر تيارين صوّفيين هما "الفرنشسكانية" نسبة إلى القديس فرانسوى داسيز (ت 1226) و"الشاذلية" نسبة إلى الشيخ أبي الحسن الشاذلي (ت 1258م) على قدرة لاستيعاب مسائل دقيقة تتعلق بسجل القيم المرتبطة بفكر الحداثة. فعلى الرغم من صدورهما أصلا عن توجهات دينية توحيدية محافظة، فإنهما تمكّنتا ماضيا ومن دون السقوط في تشغيل آليات الوصاية، إلى طبع وعي جمّاع المؤمنين، بينما تواصل تأملاتهما حاضرا شدّ انتباه شرائح واسعة من المهتمين بمجال التديّن والروحانيات ضمن عالم تسوده قيم كونية تصدر عن فكر عقلاني يؤمن بالتعاقد المدني ويعلي من فضائل المواطنة.
سنتعقب تدرّجا وضمن هذه القراءة المعيارية ثلاثة أبعاد متضامنة هي على التوالي:
-       التقاطعات المترتبة على الحفر في سيرتي حياة كل من أبي الحسن الشاذلي وسان فرنسوى داسيز
-       وعلاقة الولاية بمسألة الضمير الجمعي في التجربتين الشاذلية والفرانشيسكية  
-       عودة الديني ورد الاعتبار للمسألة الروحية حاضرا              
سير متقاطعة:
ليس قليل في حق ما نحن بصدد اختباره التشديد على طرافته وقلة وروده من قبل العارفين بموضوع التصوّف، ومختلف الأبعاد المتصل به فكرا وممارسة. فقد درجت المعرفة العالمة على تناول موضوع التصوّف من بوابة التفريق بين التعاليم السلوكية للتدين الإسلامي والتعاليم المتصلة بنظيره المسيحي، بين حضارات الشرق وثقافاته ومثيلاتها المتصلة بالمجال الغربي. غير أن سعينا يستهدف الحفر في التقاطيع المتصلة بسيرة علمين بارزين للتصوّف القاعدي، شكّلت القيم التي عملا على نشرها مصدر تأثير حاسم على ضمير المؤمنين الجمعي شرقا وغربا، ومكّنت التعاليم التي  دافعا عنها من تجديد مقاصد التفكير الديني لدى المسلمين كما المسيحيين.
فلئن لم نتوفر على معطيات دقيقة تتصل بتنشئة الشيخ أبي الحسن الشاذلي الذي ولد في حدود سنة 1196م، تضارع تلك التي بحوزتنا حول طفولة القديس فرانسوى داسيز الذي يعود تاريخ ميلاده إلى سنة 1181م وحول شبيبته، فإن الوسط البربري المنكفئ الذي احتضن الشاذلي صبيا عند جبال الريف شمالي المغرب الأقصى، لم يعدم وعلى سيطرة مختلف أشكال التدين الشعبي داخله، بروز شخصيات سنيّة فاعلة أثرت في ترقيته الذوقية وتكوينه الديني على غرار شيخه عبد السلام بن مشيش دفين جبل العلم (ت 1228) والمحسوب على مدرسة أبا مدين شعيب البجائي (ت 1198) الصوفية. كما ثبتت استفادة الشاذلي حال استقراره بإفريقية، حيث هز وجدانه واقع خصاصة ساكنتها، من الانخراط في تيار الترقي الصوفي الذي نشّطه شيخ "مغارة المعشوق" أبي سعيد الباجي (ت 1231)، وهو أيضا من أعلام الصلاح الذين ثبت ترقيهم في مجال السلوك على يد أبي مدين شعيب البجائي دفين عبّاد تلمسان.
لا تحيل مرحلة طفولة قديس أسيز على نفس التوجهات. فقد نشأ فرنسوى ضمن وسط حضري مستقر وداخل عائلة امتهن ربّها تجارة النسيج. كما عاينت شبيبته انخراطا في ممارسات، لا يتعارض تمسكها بحسن التدبير، مع حضور علامات السعة والترف وطلب المتعة والإقبال على ملذات الحياة. ولئن لم نحصل على معطيات دقيقة تكشف عن أشكال ترقي قديس داسيز الروحي، فإن اصطدامه هو أيضا بشدة بؤس المصابين بمرض الجذام، قد حرّك وجدانه للوقوف في صفّ من أضناهم الألم وتملّكهم رعب شديد من مجابهة الفناء دون تشوّف للخلاص في الآخرة.
مارس الشاذلي دورا أساسيا في ترقية الكافة ضمن سياق إفريقي عرف تحولات سياسية فارقة مكنت من صعود سلالة حاكمة جديدة وبروز أطراف فاعلة تمثّلت تحدياتها في فرض التهدئة ومدّ سيطرة الدولة على أوسع رقعة من مجالها الاعتباري، في حين عاينت مدينة أسيز الإيطالية مع حلول القرن الثالث عشر تطوّرات سياسية مهمة مكنت الأوساط الشعبية من بين التجار وأصحاب الحرف الميسورين من تقاسم النفوذ مع الفئات الأرستقراطية المهيمنة. وهو طموح أُوْدِعَ ببسب النضال من أجل تحقيقه فرنسوى في السجن طيلة سنة كاملة، خرج على إثرها منهكا مريضا منخولا البنية.
واجه الشاذلي توجّس حكام إفريقية من مشايخ الهنتاتين واحتساب علمائهم بخصوص دعواه المُعلية لنبل نسبه في الطريق وترقيه في مجال التأمل الصوفي منّة من الله وفيضا دون مجاهدة صدق، في حين كابد فرنسوى امتعاض وسطه الاجتماعي من تعلّقه بالمجاهدة والزهد، وإسرافه في الجود وإعلاء قيم الإحسان تجاه المعدمين من البائسين والفقراء.
اضطر الشاذلي إزاء تعنت السلطة ووشايات بطانتها من بين علماء الدين الذين أوغروا قلب مؤسس السلالة الحفصية ضده، مدعين تلبس دعوته بنزغة مهدوية مضمرة، إلى مغادرة إفريقية للاستقرار بمدينة الإسكندرية المصرية، وذلك حتى موعد وفاته سنة 1258 عند واحة حميثراء على الطريق المؤدية إلى بلاد الحجاز.
إلا أن رحيله النهائي عن إفريقية لم يمنع من تشكّل شبكة للأصحاب أنشأت طريقة صوفية طوّرها المقبلون على تطبيق تعاليم الشاذلي وأذكاره مشرقا، فامتداد بذلك بقعة الزيت لتشمل مجالات واسعة من بلاد الإسلام على غرار إفريقية ومصر والمغرب الأقصى والأندلس. 
أما في الجانب المقابل، فقد قرّر فرنسوى دسيز، بعد أن تعاظم الاحتساب ضد تصرفاته وأصر والده على مقاضاته بتهمة تبديد ثروته على المعدومين من الفقراء، الاحتماء بسلطة البابا الذي وقف في صفه وشد أزره في مشروعه الرامي إلى تكوين نظام ديني يجعل من العيش بين المعدمين وفاقدي السند شرطا توجيهيا في صدق الإيمان، معيدا الاعتبار إلى قيم الفقر والتمسّك بعزاء الله، عبر الإقلاع عن جميع مظاهر السحت واستغراق الذمة وتكديس المال والإسراف في اكتنازه، دون الاعتبار بتوقّف الحصول على الخلاص في الآخرة بتغليب الجود والإيثار عمّا سواهما.
وهو توجّه اعتبرت به المسيحية الكاثوليكية، لما تواضعت على وسم فرنسوى دسيز إجلالا وتعظيما حال إلحاقه سنة 1230 بمصاف القديسين بـ"الفقير Pauvrilo " وربط نظام الأخوة الدنيا frères mineurs باسمه، وذلك لتناظر ما كرسته سيرته مع ما أنجزه المسيح روحا ومعنى، لما آثر أن يضحّي بنفسه من أجل ضمان خلاص باقي المؤمنين.
الولاية وإشكالية الضمير الجمعي:
تمسّك أرباب الزهد والصلاح منذ القرن الثالث عشر بدور الوساطة الذي مكّن مختلف مؤسسات الترقية الروحية والتضامن الاجتماعي التي أحدثوها، من أخذ موقع محوري في تطوير أشكال المخالطة والتقارب، خاصة بعد أن توسّعت رقعة الأنشطة المستقرة وازداد الاحتياج إلى تطوير مؤسسات الدولة باتجاه الضبط الترابي للمجال، تجاوزا لضيق رابطة النسب والولاء القبلي.
لذلك خرج الصلاح عن تقاليد الانكفاء ومارس بكثير من النجاح أدورا لم يُهيأ له توليها سابقا، على غرار الإغاثة والرفد والوقوف في صفّ المعدمين والحثّ على توسيع الأنشطة المستقرة والحفاظ على الأمن ونشر العافية.
وليس بعيدا أن يكون هاجس تجذير مختلف تلك الطموحات، هو الذي كان وراء الطابع النفعي الذي اتسمت به أَيَامُ مؤسسات التصوّف وأعمال المحسوبين عليها. فقد شدّد أبو الحسن الشاذلي على أهمية مسألة تجديد التوبة أو ما نعته بالولادة الثانية من خلال التركيز على افتقار الكافة إلى الله وحاجتهم الماسة إلى الانخراط في ما وسمه بمشروع الهداية، مما ينهض حجة على أن المسألة السلوكية أو التربوية قد استقطبت كامل اهتمامه قياسا لجميع التصوّرات الذهنية المجردة التي قادت العارفين بالأحكام الشرعية أو غيرهم من أصحاب الفكر الحر.
فقد أعلت الشاذلية من مكانة العلوم العرفانية المترتبة على ما وسمه شيخها بـ"الهُدى الرباني"، ويتمثل مدلوله العملي في حصول انقلاب جذري يتدخّل بموجبه الله مباشرة بغرض تحرير شخصية الولي من قيود الغريزة والأنانية لجعله أشد حبا للإنسان من حيث هو إنسان، ودفعه إلى إدراك معاني الواجب والتضحية والفداء، بعد تخلصّه بمنّة من الله من بلاء النفس وتحوّله إلى موضع لألطافه. وهو ما نعته الضالعون في علوم العرفان بـ "شهادة الحق لنفسه بنفسه عبر الكائن البشري الفاني"، حال تحوّل الولي "إلى مظهر للنور المحمدي" أو إلى "مرآة تنعكس على سطحها جميع معارف النبوة".
ويشترط في بلوغ هذا الشأو - وفقا لما أُثر عن الشاذلي- تطهير الذات وتعويدها على الرضا بالمنزلة التي قدرت لها في المشيئة، باعتبار أن الكل واحد، فالأعلى محتاج إلى الأسفل حاجة الرأس إلى الرجلين. وأن الكمال معلّق بالاعتبار بالفقر، لأن "عمدة الفقراء الغنى بالله والرضا بمجاري الأقدار. [فـ] القلة والكثرة يحدّدهما المعنى لا العدد، [لأن] الشمس واحدة كثيرة المعاني والنجوم عدد كثير قليل عند طلوع الشمس."
في حين شكل الاحتكام إلى إعادة صياغة مدلول الرحمة miséricorde ضمن المعجم الإنجيلي بالتعويل على القرب من جميع من أصابهم الضر ونخل أجسامهم المرض في تجربة قديس أسيز، فرصة للإشادة بما وسم بالأخوة في المسيح، المبنيّة على تجديد التوبة أيضا وتنقية الإيمان وعدم التخلي عن المعذبين، تأمّلا لمعاني التبشير العميقة في حثّها على المحبة في الله والتمسك بصحوة الضمير الجمعي من خلال إسعاف المعدمين، توافقا مع مقاصد الإنجيل في الربط بين العدالة والرحمة، دون حاجة إلى تحريك نوازع التصادم أو المغالبة العنيفة، بل بتشجيع الكافة على الإسهام في نشر تعاليم المسيح بين جميع بني البشر.
يشير قديس أسيز ضمن وصيته إلى أن "من ثبّت خطاه ويقصد الله طبعا، هو من دفعه إلى مخالطة المصابين بالجذام ومؤانسة وحدتهم تلطّفا ورحمة، وهو من حرّك أيضا مشاعره باتجاه استيعاب صورة الإنسان- الرب مجسّمة في سيرة المسيح الفقير المعذب. فضميره الحي كان بحاجة إلى تأمل قسوة العوز والضرّ، لكي يخلُص لمناجاة الله والقرب منه. وهو عين ما قصده قديس داسيز، لما أعلن على الملء في ثقة وتسليم وأمام أسقف المدينة، أنه لن يعيد مستقبلا ما لاكته الألسن في تضرعها لله عبر نعته بـ "أبونا الساكن في السماوات Notre père qui est au cieux"، لأن مطلق الحول لا يتعين أن يعود إلا على من وسعت رحمته معذبي الأرض أولا.
ارتدى قديس دستز مرقعة الزهاد معتكفا بالمرتفعات القريبة من مسقط رأسه، مُعرضا عن تكفّل الكنيسة بمصاريفه، من خلال دعوة الكافة إلى التصدّق عليه ومنحه إحسانهم، حتى يتمكن من تشييد كنيسة جديدة أرادها أن تكون موضعا للإخلاص لله و"حمد المسيح وتعظيم إباءه وتضحيته التي أنقذت الإنسانية قاطبة".
ساهم التنسك إذن في دفع قديس داسيز إلى الكشف عن المدلول العميق للخلاص، عبر استبطان تجربة المحبّة أو العشق التي عاشها المسيح la passion du christ. فقد ساعفه التأمل في سيرة المسيح وفقا لما صاغته الأناجيل، إلى المسك بمطلبه عبر دعوة أصحابه، على غرار ما فعله المسيح مع حوارييه، إلى ارتداء لبوس النسك والتفرّغ للتبشير من خلال الدعوة إلى تجديد التوبة بغية بلوغ السكينة والحصول على الخلاص.
وهكذا فلئن تعارضت الدعوة إلى النسك والتبتل ظاهريا مع توسيع دائرة المخالطة والاحتكاك بالناس، فإن مقصد قديس داسيز لم يكن الإعراض مطلقا عن سجل قيم النبالة التي تشبع بها أثناء شبيبته، بل وعلى العكس من ذلك توسيع انتشار تلك القيم الفاضلة تحديدا، كي تشعّ وبفضل الانقلاب الداخلي الذي أحدثته تجربته التأملية على جميع الشرائح المعذبة أو البائسة من خلال تسليط الضوء على مشاكلها لأن الخلاص موصول بالإيثار، وأن المغزى العميق من تجربة عشق يسوع متّصل  باستعداده للتصدّق بحياته من أجل إنقاذ حياة بقية المؤمنين.
لم يتخل قديس داسيز، وحتى آخر أيامه، إذن على القناعات التي تربى عليها صغيرا، تلك التي تحيل على قيم النبالة ومعجمها الكيّس أو الراقي في كيفية تحقيق الرضا على النفس وبلوغ مرتبة السعادة، إلا أن اصطدامه بالمعذبين هو الذي قلب منظومة المقاييس التي حددت مسيرته سابقا، دافعا إلى مزيد الانخراط في الحياة العامة والاختلاط بالمعوزين ومنحهم عطفه الوقوف الكليّ في صفهم مجانا، حتى وإن كلّفه ذلك الخروج عن جميع رهانات معاصريه. على أن تجربته تلك لم تنجل عن رغبة مكدودة في الهروب إلى الأمام وتقديم الانكفاء باعتزال الخلائق، بل أدت وعلى عكس ذلك إلى زيادة انغماسه، على غرار المسيح تماما، في مشاكل عصره والعمل على مجابهتها، بفتح أفق جديد يعترف للبائسين والمقهورين واليائسين بإنسانيتهم بعد أن أمعنت في إقصائهم نخب السلطة والمال.                           
عودة الديني وإعادة الاعتبار للمسألة الروحية:
حسمت ثقافة المغاربة الروحية منذ القرن الثالث عشر، وإذا ما تمعنّا جيدا في مدلولها العميق، في أولوية الاعتبار بالمحبة، وهي ركن مكين اعتضد به المغاربة في إخصاب حياتهم الروحية وفي تمثل الربطة التي تصل المؤمنين بالله وبرسله أيضا، معرضين عن الاستسلام إلى مربع الخوف الحامل كرها على القبول بالوصاية والاستغناء عن الإرث الروحي الذي شكله المد الصوفي وخاصة بعد اكتمال تجارب التزوي على المنوال الطرقي.
كما انجلت تجربة قديس أسيز الصوفية وجميع المحسوبين على نظامه الديني من ناحيتها، على محورية تجربة المحبة في تشجيع الانفتاح على من طالتهم الخصاصة والفقر والمرض، أولئك الذين لم يبد أهل الجاه والمال أي اكتراث بآلامهم. لذلك يستقيم أن نعتبر بسرعة تفطن أرباب الصلاح خلال الفترة الوسيطة المتأخرة إلى محورية الأدوار التي لعبتها مؤسسات التصوّف وزواياه في إعادة تشبيك العلاقات الاجتماعية وصياغة إطار جديد للتفاوض وبناء الثقة بين الحكّام والمحكومين، وتطويق الصراعات بين الفئات المستغِلة والفئات المستغَلة.
غير أن ما استرعى انتباهنا حاضرا، وإذا ما نحن تجاوزنا مختلف القضايا التي طرحها ولا يزال التنقيب في مختلف الملفات المعرفية المتصلة بموضوع التصوّف ماضيا، هو التفكير في مدى معقولية اندراج مسألة التصوّف في ما تواضع مفكرو الغرب على تسميته بعودة الديني أو ردّ الاعتبار للمسألة الروحية؟ وهل تمثل عودة السجال بخصوص مسألة المقدس ضمن المعارف المتصلة بعلم الاجتماع الديني تعبيرا عن حالة من التمسك بالماضي أو الحنين له؟ أم أن الأمر متصل بالصعوبات التي تعرفها مختلف المجتمعات البشرية حاضرا في تجديد الضوابط الأخلاقية تواؤما مع قيم الحداثة وبناء توازن حقيقي بين الدعوة إلى رفع القداسة عن مجال الفعل السياسي، من ناحية، وضرورة احترام مختلف القيم الناظمة للحياة الروحية تساوقا مع الحاجة الملحّة التي تبديها المجتمعات الحديثة إلى مزيد التدقيق في الانقلاب الحاصل على سجل قيمها الأخلاقية والروحية والجمالية من ناحية ثانية؟     
ما من شك في تحول تجربة قديس داسيز إلى ما يشبه الأسطورة المعلِّمة لذاكرة التديّن المسيحي الكاثوليكي غربا، بل وإلى نموذج معياري لتجارب التصوّف المتأثرة بتعاليمه بامتياز son modèle normatif par excellence.
فمجرد أن انحاز فرنسوى داسيز إلى صف الفقراء عبر إحداث نظام ديني يشترط التزام المنخرطين فيه بالكامل في معاش الفقراء، فإنه قد وضع موضع تطبيق تصوّره القاضي بتحديد أشكال الترقي السامحة ببلوغ مستوى السكينة بمجرد الإقبال على الإيثار، تشوّفا إلى تحقيق السعادة والخلاص. هذه التصورات هي نفسها التي عملت على إثمارها العديد من الحركات السياسية شرقا وغربا على غرار الديمقراطية المسيحية الغربية والتيارات المسيحية الداعية إلى الانعتاق والتحرّرthéologie de la libération  بأمريكا الجنوبية، تلك التي حوّلت منذ سبعينات القرن الماضي قديس دسيز إلى حامي المعذبين والمعدمين، وجعلت منه المؤسس الحقيقي لما وسمته بـ "كنيسة الفقراء". على أن يتحوّل وخلال ثمانينات نفس القرن إلى رمز مُلهما للحركات البيئة أو الايكولوجية وذلك من خلال التشجيع على مزيد بناء توازن حقيقي بين الإنسان والطبيعة، والحد من التعرض بين مصالح بلدان الشمال وبلدان الجنوب خاصة بعد التأكد من نضوب الموارد الطبيعية والحدود الموضوعية لعملية الاستنزاف الاقتصادي لتك الموارد كونيا. على أن تشكّل تجربة قديس دسيز الروحية وخلال السنوات القليلة الماضية مثال للتواصل الذي ينبغي أن يسود علاقات جميع الناس بالمسألة الدينية بالتشجيع على الحوار بين الديانات وذلك في إطار ما تمت تسميته بـ"ـفكر داسيز l’esprit d’Assise" تلك المدينة التي تحولت بعدُ إلى مركز روحي كوني جدّدت توجهاته المنفتحة التصوّرات الدينية الرسمية للكنيسة الكاثوليكية بالفاتكان.                               
وفي المقابل فإن رفع حُجب القداسة عن الفعل السياسي لم يكن بالأمر الهين داخل المجال العربي الإسلامي، غير الحراك الذي عاينته بعض مجتمعات ذلك المجال خلال السنوات القليلة الماضية قد ساهم في إجلاء غموضه وحوّله حاضرا إلى علامة مبذولة ضمن مشهدها السياسي اليومي، حتى وإن لم يشغل أمر إعادة الاعتبار للمسألة الروحية وضمن الحوار الساخن القائم بخصوص علاقة الهوية بالمعتقد، حيّزا يكفل الاهتمام به وإنضاجه تطلّعا إلى ربطه عمليا بفضيلتي الحرية المواطنة 
ولئن ساهم التراكم المعرفي الذي وسّعت المدرسة في قاعدة اقتسامه حاضرا، في إلقاء كاشف الضوء على مآخذ خطاب الإسلام السياسي بجميع توجهاته، وهو ما يُعلي على الحقيقة من مكانة المقومات المدنية للدولة، ويتصدّى لمعاول الهدم التي تستهدف مكتسبات الحداثة، على غرار ما عينته القوانين الناظمة للأحوال الشخصية تونسيا، وبداهة الاختلاط بين الجنسين، والتسامح بخصوص العديد من الممارسات الاجتماعية والتقاليد غير المتطابقة بالضرورة مع الأحكام المستندة لفقه الحلال والحرام وهو واقع لم يترتب عليه، وإذا ما تجازونا حرارة السجال القائم على المناكفة بين فرقاء النضال السياسي والصراع الأيديولوجي حاضرا، سقوط تلك المجتمعات في حالة من التفسخ الثقافي والديني المؤذن بخروجها عن الإسلام والتخلي عن الشحنة الروحية التي تُمثل عنصرا محوريا في تنظيم الواقع الاجتماعي والتقاليد العائلية، بل والحياة الشخصية أيضا.
ولأن المسألة روحيّة بامتياز، فإن اقتلاعها من ذلك الإطار، لحشرها بالقوة ضمن مربع الصراع السياسي، بعد رفع حُجب القداسة عنها من خلال المراهنة مجددا على الاستثمار في ما وسمه "ماكس فيبر Max weber" بـ"اقتصاد الخلاص"، مغامرة تفوق مساوئها في اعتقادنا المكاسب الآنية السريعة المترتبة على تشغيل آلياتها مجدّدا. لذلك لابد من التفطّن إلى حساسية التعامل مع هذه المسائل من وجهة نظر الاعتراف بحرية الأفراد في استجلاء الرصيد الروحي المتوافق مع مضمون مساراتهم الحياتية، والتعامل مع قضية المعتقد من زاوية الدفاع عن الحريات، ومن أجلّها تلك المتّصلة بالجوانب الروحية، من خلال التعبير عن الرفض الصريح لمنطق الإكراه المبني على بَلْوَى الإجماع، وجلب المنفعة عبر وصل الدين بالمعرفة المحكّمة الدقيقة. فاستجلاء المسائل الروحية يحتاج إلى تفكيك دقيق للظواهر الناظمة للذهنيات، ومعرفة جيّدة بسجل القيم ومستويات تمثّل الوجود وتجريد ما ورائه، ومضمون السيطرة الحقيقية والمتوَهَمة على العالمين المادي واللامادي. وهي مهمّة لابد من الاعتبار بمحوريتها في إنجاح مشاريع التنمية تجاوزا لثنائية "الشرك" و"الإيمان"، وتطلعا لفتح حوار هادئ رصين حول مسألة "إعادة الاعتبار للروحي" كحق من حقوق الإنسان، يشترك فيه المتدين وغير المتدين، المؤمن بالإسلام وغير المؤمن به، وتضمنه الحريات الشخصية في مدلولها الكوني

vendredi 7 novembre 2014

In memoriam de Abdelwaheb Meddeb











« Si, selon Voltaire, l'intolérance fut la maladie du catholicisme, si le nazisme fut la maladie de l'Allemagne, l'intégrisme est la maladie de l'islam », La Maladie de l’islam (Seuil, 2002)





vendredi 17 octobre 2014

ميثاق من أجل اقتراع نافع ومُجْدِي







نحن الناخبون من أجل ضمان عيش كريم في بلدنا تونس، ننحاز وضمن سياق سياسي يتسم بطبيعته الحرجة وتوقيا مما نتوجس أنه الأسوأ، إلى الدعوة إلى الاقتراع النافع والمجدي من دون أن يترتب عن موقفنا سقوط في التبسيط
أو مقاربة ساذجة لمميّزات السياق الزمني الذي نحياه. ولأننا نعبّر عن رفضنا المبدئي لجميع أشكال الحطّ من الحقوق المدنية المكفولة دستوريا لجميع من يشتركون معنا في الانتساب إلى نفس الوطن، فإننا نشدّد على وقوفنا في وجه كل المحاولات الرامية إلى إعادة إنتاج منظومة الحكم الدكتاتوري أو السماح لأي سلطة ذات طبيعة دينية معلنة أو مبطّنة بالحلول محلّها.
ولأننا نعتقد كذلك أن التحليل الموضوعي لما حصل خلال السنوات الثلاث المنقضية وما ترتب عليها من حصيلة سلبية جد جسيمة أوشكت أن تُجهز على ذاتيتنا الوطنية المشتركة وعلى تطلّعات شعبنا في اللحاق بركب الأمم المتقدمة، فإننا مقتنعون بأن اللحظة التاريخية الراهنة لا تتناسب بالمرة مع الدعوة إلى فتح باب الاختيار الحرّ. لذلك نعلن بوضوح أن معظم من آثروا صياغة برامج انتخابية سياسية واقتصادية وبيئية وحتى ثقافية أحيانا قد أخطئوا القصد، ولم تتسم جهودهم - على نواياهم الطيبة- بأي نضج سياسي باعتبار ما تضمّنته تصرفاتهم تلك من دفع غير واعي بالبلاد إلى السقوط في المحظور والوقوع خارج حركة التاريخ وتعريضها تبعا لذلك إلى الاندثار حضاريا نظرا لتفاقم صعوباتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
إن رفضنا لصيغة الاقتراع الحرّ في الانتخابات المقبلة لا يعني دعوتنا إلى التنازل عن حقوقنا/ واجباتنا الدستورية، بل هو تشجيع للناخبين وعلى عكس ذلك تماما حتى يُقْدموا بكثافة على الاقتراع النافع والمجدي الذي تأمّنه شروط تعاقدية تتّصل بمراقبة التزام الأطراف المنتصرة بوضع الحوكمة الرشيدة موضع تطبيق بمجرد وصولها إلى السلطة. ومن أبرز تلك الشروط نشير بالأساس إلى:
• احترام الحريات الشخصيّة وفقا لما نص عليه الدستور.
• المحافظة على السيادة الوطنية.
• إرساء مبدأ الصراع التوافقي سدا لذريعة العودة إلى منطق الوصاية الفكرية والمواضعات الجماعية.
• العمل على الانتقال بمبادئ الحوكمة الرشيدة من إطارها النظري الفضفاض إلى مستوى التطبيق على أرض الواقع.
• إعادة الاعتبار إلى العمل كقيمة سامية، وتشجيع الاستثمار عبر تطوير ثقافة خلق الثروات وتنميتها.
• الارتقاء بالثقافة السياسية وبأخلاقياتها والاستبطان العميق لاحترام المؤسسة العامة.
• إصلاح النظام التعليمي وضمان التكوين المفضي إلى الحصول على ملكات حقيقة، لا على شهادات لا تعكس امتلاك أصحابها لأي كفاءة.
• توجيه مختلف الخطط الثقافية والسياحية والتراثية لخدمة التنمية الجهوية والمحلية بمختلف جهات البلاد وأقاليمها.
  

samedi 4 octobre 2014

Interrogation identitaire et dialogue interculturel au Maghreb













       L'interrogation identitaire traverse aujourd'hui la majorité des sociétés de la planète ce qui est, en partie, une conséquence de la mondialisation qui brouille les repères. Mais, dans certaines parties du monde, cette interrogation se transforme en véritable "panique" identitaire : soit dans les grandes puissances qui voient leur hégémonie contestée (Europe, classe moyenne blanche aux Etats-Unis), soit dans les régions où la récurrence de cette question a pu être renforcée par les ingérences occidentales. Et, dans tous les cas, des idéologies se trouvent là pour répondre à cette panique en prônant un retour à une supposée pureté d'origines en grande partie fantasmées.
C'est le cas du monde arabe, où la question identitaire présente toutefois quelques particularités. Alors que dans une bonne partie du monde, et en particulier dans les démocraties européennes et américaines, le multiculturalisme devient une modalité majoritaire du vivre ensemble, le monde arabe se caractérise par sa difficulté à intégrer cette dimension dans son mode d'être.
Les idéologies nationalistes, comme celles s'appuyant sur le référentiel religieux, se caractérisent par un refus de la pluralité et la volonté d'assurer l'hégémonie absolue de l'arabité, ou de l'islam, ou plus généralement des deux conjointement, sur l'ensemble du patrimoine culturel et du fonctionnement politique et sociétal des pays considérés.
Au Maghreb, la période postcoloniale se caractérise par la marginalisation des minorités ethniques et la disparition quasi-totale des minorités religieuses. D'une certaine façon, alors que les pays dits développés et certains pays émergents se "multiculturalisent", on est majoritairement dans les pays du monde arabe à la recherche éperdue d'une introuvable pureté identitaire.
Les débats autour de l'identité restent donc vifs, comme si cette marginalisation et/ou cette disparition des minorités n'avaient pas réglé la question. Plus encore, ils réactivent les lignes de clivage entre partisans d'un Maghreb ancrée dans une pluralité ethno-historico-religieuse assumée et ceux d'une unicité revendiquée. Les deux pôles autour desquels se cristallise cette question n'ont pas cessé de se faire face. Les élites, comme l'ensemble de la population, hésitent entre une maghrébinité intégrant l'ensemble des apports et des stratifications historiques qui font le Maghreb d'aujourd'hui, et une arabo-islamité qui aurait enseveli ces apports pour occuper la totalité du champ identitaire.
Un état des lieux à partir de quatre dimensions qui sous-tendent cette question (le fait berbère, le fait juif, l'appartenance à l'espace méditerranéen et le rapport aux origines africaines et aux minorités noirs) méritent d’être scruter de près pour en savoir plus sur la disposition des populations maghrébines actuelles à apprécier leurs diversités culturelles ainsi que leurs multiples appartenances:
Mais au fait, que ce qui crée autant de résistances à la prise en compte du melting-pot culturel, comme constituant de l’identité maghrébine plurielle? L’un des plus gros obstacles, vient de la charge culturelle et religieuse adossée à la toute puissance du credo. A chaque fois, on est obligé de faire des concessions à la mythologie « arabe », au détriment de la pluralité et de la rationalité historique. Au fond, on a besoin que les gens réalisent que leur identité n’est pas le centre du monde et qu’il y a le genre humain au-dessus de tout cela. Le fait que très peu d’intellectuels et membres de l’élite, politique, économique et culturelle, osent se démarquer publiquement des croyances partagées et de l’idéologie religieuse de l’Etat, semble, inquiétant. Nous pouvons donc affirmer que les gens ont peur d’être bannis socialement. Il y a des lignes rouges que personne n’ose dépasser et sur lesquelles veille l’Etat.
Au moment même ou notre histoire commune fortement marquée par le discours et l’idéologie nationaliste, doit impérativement, laisser la place à une histoire post-nationaliste qui  sera, toujours tout à la fois  une histoire polyphonique, critique et ouverte, qui saura élargir ses curiosités et son champ d’investigation et regarder bien au-delà du « pré carré national», on se rend à l’évidence de la carence d’enseignements et de travaux consacrés à l’histoire des peuples et des civilisations de l’Orient ancien. On ne compte quasiment aucun spécialiste de l’Egypte ancienne, de la Phénicie ou de la Mésopotamie, aucun spécialiste, toutes périodes confondues, des diverses civilisations ou grands pays de l’Extrême-Orient, de l’Amérique du Sud et même de l’Amérique du Nord, de l’Afrique subsaharienne et de la plupart des principales aires géo-historiques et politico-culturelles européennes, aucun spécialiste non plus, de la Turquie et de la Perse modernes ou même du Machrek arabe des quatre ou cinq derniers siècles. Une bonne et meilleure connaissance de l’Autre, ne peut que nous aider à approfondir davantage, l’étude de notre propre  histoire et d’accéder par la même occasion, à une meilleure intelligence de nous-mêmes.
C'est sur cette ambiguïté ou sur cette équivocité que s'est construit le discours officiel nationaliste. Les Maghrébins ne sont pas uniquement arabes mais ne savent pas vraiment, définir "l'autre chose" qui les constitue. Pour les défenseurs d’une identité arabo-musulmane, la centralité ne suffit pas, c'est l'exclusivité qui est exigée. Il s'agit de fondre le Maghreb dans l'espace de la nation arabe et de gommer toute référence susceptible de l’éloigner de cette conception.

La référence à la Méditerranée, dans le discours officiel en arabe, a été quasi-inexistante, de même d'ailleurs, que l'appartenance du Maghreb à la francophonie. Les nouveaux Etats-nationaux du Maghreb ont constamment entretenu un rapport ambigu à la berbérité. Les discours officiels ont toujours, tenu à affirmer l’autochtonie de la population juive, mais, dans les faits, rien n'a été fait pour les persuader de ne pas partir. Cette duplicité est due à une série de facteurs qui se sont conjugués pour occulter une telle autochtonie, qui n’est signalée dans aucun manuel d'histoire. Ceci étant dit, il n’est pas superflu cependant de remarquer que la question de la multiplicité des appartenances n'est pas pour autant un taboue dans tous les pays du Maghreb, bien au contraire, elle connaît même depuis quelques années, un regain d’intérêt. Comme si, face au projet politico-idéologique islamiste, d'exclusion de toute pluralité, la mise en avant du multiple constituait une ligne de défense contre la construction d'une identité nouvelle dans laquelle le réel ne pourrait se reconnaître. 

vendredi 26 septembre 2014

طلياني شكري المبخوت كاماسوترا بنكهة يسارية











لست أدري ما الذي دفعني حيال قراءة رواية "الطلياني" لشكري المبخوت، وهو عمل روائي أول غاص بمبضع جراح ماهر في سمك سياقات الثلث الأخير من القرن الماضي، عارضا على قراءه وضمن سردية قصصية محكمة الحبك، "نثارا من [سير] جيل الخسارات المبهجة والأحلام المجهضة" تونسيا، إلى استعادة أحداث رواية الكاتب المغربي محمد الأشعري "القوس والفراشة"؟
فلئن غاب التواشج بين مضمون الحكايتين، فإن السياقات الزمنية المربكة التشابه لا يمكن أن تخطئها كل عين متدبّرة. يكفي أن تُعرض تلك السياقات على الإضاءة المركّزة، حتى نكتشف كبوات جيل ضائع أضناه التأرجح أزلا بين عالمين متخالفين دون فكاك أو رحمة.
فالفاجعة التي نزلت على رأس "يوسف الفرسيوي" المناضل اليساري ذي الأصول البربرية الألمانية حال فقدانه لفلذة كبده "ياسين" الذي راح ضحية انتسابه إلى الجماعات الإرهابية بعيد انتقاله إلى باريس لمزاولة دراساته الهندسية وتوجّهه بغتة للقتال بجبال أفغانستان حيث قضى نحبه، لا يكن أن لا  تعيدنا إلى الدوافع الحقيقة التي كانت وراء خروج المناضل اليساري "عبد الناصر" عن طوره يوم تشييع جنازة والده الوجيه "الحاج محمود"، لما انهال أمام أعين الحاضرين ضربا مبرّحا وتقريعا مقذعا على الشيخ "علاّلة" وهو من تولى إتمام مراسم لحد والده ووجيه رأس درب.
بين أحضان ريحانات متقلبات الطباع والسجايا أمضى عبد الناصر المشهور بـ"الطلياني" و"يوسف الفرسيوي" حياتهما المفتوحة على احتمالات لا متناهية، عكست تحولات مسارهما الشخصيين وتطورات السياقات التاريخية التي كيّفت طموحاتهما وحدّدت إخفاقاتهما أيضا.
تتعدد محطات قطار حياة عبد الناصر ضمن متاهة الرواية المكانية التي شيّدها شكري المبخوت بين أزقة وشعاب، ومنعرجات، وأروقة، ومنحدرات، وثنايا، ومسالك، وسكك، ومفترقات، ودروب، ومضايق وطن التونسيين، تقابلها تحولات سيرة يوسف الفرسيوي في علاقتها بالانقلاب الكلي الذي عاينه مشهد مربع الدار البيضاء - زرهون - الرباط ومراكش على إثر حصول التناوب وصعود ملك المغرب الشاب إلى سدة الحكم.
ما مدلول التحولات التي طالت فكر اليسار ونضاله جنوب المتوسط؟ ما المعنى الذي يمكن أن تكسبه المقاومة ضمن مجتمعات اجتاحتها العولمة، وشارفت على فقدان سيادتها في غفلة تامة من شعوبها؟ ما قيمة الحرية داخل مجتمعات تعاني الهشاشة المادية والنفسية، وتدار من خلال تشغيل ثقافة الوصاية وتأجيل الاعتراف بحرية الأفراد ريثما يتم الانتهاء من معركة النماء واللحاق بركب الأمم المتحضرة؟
ثم ما حقيقة القول بانغلاق قفص الهامشية على حياة المحسوبين على نخب المعرفة والرأي؟ وما وتيرة تدرّج تأثيم النجاح الفردي وانقلابه إلى ما يشبه الخطيئة الأصلية، حيث يتدحرج المثقف إلى مجرد عابث أسود يندفع قدما نحو سقوط مدوي في مستنقعات الرداءة والدناءة المعمّمتين؟
تقريظ على معنى الرثاء أو لعبة الكاماسوترا بنكهة يسارية، هو على الحقيقة العنوان الذي نعتقد اختزاله لمضامين حكايات قصها علينا كلا المؤلفين دون عجل، نقلتنا من مضاجعة الابن الضال والزعيم اليساري عبد الناصر لربة الصون والعفاف "للاّجنينة" إلى معاشرة الفيلسوفة البربرية "زينة" والاستمتاع بغنج السويسرية "أنجيليكا" الفاتن والاهتبال بمتعة الخيانة الزوجية صحبة أستاذة التربية البدنية "نجلاء" والاغتباط بضم طالبة الفنون الفارعة الطويل "ريم" إلى سجل عشيقاته. يقتفي يوسف الفرسيوي في قوس محمد الأشعري وفراشته المفتون على شاكلة المناضل اليساري عبد الناصر بصاحبة الجلالة، نفس المسالك المظلمة متنقلا بين زوجته الرضيّة "هنية" وصديقته الخبيرة فاطمة وعشيقته المطلّقة ليلي.
اختار المؤلفان عن قصد الحفر في التحولات المتلاحقة التي عاينتها حداثة الدولة الوطنية المعلنة وذلك من نافدة التطورات الفارقة التي طالت مسارات حَدِيَّة، اعتقد أصحابها وبقدر غير قليل من السذاجة أن قدر قطار النضال من أجل تحقيق قيم الحداثة وفقا لمبادئ الاشتراكية الماركسية، سبيل معلومة من المستحيل أن تحيد عن مسارها قيد أنملة. فكان اصطدامها بالواقع المتقلّب مفزعا حوّل مسارات حياتها إلى ما يشبه تراجيديا فاجعة لأبطال مأساة اجتماعية تعمّد المؤلفان بعناد مهرة الرواة الحفر في ثناياها الملتويّة والتكشّف على إنسانيتها المربكة وبطولتها الموهومة وإخفاقاتها المستجّلية لطباعها البشرية.
جنوب المتوسط حيث زرقة السماء وعافية الماء يجثم فكر الجماعة الوصي على خضوع الجميع لبرد اليقين المعدم لنعمة الشك والتساؤل، لا فكاك من القبول بأنصاف الحلول المعدّلة بدهاء على عقارب ساعات تشبه حركاتها دورات الطبيعة الأزلية. لا يسار ولا يمين لا حرية ولا عبودية لا مواطنة ولا رعية لا إفراط ولا تفريط، اعتدال فجّ ومخزن يعيد إنتاج نفسه بمنتهى الدهاء والمكيدة. رحلة في عطالة الفكر والروح، نجوس عبر منعطفاتها في عاصف ذكريات عبد الناصر من مختبر تنشئته العائلية ورفاق نضاله في الجامعة ومستنقع الصحافة الموبوء الذي ساقته الظروف لمعاشرة دينصوراته، لكي نصل في الأخير إلى انكسار ألواح أشرعته وأزف روحه النزقة على صخرة الاعتداء الفاحش على طفولته الغضة.
نفس تلك الأقدار تضع بطل رواية محمد الأشعري أمام مساره العاثر الذي دفع بابنه الوحيد ياسين إلى السقوط في مخالب الإرهاب، وإصراره العبثي على استحضار روحه قصد مساءلتها بخصوص الدوافع التي جرت وحيده إلى اقتراف رزيّة بذلك الحجم من دون الحصول على شفاء للغليل. فر الفرسيوي من فجيعته المتمثلة في فقدان أمه الألمانية التي قررت بعد أن رافقت والده لسنين وضع حد لحياتها عند موقع ولّيلي الأثري المصاقب لمرقد شريف الأدارسة بزرهون، ليجد نفسه مغدورا في فلذة كبده المنتسب لخفافيش الظلام ومدبري الجرائم الإرهابية. تحت سماء الكيد المعمّم واللعنة الأبدية تعيد الحكايتان رسم عبثية أقدار من أصابوا قدرا من المعرفة متشوّفين إلى رسم أفق مفارق. يغرق والد يوسف الفريسوي في العمى بعد أن يخسر واسع الثروة والجاه، متحوّلا إلى دليل سياحة مجنون يطوف بزائريه في أركان موقع أثري مهيب، تماما مثل ما اضطر "سي عبد الحميد" مدير الصحيفة الرسمية التي آوت عبد الناصر مصحّحا مبتدأ فصُحفيا لامعا، إلى التفريط في إنسانيته في خوف مريع وجبن مخزي إلى شياطين المخزن وزبانيته. ينغلق قفص الهامشية على ذوات قلقة يدفعها مصيرها الحالك قسرا دون رضا إلى الشعور بالصغار والمهانة، فراشات ترقص في زهو حذو اللهيب المستعر لتتلظى بألسنته وتسقط في الدرك الأسفل من نيرانها.
تقريظ عبثي لمفتعل الأفراح ومسترق اللذات يتسلل من تجاويف مشاهد الحانات المعربدة والغرف المغلقة التي تغشاها روائح الانعاض وتعرّق الأجساد المتلويّة من فرط الالتحام وتدفق صنابير الشهوة، لكي يفتح أعيننا على جسامة تكلّس فكر النخب اليسارية تونسيا وغربته المؤذنة بفساد مادته طوال عشرية ثمانيات القرن الماضي الحالكة. كاماسوترا باذخة تذكّرنا بأجواء "ديكامرون" بوكاش و"ساتيركون" بيترون الفاجعة، تلك التي يندفع أبطالها تحت مفعول خوف مدمّر في طواف هستيري وجنوح ماجن إلى الهروب إلى الأمام حيث لا فكاك من السقوط في الهاوية.
رواية شكري المبخوت البكر تشريح مفزع بنكهة شبقية لسياقات انحدار "نخب" اليسار الرثة تونسيا، "نخب" لم تبرح الوقوف عند محطات لم تعد تصلها بقطار اللحاق بالأمم المتحضرة أية سكة.                                        
                       

samedi 13 septembre 2014

سياق ما بعد الثورة والتباس مدلول الكرامة تونسيا











         هل يستقيم ومن منظور التدقيق في المدلول الغائم للكرامة أن نقبل بتعريفها من زاوية أنها قيمة أخلاقية رُسخت في أذهان المحسوبين على الشرائح الاجتماعية الفقيرة أو المعدومة، تعزية لهم عن واقع الاحتياج الذي تردوا فيه"، حتى وإن لم يتم ذلك إلا على سبيل التهكّم الأسود أو التنفيس عن الغم والكمد؟
لا يمكن طبعا الانسياق وراء مثل هذه التصوّرات المغالية، حتى وإن تعيّن التدقيق في مدلول تلك الكرامة الذي لا يمكن تعقّل وجدودها خارج المجالات القادرة على توفير الظروف الموضوعية التي تسمح بادعاء تكريسها على أرض الواقع قولا وفعلا.
فهناك من وجهة نظر القانون غموض في سحب مدلول دقيق على هذا المصطلح بوسعه التأليف بين الدلالات اللغوية والمقاصد الدينية والفلسفية والقانونية المتداخلة ضمنه. كما بينت السياقات الحادثة (على غرار نموذج الثورة التونسية) أهمية الربط بين الكرامة والحرية، حتى وإن تعين أن لا يلهينا الحرص على حضور مثل ذلك التكامل عن وجود نوازع هيمنة متخفّية وراء تدخل الدولة تحت غطاء توفير الشروط الدنيا الضامنة لاتخاذ الأفراد لقراراتهم بكامل الحرية. كما ينمّ تمثل شرائح واسعة من التونسيين لمدلول الكرامة عن لبس حقيقي كشفت عنه بشكل جلي السجالات الحادة التي خاضوها طوال الثلاث سنوات المنقضية والتي أفرغت لدى جميعهم كل رغبة في رسم أفق يضمن تعايشهم بشكل صحي وسليم. على أن نتائج الاستحقاقات الانتخابية لسنة 2011 قد أفضت من ناحيتها إلى فتح أعينهم على حقيقة تورّطهم في إعادة إنتاج نفس الممارسات التي عاشوه خلال مرحلة الاستبداد، وغياب الحد المطلوب من الحريات، حيث لا نستبعد أن تكون لذات تلك التصرفات نفس النتائج السلبية حال توجه هؤلاء قريبا لاختيار حكامهم بالنسبة للخمس سنوات المقبلة.                 
غموض التعريف القانوني لمدلول الكرامة:
يمثل مبدأ كرامة الذات البشرية إطارا قانونيا يحول تفعيله دون التعامل مع الأشخاص بوصفهم أشياء أو أدوات لا تتوفر على قيمة في ذاتها. بل يقتضى حضور مثل تلك القيمة المعيارية والأخلاقية الرفيعة النظر إليهم باعتبارهم جديرين بكامل الاحترام، بصرف النظر عن سنهم أو جنسهم أو سلامتهم الصحية والعقلية، أو ظروفهم الاجتماعية أو ديانتهم أو أصولهم العرقية، وذلك توافقا مع ما تضمنته ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر سنة 1948 من إشارة صريحة إلى أن "كل البشر يتوفّرون في ذاتهم على ما يحفظ كرامتهم"، وتنصيص الفصل الأول من نفس الإعلان على أن جميع الناس "يولدون أحرارا ومتساوون في الحقوق".
نميّز إجماليا بين مدلولين أساسيين للكرامة البشرية، يركز الأول على اعتبارها أثرة متقاسمة بالتساوي بين جميع الذوات البشرية، في حين يلحّ المدلول الثاني على أن توفر عنصر الذاتية في اتخاذ الشخص لقراره، هو ما يحدّد على الحقيقة حضور كرامة الأفراد من عدمها.
غالبا ما يدفع التقابل الجلي بين هذين المدلولين حال مباشرتنا للواقع، إلى الإقرار بحضور جملة من الممارسات تحدّ من الحريات الشخصية، أو تناضل على عكس ذلك من أجل توسيعها، مما يؤشر على تعمّد اللجوء إلى نوع من الغموض في تعريف مدلول الكرامة قانونيا، وتعارض ذلك أيضا مع التصوّرات التي صاغها العديد من الفلاسفة حولها.
يندرج مدلول احترام الكرامة البشرية في القانون المقارن ضمن الفصل الأول من الدستور الألماني، في حين يضمن القانون البلجيكي وفقا لما نص عليه دستور البلاد وضمن فصله 23 الحق في العيش وفق مقتضيات الكرامة البشرية. أما بالنسبة للقانون الفرنسي فقد أعلى المجلس الدستوري من مكانة الكرامة معتبرا أنها " مبدأ يتوفر على قيمة دستورية".
ومهما يكن من أمر القوانين والدساتير الناظمة للحياة الجماعية في مختلف البلدان النامية من بينها أو المتقدمة، فقد شدّد العديد من العارفين بفقه حقوق الإنسان على الطبيعة الشكلية الفضفاضة والملتبسة لهذا المصطلح مع افتقار تعريفه القانوني للحد المطلوب من الدقة، بحيث يكون من السهل توظيفه بأشكال متباينة وجد متناقضة، الشيء الذي يحول عمليّا دون صياغة نظرية متكاملة للعدالة بالاستناد على مدلول الكرامة. فقد سبق وأن تم اللجوء إلى هذا المدلول الغامض قصد المنافحة مثلا بخصوص حق المصاب بمرض فقدان الذاكرة مثلا في الإعراض عن أخذ الدواء و"تقبل مصيره المحتوم بكرامة"، أو الاستناد على ذات المدلول لنقض مثل ذلك التصوّر والعمل على وإرغام المصاب على متابعة العلاج، لأن البقاء على قيد الحياة يتوفر في حد ذاته على مقصد الكرامة.
وهكذا يتبين لنا أن مدلول الكرامة باعتبارها خاصية محدّدة للحياة البشرية، توافقا مع ما نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر سنة 1948 بخصوص "تساوي الجميع في حق الحياة بكرامة"، يتعارض مع تمثل ذلك المدلول تحديدا باعتباره سندا لحق كل ذات بشرية في صون ذاتيتها كلما تعلّق الأمر بتحديد قرارها المتوافق مع مصلحتها الخاصة أو الفردية، من جميع أشكال الوصاية المعلنة من بينها أو الخفيّة.                    
في ضرورة معاضدة الكرامة لممارسة التونسيين لحرياتهم:
يتضمن الفصل 23 من الدستور التونسي الجديد الذي تمت المصادقة عليه في 26 من شهر جانفي 2014 التزام الدولة بصون كرامة جميع مواطنيها والدفاع عن حرمتهم الجسديّة. إلا أن تمتع الأفراد بحريتهم وفقا لما حدده القانون لا يمكن أن يلهينا واقعيا عن تعدّد الحالات الاجتماعية التي يصعب إزائها إدعاء القدرة على التصرّف في الاختيارات بشكل حرّ أو مستقل. وهو ما يتساوق مع ما شدّد عليه كارل ماركس بخصوص ضرورة الربط بين ما تمنحه الدساتير أو القوانين من حريات سياسية وبين الظروف المادية لمن يتمتعون بتلك الحريات. مما يدفع إلى التبصّر بقيمة الكرامة كشعار أساسي في الحراك الاجتماعي الذي أحدثته ثورة "الحرية والكرامة" تونسيا.
فإذ لم يكن أمام الفرد حتى يضمن لقمة عيشه، غير القبول بالإذلال والتعنيف، فإن الإصرار على اتسام تصرفاته بقدر معقول من الحرية أو الكرامة أمر غير ذي مدلول. يستقيم تماما تسمية هذه الحالة التي يتحوّل ضمنها حضور الكرامة إلى شرط توجيهي في ممارسة الحرية بالوضعيات (كـ - ح).
وحتى وإن تقلص منسوب الحرية ضمن مثل هذه الحالات قياسا لما سواها، فأن ذلك لا ينبغي أن يدفعنا إلى القول بحضور تناظر بينها وبين الوضعيات التي تتدخل فيها السُلط العمومية لتأمين حد معقول من كرامة الفرد (كـ)، لأن القول بتماثل الوضعيتين يتعارض مع قدرة الأشخاص المحسوبين على الحالات من صنف الأول على التعبير عن حرياتهم والذود عن حقهم في ممارستها.
وهكذا فإن كل تدخل لتلك السلطة لا ينبغي أن يتعامل مع الأشخاص الذين يعيشون وضعيات اجتماعية صعبة من زاوية قصورهم القانوني، بل يتعين عليها أن تضمن لجميع الأشخاص حدا أدنى من الدخل غالبا ما نسمه بـ"عتبة الكرامة"، كي يتمكنوا من اتخاذ قراراتهم بمعزل عن كل وصاية، تجاوزا لجميع الشعارات السياسية الفضفاضة ونوايا أصحابها المعلنة أو المبيّتة أيضا.
تختلف تلك العتبة المشار إليها تساوقا مع الظروف المادية لكل مجتمع على حدة، غير أن ذلك الاختلاف لا يلغي الإقرار بأن الإجابة المثلى عن غياب شرط الكرامة لا يمكن أن تصيب هدفها خارج قدرة الدولة على توفير حد أدنى للدخل، وتأمين الخدمات الموجهة لدعم الأفراد الذين يعيشون الخصاصة نفسيّا، باعتبار أن ممارسة الحرية تقتضي التوّفر على حد أدنى من التوازن النفسي أو السيكولوجي.
يفيد استعراضنا لمختلف هذه الوضعيات كثيرا في فهم المنافحة الشديدة التي تلاقيها عملية "أهلنة" القيم الكونية في العديد من المجالات النامية، وهو ما يمكن تفهّمه اعتبارا لطغيان الهيمنة على السياسات المعتمدة من قبل الدول المتقدّمة. فما دامت الدول الغربية لا تري حرجا في أن تشرّع لنفسها تواصل التعامل مع من دونها من زاوية الهيمنة أو الوصاية، فإن المحسوبين على تلك المجالات لا يمكنهم التخلي عن النضال من أجل وضع حد لتناقض الغرب بل و"كلبيته" السافرة في تبني القيم الكونية أو التخلي عنها وفقا لما تقتضيه مصالحه دون سواها.
فهل بوسعنا النجاح مستقبلا في "أهلنة" الكوني وإكسابه طبعا تونسيا في ما يعنينا؟ ثم هل يستقيم أن نقرّ يوم ما بازدواج انتسابنا للثقافة الإسلامية وللقيم الكونية؟ تشكّل الإجابة عن مختلف هذه التساؤلات وغيرها إطارا ناظما للتفكير حل استحضار حدث الثورة بوصفه حدثا فارقا، وخاصة عندما نصرّ على رفض كل اعتقاد في قدرة التوجهات المتشدّدة أو المنغلقة على تكييف علاقتنا بالإرث الثقافي الإسلامي. فجميعنا مسلمون بالاعتقاد أو بالانتساب الثقافي، إلا أن تونسيتنا ليست عربية صرفة، بل تتجاذبها انتماءات متعددة إفريقية شبه صحراوية، ومتوسطية وشرقية وغربية أيضا.
كما إننا عندما نعيد التفكير بخصوص مسألة تنوع الانتماءات الثقافية المتصلة بمدلول "التَوْنَسَةِ" مثلا، فإنما نحن نعيد بذلك تركيب هويتنا من بوابة التنوّع وإثراء مشتركنا الثقافي الذي يعطي لجذورنا اللوبية أهمية بالغة باعتبار اتصالها بلغة تخاطبنا وحضورها ضمن أشكال عيشنا اليومي وتراثنا اللامادي أيضا.
التباس مدلول الكرامة في تونس خلال مرحلة ما بعد الثورة:  
ما هو المدلول العميق للحداثة في ظل الحرج الذي يتسم به الانتصار لمبادئها ضمن المشهدين السياسي والثقافي التونسي حاضرا، وتحوّله بَعْدُ إلى وسيلة سهلة للتهجم على جميع الداعين إلى حسم مسألة انخراط البلاد في مسار الحداثة منذ انطلاقها مع التجربة الإصلاحية لأواخر القرن التاسع عشر، إي منذ قرن ونصف على الأقل؟
إن شعارات الثورة المتّصلة بالحرية والكرامة لا يمكن فصلها عن ممارسة المواطنة والاحتكام إلى التعاقد والالتزام بالقوانين، وجميعها توجهات تنخرط ضمن صيرورة الحداثة. غير أن المستغرب هو أن للدفاع عن مكاسب الدولة المدنيّة قد أصبح يجابه بمزيد من التحفظ والارتكاس، بل ويؤًوَّلُ من قبل شرائح واسعة تنتسب إلى المجتمع التونسي باتجاه ربطه بنزوع إلى الانطواء والعدوانية تجاه المدافعين على مدنية الدولة! 
فنحن نلاحظ حضور مزايدات بخصوص الخطاب الحداثي مع عدم التحفّظ عن وصم دعاته بـ"الزنادقة" وتكفيرهم عنتا، بل والتحريض على تهميشهم والتشفي منهم، مما يثبت الاختلاف الصارخ داخل المجتمع التونسي في ما يتعلق بتأويل ما قد يصح وسمه حاضرا بـ"عودة الديني أو التبئير حول الطقسية الروحية".
فالسمة الغالبة على خطاب التيارات السياسية الدينية هي الانتقائية وانحسار المعرفة بمصادر إصلاح التفكير الديني نفسها. فحال إشادة الإسلاميين التونسيين مثلا بدور محمد الطاهر بن عاشور في تجديد الفكر الديني، يعتّم هؤلاء على التوجهات المتفتحة لابنه الفاضل، معتبرين أحفاد ذلك العلم أبناء غير شرعيين لذات العائلة، شوّهوا إرثها بل وتورطوا في مسخه بالرمّة، موضحين في هذا الصدد أن التجديد الحقيقي للفكر الديني يتعيّن أن ينهل - بزعمهم طبعا - من توجهات مفكري السلف، وإقرار مبدأ "التدافع الاجتماعي" كآلية في تجاوز الاختلافات الفكرية، مع العمل على "أسلمة الدولة من الأسفل". وهو ما يتعارض بالكامل مع ضرورة اتخاذ الدولة موقع الحياد، ويكشف أيضا عن النوايا الحقيقية للتيار المحافظ الـمُقحم للدولة ضمن التجاذب السياسي، غير المكترث على الحقيقة بفصل الدين عن السياسة.
على أنه يتعين التأكيد في الصف المقابل على شدة تأثير النموذج الفكري الفرنسي على التصوّرات التحديثية التونسية إلى حدّ يستقيم معه التساؤل بخصوص مدى صحة حضور نزوع من قبل العائلات الفكرية والسياسية الموسومة بالتقدمية تونسيا، إلى حالة من الاحتضان بل والاتكال أحيانا ساهمت في سجنها ضمن تصوّرات مغرقة في الأحادية جعلت من عملية "أهلنة" القيم الكونية مغامرة عسيرة الولادة غير مأمونة العواقب. فتاريخ التوجهات التقدمية كونيا يشي بتنوّع منابعها ذات الروافد الأنجلوساكسونية والإيطالية وحتى اليابانية في مراحل متأخرة، قياسا لكونية قيم الثورة الفرنسية.
على أن نتائج انتخابات المجلس التأسيسي التي أُجريت في 23 من شهر أكتوبر 2011 قد بينت من ناحيتها أن العامل الحاسم في تلك الاستحقاقات السياسية قد تمثّل في حضور قدرة على الانضباط ورصّ الصفوف لدى التيارات المحافظة قياسا لتشرذم التيارات المنتسبة إلى العائلة التقدمية الموسّعة. فالفارق الذي أحدثه تيار "العريضة الشعبية" على سبيل المثال على حساب مناضلي القطب الحداثي المدافعين على المطالب المتّصلة بالحق في الشغل والصحة والتعليم والسكن ضمن ما سمي بـــــ " Dignity act " يبدو جد جليا في الأحياء الفقيرة لتونس العاصمة وبالجهات الداخلية أساسا، وفقا لما أسفرت عليه نتائج تلك الانتخابات. فقد وظّفت التيارات المنتصرة في تلك الاستحقاقات آليات بسيطة شددت في المقام الأول على إمعان المنتسبين للعائلة التقدمية والمحسوبين على النخب الحضرية المتعلِّمة في التعالي وضرب قيم البداوة وتهميش الفئات الفقيرة والحطّ من قيمتها من خلال الإسراف في تشغيل آليات ما وسم بـ"الحُقْرَة"، والنجاح تباعا لذلك في دغدغة العواطف المحتدمة وشحذ أساليب التفكير التي لا تزال تعوّل على نظام الثنائيات (متديّن / ملحد) (مسلم / كافر ). هذا بالإضافة إلى الطبيعة المفتوحة لتلك الآليات التي أصبحت تشتغل حاضرا وفقا لمنطق خارجي يتعامل بكثير من الدُونية مع ذاته وحقيقة أوضاعه المحليّة.
وفي المحصلة يمكن أن نعتبر أن إشكالية الكرامة ضمن سياق ما بعد الثورة تونسيا تحيل في البعض من دلالاتها على مدى قدرة المجتمع على تجاوز نوازع الوصاية ورسم طريق سالكة تُسعف في القبول بمنطق التعايش والاعتراف بحقيقة تنوّعنا الثقافي تجاوزا لجميع أشكال الانطواء ودواعي الإقصاء، وهي وضعية ليس لنا أي حظ في تخطيها ما دامت معرفتنا بالتاريخ في وجهيه التعليمي والتخصّصي حبيسة خطاب سياسي مسطح وثقافة مسرفة في التمركز حول ذاتها، أضحى من أوكد مهام العارفين بالشأن التاريخي حاضرا الخروج نهائيا من ضيقها تجاوزا لقصور نظرنا، وتشوّفا إلى كتابة جديدة تتسم بتعدّديتها ونقديتها وانفتاحها، توسيعا لفضولنا وقطعا مع تركيزنا المشطّ على الحفر في مربع الوطن الضيق الذي ينحسر أسهامه في توسيع أفق غربتّين القريبة أو الأليفة.