jeudi 3 mai 2018

الصناعات الثقافية التاريخية بين إغراء المعالجة الترفيهية وحدود المقاربة التثقيفية



















"يتمثل الهدف الأسمى من المغامرة البشرية في محاولة تجاوز عقبة المستحيل
 حتى وإن لم يُصِبْ جميعنا من تلك المغامرة غير الوقوع أزلا في الفشل"
Fell (Claude), « Carlos Fuentes, un écrivain à l’écoute du monde »

            ما السبيل إلى إثارة اهتمام الأجيال الشابة مجدّدا بالتاريخ؟ والحال أن جميع التواريخ، وطنية كانت أو محليّة، لم تعد تتوفر على فهم عميق لحقيقة الواقع المتحوّل الناجم عن العولمة. كما أن مختلف الإبداعات الناسلة عن السياقات الجديد لتكنولوجيات الاتصال الحديثة، تلك التي تحيل على انشداد الأجيال الجديدة لما تنتجه الصناعات الثقافية كونيا (ألعاب الفيديو بتطبيقاتها الافتراضية المتنوعة والمسلسلات الموسمية وحتى العروض الفنية الضخمة)، ليس بوسعها هي أيضا وعلى الرغم من جميع ادعاءاتها ومن طابع الاثارة الذي لازمها خلال العشريات القليلة الماضية، توفير مفاتيح حقيقية تسمح بتقديم إجابات وافيّة بخصوص ما نعيشه حاضرا. الشيء الذي يدفع بشكل ملحّ إلى التساؤل بخصوص ما يتعين القيام به من أجل تمكين الأجيال الجديدة من بناء علاقة صحيّة بأحداث الماضي بوصفها إرثا إنسانيا مشتركا؟ ثم ما السبيل إلى تشييد ذاكرة نقدية قادرة على التمييز بين ما يُقترح علينا هنا وهناك من أعمال إبداعية تبدو منشدّة إلى تقنيات الملتيميديا، تستظل في معظمها بالماضي قصد استقرائه وفق توجّهات مخصوصة، من السهل التفطّن إلى اتسامها بالترميق بل وانزلاقها وفي العديد من الحالات في ضرب من تعمّد التحريف وتبرير المغالطة أيضا؟ 
فمنذ ما لا يقل عن ربع قرن تقريبا والعالم يعيش حالة انقلاب في آفاقه جراء مخلّفات الثورة الرقمية، التي حدّت من هيمنة الغرب وساهمت في صحوة المجالات الشرقية القصيّة على غرار الصين وبلدان جنوب شرقي آسيا وازدهار قوى صاعدة جديدة على شاكلة روسيا والبرازيل. ولعل من نتائج هذا الانقلاب تراجع التصوّرات التاريخية السائدة منذ أكثر من خمسة قرون، تلك التي اتسمت توجهاتها عامة بالانحياز إلى التصوريات المركزية الأوروبية، والدفاع بشراسة على تمثّل موروث للكونية يحيل على مكتسبات "الأنوار" الفكرية.
فما الذي يتوجّب علينا القيام به حيال هذه التصوّرات التاريخية الموسومة بالانحياز لماضي الغرب الأوروبي، وذلك ضمن سياق تاريخي يُنبئ بعدم قابلية مكتسبات العولمة للتراجع، مع قلة نجابة واضحة في الاحتفاظ بكونية التصوّرات التي حرص الغرب على تسويقها بوصفها التأويل الوحيد لتاريخ البشرية؟
ساهمت المعرفة التاريخية منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى تسعينات القرن الذي يليه في هيمنة تصورات "وطنية يعقوبية" تُعلي من مكانة "الدولة الأمة أو الوطن". وتضافرت جهود الفاعليين السياسيين كما العلميين وبرامج التدريس ومحتويات الصحف وإصدارات دور النشر بغرض الدفاع عن سرديات تُؤول التاريخ باعتباره مسارا إجباريا باتجاه تكريس فضائل التمسّك بذلك الانتساب والاعلاء من شأنه. وهو تصوّر اثبتت تهافته البحوث المحسوبة على الدراسات ما بعد الاستعمارية، وهي دراسات ركّزت على الواقع الذي عاشته الفئات الاجتماعية القاعدية من خلال تشديدها على حضور مؤشرات بليغة عن استحكام قراءة مشوبة بالحنين والمحافظة، احتضنت وهم الخصوصية وأعلت من شأن مشاعر الانتماء، ذلك الانزياح الذي لم تسلم من سلبياته حتى البحوث التاريخية الصادرة خلال نهاية القرن الماضي والتي اتصلت بما نُعت بـ "المنعرج التذكري tournant mémoriel"[1].     
الصناعات الثقافية التاريخية وتسليع أحداث الماضي:
       تنتشر على هامش المعارف المقدمة بقاعات الدروس ومدرّجات الجامعات والبحوث المحكمة المنشورة ضمن الدوريات الورقية والمواقع الالكترونية المتخصّصة، صور ومرويات لا تعيرها الأوساط الأكاديمية كبير أهمية حتى وإن ثبتت مساهمتها وبطريقة خاصة في الإجابة عن التحدياّت الحقيقية أو المتخيّلة التي فرضتها العولمة راهنا على الإنسانية قاطبة. فنحن نعيش وفق ما انتهى إليه "ألان توران Alain Touraine" "راهنية Présentisme" من الصعب الإفلات من حبالها، لأنها تلتهم جانبا كبيرا من الماضي ومن المستقبل، متجنبة الخوض فيما ليس بوسعها تكييفه وفق حاجياتها[2]. فقدر الماضي هو الانفلات من بين أصابعنا دون أن يكون بالوسع المسك به. لذلك تبدو البشرية وفق ما سبق وأن انتهت إليه "حنا أرنت Hannah Arendt" غير مهيأة ولا مستعدة أيضا لمثل هذا النشاط الذهني الذي يمنح صاحبه فرصة التموضع في موقع وسط بين الماضي والمستقبل"[3]. ولإن تحدي الإمساك بالحاضر في سياق الألفية الجديدة يحتاج وبالإضافة إلى معرفة العالِم إلى الاستعانة برؤية الفنان وإلهامه، فإنه تعاملنا مع الحاضر يحسن أن يتسم بقدر غير قليل من الحدس ورهافة الحسّ وتعقل ما يدور حولنا، مستعينين في ذلك بتشغيل قوة أحاسيسنا، مع التوفّر على رصيد ذهني يتضمن في الآن نفسه شذرات من الماضي وتصوّرات لما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع مستقبلا، لكأننا في موضع وسط بين مجموعة من القوى المتعارضة التي يمنحنا تصادمها فرصة الامساك بالشرارات الحارقة الناجمة عن قوة ارتطامها ببعضها البعض[4].
وعلى كل فإن الإحساس بتسارع نسق الاحداث وانفلات الزمن من بين أصابعنا ليس بالأمر الجديد، غير أن التواتر السريع للظروف المادية الصعبة وشعور شرائح واسعة من الناس بثقل الواقع الذي يحيونه مع عدم ثقة تلك الشرائح بالمستقبل، قد تحوّل إلى مصدر قلق محيّر، بل وانخراط في نوع من اللامبالاة والعدمية. والمربك من زاوية ما نحن بصدده أن الثقافة التاريخية قد انسلخت بَعْدُ ووفق أفضل التحاليل إلى مجموعة من السرديات الفنيّة أو العروض الجمالية المُتّسمة بتسليع مخلّفات التراث المادي وغير المادي، مع التشديد على الجوانب المثيرة ضمن مسارات الشخصيات التاريخية الفاعلة دون سواها، وذلك بطريقة تشبه بشكل لافت حملات الاشهار المتصلة بالعروض الفنية الكبرى.
ولعل في التجارب التي آثرنا التوقف عندها والتعريف بمضامينها، تلك التي يحيل جميعها على تطور تقنيات التعبير الإبداعي المشدود إلى ما وسمناه بـ"الصناعات الثقافية"، ما يكفي للدلالة على طبيعة العلاقات التي تشدّ التخيّلي إلى التاريخي حاضرا، وتجعل من الأخير عنصر استلهام تقتصر علته على الإمساك بالرواية التاريخية وتحويلها وفق تقنيات ابهار إلى خرافة مشوّقة تحجب كل توجه يرمي إلى تثقيف الناشئة وتأصيل الفكر النقدي لدى المتابعين من المحسوبين على الأجيال الجديدة.  
ويخضع "تعليب" هذا النوع من المنتجات ذات التوجه الترفيهي المعلن إلى نوع من الاستعادة الإحيائية للماضي وفق تصوّرات تفتح على خصوصيات واقع الإنسانية المعولم حاضرا، أكثر من اتصالها بالفترات التاريخية التي تحيل عليها. فقد تزايد خلال السنوات القليلة الماضية وبشكل ملحوظ عدد الأعمال الفنية الخاضعة للمواصفات التي وضعتها العلامات الكبرى في مجال الصناعات الثقافية ذات الطابع الجماهيري المُبهر، وهي علامات أغرقت سوق الانتاج الجمالي والإبداعي كونيا.
ولئن اتسمت توجهات مختلف الأعمال الصادرة عن هذه الصناعات المحدثة بالاستضلال بالتاريخ عبر ربطه بالقدرة التخيّلية للمؤلف استجابة لحاجيات المستهلك ولمستوى تكوينه أيضا، فإن اتسام الروايات أو الحكايات المعروضة، وعلى حبكتها المدهشة وإغرائها المشهدي الذي لا يقاوم، بمجانبة المساءلة النقدية لوقائع التاريخ المستجلبة، بل وسقوطها في كثير من الأحيان في نوع من التبسيط والابتذال والتكرار لا يمكن أن تخطئه كل عين حصيفة.
وحتى تجد المزاعم النظرية التي نحن بصددها ما يسندها بشكل ملموس، نقترح على قراء هذه العجالة معاينة تطبيقية تعرّف بشكل مجهري بمضمون بعض التجارب الإبداعية التي تصب محصّلتها فيما أقررناه. فقد آثارنا من هذه الزاوية التعريف بأربعة تجارب فارقة تحيل أولاها على سلسلتين روائيتين مرئيتين محسوبتان على انتاجات التدوين المصوّر (blogosphère) عاينتا انتشارا وشهرة كونية في غضون العشرية التي نحن بصددها ونقصد بذلك السلسلة الأمريكية الذائعة الصيت بين الفئات الشابة "لعبة العروش"، وهي سلسلة تقابلها يابانيا الرسوم المتحركة الطريفة في ضربها "مسابح روما".
أما العينات أو الأمثلة الكتابية التي تحيل على ابداعات الثقافة الخطية (graphosphère)فقد اشتملت على أثرين إبداعيين متقاطعين يحيلان على رواية "تارا نوسترا" للأديب المكسيكي "كارلوس فوينتس" ومؤلَف قبطان البحرية البريطاني "غيفين منزي": "1421: سنة اكتشاف الصين لأمريكا".
المسلسلات الفصلية الأمريكية للخيال العلمي وأفلام الصور المتحركة اليابانية:         
أ - "لعبة العروش Game of Thrones" مسلسل أمريكي في مواسم أو العصور الوسطى القادمة:
    يمثل المسلسل الموسمي الأمريكي "لعبة العروش"، ذلك الذي انتجته شركة "هوم بوكس أوفيس Home Box Office" وامتد بثه على سبع مواسم متتالية منذ سنة 2011، إعادة صياغة لرواية الكاتب الأمريكي ومؤلف السيناريوهات والمنتج التلفزيوني المشهور "جورج ريمون مارتين Georges Raymond Martin". وهو كاتب أمريكي برع في تأليف روايات الخيال العلمي الموجّهة لليافعين وإنتاجها تلفزيا، وذلك إلى حد تشبيهه بـ "جون رونالد رويل تولكين Jean Ronald Reuel Tolkien" مؤلف رواية "سيد الخواتم Le seigneur des anneaux" المُبهرة. 
حملت تلك الرواية عنوان "العرش الحديدي ملحمة الثلج والنار" Le trône de fer (A Song of Ice and Fire)" وصدرت أجزاءها الخمسة، وهي "لعبة العروش" و"صراع الملوك" و"عاصفة السيوف" و"وليمة للغربان" و"الرقص مع التنانين"، تباعا بين سنوات 1996 و2011، واستُقبل جميعها ببالغ الحفاوة حيث حصدت العديد من الجوائز العالمية.
اقتنت القناة التلفزيونية الامريكية "هوم بوكس أوفيس HBO" بداية من شهر جانفي 2007 حقوق اقتباس رواية "العرش الحديدي"، بغرض انتاج مسلسل تلفزي شارك في كتابة مواسمه الأربعة الأولى "جورج مارتين" نفسه، وتم تصوير موسمه الأول بداية من 2009 ليُبث مع حلول شهر أفريل من سنة 2011.
ولا تبتعد السياقات المتخيَّلة ضمن سلسلة "لعبة العروش" عما استحضرته عارضة كبار مؤلفي روايات الخيال العلمي وأدب الفنتازيا السابقين من أمثال "تولكيّن Tolkien" و"هوارد  Howard" و"لويس Lewis " المبدعة[5]، غير أن النجاح الاستثنائي الذي حققه بث هذه السلسلة ذات المواسم السبع المستوحاة من رواية "العرش الحديدي" لـ"جورج مارتين" يعود وفي تصوّر الكاتب الفرنسي "جاك أتالي Jacques Attali" إلى عدة أسباب، احتفظ من بينها كاتبنا بالخصوص بـ:
-       ضخامة التمويلات المرصودة للإنتاج توافقا مع مجال التسويق الكوني للمسلسل، الشيء الذي سمح للمنتجين بالتعاقد مع أفضل مؤلفي السيناريو وأشهر نجوم التمثيل، مع توظيف أعقد تقنيات المؤثرات الخاصة، حيث تكشف بطاقة هوية المسلسل التقنية أن الإحالة على الطرف المنتج ونقصد الولايات المتحدة طبعا، تُخفي الحجم الكوني للسلسلة ومساهمة أطراف متعدّدة في تلك "الصفقة التجارية الابداعية"، كتابة (ثلاثة كتاب سيناريو)، وتمثيلا (ست جنسيات قادمة من الولايات المتحدة والجزر البريطانية وهولاندا والدانمارك)، وتصويرا (ست مواقع تحيل على شمال إيرلندة وكرواتيا وإسبانيا وإيسلندا وكندا ومالطا والمغرب الأقصى)، فضلا عن اتساع مجال المتابعة وامتدادها من أدنى الكرة الأرضية إلى أدناها.
-       تضاعف وقع السلسلة على متابعيها بحكم تعويل منتجيها إراديا على القدرات التسويقية والاشهارية للشبكات الاجتماعية. فقد توصلت الحلقة التاسعة من الموسم الثالث مثلا إلى أثارة موجة من "التغريدات" على شبكة "توتر" فاقت ردود فعل ما أثارته أضخم الأحداث العالمية وأكثرها تواترا ولغطا أيضا.
-       الاغضاء عن عمليات التحميل غير القانونية للسلسلة على قاعدة "نيت فليكس" أو غيرها من برمجيات التحميل، لأن في ذلك التجاهل المقصود تضخيم من شهرة السلسلة وتزايد لمبيعاتها المستقبلية، التي لم تقف عند الأثر الإبداعي نفسه بل شملت جميع المنتجات التجارية المشتقّة عنه كالأقمصة والأكواب والعرائس المجسّمة لأبطاله والمجوهرات والكتب والألعاب المستوحاة من أحداث السلسلة وأطالس المواقع أو القارات التي شكّلت الحاضنة المجالية المُتخيلة لتلك الأحداث وأشرطة تلخّص محتواها، وألبومات أغاني الراب المستلهمة من مواضيعه ومعارض الملابس وسلسلة عروض موسيقى حلقاته التصويرية، فضلا عن المصنوعات التذكارية البسيطة والتي حملت مجسمات السلسلة أو "ماركتها"، على غرار أغطية قوارير المشروبات الكحولية أو الروحية المعروضة للبيع بمحلات تسويق عن بُعد تابعة للشركة المنتجة ونقصد "هوم بوكس أوفيس" طبعا. 
تبدو العوالم التي تدور ضمنها وقائع روايات "جورج مارتين" متجهّمة وحزينة مع اتسامها بنفس عدمي ساخر، بحيث ينطوي تصرّف أبطالها الكُثر على قتامة مع عدم الرضا عن الواقع، فضلا عن اختراق البعد الدرامي لمسارات حياتهم ونهايات معظمها المأسوية الفاجعة. ولئن شكل هذا البعد المتشائم حاجزا حال دون إقبال جانب من القراء على مطالعة هذا النوع من الأعمال، فإن الخطة المتبعة في تركيب مختلف فصول رواية "العرش الحديدي" قد ارتكزت على بناء مسارات سريعة التلوّن والانقلاب للشخصيات الأساسية، الشيء الذي شدّ فئات شبابية واسعة من القراء لمتابعة تطور أحداث الرواية، وذلك من مواقع مختلفة ووفق وجهات نظر متباينة.
كما لم يتهيب المؤلف من الانخراط وبعمق في طريقة تفكير من أسند لهم لعب أدوار الأشرار ضمن أبطال روايته، عامدا وبشكل واعي إلى كسر الثنائيات المبسّطة، بحيث تتضح لنا وجاهة تصرفات الخيرين كما الممارسات التي يجنح لها الأشرار - وبالرغم عن طابعها غير الأخلاقي - واقعية يستقيم تبريرها بل وتحويلها إلى سلوك مألوف. وتبقى الثيمات أو المواضيع الأكثر حضور ضمن كتابات "جورج مارتين" الابداعية مشدودة إلى توجه المؤلف المقصود إلى بناء عوالم يعاني ضمنها مختلف الأبطال من صعوبات متعددة تحيل على قساوة الوحدة ومعانات تقلّب الأمزجة البشرية حال المخالطة، مع السقوط أزلا في نهايات مأسوية تكشف عن حدة التمزق بين مشاعر العشق والتضاد الصارخ بين حساسية المجاهرة بالحقيقة وسهولة اللجوء إلى المخاتلة والكذب.
ومهما يكن من أمر، فإن سناريو مسلسل "لعبة العروش" يُعيد وبطريقته الخاصة تشكيل تسارع نسق تبني مقوّمات حضارة الغالب الغربية كونيا. حيث تروي مختلف حلقاته ضراوة المواجهات السياسية ضمن سياق مُتخيَل يُركّب بدهاء ومخاتلة لا حدّ لهما واقع القرون المظلمة التي توشك على العودة من جديد، مؤذنة بانهيار زعامة الولايات المتحدة الأمريكية للعالم. وبلوغ المواجهات بين قارتي "واستيروس Westeros" الممثلة للغرب و"أستيروس Easteros" الممثلة للشرق، أشدها.
وتنفتح تلك العصور بعد عشرية من انحباس الامطار على صراع عنيف بين خمس عائلات متنافسة هدفه الضفر بـ "العرش الحديدي" لـ"مملكة التيجان السبع". وهو صراع مُمهّد لحصول موجة من البرد الجليدي تراجعت خلالها بشكل ملحوظ درجات الحرارة وانتشرت مخلوقات متوحّشة مرعبة وفدت من المناطق الشمالية الباردة. تضرب ويلات الحرب البلاد ويحمَى الصدام حيث تظل عجلة الدسائس والمؤامرات والخيانة والسحر الأسود دائرة بلا انقطاع، لتسلب الآلاف من الأبرياء والمذنبين أرواحهم على حد السواء. فيما يبدأ الخطر القادم من جهات الشمال في الكشف عن وجهه. تولد في هذه الحرب التحالفات وتموت في طرف عين وتسيل الدماء بلا حد ولا سبب فحين يتصادم الملوك تنزف البلاد بأكملها. 
وبوسع المرء رفض اعتبار العولمة قدر ليس هناك أمل في الفكاك منه والعيش بسلام ضمن حدود عالمه الضيق والخاص، إلا أنه ولحسن حظنا أو قد يكون لسوئه أيضا، فإن الخوف من هذه العودة المفزعة للقرون الوسطى قد تمكن من التعشيش في مُخيلة جانب واسع من المحسوبين على الأجيال الجديدة، ليشكّل عنصر إبهار يتضمّن حكايات ووعود مبهجة وتصرفات وحشية مرعبة في آن، وما على تلك الأجيال إلا أن تعمل على توجيه ذلك الدفق المشهدي الناظم لمخاوفها الجماعية في الاتجاه الذي يسمح بتحقيق سعادتها وضمان رفاهها[6]، بدلا من القبول في خنوع وعدم اكتراث بأسوأ الاحتمالات.
ب - "حمامات روما": رسوم متحركة يابانية تعيد استهاما قراءة تاريخ الحضارة الرومانية:
 مثّلت سلسلة "مسابح روما" مؤلفا للرسوم المتحركة من نوع "المانغا"[7] أنجزته اليابانية "ماري يامازكي Mari Yamazaki"[8]. وهو أثر إبداعي تم نشره في البداية مسلسلا ضمن أعداد مجلة "كوميك بيم Comic Beam" وذلك بين شهري ديسمبر 2008 ومارس 2013. ثم ما لبثت هذه الاسهامات أن جُمعت في ستة أجزاء، وظهرت ترجمتها الفرنسية ضمن منشورات "كاسترمان Casterman" المتخصّصة في نشر رسوم "المانغا"، وذلك مع حلول أواسط شهر مارس من سنة 2012. وشكّل هذا الإصدار الذي طبع فيما لا يقل عن عشر مليون من النسخ، بيع ثلثها بعد سنة واحدة من صدورها، حدثا فنيا يابانيا وكونيا فارقا بكل المواصفات، لذلك سارعت شركات الإنتاج إلى اقتباس صور متحركة من هذه الرسوم غطت ثلاث مواسم قُسّم كل واحد منها إلى جزئيين وانطلق بثها على قناة "فوجي" التلفزيونية مع حلول شهر جانفي من سنة 2012. كما تم استلهام نفس ذلك الأثر الإبداعي في كتابة سناريو شريطين سينمائيين وإخراجهما في غضون شهري أفريل من سنتي 2012 و2014.
تدور أحداث سلسلة الرسوم المتحركة الموسومة بـ"مسابح روما" بحاضرة الرومان أيام حكم الإمبراطور "هادرينوس Hadrianus (117م-138م)، حيث نتابع بشغف وفضول لا حدّ لهما تعثرات مسار حياة مهندس معماري مختصّ في تشييد المسابح يدعى "لوسيوس مودستوس Lucius Modestus" عاين مسار حياته المهنية مرحلة ركود مردّها تمسكه بتصورات معمارية قديمة انقضى فصلها ولم تعد تستجيب لدواعي التجديد والمعاصرة. كما عاينت حياته الشخصية من جانبها هزة عنيفة بعد قرار زوجته الانفصال عنه نهائيا، غير أن تدخّل الصدفة[9] أو القدر هو الذي قلب رأسا على عقب مسار حياة ذلك المهندس المعماري الروماني الذي استوحت المؤلفة اسمه عن اسم شخصية مشهورة ضمن مسلسل "روما"، ونقصد "لوسيوس فورينوس Lucius Vorenus "، الذي عرّف به أثر تلفزي مشهور تضمن هو أيضا عدة مواسم وتم بثه في أواخر تسعينات القرن الماضي.
اختارت "يامازكي" أن يحيل لقب "مودستوس Modestus " على مدلولي التكبّر والجدّية وهما مَيْسَمَين طبعا سلوك بطل سلسلة رسومها، هذا الذي عاينت حياته فجأة تحوّلا فارقا بمجرد أن عمدت "يامازاكي" إلى ربط حكايتها الخيالية المستظلة بتاريخ مدينة روما على أيام إمبراطورها البنّاء هادرينوس. فقد صادف تردّده على حمامات روما ومسابحها للتأمل في واقعه العاثر والتخفيف من مساوئ مصابه المزدوج، حصول أمر خارق ومباغت تمثل في القدرة على طي الزمن ليجد نفسه متنقلا بين حاضرة زمانه روما وحواضر اليابان المعاصر ذات المعمار المستقبلي المُبهر، وتنفتح بصيرته الابداعية على معارف غير مسبوقة توصّل ومن خلال استلهامها إلى تجديد رؤيته الهندسية والفنية، متجاوزا بذلك عقمه الفني وانحسار تصوراته الجمالية، عائدا إلى مسقط راسه قصد تحويل مشاهداته إلى واقع حي عبر فتح أوراش تجريبية عكست توجهاته الهندسية المجدّدة.
تأثرت واضعة هذه الرسوم المتحركة في صياغتها للحمة هذا العمل ونسجها لسداها بالعديد من المؤلفات الإبداعية والعلمية التي نذكر في مقدمتها كتاب المؤرخ الإنجليزي "إدوارد غيبون Edward Gibbon "(ت 1794) "تاريخ انحدار الإمبراطورية الرومانية وسقوطها Histoire de la décadence et de la chute de l’empire romain"، و"مذكرات الامبراطور الروماني هادرينوس Les mémoire d’Hadrien"، وهي رواية تاريخية ألفتها الكاتبة الفرنسية البارعة "مارغريت يورسنار  Marguerite Yourcenar" (ت 1987)، وصدرت سنة 1951 في شكل رسالة متخيّلة وجهها الامبراطور البنّاء "هادريانوس" لخليفته الامبراطور الحكيم "مارك أوريل Marc Aurèle" (161 – 169م)، متعرضا في ثناياها إلى ولوعه بالشعر والموسيقى والفلسفة، وإطلاقه العنان للتخيل الخلاق عقلا وذوقا، وهي نفس التوجهات التي احتفظت بها "ماري يامازكي"، عاملة على مزجها بمحصلة تكوينها التشكيلي ومعرفتها المجهرية بالفضاءين الزمانيين والمكانيين الاعتباريين لمشروع رسومها، وربط جميع ذلك بتقنيات مبتكرة تمزج بكثير من الحسّ والطرافة بين فن مستظرف يحيل على مخزون ذاكرة اليابانيين الجماعية ونعني بذلك فن "المانغا" طبعا، وفن حديث بل و ما بعد حديث يعالج الواقع الإنساني الراهن بأدوات يعكس تشعّبها صعوبات العيش المشترك راهنا، متخيّلا وبشكل استهامي ابداعي حلولا لتلك العقبات أو المصاعب.   
الروايات والمقابسات المستلهمة من وقائع تاريخية:
 تبدو عملية صياغة المصير المشترك للإنسانية حاضرا، وبعد جميع ما أنجزته الثورات العلمية والتقنية المتعاقبة من تسهيل للتواصل، متزامنة بشكل محيّر مع التقلصّ المطّرد لعوامل التفاهم. فقد عزّز واقع مجتمعات الحداثة الغربية هذه اللعنة بشكل وحشي، مختزلا الحياة في الوظيفة الاجتماعية، وتاريخ الشعوب في عدد من الأحداث التي غالبا ما يُعمد إلى تأويلها بطريقة مُغرقة في الانحياز، مع اندفاع مربك باتجاه تأجيج الصراعات وتأبيد التفكير المسطّح الذي يحُث على نشر ثقافة الخوف وكراهية الأخر باعتباره رقعة تصويب ومصدرا لجميع الأشرار التي تترصد البشرية.
ولما كان سبب وجود الرواية عامة ينهض على جعل ذلك العالم تحت الإضاءة المستمرة حماية للإنسان من النسيان، فإن تزايد الحاجة لوجود الرواية قد تعاظم أكثر من أي وقت مضى، حتى وإن تبيّن لنا أنها قد أضحت تعيش هي نفسها حالة من الضيق بالمعنى بعد وقوعها تحت سيطرة أجهزة الإعلام وسطوتها التي ما انفكت تصبغ حياة البشرية بتصوّرات ضحلة جد نمطية، ناشرة ذات الحقائق المعتلّة والصيغ الجاهزة التي يتهافت عليها الجميع بروح تصديق مشتركة، إذ يكفي أن نتصفح الأسبوعيات السياسية الأوسع انتشارا من "التايمس The times إلى "شبيغل Der Spiegel "، مرورا بـ"لومند Le Monde" أو "لونوفيال أبسرفاتور Le Nouvel Observateur"، حتى نتأكد من تطابق مضمون موادها وأعمدتها وصفحاتها ومواضيعها المنشورة في ذات الأبواب وبنفس الصيغ الصُحفية والمفردات وأساليب التحرير، بل وحتى الأذواق الفنية. هذه الروح المشتركة تحديدا هي روح عصرنا المضادة لروح الرواية. فالرواية تحاول إضاءة تعقيدات الحياة وتشعّبها، في حين أن روح العصر متّجهة نحو التضييق على تلك الآفاق باختزال الزمان في اللحظة الراهنة وحدها، وتحويل الفعل الإبداعي إلى مجرد إشارة عابرة وحدث عادي لا يختلف بالمرة عن بقية الأحداث اليومية.
أثران ابداعيان محيّران لحدث واحد: "تارا نوسترا" للمكسيكي "كارلوس فوينتس" و"1421 سنة اكتشاف الصين لأمريكا" للبريطاني "غيفن منزي"
      تعرض هذه العجالة إلى تجربتين ابداعيتين استظلتا بأحداث التاريخ بغية إثرة نوع من السجال الفكري الخلاق حول المدلول الذي يتعين أن نعطيه للتواصل بين الشعوب والحضارات؟ وهل أن اكتشاف الآخر في نهاية القرون الوسطى وانبلاج الفترة الحديثة قد شكل فرصة حقيقية للعيش بذكاء؟ أم أنه قد أضحى مدعاة لمزيد من الانغلاق والانطواء على النفس؟
فقد اعتبر الروائي المكسيكي "كارلوس فونتيس" (1928 - 2012) "أن الهدف الأسمى من المغامرة البشرية يتمثل في محاولة تجاوز عقبة المستحيل حتى وإن لم يُصِبْ جميعنا من تلك المغامرة غير الوقوع أزلا في الفشل L’aventure humaine consiste à tenter l’impossible, même si nous échouons "[10]. هذه الحقيقة تحديدا هي التي نحتفظ بها قصد التعريف بمحتوى أثرين محيرين اتصلا باقتراح تأويلين مُهمين للحظة تاريخية فارقة تحيل على توسيع المعرفة بجغرافية العالم وبثقافة الآخر شرقا وغربا. ويتمثل هذان الأثران في مؤلفين استعادا وفق أساليب فكرية وفنية طريفة غير مبذولة، لحظة اكتشاف العالم الجديد، وذلك بُغية التفكير بعمق حول جدليّة الانفتاح والانطواء.
فقد أصدر القبطان البريطاني وقائد غواصات البحرية الملكية "غيفين مانزي Gavin Menzies" وفي حدود سنة 2002 تحقيقا مثيرا حول اكتشاف الصين للعالم الجديد عند مفتتح العشرية الثالثة للقرن الخامس عشر (1421)[11]، أي قبل 70 سنة من إبحار "كريستوف كولمبس" باتجاه جزر بحر الكرايب، وقرن كامل من إتمام بحارة "ماجلان Magellan " لأول طواف حول الأرض، وثلاثة قرون ونصف قبل اكتشاف "جمس كوك James Cook" لقارة أوقيانوسيا.
شكل مقترح "غيفين مانزي" وبصرف النظر عن طبيعته المثيرة والتي تفتقد وفق تقييمات المختصين إلى الصرامة العلمية متضمنة مآخذ أو مطاعن متعدّدة تتصل بتأويلاته الخيالية، حدثا مهمّا بكل المقاييس. فقد شكّك المؤلِف في صدقية اكتشاف الغرب لأمريكا معتبرا أن البحارة الصينين قد سبقوا أضرابهم البرتغاليين والإسبان إلى تحيق ذلك الكشف. وهو ما أثار جدلا واسعا ولغطا كبيرا بخصوص وجاهة القول بتمركز تاريخ الحداثة الكونية حول الغرب الأوروبي دون سواه.
عوّل "مانزي" في بناء فرضياته على قراءة التصاميم والتمثيلات الخرائطية البحرية الإيطالية والبرتغالية التي سبقت موعد قيام كولومب برحلاته، وجميعها تمثيلات ترسم جزرا ومجالات غير معروفة اتفق الباحثون في التاريخ على اعتبار محتوياتها مجرد تهيئ خيالي لمواضع ليس لها أي وجود في الواقع. وهو استنتاج نفاه قبطان البحرية البريطانية "غيفين مانزي" بشدة، معتبرا وعلى العكس من ذلك أن تلك التمثيلات تحيل على مواضع حقيقية، بل وأن جميعها قد شكل معطيات تم تجميعها استعدادا للجولة التي قام بها الرحالة الصيني "زهونغ هي Zheng He" على أيام امبراطورية سُلالة ملوك "المينغ Ming" الأثيرة. فقد توزّعت السفن المقلّة لبحارته -وإذا ما تعقبنا محتوى الكتاب- إلى عدة بعثات تمكّنت تباعا من مجاوزة رأس الرجاء الصالح والابحار باتجاه السواحل الغربية للقارة الإفريقية، والطواف بالقارة الأسترالية، قبل تجاوز "كاب هورن Cap Horn" لتُرسي بالسواحل الأطلسية الشمالية للقارة الأمريكية. في حين رمت شدة العواصف بمراكب بعثة ثالثة من مراكبه على سواحل جزر بحر الكرايب قبل أن ينجح ملاحوها في الإبحار وبعد شديد عناء باتجاه جزيرة الغرونلاد Groenland.
يصرّ عارض هذه التصورات المثيرة على أن السبب في عدم العثور على أرشيفات رسمية صينية تسمح بمزيد التحقق من حصول تلك "الاكتشافات" مردّه اتلاف جميع وثائق الأرشيف الامبراطوري وفي حدود سنة 1480م من قبل المدافعين على سياسة الانغلاق والمحافظة.         
ومهما كان سبب الغموض الذي لفّ مثل تلك الوقائع المحيّرة، فإنها تجد صدى مربكا لها ينطوي على نفس مستوى الإثارة ويحيل على نفس الاستفهامات ضمن رواية "تارا نوسترا"[12] أو "أرضنا" للأديب والديبلوماسي المكسيكي "كارلوس فوينتس"، الصادرة في طبعة أولى سنة 1975. وهي رواية يقع موضوعها على تماس التاريخ والأسطورة وبين الفلسفة والخيال العلمي، خاضت هذه المرة في اكتشاف العالم الجديد من قبل امبراطورية اسبانية على وشك السقوط والاندثار.
وتقع أحداث الرواية ضمن سياق جسّر القرون الوسطى مع انطلاق عصر النهضة غربا، وهي مرحلة تاريخية عاينت احتضان إسبانيا لثلاث هويات، نصرانية ويهودية وإسلامية. أما موضوع الرواية فيدور حول علاقة العالم القديم بانبعاث عالم جديد، وذلك من بوابة التفحّص المجهري للعلاقات التي ربطت "إسبانيا العجوز أو الأبدية L’Espagne éternelle" - وفق تسمية "فوينتس" الرائقة – بـ "إسبانيا الجديدة La Nouvelle Espagne"، تلك التي وُسمت لاحقا بـ"المكسيك".
خضع بناء هذه الرواية إلى نوع من التناظر الهرمي بين القسم الأول من الحكاية الذي تم تخصيصه خصّص للحديث عن العالم القديم، فقد اختار الكاتب الانطلاق من واقع مدينة باريس المتخيل يوم 14 جويلية سنة 1999 لتنخرط الحكاية فجأة في سياقات واقع إسبانيا القرن السادس عشر. بينما ينغمس القسم الثاني منها في الثنايا التاريخية لاكتشاف العالم الجديد، مركّزا على المرحلة الما قبل كولومبية في تاريخ المكسيك، وهي مرحلة عاينت تعطّش آلهة الأزتيك للقرابين وسفك الدماء. أما القسم الأخير من الرواية، ذاك الذي تم خطّه وفق أسلوب ملحمي، فقد عاد المؤلف ضمنه مجدّدا للبتّ في أوضاع إسبانيا القرن السادس عشر، وهي أوضاع غلبت عليها طباع الاستبداد العقيمة التي لا يمكن ألاّ يذكّرنا وبطريقته الخاصة بأوضاع السنوات الأخيرة من حكم "الجنرال فرانكو".
وهكذا فقد تدبّر "فونتس" على قرابة الألف صفحة تدهور النظام الامبراطوري الاسباني وتفاقم سلبيات تصرفات أعوانه المنغلقة الحمقاء، تلك التي أدت إلى نصب محاكم التفتيش وطرد مسلمي الأندلس واليهود، مخصّصا مقدمة روايته وقسمها الختامي لاقتراح تمثّل خيالي لأوضاع مدينة باريس مع نهاية الألفية الثانية ذلك الموعد الذي اتصل خياليا بقرب انطواء الكون مع التشوّف إلى ولادة المُنقذ الذي يحمل شامة على كتفه تبرهن على أنه صاحب الوقت ومخلّص الكون من مآسي الزمن القديم وحامل وعود عالم متنوّع قادر على التصّرف بكثير من المتسامح والاشتراك في العيش بذكاء.
ولعل أن الجانب المربك في الرواية هو زعم مؤلفها أن تلك الشخصية قد سبق لها أن حضرت ببلاط أكبر قوة هيمنت على العالم في القرن الخامس عشر وأنها كانت بصدد التحفّز لحقن دماء جديدة في حياة اسبانيا الناهضة، غير أن تخلّي الإمبراطور فيليب الثاني (الذي ضرب مؤلف الرواية صفحا عن ذكر اسمه) على تصريف أمور الدولة وايثاره الاعتكاف للتزهّد بدير قريب من قصر "الأسكوريال"، وبقاء زوجته وحيدة دون سند بين المتآمرين على عرشه، وحداد أمه "جان Jeanne" المخبولة بعد وفاة زوجها "شارل الخامس"، قد أدى جميعها إلى عدم التفطّن لحضور ذلك "المخلّص" الذي برز على غير ميعاد ليزف خبر اكتشاف عالم جديد، غير أنه قوبل بعدم الاكتراث فانقضّ الانتهازيون على السلطة وهيمنت تصوّراتهم الرجعية على العالم ناسفة كل أمل في خلق إسبانيا جديدة قابلة بالتنوّع وغير مستعدة لإعادة انتاج النموذج المُخزي لـ "إسبانيا الكاثوليكية المتعصّبة".
رفع "فوينتس" في رواية "تارا نوسترا" أو "أرضنا" تحدي اختصار تاريخ أوروبا وفق صياغة فنية أو إبداعية روائية استحضرت أساطيرها المؤسسة من "دون جوان" إلى "دون كيشوت" مرورا "بشارل الخامس" وكريستوف كولومبس، قصد التفكير حول مدلول الزمن الدائري. وهو زمن يعود من خلاله "الخيّرون"، حتى وأن لم يتفطن المعاصرون لحضورهم، فإما أن تنحو الإنسانية باتجاه المصادقة على تمثل آحادي لعالم مفقّر غير متسامح (وهو ذات ما وقعت في محاذيره إسبانيا القرن الخامس عشر) أو أن تقبل بعالم متعدّد الألوان حامل لوعود هناء البشرية ورخاءها.        
ما الذي بالوسع استخلاصه بعد استيفاء عرض مختلف العينات التي اقترحناها لتأثيث هذه العروض المتدبرة لتقنيات الاستضلال الإبداعي بالتاريخي في "سوق" الصناعات الثقافية التاريخية حاضرا؟
لعل ما يتعين التركيز عليه هو طابع الانتشار الكوني لتلك الأعمال الإبداعية والتثقيفية، وهي ابداعات يزداد تأثيرها يوما بعد يوم وتتدخل بقوة غير مسبوقة في إعادة تشكيل الذهنيات وتنميط الأذواق لدى الأجيال الصاعدة كونيا. ويدفع التلقّي الجماهيري لمختلف هذه الصناعات الثقافية الاستهلاكية في تنوّع أشكالها وتعدّد حواملها (المكتوبة والمسموعة والمرئية) وبعد أن تزايدت وتيرة اقتباسها من معين التاريخ البشري الذي لا ينضب، إلى التساؤل بإلحاح حول أتجاه التسوية ضمنها وتفكيك الآليات التي عوّلت عليها في مدّ جسور التواصل بين الشعوب والثقافات والأُمم، والقطع مع التوجهات الثقافة النمطية المُهيمنة والمجازفة بإلقاء الاحكام القيمية المسبقة، الدافعة نحو مزيد من الرهاب والانغلاق والتصديق على جميع الدعوى المضلّلة بخصوص عنجهية المختلف و"بربريته".
فهل سيكون بوسع الاجيال الجديدة مستقبلا تفادي الانحدار إلى ظلمات القرون الوسطى والانخراط على عكس ذلك في توجهات تفتح مجالا شاسعا للتنوع الثقافي بدل الانغماس في آتون المنافسة العمياء، وفق ما تشي بذلك سلسلة "لعبة العروش" الموسمية؟ وهل ستعيد الإنسانية تملّك إرث الحضارات المتوسطية القديمة (الإغريقية والرومانية) من بوابة الاعتراف بخصوصياتها المحليّة والافتخار بإسهام منجزاتها الحضارية في تقدم تاريخ البشرية وفق ما نستشفه من متابعة رسوم "ماري يامازكي" المتحركة؟ ثم ما الذي يعنيه اكتشاف أفق جديد أمام البشرية، إذا لم يكن مصحوبا بوعد حقيقي في اقتسام الجميع لنعمة العيش بكرامة وتحقيق الازدهار والرفاه، مصداقا لمأثور الحكمة الكونية القائلة، بـأنه "لا ثمّة رقي إذا لم تقتسمه الكافة "Le progrès ne vaut que s'il est partagé par tous "، وهو عين ما أومأت إليه تخيلات "كارلوس فوينتس" الأدبية وفرضيات "غيفن مانزي" الطريفة؟      
يقينا أن الروية التي تصبو إلى اكتشاف ما لم تكتشفه بعد لم تعد تستطيع الحياة في سلام مع راهن عصرنا المعولم. فقد تمثل طموح طليعة الروائيين في المسك بـ "روح العصر" وملازمة صفّها، معتقدين أن المستقبل لابد أن ينصفهم في انجاز إبداعات مفارقة ومثيرة، غير أن من أدركوا عصرنا قد فهموا أن مغازلة المستقبل هي أسوء ضروب الامتثال وأدهى أشكال التملق الجبان للأقوياء. فإذا لم يعد للمستقبل عامة من قيمة تُرجى بعد استحكام راهن يأبى أن يذهب في حال سبيله، فلمن سيتوجه خطاب مبدع الرواية مستقبلا؟ هل سيتحوّل كاتب الرواية إلى مجرد واعظ ديني، أو إلى ممجّد مبتذل لحب الأوطان أو كاتب منحاز لوصاية فكر الجماعة أو متعصب مبتسر لحرية الأفراد؟ ليس هناك من جواب عن هكذا استفهامات سوى محاولة إدراك ما يعيشه العالم على أنه شيء غامض على نفس الشاكلة التي انتهى إليه "ميلان كونديرا Milan Kundera " ضمن مقابساته بخصوص ما وسمه بـ "فن الرواية"[13]، حينما اعترف دون اصطناع تواضع وعلى شاكلة "ميغال ثربانتس Miguel Cervantès "، "أن الابداع الروائي يشكل مواجهة حقائق نسبية متعدّدة لا مكابدة حقيقة مطلقة واحدة، وأن على المبدع الحق التمسّك في مغامرته بعِظَةٍ لا تبلى مفادها "أن الحقيقة اليقينية الوحيدة تكمن في حكمة اللايقين"[14].         
                           


[1]     Hazareesingh (Sudhir), Le mythe gaullien, Paris, Gallimard 2010.
[2]      Touraine (Alain), « La pâleur du pouvoir en Amérique latine », dans Jean-Pierre Castelain et al. De l’ethnographie à l’histoire. Paris, Madrid-Buenos Aires. Ainsi que, Le Monde de Carmen Bernard, Paris, L’Harmattan 2006. 
[3]    Arendt (Hannah), « La brèche entre le passé et le futur », dans L’Humaine condition, Paris, Gallimard, collection « Quarto » 2012, p. 602.
[4]     Servos (Norbert), Pina Bausch. Dance Theater, Munich, K. Keiser 2008, p. 15.
[5]    وجميعهم من كبار رواد الأدب الروائي الخيالي المعاصرين بأمريكا، وممن ثبت تأثر "جورج مارتين" بهم، وشكّلوا مصدر إلهام في كتابة رواية "العرش الحديدي" التي تم تحويلها لاحقا إلى مسلسل "لعبة العروش" الموسمي الذائع الصيت كونيا.  
[6]     Attali (Jacques), « Game of Thrones » Le Moyen-Age qui vient. Article publié dans le journal L’Express, livraison du 10 avril 2014. 
[7]   يحيل المعنى الحرفي لكلمة "مانغا" في اللغة اليابانية على مدلول الرسم غير المكتمل أو العفوي. ويتركب من قسمين هما: "غا Ga" وتعني الرسم و"مان Man" وتعني الترفيهي أو العفوي. تحيل جذور هذا الضرب الإبداعي ضمن خصوصيات الثقافة اليابانية التي أعلت تاريخيا من مكانة التعبير التشكيلي بوصفه حامل ابداعي يضارع في بلاغته القولين النثري والشعري، مكتفيا في الكشف عن مدلوله بذاته دون حاجة إلى الملفوظ أو المكتوب.
وتعرض رسوم المانغا في اللونين البيض والأسود بغرض الضغط على التكاليف. وتتضمن عدد كبيرا من المجسمات قياسا للرسوم المتحركة الأوروبية، وذلك بمعدل 100 مجسم للمشهد الياباني / مقابل 40 مجسم للمشهد الأوروبي. وتحتوي منشورات المانغا على سلسلة من المجلدات. كما تتسم الرسوم اليابانية القريبة من التقسيم التقني للسيناريو بحركية أعلى من رصيفتها الغربية، مع التركيز على توجه كاريكاتوري ساخر يُعرّي الحالة الوجدانية لأبطال الحكاية، مع عدم الامتثال بالضرورة لخصوصيات السمت الشرقي وتقاطيعه وذلك من خلال عدم الاستنكاف من رسم وجوه تحمل مواصفات القسمات الغربية ولون شعرها (اصفر وأحمر) وألوان عينيها (فاتحة زرقاء أو خضراء).
وللتوسع في تاريخ هذا الفن الياباني القديم المنشأ والجذور تحسن العودة إلى دراسة:
Bouissou (Jean-Marie), Manga : Histoire et univers de la BD japonaise, éd., Philippe Picquier, Paris 2010.
      
[8]   وهي مؤلفة رسوم متحركة يابانية من مواليد سنة 1967 بطوكيو. اشتهرت بتأليف سلسلة رسوم فكاهية من نوع الخيال العلمي الموجه لليافعين (8 – 18 سنة) حملت عنوان "مسابح روما". وقد قضت "يامازكي" ما لا يقل عن 11 سنة بمدينة فلورانس الإيطالية في كفالة أستاذ فنون إيطالي التقت به بالصدفة بمحطة القطار ببروكسيل البلجيكية إبان رحلتها الأوروبية الأولى وسنها لم يتجاوز آنذاك 14 سنة. وبعد ثلاث سنوات قام ذلك المدرس باستدعائها إلى كلية الفنون الجميلة بفلورانس حيث تلقت تكوينا أكاديميا عاليا، ثم تزوجت من حفيده، منتقلة للعيش بمعية زوجها بمسقط راسها "سابورو" ثم بلشبونة عاصمة البرتغال فشيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية، واستقرت مؤخرا بمدينة البندقية.       
[9]   وهو عين ما عاشتها مؤلفة تلك الحكاية إبان رحلتها الأولى إلى أوروبا ولقائها غير المتوقع بالمرة بمحطة قطار بروكسل البلجيكية بأستاذ مدرسة الفنون الجميلة بمدينة فلورانس الإيطالية واستقرارها لأكثر من عشرية بتلك المدينة قصد تلقّي تكوينا أكاديميا في الفنون التشكيلية.
[10]   Fell (Claude), « Carlos Fuentes, un écrivain à l’écoute du monde », Claude FELL, « TERRA NOSTRA, Carlos Fuentes, Encyclopædia Universalis [en ligne], consulté le 28 janvier 2018. URL : http://www.universalis.fr/encyclopedie/terra-nostra/ 
[11]  Menzies (Gavin), 1421 L’année ou la Chine à découvert l’Amérique, traduction de Julie Sauvage, édition Intervalles, Paris 2007.
[12]  Fuentes (Carlos), Terra Nostra, trad. De l’espagnol (Mexique) par Céline Zins, Collection du monde, Gallimard, Paris 1979 
[13]   Kundera (Milan), L’art du roman, édition Gallimard « Folio », Paris 1995.
[14]    Ibid, p. 17.
« Comprendre avec Cervantès le monde comme ambiguïté, avoir à affronter, au lieu d’une seule vérité absolue, un tas de vérités relatives qui se contredisent (vérités incorporées dans des ego imaginaires appelés personnages), posséder donc comme seule certitude la sagesse de l’incertitude, cela exige une force non moins grande. » 

صدرت هذه المساهمة ضمن أعمال الملتقى العربي التاسع لأدب الطفل الذي اهتم بموضوع "القصة التاريخية الموجهة إلى اليافعين"، نشر منتدى أدب الطفل، تونس 2018. ص ص، 131 - 155.