jeudi 11 août 2016

استعمالات اللباس ورموزه في الحضارة العربية الإسلامية: قراءة في كتاب للراحل محمد الطاهر المنصوري












         مفيد ودسم، بليغ العبارة ومقتصد الإنشاء، هذا ما يمكن أن يرتسم في ذهن أيّ قارئ متمرّس بعد اطّلاعه على كتاب "محمد الطاهر المنصوري الأخير"، "في التحجّب والتزنّر" المنشور عن دار"تبر الزمان" بتونس أواخر سنة 2007.
يطرح المؤلف إشكالية مجدّدِة في الكتابة التاريخية العربية تتّصل باستعمالات اللباس ورمزياته، مختبرا مدى قدرة اللباس على رسم الفوارق أو الحدود الاجتماعية والجنسية والاثنية والملّية داخل المجال العربي الإسلامي والتعبير عنها. 
تضمن فهرس الموضوعات أهدافا بسيطة ودقيقة غطّت الحقل الدلاليّ للّكسوة واللّباس والثوب، متعقبا الوظائف المميِّزة للباس الزهد والتصوف، ولحجاب الحرائر من النساء المسلمات، متقصيا الحدود الملّية المجسمة طيلة الفترتين الوسيطة والحديثة بـ"تزنّر" أهل الكتاب من غير المسلمين وارتدائهم للـ"غيار" أو"الشكلة" داخل بلاد الإسلام، بينما تغلق رموز البياض والسواد والصفرة والحمرة والخضرة والزرقة وجمالياتها فقرات مقتصِدة مدبَّرة بعناية، ركّزت على الدال والمهم دون سواهما.
 قد يكون من المفيد بدءًا وقبل التدقيق في مختلف محاور هذه الفهرسة، الاقتراب من السياق المعرفي الذي انخرط ضمنه مؤلف هذا العمل، مركّبا من خلاله تصوّره للكتابة التاريخية منهجا ومضمونا. 
سؤال المنهج ـ سؤال السياق:
يتّصل تكوين المؤلف بالتاريخ الوسيط وبتاريخ العلاقات بين المسلمين والبيزنطيين تحديدا، ويتموضع تخصصه المعرفي بين حضارتين متصارعتين امتلأت كتب الحوليات والأخبار بتفاصيل المواجهات التي خاضتاها. وتحتاج عملية تمحيص المعطيات المتصلة بهذا التخصص إلى تبحّر موسوعيّ وتملّك لمناهج البحث الدقيق، فضلا عن توفّر أهلية التعامل مع مخطوطات مُغْبرّة عسيرة القراءة ملغزة المضامين. 
اتسعت ذائقة الباحث منذ انتسابه إلى الجامعة في أواخر الثمانينات لتنفتح منهجيا على مختلف المدارس التاريخية غير متهيبة من تجريب العديد من النماذج البحثية المتحدرة عن مناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية. فمن شاغل "حوار الثقافات والحضارات" إلى التمرّس على مناهج الثقافة المادية والتاريخ الاقتصادي والاجتماعي فتاريخ الأفكار والذهنيات، لم ينقطع المؤلف عن التوسّل بأحدث المناهج قصد تطوير استمارة المؤرخ وتطويع تساؤلاته للتلاؤم مع مقتضيات مكافحة الروايات التاريخية وتعقب اتجاه المعقولية في التعامل معها. 
ولأنّ "الطاهر المنصوري" لم يكتف بانجاز عمله كخبير في المعرفة التاريخية، وتطلّع للعب بقية أدواره كإنسان وفرد ومواطن أيضا، فقد آلى على نفسه فتح ملفات محرجة غير مطروقة داخل الجامعات ومراكز البحوث العربية والإسلامية، لا يمكن ألا يتعارض سياق تناولها مع "مواضعات" الفعل الاجتماعي وأسباره داخل المجال العربي الإسلامي. 
وليس من دليل أبلغ على انخراط المؤلف ضمن هذا السياق البناء المجدّد للبحوث في مناهج العلوم الإنسانية غربا، المثري لتساؤلاتها المحورية منذ فتوحات بارط Barthes وفوكو Foucault وهبرماس Habermas المعرفية، من محاولة التدقيق في مدلول "إعادة صياغة الماضي"، من خلال التصدّر لترجمة مؤلف "التاريخ الجديد La Nouvelle histoire" الذي أشرف على تنسيق مقالاته المجددة المؤرخ الفرنسيّ الذائع الصيت"جاك لوغوف Jacques le Goff " ، تلك المهمة العويصة التي تضمنت العديد من المحاذير المتصلة بترجمة المصطلحات باستنباط أفضل التعبير وأدقها وأكثرها تداولا في آن، وهي مهمة تجهز المُترجم لتجاوز عناقيد فخاخها وحل المشاكل المترتبة عليها بدراية واسعة وحسّ عال. 
والظن بعد هذا، أن اهتمام الباحث بتاريخ الثقافة المادية غربا وشرقا هو الذي أمضى تحفزه ووسّع اطلاعه على نماذج البحث في تاريخ الذهنيات والأفكار، دافعا إياه في غواية دالة إلى فتح ملف استعمالات اللباس ورمزياته في الحضارة العربية الإسلامية من زاوية دور القيافة والملبس في رسم الفوارق الاجتماعية والجنسية والملية والإثنية وتأكيد تمايز الهويات أو تباينها.
 استعمالات اللّباس ورمزياته :
 لئن تبرهن قراءة قائمة الإحالات المصدرية والمرجعية المقترحة من قبل المؤلف عن اهتمام ملحوظ بالقيافة واللباس في الحضارة العربية الإسلامية، فإن تناول المسألة بالتعويل على شبكة الرموز متعددة الأبعاد لا يبدو مقصودا من قبل المؤرخين المغاربة ولا من طرف أصحاب نفس التخصص المشارقة. والظن عندنا أنّ مؤلّف هذا الكتاب قد كان واعيا بجسامة ما تصدر لإنجازه، شديد الإصرار على وضع عمل بحثيّ يطمح إلى إعادة صياغة علاقة المتخصصين التونسيين في الفترة الوسيطة بمناهج الكتابة التاريخية. 
فبمجرد تقديم الإطارين الزماني والمكاني لدراسته يستعير المؤلف أدوات المقاربة الألسنية للتدقيق في معاني الألفاظ المتصلة باللباس وكيفية اقتباس معانيها وانزلاق مدلول معجمها اللغوي سواء بالنسبة للغة الكتابة والتعبير الأدبي، أو لمختلف لهجات التخاطب المتداولة. فمن لفظ "زٌنْطْ" الذي يحيل على العري التام، إلى لفظ "زْقَطْ" المنـزلق جناسا إلى مدلول من لا حسب له ولا نسب في لفظي "زقطي" و"زبنطوط" المتداولين في لهجة تخاطب التونسيين. ومن ارتداء اللباس، إلى الملابسة فاللّبس ساعة خلط الأوراق الحائل دون إدراك المعنى. ومن "الزيّ" الموحِد للمظهر إلى "الزينة" المسرفة في التأنق مظهرا وقيافة، مرورا بـ"البْدَنْ" أو "الجلدة" في ملبس الزهاد وأهل التصوّف، وصولا إلى "الثوب" الذي يتجاوز مدلوله معنى اللباس لمّا يحيل فعله المجرد في لفظة "ثاب" إلى العودة إلى الجادة بعد تعمد الخطأ والوقوع في الضلال.
 هكذا تبرز بوضوح مختلف العناصر المؤثثة للمجال المقصود بالمعاينة ويلعب اللباس دوره كحدّ فاصل بين الأفراد والمجموعات والأجناس داخل بلاد الإسلام والمجال المسيحيّ المصاقب لها مشرقا ومغربا. وحتى وإن جانب الحديث عن الفرد بالمدلول الذي نتعقّله حاضرا الصواب، فإنّ جميع من عاصروا الفترة الوسيطة قد "حدد اللباس المخصص لهم منـزلتهم الاجتماعية ومعتقدهم الدينيّ في آن". 
وظيفة اللباس كميسم وهوية  
 يعالج المؤلف تباعا لباس الفقر والتصوّف متعرضا إلى وظيفة "الخرقة" أو"المرقعة" لدى أرباب الزهد والصلاح داخل بلاد الإسلام. كما يتوقف عند وظائف ودلالات "الحجاب" و"النقاب" و"الخمار" و"البرقع"، منـزّلا إياها ضمن سياقها التاريخيّ المخصوص بها، مُستجليا بحسّ فائق وعناية شديدة حالة اللبس والتشويه المقصود المكتنفة لاستعمالاتها حاضرا، متوقفا في الأخير عند مدلول لباس أهل الذمّة في فرض ارتداء "الغيار" أو "الشكلة" وشدّ الزنانير على من طالتهم ماضيا حماية خلفاء المسلمين وسلاطينهم. 
تعتبر الخرقة أو المرقعة لدى أهل الصلاح عنوانا للبراءة والانقطاع للعبادة والتزاما بمبادئ الشرع ووقوفا عند نواهيه. كما تمثل أيضا دلالة رمزية على الفقر إلى الله دون بقية خلقه وعنوان عن انتقال السالك إلى مرتبة المشيخة المضارعة للإجازة المتوّجة للتحصيل، بعد الصدق في تخطي شدائد أو عقبات مراحل "الصحبة" و"السياحة" و"الانتساب". 
ولئن دل تناول هذا البعد من قبل المؤلّف عن دراية بالموضوع، فإنّ تدبيره المقتصد المعوّل على المهم دون سواه لم يسعف قارئه في الاطلاع على إسهامات المختصين تونسيين كانوا أم غير تونسيين في الموضوع، علما أنّ مدلول "الخرقة" أو "المرقعة" قد تحوّل مغربا ولأسباب تتصل بحساسية مسألة التجانس المذهبيّ إلى مفهوم فضفاض يضمن من خلاله لبس "البدن" التمايز الطائفي من خلال الانتساب إلى الطريقة الشاذلية وكذا للعديد من الطرق الناسلة عنها، دون التعبير صراحة عن الاختلاف مع بقية المجموعات أو الشرائح الاجتماعية الأخرى. 
تصدق نفس هذه الملاحظات على مختلف الفقرات التي خصصها "محمد الطاهر المنصوري" للتعرض لإشكالية التحجّب داخل المجال الإسلامي وللأبعاد الراهنة التي أخذتها مسألة ارتداء الحجاب. فقد أوضحت تحاليله الضافية علاقة الحجاب بالمراحل الزمنية التي سبقت ظهور الإسلام وتاريخية فرض التحجّب داخل المجال المسيحيّ، مما ساهم بلا جدال في تنسيب حالة تركيز الإعلام الغربي راهنا، وبطرق لا تخلو من المساجلة الرخيصة والخلط المقصود، على عقلية التزمت الملازمة للإسلام وللمسلمين، في حين أنّ من يرتدين الحجاب - وبصرف النظر عن احترامنا الكامل لاختياراتهن الشخصية- غالبا ما يتحدّرن عن أوساط اجتماعية تعيش ظروف صعبة ولا تمتلك تحصيلا معرفيا أو ثقافة اجتماعية ومدنية كافية تأهلهن للتعامل مع قضايا الهوية أو الخلاص مثلا - وهي قضايا حارقة غالبا ما يتم التعامل معها شرقا بحسيّة مفرطة - بالحدّ المطلوب من العقلانية تلك التي لا تتنافى في تصورنا ضرورة مع دواعي "الاحتشام" أو "المحافظة".
يتوسّل "المنصوري" بأدوات المختصّ في التاريخ الوسيط ومناهجه فيسائل النص القرآني المؤسّس وتفاسيره وأسباب نزوله وأحاديث النبيّ ومسايراته في محاولة لتأطير الوقائع والأحداث ومكافحة الروايات المتاحة حول كيفية حصولها. ولئن لم تشكّل محاولته فصلا للمقال، علما أنّ التحجّب قد جلب اهتمام المختصين في الدراسات الإسلامية وفي العلوم القانونية والسياسية وكذا الأمر بالنسبة للدراسات الحضارية و"الجندرية"، فإن استعراضه لنفس براهين من سبقوه لم يدفعه إلى مساجلة من قلّبوا قضية الحجاب من قبله وتأولوه، خاصة وقد تضمنت بعض تلك القراءات ذات الحجج التاريخية التي استجلبها المؤلف فيما يتعلق بمناقشة مدلول الأية 59 من سورة الأحزاب والتثبت من أسباب نزولها وتحديد الأجواء العكرة التي عاشها النبي قبيل واقعة الخندق وإبانها، تلك الأجواء المشبوهة التي استعملت خلالها وسائل منحطة لا أخلاقية حرّكها من وسمهم النص القرآني بـ"المنافقين" ويهود يثرب. 
خصّص مؤلّف "في التحجب والتزنر" الجانب الأخير من الفصل الثاني لمدلول رموز الألبسة المفروضة على الذمام من أهل الكتاب، مبينا أنّ معنى الذمة هو الحماية والتبعية الخالصة لمن عادت له أهليتها من خلفاء وسلاطين وأمراء الأمة الإسلامية. معتبرا أن لبس الغيار "مشرقا" أو "الشكلة" مغربا وشدّ الزنانير، وإن كان مظنة للحماية فإنه لا يخلو أيضا من تحقير معلن ومن تمييز ملّيّ ممنهج ومنظم رسميا من خلال الأوامر المتكررة لأئمة المسلمين منذ ما عرف بميثاق عمر بن الخطاب. وهكذا يستقيم قول "المنصوري" بأنّ "الاشتباه بالملبس قد عوض الاشتباه بالسحنة أو الوجه ممثِلا داخل بلاد الإسلام كما في بلاد النصارى عنصرا مميزا وعلامة بارزة لهوية السطح أو للهوية الظاهرية".  
رمزيات ألوان اللباس وجماليتها ببلاد الإسلام
 تعرض مقاربة ألوان اللباس وجماليات اللون داخل المجال العربي الإسلامي مشرقا ومغربا في كتاب "محمد الطاهر المنصوري"من زاوية علاقة اللون بالمنـزلة الاجتماعية والانتماء العقديّ ودورهما كميسم marqueur اجتماعي وملّيّ. فقد تم الاهتمام بالألوان من خلال ما حملته في المخيال الجمعي من رموز إيجابية مرغوبة أو سلبية منبوذة.
وتبين العروض التاريخية التي اقترحها المؤلف حول هذا البعد أنّ العهدين الأموي والعباسي قد عاينا تحول الألوان إلى ميسم اجتماعي وعرقيّ وملّيّ. فلئن لم يبد النبي بحكم موقعه كمؤتمن على رسالة سماوية تفضيلا خاص يتعلق بقيافة اللباس وألوانه، فإنّ الميثاق المنسوب للخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب قد خصّ الذمام بثلاث ألوان مميزة، الأزرق للنصارى والأصفر لليهود والأحمر للـ"سامريين
samaritains". 

 ومع وصول العباسيين إلى الحكم واتخاذهم للّون الأسود الذي يحيل على السيادة راية ورمزا للسلطة الإسلامية تحوّل لون الراية الأموية الأبيض إلى علامة ظاهرة للقيام ضد الشرعية ومواجهة السلطة وحاربت "المبايضة" "المساودة" محرِّكة الممانعة ضدها. ولما كان الأبيض عنوانا للتمييز الاجتماعي والأخلاقي بجميع أشكاله، فقد نافسه السواد لون امتلاك السلطة واحتكار الجاه وأداة شدة الإغراء والفتنة وفقا لما أُثر عن "مسكين الدرمي" في قصيد "قل للمليحة..."
على غرار السواد والبياض خصص المؤلف فقرات مفردة للحديث عن رمزيات الأصفر الذي عاد في أصوله إلى الأمراء قبل أن يحوّله ميثاق عمر إلى لون خاص باليهود والنساء، ورمزيات الأخضر الذي اجتاف على مرّ التاريخ مدلول الحيوية والشباب قبل أن يرتبط عقديا وفي مخيال المسلمين بحمام الروح ولون سكان الجنة بامتياز. أما اللون الأزرق الذي ارتبط قديما بحضور نبات النيلة على ضفاف أنهار مصر وبلاد الرافدين، فقد اتصل بلباس النساء والخدم والأرامل والقواعد من العجائز قبل أن يتحول وفي ظل إسلام التأسيس إلى لون تمييز التصق بالذمام من النصارى داخل المجتمع الإسلامي.
يقينا أن الهدية القيمة التي قدمتها لنا دار "تبر الزمان" للنشر التي يديرها باقتدار وتميّز عبد الرحمان أيوب المعروف بتضلعه في دراسة الموروث اللامادي والسِّيَر القبلية، قد شكلت علامة أساسية في جنسها، علما أن دقة البحث وسلاسة اللغة لم يمنعا مؤلف كتاب "في التحجب والتزنر" أن يضع الأفكار التي انطوت عليها دفتا كتابه في متناول ذائقة أبسط قرائه وأقلهم اطلاعا وتلك واحدة من خصال الكتابه حاضرا، قراءة وتدبّرا. ولئن لم يكن بوسع المؤلف أن يشحذ حب اطلاعنا لمزيد التعرّف على واقع اللباس وتاريخه مغربا، وهو موضوع بكر لا زال بحاجة لمن يتولى تفكيك ألغازه المعتَّمة، فإن الإشكالية التي رام "المنصوري" تناولها وركبها بدارية نادرة، لم يكن ضمن تخطيطها تناول جميع الأبعاد التي ينطوي عليها موضوع الملبس في شموليته مشرقا ومغربا.
 وضع "المنصوري" بلا جدال لبنة الأساس لتفحص إشكالية الملبس من نافذة التاريخ الجديد مضيفا جملة من الوثائق الهامة لملف معقد وشائك، لذلك نرجو أن يواصل من قد تستهويه مثل هذه المغامرة البحثية المضنية والممتعة في آن، السير على خطى مؤلف هذه المساهمة المفيدة والمثيرة، الهادئة والمتأنية المضافة إلى حقل الدراسات التراثية والجمالية المتصلة بتاريخ اللباس وقيافة الملبس في الحضارة العربية الإسلامية. 

vendredi 5 août 2016

لطفي عيسى: طروحات في المعرفة التاريخية والتقليد والتنوع الثقافي












المعرفة التاريخية والعلوم الإنسانية"
نجدد الترحاب بكم في سلسلة الحوارات الفكرية التي تجريها مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث مع الباحثين والأساتذة الجامعيين في اختصاصات مختلفة، منضوية أساساً تحت ما اصطلح عليه بالعلوم الإنسانية والاجتماعية بصورة عامة، وفي هذا الحوار نحاول أن نتلمس جملة من الإشكاليات والقضايا مع ضيفنا الذي نرحب به ونتشرف بوجوده معنا اليوم الأستاذ الدكتور لطفي عيسى، أستاذ التاريخ الثقافي بالجامعة التونسية، له جملة من البحوث والدراسات حول التاريخ الحديث في المجال العربي الإسلامي وكذلك في مجال المغرب الإسلامي بتطبيقات حول مغرب المتصوفة من القرن العاشر إلى القرن السابع عشر للميلاد، كما اهتم بمسألة المناقب من خلال كتابه ''المناقب بين المعجزة والتاريخ''، إضافة إلى كتابه حول ''كتاب السير''، إلى جانب العديد من الكتابات الأخرى ذات الصلة، التي تحاول أن تقارب زوايا من التاريخ العربي والإسلامي الحديث بمناهج حديثة ومعاصرة تستفيد ممّا وصلت إليه العلوم الإنسانية والاجتماعية. ومن هنا يأتي تميز وعمق ما يقدمه الأستاذ لطفيعيسى، لذلك فنحن نرحب به ترحاباً خاصاً، ونشكر له قبوله هذا الحوار الفكري معنا.
د. نادر الحمامي: أستاذ لطفي مرحباً بك.
ـ د. لطفي عيسىمرحباً، أشكرك على الاستضافة وعلى دقة التقديم، وأرجو أن نقضي وقتاً مفيداً، نحن وكلّ من يتابعنا.
د. نادر الحمامي: لعلّنا سنخيّب في هذا الحوار آمال بعض المنتظرين من باحث في التاريخ، لأنّ الأستاذ لطفي له مناهج مخصوصة يتميّز بها في بحثه التاريخي، إذ تتداخل هذه المناهج في كتاباته، فيستند إلى ما يسميه التاريخ الثقافي بصفة عامة، ولكنّ بحثه يتقاطع مع مناهج أخرى من قبيل التاريخ الاجتماعي والأنثروبولوجيا الثقافية، لذلك أود أن أسألك، بداية، عن هذه المسائل المنهجية تحديداً، هل يجب على المؤرخ اليوم أن يستفيد من دقة هذه المناهج المتداخلة، وإن كان ذلك في مجال التاريخ بصورة عامة؟
ـ د. لطفي عيسىسؤالك فيه جزء مهم جداً يتعلق بتعريف العلوم الإنسانية؛ لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن نتحدث عن مناهج خارج إطار ما يُسمّى بمجال البحث، ومجال البحث الذي نتحدث عنه هو مجال العلوم الإنسانية، فالتقسيم التقليدي للمعرفة أو العلوم، حاضراً، ينبني على مناطق رخوة ومناطق صلبة، وعادة ما يتمّ الحديث عن المناطق الصلبة فيما يتعلق بالعلوم الأساسية، أي الفيزياء والرياضيات والبيولوجيا وكلّ تطبيقاتها وامتداداتها المتعددة، أي ما يسمى العلوم الصحيحة، وما يهمني هو الفضاء الرخو، الذي هو فضاء العلوم الإنسانية، فهذا الفضاء هو مجال اشتغالي ومجال ادعائي الانتساب إليه، وفي وسط هذا الفضاء توجد مجموعة من المعارف، ومن بينها مثلاً المعرفة التاريخية، بكل تخصّصاتها، التي لها تقسيماتها الكلاسيكية بداية ممّا قبل التاريخ إلى ما يُسمى الزمن الراهن، هذا في مستوى ما يُسمى بالمقاربة الزمنية أو ما نسميه بالمقاربة التحقيبية. ولأتحدث الآن أكثر عن الجانب الذي يهمني، وهو المتعلق بالمقاربة المنهجية وليس بالقراءة الطولية، وهنا تتراءى لنا قضية المنهج في علاقتها بما يُسمى بموقع الباحث (la posture du chercheur)، فإذا ما اعتقد الباحث أنه يستطيع أن يتواصل مع الزّمن بطريقة أفقيّة ويتعامل مع المجال من خلال ربط مقارنات الفضاءات الثقافية، (ولا نقصد الفضاء من جهة كونه حيزاً جغرافياً، بل من جهة علاقته بالزمن)، فما يهمّني أنا ليس الجانب الطّولي للزمن بل ما يهمّني هو التّداخل في المستوى الأفقي، وهذا يقتضي بشكل أو بآخر أن تتعدد الأزمنة في القراءة، قد يبدو هذا الأمر مقلقاً بالنسبة إلى متابع القراءة لأنّه سيأخذه من زمن إلى زمن، وحتى بالنسبة إلى المختصين فكل من ينتسب إلى اختصاص يريد أن يحافظ على تموقعه داخل ذلك الاختصاص فمن ينتسب، مثلاً، إلى التاريخ الروماني ويشتغل على علم النقائش، لا يريد لمن يشتغل على التاريخ الوسيط أو الحديث أن يكون له اهتمام بهذه الجوانب، فما دخل بوليب أو توسيديد في من يشتغل على المجال الراهن، بينما نحن الآن عندما نتحدث عن التاريخ الراهن يحضر معنا توسيديد بشكل كبير لأننا نتحدث عن كيفية الفصل في الحياة المدنية اليوم، وعندما نتحدث عن الحياة المدنية فإنّ أثينا يجب أن تكون حاضرة، ولا يمكن بأي شكل من الأشكال أن نغيّبها بتعلّة أنّ الفترة ليست فترة أثينا. وهكذا فالأفقي أساسي في معرفة اليوم.
د. نادر الحمامي: هذا الفضاء ذو الأزمنة المتعددة يثير في ذهني سؤالين: الأول يتعلق بمسألة العلمية، وهو موضوع كبير جداً، خاصة وقد بدأت بالحديث عن هذه المنطقة الرخوة، فتعرف جيداً هذا الصراع الذي يتعلق بمدى علمية التاريخ وما يرتبط بذلك من مسألة الحقيقة والموضوعية، والناحية الثانية هي أنّ هذا التداخل في الأزمنة هو ما يشرع لك، منهجياً، الاعتماد على ما يُسمّى التاريخ المقارن، فالمسألتان أعتقد أنّهما مرتبطتان، أليس كذلك؟
ـ د. لطفي عيسىبالضبط، هما مسألتان مرتبطتان ولا يمكن الفصل بينهما بأي شكل من الأشكال، ولا بدّ أن نتفطن إلى شيء مهم بالنسبة إلى ما نحن إزاءه، وهو: كيف نتعامل مع هذا التداخل، ليس من وجهة نظر التزامن أو التعاقب كما تطرحها المدارس التاريخية، وليس من وجهة نظر الوصول إلى الحقيقة كما يبدو لقارئي الدراسات الأكاديمية أو الجامعية المحكمة بالنسبة إلى أي معرفة من المعارف التي تنتمي إلى العلوم الصحيحة أو إلى العلوم الإنسانية، طبعاً الضابط في مستوى الأداء فنياً أو تقنياً هو أنّ هذه مسألة تعلّمية، وهذا يحيلنا على المهنة والعمل من وجهة نظر حِرفية، أي كلٌّ بما يُحذق من جهة الملكة والصناعة، وهو ما يتحدث عنه مارك بلوك (Marc Bloch) (1886-1944)، فعندما نمعن النظر في هذه المسألة نقول: إنّ مارك بوك أول من طرح قضية التاريخ الثقافي بالنسبة إلى مدرسة الحوليات. كلّ الناس يعتقدون أنّ المنهج الاقتصادي والاجتماعي في مدرسة الحوليات هو قطع من تاريخ الذهنيات والفكر والحقيقة عكس ذلك تماماً، فهذا الجانب هو الذي سبق الجانب الاقتصادي والاجتماعي، وهذا مرتبط بالأمد الطويل وبمسألة القطائع، ولكن هناك مسألة أخرى وهي أنه يتراءى لي أنّ المقال شكل حدثاً تاريخياً بالنسبة إلى مدرسة الحوليات، باعتبارها مدرسة فرنسية، مع أنّ ذلك لا يعني إخضاعها لمجهر اللغة بل هي كونية، وهذا المقال الذي يتعلق بتاريخ أوروبا المقارن (L'histoire comparée de l'Europe)، والذي تمّ نشره في حدود سنة 1928، أي منذ ما يقارب القرن، ما يزال راهنياً، بمعنى أنّه ما يزال يطرح تساؤلاً عن الشيء الذي يمكن أن نقارنه، فليس كل الأشياء تقارن، ولذلك فأخشى ما يُخشى أن ينطبع في أذهاننا، اليوم وهنا، أننا نستطيع أن نبني حواراً مع الآخر والحال أننا لا نعرف أنفسنا، فيتعين أن نعرف أنفسنا، أوّلاً، ثم بعد ذلك نبدأ في المقارنة مع غيرنا.
د. نادر الحمامي: لا أريد أن نقفز إلى محور كامل سنخصصه في هذا الحوار لمسألة الدرس التاريخي ومعرفتنا بأنفسنا في علاقتنا بالآخر، لأنّ هذا أمر مهم جداً وهو جوهر هذا الحوار في نهاية المطاف، فنحن نتحدث عن المنهج للوصول لاحقاً إلى مسائل كبرى وعميقة. المهم الآن أنّ هذه المناهج التي تعتمدها وتعتبر أننا، بالإضافة إلى مسألة التاريخ المقارن، نحن في حاجة إلى الأنثروبولوجيا التاريخية، أيضاً، وقد قلت هذا منذ سنة 2008 تقريباً؛ فقد كتبت ''ما حاجتنا اليوم إلى أنثروبولوجيا تاريخية''؟ مؤكّداً هذه الحاجة انطلاقاً من كتابات فرانسوا دوسFrançois Dosse كلّ هذه المناهج ستوصلك إلى دقة غير مألوفة في استعمال المفاهيم في البحث التاريخي بصفة عامة؛ من قبيل التمييز بين الذاكرة والماضي، وأنّ الذاكرة تقوم على الماضي وتقوم على التاريخ، وهذا ما سيولد استتباعات في النظرة إلى الأمّة والوطن والهويّة وكلّ هذه الشبكات المفاهيمية، فلماذا لم نصل إلى اليوم، في البحث التاريخي العربي بصفة عامة، إلى الإفادة ممّا وصلت إليه هذه الأنثروبولوجيا التاريخية؟ وهل هناك عوائق معرفية اليوم لإعادة النّظر في هذه المفاهيم المركزية؟
ـ د. لطفي عيسىكل مجهود مرتبط في اعتقادي بالأهلنة (l'indigénisation)، وليست قضية إعادة تملّك (réappropriation) بل هي قضية أهلنة، أي أن يصبح الأمر متّصلاً بشيء هو منّا وإلينا، أي أن يصبح مألوفاً بالنسبة إلينا، من وجهة نظر تطبيقاته وليس من وجهة نظر وجوده كتصور نظري أو كمصطلح، فالمبدأ في آخر الأمر هو أن نصل إلى هذه الوضعية، هناك مسافة بيننا وبين هذه الأشياء لوجود مستويات متعددة من الصدمات، فنحن نعيش في بوتقة متحركة في داخلها هناك صدمات كثيرة ومستواها مختلف، ولنأخذ مثلاً مستوى العلاقة بالسياسي؛ ففي السنوات الأخيرة دخلنا في علاقة بالسياسي تختلف تماماً عن العلاقة التي كانت لنا معه، فالسياسي كان بالنسبة إلينا مقترناً بالمقدّس، وهناك فوبيا العلاقة بالحاكم وهي تمثل خاطئ حول الفعل السياسي بما هو فعل له علاقة بالحياة المدنية أو ما يُسمى بالمجال العمومي، وهذه هي السياسة كما فهمت وكما مورست أيضاً، ولكن لا يبدو أنّها مورست بهذا الشكل طوال مرحلة علمت ذاكرتنا الجماعية، ونحتفظ بهذا المدلول بما هو مدلول يحيلنا على التصور الذي قدمته دراسات محورية قام بها موريس هالبواكس (Maurice Halbwachs) (1877-1945) في ما يتعلق بهذا الجانب في منتصف القرن العشرين، والفكرة هي ضرورة الفصل بين كل ما يتعلق بالذاكرة وكل ما يتعلق بالتاريخ، فلا يمكن في هذا الزمن أن يأتي باحث أو سياسي فيبني خرافة جماعية ينخرط فيها الناس، فنحن حين نتحدث عن الميثاق أو التوافق الذي حصل في تونس نبنيه على خرافة التوافق منذ علّيسه، والمبدأ في الأخير هو أن يكون لتونس هذه القدرة على إحداث توافقات مبنية في النهاية على حكاية تونس. هذه الحكاية هل هي من مجال التاريخ أم من مجال الذاكرة؟ يتعيّن علينا لنجيب عن هذا السؤال أن نفصل الأمور، ونحن نصنع ذلك ولكننا حين نكتب تاريخاً فنحن نكتب تاريخاً بالوثائق ومع الوثائق وبمسافة مع الروايات التي تقدمها لنا هذه الوثائق أيّاً كان جنسها، لأنّ الوثيقة ليست أرشيفاً، وليست خبراً، وليست نصاً فقهياً، وليست ترجمة، وليست خطاباً سياسياً بالضرورة، فنحن في بحر من الأجناس، فالمبدأ أنّه يتعين علينا أن نفهم أنّ من يكتب التاريخ هو رجل يشتغل على الحديد البارد ويصنع منه ما أراد، فهذه الصناعة تشتغل على شيء بارد تمّ وضعه في مصهر ثم بعد ذلك إخراجه لجعله يتواءم مع ما نحتاجه راهناً، يقول عبد الله العروي: '' لا يزيد عمل المؤرخ على تعليب الوقائع التاريخية''، فهو يكيفها حتى لا تتعارض مع حاجيات الراهن، لأنّ خارج حاجيات الراهن لا وجود لتاريخ، بينما الذاكرة هي مسألة أخرى مختلفة تماماً، الذاكرة هي شيء مندسٌّ يومي في حياتنا، ويتعيّن أن نكون على وعي بذلك، فالماضي شيء أساسي بالنسبة إلى الحاضر والمستقبل، ولكنه ليس تاريخاً.
د. نادر الحماميالمسألة إذاً لا تتعلق، فقط، بمسألة الفصل بين المفاهيم، ثم إنّ هذا الماضي ليس اختراعاً فهناك مواد، ولكن ما يصنعه المؤرخ هو قولبة تلك المادة الخام لإيجاد تبرير وتوظيف وشرعنة لحلوله الراهنة، وهنا ترتبط المسألة بنظرة مخصوصة لديك حول هذا الماضي وهذه الذاكرة الجماعية بمقولة أساسية هي مسألة نظرتك إلى ما يُسمّى الهويّة التي لا يمكن، في الحقيقة، أن تقطع معها بصورة كليّة، لأنها ستظلّ فاعلة في الراهن، وهذا من فعل المؤرخ أيضاً.
ـ د. لطفي عيسى:صحيح، ولكن يجب ألا ننسى مسألة أخرى، أيضاً، لها أهمية بالغة بالنسبة إلى صيغة الحكاية، ونقصد هنا الحكاية بالمدلول التاريخي، لأنّ القص هو جوهر من جواهر التاريخ، وفي هذا الصدد يقول محمود درويش: ''من لا يملك الحكاية لا يملك أرض الحكاية''.
د. نادر الحماميبمعنى آخر علينا نحن أن نصنع تاريخنا.
ـ د. لطفي عيسىبالضبط، والمبدأ في كل هذا أن نكون على بينة ووعي بأنّ مسألة رفع القداسة على الفعل المدني بما هو فعل مشترك بين الجماعة (وهذا يحيلنا على المفاهيم ذات العلاقة بالأنثروبولوجيا) لم يوازه تفكير في مدلول الضابط، بتوافق مع رفع القداسة عن السياسي.
د. نادر الحماميأنت تضع شرطاً من الشروط وهو النجاح في رفع القداسة عن الفعل السياسي من ناحية، ولكن مع إعادة الاعتبار إلى الروحي، وهذا شرط مهم جداً في تقديري.
ـ د. لطفي عيسى:وبدون تحقق هذا الشرط لا يمكن الحديث عن ساحة عمومية، لأنّ الساحة العمومية التي نعيش فيها اليوم راهنياً هي ساحة لا مدنية، والصورة هي أمامنا اليوم، فنحن نتحدث كثيراً عن السلوك المدني، ولكننا نتصرف بسلوك لا مدني، فكيف لمجتمع أن يتحوّل إلى هذه المستويات المدنية، أي أن يرتقي إلى مصاف المدينة، ليس بالمدلول الإغريقي فحسب بل المدينة كما شكلتها الحضارات الكبرى عموماً، لأنّ المدينة ليست حكراً على أثينا، فالمبدأ في النّهاية هو أن نعود إلى الماضي لنعيد تركيب الضابط الاجتماعي من وجهة نظر مدنية وليس من وجهة نظر خلاصية.
د. نادر الحماميهذا الأمر مهم لأنّه بالاستتباع، ينبغي علينا اليوم، بالإضافة إلى ذلك، إعادة الاعتبار إلى الروحي ولكن في الوقت نفسه، رفع القداسة عن الفعل السياسي، فإلى حدّ اليوم لا يقع التمييز بين أمرين مهمين، هما ''الوطن'' و''الأمّة''.
ـ د. لطفي عيسى:صحيح، وهذا يدخل في لبّ الحياة السياسية، في تونس وفي العالم العربي الإسلامي بشكل عام، لأنّ الفصل الذي نبتغيه ليس بالفصل المنهجي، هو فصل عملي ليس له طبيعة منهجية، لكن مبدئياً ينبغي علينا أن نمرّ بالمنهج حتى نفهم هذه الأمور، لأنّ ''الأمّة'' مجال نعتقد أن ما قبله لا يناظره، فنحن لدينا خسائر حقيقية في بناء الحكاية من وجهة نظر علاقتها مع ما قبل الإسلام، ما الشيء الذي ينبغي أن نحتفظ به فيما يتعلق بما قبل الإسلام؟ وكيف تكون لنا علاقة صحية مع المرحلة التي سبقت الإسلام؟ أي في النهاية فإنّ العصور القديمة التي يمثلها الغرب هي أثينا وروما، لكن ما الشيء الذي يوازيها عندنا؟ وهل يتعيّن علينا أن نعود نحن أيضاً إلى ذلك الإرث؟ نحن لم نفصل في هذه القضية، والحال أنّ هذه قضية محورية لا بدّ من الفصل فيها، أي يجب علينا أن نفهم أنّ هذا الإرث هو إرث كوني، وأنّه يشكل ذكاء جماعياً للإنسانية بما أننا نتموقع في الكون من وجهة نظر فهم الغيرية، وهناك مستويان في الغيرية (يبدو لك أنني أنتقل إلى مسألة أخرى ولكنني أعتقد أنني في المسألة نفسها) المستوى الأوّل هو الغيرية الحميمة، والمستوى الثاني هو الغيرية الغريبة، والغيرية الحميمة هي كلّ ما يتصل بالفضاء الذي شكلنا حوله الحكاية، والغيرية الغريبة هي كل ما أخرجناه من هذا الفضاء، وهذا الأمر مهم جداً بالنسبة إلى المسلمين، لأنّ المسلمين، أي من يحملون ثقافة عربية إسلامية وليس بالضرورة المعتقدون، ينطلقون كلهم من أنّ هذه المسألة حضارية لا بدّ من الحديث عنها من وجهة نظر الغلبة دائماً، والحال أننا نحن الآن لسنا في موقع الغلبة، فنحن في موقع المقاومة ولسنا في موقع الغلبة.
د. نادر الحماميسنأتي إلى ذلك في المحور الموالي من الحوار، ولكنّ التاريخ الذي ندرسه بهذه المناهج وبهذه المقاربات الحديثة قد يوقفنا عند إشكاليات نعيشها اليوم، فأين نحن اليوم في الحقيقة؟ وهل يسمح لنا موضعنا اليوم، وهو موضع المقاومة وليس موضع الغلبة، أن نقارب هذا التاريخ الذي ننتمي إليه وينتمي إلينا ونصنعه ويصنعنا؟ إلى أي حد سنواصل النظر إلى هذا التاريخ من هذا الموقع المتعالي ونحن في موضع مقاومة؟
"في المحافظة والتقليد"
د. نادر الحمامي: انتهينا في الجزء الأوّل من حوارنا إلى ملاحظة مهمة، في تقديري، تتعلق بأننا في موقع غلبة بالنظر إلى تاريخنا، ولكننا في الحقيقة في موقع مقاومة، إذاً هذا الوعي الذي تدعو إليه بأن نتبين اللحظة التي نحن فيها، ألا ترى أنّها متأتية من فكرة يتقاسمها الغرب عن العرب والمسلمين وحتى العرب عن أنفسهم؟ وما يهمنا هو الآخر الغربي الذي نجد في الكثير من نظرياته الكبرى من فولتير إلى ماركس وغيرهما صدى لمسألة استثنائية الشرق، وهذه المقولة نعتقد أنّها خطيرة ومهمة وجديرة بالنظر إلى أنّها ليست إيجابية، ففكرة الاستثناء تعتبر من المسائل المهمة التي يمكن تعميق النظر فيها.
ـ د. لطفي عيسىليس هذا بالانطباع فيما يتعلق بأنفسنا بأننا خير أمّة أخرجت للناس، وهو مقاربة وشرخ وصدمة، فلسنا في حالة لا وعي بواقعنا، بل إننا نكابر انطلاقاً من سوء وضعنا، لأنّ المقاومة تنبني على التمسك بالماضي إلى حد المحافظة، وليس إعادة صياغة الماضي من وجهة نظر إثبات التقليد، أي قراءة التقليد بالمسافة.
د. نادر الحماميهذان المفهومان مهمان جداً وأساسيان، فهذا الخلط الموجود بكثرة بين التقليد والمحافظة، وأنت تميّز بين المفهومين تمييزاً صارماً.
ـ د. لطفي عيسى:في اعتقادي إذا لم نستطع اليوم أن نستوعب نهائياً أنّ التقليد يتعارض مع المحافظة، فأنا أعتقد اعتقاداً جازماً أنّ ما خسرناه من وجهة نظر التقليد هو ما لم نربحه من وجهة نظر الكونية، فالمعادلة حسابياً هي هذه، انظر الآن إلى علاقتنا بكلّ ما هو تقليدي، فإلى أي حد استطعنا أن نحافظ على الصناعات التقليدية على سبيل المثال؟ فالقضية ليست في أننا نستطيع أن نحافظ على تكرار هذا النوع من الملكات، ففي الغرب عندما وضعت الموسوعات الأولى مثل الموسوعة البريطانية وخاصة الموسوعة الفرنسية للفنون والحرف (L'encyclopédie des arts et des métiers) التي تحتوي في نسخة القرن الثامن عشر التي هي نسخة ديدرو (Diderot) ودلامبير (D'Alembert) تحتوي على سبعة مجلدات من أصل ثمانية عشر مجلداً تختص بالتصميمات المتعلقة بالحرف والصنائع، أي أنّ توصيف الحرف والصنائع والملكات أصل في الفكر، فلماذا هذه العلاقة غير الصحية بالتقليد؟ التقليد هو تكرار الشيء إلى حد معرفته وليس بمعنى أن نكون متأخرين، بينما المحافظة هي صدمة وخوف من أن نتفسّخ نهائياً ونندثر حضارياً، وهذه الوضعية هي وضعية مكبّلة، ولكن لها ما يبررها، ولم تأتِ هكذا جزافاً، لأنّ هناك شعوراً بالهيمنة من طرف النظام العالمي المسيطر الذي هو نظام رأسمالي جديد.
د. نادر الحماميهل هو شعور أم حقيقة؟
ـ د. لطفي عيسى:هو حقيقة، لأنّ النظام الاقتصادي الحالي هو نظام غير متكافئ، والغرب نفسه هو الذي يتحدّث عن ذلك، ويعتقد أنّ قدر الإنسانية اليوم هو أن تراجع هذه المسائل، فالقضية ليست سهلة كما يبدو، فليست قضية أخلاقية مبنية على ما يمكنني أن أراجع أو لا أراجع، فالعولمة مثلاً هي ولادة مشوهة للكونية، فكما نحن نفصل بين التقليد والمحافظة يجب أن نفصل بين العولمة والكونية.
د. نادر الحماميوإذا فهمنا ذلك سنتخلّص من المحافظة أوّلاً، وسنتخلّص أيضاً ممّا توهمنا ومن خوفنا من الكونية بسبب فهمنا للكونية على أساس أنّها ليست هي العولمة، وهذا سيؤدّي إلى أنّ انخراطنا في الكونية سوف لا يعني الانخراط في العولمة في صورتها المشوهة، وبالتالي التخلّص مما تسميه ''اقتصاد الخلاص'' القائم على الإيتيقي والأخلاقي وعلى الحلال والحرام، والمرور إلى القانوني والوضعي والبشري دون خوف على تقاليدنا ولكن بالتخلي عن المحافظة.
ـ د. لطفي عيسى: القضية تكمن في سؤال كيف يمكن أن تكون علاقتنا بالذكاء البشري؟ ولنتكلم بشكل مبسّط حتى نستطيع أن نفهم بشكل أفضل، فنقول: هل يتعيّن علينا أن نرفض الذكاء البشري والحال أنه يختزن ذكاء البشرية؟ فميثاق الأمم المتحدة الناظم للحقوق يتأسس على مجمل التراكمات التي أنتجتها الإنسانية بما في ذلك التراكمات التي لها علاقة بالمعتقد، فأنا منتمٍ لهذه الحضارة العربية الإسلامية، وبقطع النظر عن المعتقد فأنا وغيري نركب السفينة نفسها، ولكن المبدأ في الأخير حتى نطمئن فإننا حين نتحدث عن براديغم ''اقتصاد الخلاص'' وهو نموذج تحليلي لماكس فيبير (Max Weber) في تصوّره لما يسميه ''الاستراتيجيات الاجتماعية''، وهو يعني أنّ كل المجموعات البشرية يمكن أن توظف رصيداً أخلاقياً أو اعتقادياً لبناء علاقة بالواقع يكون فيها الدنيوي أقلّ حظاً من الأخروي، ولكنّ هذا التوظيف ما هو إلا استراتيجية أو مناورة للحصول على الدنيوي.
د. نادر الحماميفهل الحل البروتستانتي ـ وقد ذكرت ماكس فيبير- حول البروتستانتية والروح الرأسمالية، ما يزال صالحاً؟
ـ د. لطفي عيسى: نحن نتحدث في هذا المستوى عمّا ولدت العولمة بالنسبة إلينا، بقطع النظر عن الثورة الاتصالية والواقع الحالي والوضعية الغريبة التي نعيشها وما يُسمّى بالأزمة المستديمة، و''الحاضرية'' أو''الراهنية'' عند هارتوغ (François Hartog) وغير ذلك، ولكن ما يهمني بالأساس ينحصر في السؤال التالي: ما الأشياء الماثلة أمامنا في علاقة بالعولمة؟ في الحقيقة هما أمران، الإسلام السلفي والوهابيّة، ألا تتصور مثلي أنه كفانا اختزال أنفسنا في هذه الصورة، أيّاً كانت صحيحة أم غير صحيحة، فهذا ما نحن بصدد تقديمه كتصوّر حول أنفسنا، يجب ألا نحمّل غيرنا الذنب حتى وإن كان الغرب، في معناه المعولم، يساعدنا على ذلك بطريقة ''كلبية'' فبعد أن طبق الديمقراطية في مجاله وطبق الهمجية والاستعمار في مجالنا، يريد منا أن نتواصل من وجهة نظر ما يُسمى الاقتصاد المُوازي، وكلّ ما هو موازٍ، والموازي هو القرصنة، واليوم نجد القطاعات الخارجة عن الاقتصاد هي التهريب، وهذا الفكر يحيلنا على أننا استثناء في العالم، فكلّ العالم يستطيع أن يتحوّل بقدرة قادر إلى مجتمعات مدنية ومسالمة، بمعنى أنّها تأخذ وتعطي، إلا نحن، فهذا المجال وكأنه مقدّر هكذا ليكون استثناء. تقول الفلسفات الحديثة والفلسفات الاستعمارية إنّ هذا العالم العربي هو استثناء شرقي، بمعنى أنّ كل ما هو مدني لا يمكن أن يتوافق معه. أنا لا أعتقد أنّ هذا صحيح، فليس الأمر على هذه الشاكلة، لأنّ المعركة اليوم هي معركة الضابط ومعركة إعادة الاعتبار للروحي.
د. نادر الحماميأذكر في هذا الصدد طرفة تقول إنّ الديمقراطية لا يمكن أن تينع في المناطق الحارة.
ـ د. لطفي عيسى: صحيح، فمثلاً عندما نتحدث عن صورة إفريقيا لدى الرحالة والجغرافيين الغربيين قبل ليون الإفريقي، أي قبل القرن السادس عشر، وحتى بعد ذلك عندما تمّ استكشاف إفريقيا، فإنّ ذلك كان مبنياً على مصادرة مضمونها هو أنّ هذه القارة أقرب إلى عيش الحيوانات منها إلى عيش البشر، ولكنّ هناك إشكالاً في الغرب، فكيف يمكن أن تصنف الحضارة الفرعونية المصرية مثلاً؟ وكيف يمكن أن تصنف حضارة قرطاج البونية؟ والحال أنّ الفكرة التي سادت لديهم هي أنّ إفريقيا قارة حارة وظروفها الطبيعية لا تسمح بحياة عادية للبشر. فهذه إتنوغرافيا بالمعنى الاستعماري للكلمة، فالتاريخ حوّل هذا التصور الإتنولوجي إلى تصور ثقافي من خلال المرور إلى الأنثروبولوجيا.
د. نادر الحماميحسب ما فهمت، فنحن مسؤولون بالدرجة الأولى، ولكن الغرب استغل سوء فهمنا لهذه الثنائيات (المحافظة، التقليد) فحين لا أكون محافظاً فهذا لا يعني أنني أتنكر لتقاليدي، وأنني حين أنخرط في الكونية، فلا يعني ذلك أنني سأفسخ تراثي أو قيمي، إضافة إلى أنه يوجد فصل بين الثقافة المادية والثقافة القيمية، وهذا الأمر غريب جداً، ففي حين يقبل العربي المسلم الشرقي كل منتجات الثقافة الغربية، فإنه لا يقبل بسهولة أو هو يقبل بعسر كبير أن تكون هناك قيم أخلاقية أو قيم تابعة لحقوق الإنسان، ويعتبرها منافية لتقاليده ويدرجها ضمن العولمة المتوحشة والعالم العدائي، ولا يقبلها بالتالي ولا يعتبرها من ضمن الكونية.
ـ د. لطفي عيسى: يوم 27 جانفي 2015 صدر دستور البلاد التونسية، وكان هذا الدستور نتاجاً لسجالات حصلت في الساحة العامة التونسية، وهي التي مكنتنا من أن نفهم لأول مرّة ما المقصود بالتعددية الحقيقية في الساحة العامة أين ضرب التونسيون موعداً، ولم تكن تعددية صورية ولم تكن نتاج الغرف المغلقة، وهي ليست تعددية واجهة، ولم نكن إزاء واقع مغلوط أو مكذوب، وهو واقع ملموس بمعنى أننا تناقشنا وتساجلنا وتخاصمنا واشتد الخصام بيننا وتعانقنا، وهذا فعلاً ما حصل، فتلك الصورة لم تكن خاضعة من ناحية أولى إلى العقلنة، ولم تكن خاضعة من ناحية ثانية إلى الحتمية، فلا وجود لأمر حتمي حصل، ولكنّ تلك الصورة تتداخل فيها القراءة الوجدانية، وإذا حللنا تلك الصورة فسنلاحظ وجود مكسب راكمناه من وجهة نظر التعدد في الساحة العامة. أمّا الشيء الذي ينقصنا فهو العلاقة مع ما يُسمّى التنوع الثقافي، فما زالت إلى اليوم تجمعنا علاقة صعبة بالغريب، فالأنثروبولوجيا تحصل بالانعكاس، وإذا لم يحصل الانعكاس لن نصل إلى نتيجة، فالتجانس الداخلي لا يكفي وحده في نسج علاقة جيدة مع الآخر، ولا يمكن إقامة حوار في اتجاه واحد، وهذا يحيلنا على التفسير ما بعد الاستعماري. كيف نستطيع أن ندرك أنّ المرحلة الاستعمارية هي جزء لا يتجزأ من الموروث، فليست غنيمة حرب مثل اللغة، فما أتصوره أنا يتجاوز ذلك، بحيث يكون لنا انتسابان ثقافيان مثل شعوب حوض البحر الأبيض المتوسّط الذين لا يمكن لهم إنكار أنهم مشتركو الثقافة، وأنهم يعايشون المشاكل ذاتها سواء التي في الضفة الشمالية أو الجنوبية، وهذا الأمر يعود إلى قرون خلت، فمنذ القديم كانوا يعانون الحروب، وإذا لم تكن هناك حرب كبرى في فترة ما، فإنه بالضرورة كانت توجد هناك حروب ثانوية بعبارة برودال (Fernand Braudel) (1902-1985) أي الحرب بالوكالة والحرب التي لا تعلن عن نفسها والقرصنة، أي تلك الحرب التي تسمّى على الضفة الجنوبية ''الجهاد''. وعندما نقول قرصة فإننا نستحضر المعنى السلبي للكلمة، ولكن في الضفة الشمالية كلمة قرصنة لها مدلول إيجابي فهي حالة فرح. المهم أنّ في القراءات الجديدة ما بعد الاستعمارية، هناك تشديد على مسألة مهمّة، وهي انخراط الفترة الاستعمارية في ما راكمناه من وجهة نظر علاقته بالانتماء، أي إلى أيّ حد نحن الذين تم استعمارنا من قبل الفرنسيين لنا جانب من الثقافة والفكر والحضارة الفرنسية؟ فالقضية تكمن في ربط ذلك بالانتساب لا بالهويّة، على خلاف ما يمكن أن يتصوّر البعض، فالهويّة شيء والانتساب شيء آخر، فالانتساب هو ما يعبّر عنه بالفرنسية (appartenance)  ونحن لنا انتسابات عديدة، في حين لدينا هويّة (identité) واحدة.
د. نادر الحماميأي أنك تتبنى ما قاله أمين معلوف، أي أنّ الهوية متعددة وهي متجددة بانتماءات جزئية كثيرة داخلها، وهي غير ثابتة وغير مطلقة، فهي أرض متحرّكة، ومن يعتقد أنّ الهويّة ثابتة سيصل في نهاية المطاف إلى العنف بالضرورة.
ـ د. لطفي عيسى: نعم هذا صحيح، لأنّ الحل مع هذه القضيّة هو الاعتراف بتعدد الانتساب، فالغرب الآن يحدد العلاقة بالحداثة، أي بحضور أو غياب مؤشرات دالة على وجود ما يُسميه بالتعدد الثقافي (Le multiculturalisme).
د. نادر الحماميحين نأخذ على سبيل المثال المجتمع التونسي، فهناك أوّلاً من يحصر الهويّة في العروبة، وهناك من يحصرها في الإسلام، وهناك من يسبّ الآخرين فيقول ''الفرنكفونيون'' وهناك من يتم بعبارات أخرى فيقول ''لائكيون'' إلى غير ذلك، وهذا يدخل في تفريعات كثيرة، إذا زال ذلك بفعل تعدد الانتماءات، التي تكوّن جميعاً ما يسمى ''الهوية'' فحينها سندخل في مجال التعدد الثقافي الذي يمكن من التعايش مع الآخر بنبذ العنف.
ـ د. لطفي عيسى: القضية، مرّة أخرى، هي في الفصل بين المستويات، ثمّة مستويات يمكن أن نربط بينها، وثمّة أخرى ليس من المنتج للدلالة أن نربط بينها، لأنّ العلاقة اليوم بالإسلام لا بدّ أن تأخذ شكلاً يتواصل مع الراهن، فحتى نتواصل مع الراهن حقيقة، ينبغي أن نتخلى عن النموذج الأزلي للمدينة الإسلامية القديمة، التي فيها نخب وفيها عوام، ونبني مدينة مواطنين. وحتى نبني مدينة مواطنين يتعيّن علينا الاعتراف بأنّ هناك تنوّعاً، وأنّ هناك في ذواتنا وفي دواخلنا كأفراد انتماءات متعددة، وأنّ هذه الانتماءات لا تلغي بعضها بعضاً.
د. نادر الحماميفمسألتا المواطنة والهويّة اللتان يريد البعض في الحقيقة أن يضعهما باعتبارهما متقابلتين، لا يوجد بينهما أي نوع من أنواع التعارض، إذا فهمنا الهويّة على هذه الشاكلة وفهمنا المواطنة أيضاً على الشاكلة التي قدّمت.
ـ د. لطفي عيسى: طبعاً، وهذا يعيدنا إلى الحديث السابق عن الفرق بين المحافظة والتقليد، فالمسألة تكمن في وضوح التمثل وفي عدم اصطدامه بالراهن وهكذا يصبح الممكن ماثلاً أمام أعيننا، ونقصد الممكن في مدلولاته المتعددة، لأنّ الممكن يحيل على المستقبل، لكنّ قراءة الماضي هي التي تبنيه، فلو قرأنا الماضي من وجهة نظر التعدد الثقافي أو الحضور الحقيقي والملموس لتعدد الانتماءات لأصبح الممكن بالنسبة إلى المستقبل ماثلاً أمام أعيننا.
د. نادر الحماميهذا مهم ولكنه يتطلب توفر شروط معرفية في الحقيقة، وأوّلها أنّنا في حاجة إلى تحوّل جذري وعميق في ما تسميه أنت الضابط داخل المدينة، من ضابط إيتيقي ديني مرتبط بمفهومي الحلال والحرام إلى ضابط قانوني ومدني.
ـ د. لطفي عيسى: أنا أفضّل أن أسميه ضابط الوصاية وهو ضابط النخب الدينية، فثمة عودة الآن إلى هذا الكلام نفسه، فالحديث عن الصحوة الإسلامية هو استعادة مقصودة لأنّ ثمّة مقاومة، فالقائلون بهذا ليسوا ملك أنفسهم، بل هم ملك تمثّلهم للراهن، فيقولون إنّ ثمة صحوة إسلامية، بمعنى أنّ الشعائر الدينية أصبحت ظاهرة في الساحة العامة، فاحتلت الشعيرة الساحة العامة وأصبحت ظاهرة تُسمّى في الغرب (l'ostentation) أي كأن يتفاخر الإنسان بانتسابه العقدي، فيضع الصليب أو القبّعة اليهودية أو يصلّي في الشارع، فيتحوّل هو نفسه إلى شكل من أشكال الفرجة. إنّ المسألة بالنسبة إليّ أنا تتمثّل في هذا، أي كيف يمكن أن نعيد تركيب هذه المسألة من وجهة نظر الخروج من هذه الثنائية، أي من ثنائية أن تحدد النخب ما الحلال وما الحرام، وأن يخضع بقية الناس لفتاوى تلك النخب التي تحدد لهم ما يتعيّن عليهم سلوكه باعتباره سلوكاً مثالياً قياساً على السلوك غير المثالي داخل المدينة. هذا التصور للضابط هو تصوّر بالوصاية.
د. نادر الحماميإذا فالخروج لا بدّ منه، من ضابط الوصاية أو من الثنائية حلال حرام، إلى مستوى آخر يتلخّص أساساً في مسألة القانوني والمدني، ويعتبر هذا شرطاً من شروط الدخول في الحداثة وفي المواطنة، إلى غير ذلك من المسائل التي سنعمّق النظر فيها في الجزء الثالث من حوارنا هذا معك أستاذ لطفي.
"من ضابط الوصاية إلى الوعي بالتنوّع الثقافي"
د. نادر الحمامينستأنف حوارنا مع الأستاذ لطفي عيسى، وقد وصلنا معه إلى نقطة جوهرية وأساسية في الحوار معه، رغم أنّ كل ما قاله جدير بالاهتمام والنظر، أقصد تحديداً ما سمّاه الوصاية التقليدية التي تندرج في تقديري في إطار المجتمع المحافظ القائم على ثنائية أخلاقية تتعلق بمسائل الحلال والحرام وليس بما يجب فعله أو تجنبه قانونياً في المستوى الاجتماعي، ثم إنّها ثنائية تقوم على تقسيم المجتمع إلى خاصة تقدّم نفسها على أنّها النخبة وأنّها الوصيّة على الفكر وطريقة التفكير، وعامّة هي نفسها مسؤولة عن ذلك، لأنّها لم تتحرّر من هذه الثنائية، فأعطت الفرصة لهذه النخبة لممارسة وصايتها، ممّا يخرج هذا الفكر من أطر الحداثة القائمة على المسؤولية والحرية الفردية وعلى تحمّل المسؤولية، وهذا هو الأمر المهم الذي أريد تعميق الحديث فيه مع الأستاذ لطفي عيسى، فليحدثنا عن هذه الوصاية الأخلاقية.
ـ د. لطفي عيسىالمجتمعات التقليدية ما قبل الحداثية هي مجتمعات تشتغل على الشاكلة التالية: أنّ من يتولّى أمر المدينة، في الأخير، هو من يحدد السلوك القويم داخل المدينة، والسلوك غير القويم والمنبوذ أخلاقياً واجتماعياً يرتّب انطلاقاً من النص الديني، فهو الذي يشرّع ما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي. طبعاً نحن ليس لنا أي مشكل مع وجود هذه المنظومة، لكنّ المشكلة الحقيقية هي في الانتقال إلى مستوى أرقى في موقع الفرد داخل المدينة، وليس هناك مستوى أرقى في موقع الفرد داخل المدينة أبلغ من تحوّله إلى مواطن، وحتى يتحوّل إلى مواطن يتعين عليه أن يتحمل مسؤولية تصرفاته الشخصية من وجهة نظر تمثل الضابط عبر استبطان عميق للإيتقا بمعنى الأخلاق الشخصية أو الفردية وليس الجماعية.
د. نادر الحماميأليس هذا هو الخروج عمّا يُسمّى عقلية القبيلة في نهاية المطاف، أو الخروج عن عقلية الشيخ والمريد؟
ـ د. لطفي عيسى: صحيح، لكن لا يتعيّن بالمرّة أن نعتقد أنّ الوصول إلى ذلك يعني القطع مع المنظومة الدينية، يجب أن تكون المسألة دقيقة وواضحة، وهي بناء يندرج في المقصد وفي الراهن، أي أنّه يتعين على المواطن، بما هو مواطن، أن يستوعب الضابط ذا الطبيعة الوضعانية من وجهة نظر أخلاقه، وهذه الأخلاق لا تتعارض بالضرورة مع المنظومة الدينية، بمعنى أنّ ما تريد المنظومة الدينية الوصول إليه يمكن تمثله أيضاً في القوانين الضابطة للتصرفات الشخصية من وجهة نظر وضعانية.
د. نادر الحماميليس هناك إذاً في نهاية المطاف تعارض جوهري بين المنظومة الدينية من ناحية والمنظومة القانونية الوضعية البشرية من ناحية ثانية، وهذا التعارض هو تعارض موهوم في الحقيقة.
ـ د. لطفي عيسى: هذا صحيح، لأننا إذا فصلنا بين التصرّفات المحمودة والتصرفات المنبوذة اجتماعياً من جهة علاقتها بثنائية الحلال والحرام، وثنائية الخير والشر، فسوف نؤثّم الفرد، ولا ندفعه، بالتالي، إلى تحمل مسؤوليته، لأنّ التأثيم هنا سيأخذ بُعداً خلاصياً، والمجتمع لا يمكن أن يغفر لأنّ الله هو من يغفر، وهو من يحدّد طريقة الغفران. إذا كان المجتمع غير قادر على أن يغفر فكيف تريد للأفراد أن يكونوا أحرارا في تصرّفاتهم؟ وكيف تريد لهم أن يتحمّلوا مسؤولياتهم؟ ولنأخذ مثلاً علاقتنا بالنوع الاجتماعي (وليس الجندر)، ولنقل إنّ غايتنا هي حضور المرأة في الحياة العامة، ولا نقصد هنا نضالية المرأة من أجل الحصول على حقوقها بل نقصد مجرد حضور المرأة في الساحة العامة، فالمسألة مسألة حضور كما يتعقّلها عالم الاجتماع (Asaf Bayat) في كتابه ''الحياة كسياسة'' (Life as Politics: How Ordinary People Change the Middle East) أي كيف تتحول الحياة اليومية إلى سياسة، وما يهمنا هو المدلول الذي استنبطه فيما يتعلّق بما حاولت أن أدركه في تفسير الثورة على أساس أنّها حضور بالمعنى الجمالي، أي أنّ الأشخاص لم يتفقوا على أن يكونوا مناضلين بل رغبوا في أن يكونوا حاضرين، لأنّ في حضورهم دلالة على أنّهم يرغبون في الانتقال من وضعية إلى وضعية أخرى، وما يهمنا هنا هو قضية النوع وقضية أن يتحمل الانسان مسؤوليته.
د. نادر الحماميأنت تتحدث عن الثورة وكأنّها طقس عبور.
ـ د. لطفي عيسى: بالضبط، فقد يبدو التقليد مسألة باهتة، ولكن اليوم يجب أن ننفض عنها الغبار حتى نفهم من نحن أوّلاً، ثم بعد ذلك سنتحاور حقيقة مع الآخر من وجهة نظر من يملك شيئاً ويستطيع أن يقتسم ذلك الشيء مع الآخرين، وبالرجوع إلى قضية العلاقة مع النوع، فلدينا في تونس مثلاً وزارة المرأة والأسرة والمسنين، وهي التصور الغربي نفسه لمدلول النضالية النسوية، بينما لو كان لدينا وزارة النوع الاجتماعي لكان لهذه الوزارة الحق في أن تكون حاضرة من وجهة نظر الضابط الاجتماعي بمدلوله الوضعي في العديد من الوزارات الأخرى، فأين حضور المرأة في السياسة؟ وأين حضورها في المجالات الأخرى؟ فللمرأة الحق في ذلك وفي مراقبة الحياة اليومية للناس، أي أن تكون حياتنا الاجتماعية حياة متنوعة، ولأضرب لك مثلاً، ففي حوار أجريته بمعية شكري المبخوت مع عالم الاجتماع محمد كرّو، وكان محمد كرّو بطريقته الهزلية يدفعك إلى أن تضحك على الأشياء ولكن بعد ذلك تدرك ما وراء الضحك، وقد ذكرني ذلك برواية "الضحك والنسيان" لميلان كونديرا، وهو يقول لو كان هناك فضاءات مخصّصة للنساء يأتيها الرجال للتحاور مع النساء أو للحديث معهن، من أجل مجرّد الوجود في شكل عام وليس خاصاً، ولو نتجاوز فكرة أنّ الرجل يصطاد المرأة والمرأة تصطاد الرجل، لو نتجاوز فكرة الصيد والقنص والمراودة هذه، ونجتمع فقط لجمالية الاجتماع، حينها سيكون الأمر أفضل بكثير بالنسبة إلى إعلائنا لقيمة النوع الاجتماعي. فالمسألة تعني بالتدقيق كيف يمكن أن نتحمل المسؤولية بمفردنا وليس بوصاية لا من والدنا ولا من أمهاتنا ولا من اخوتنا الكبار، ولا من شيوخنا ولا من ساستنا.
د. نادر الحماميأي التحرر من كل أشكال السلطة.
ـ د. لطفي عيسى: ولكنّ هذه العملية تفترض أن يكون استبطان الضابط عميقاً لدى الأفراد من وجهة نظر الإيتيقا الشخصية، وهذا هو ما سمّيته أنت منذ قليل بـ (Le parcours initiatique)، وهو سلوك يتعين أن نراقبه يومياً حتى نصل إلى نتائج، ونراكم تلك النتائج، يعني علاقة الخوف والريبة والصيد والقنص والرغبة في استعارة (Anthropophagie)، فالرجل عادة عندما يتحدث عن امرأة جميلة هو يتحدث عنها بطريقة الأكل، (نقول بالعامية ''كلاها بعينيه'')، وذلك المدلول الذي فيه لذة مبنية على الغريزة، ونحن لسنا ضدّ ذلك، ولكننا نريد أن يصبح الأمر متقاسماً، وأن كل طرف من بيننا يستوعب النوع في تعدده، فليس هناك في المجال العام المدني امرأة أو رجل فقط، فهناك أنواع اجتماعية يجب أخذها بعين الاعتبار، وذلك هو التشعّب في الواقع المعيش، والواقع المعيش ليس الواقع الآني تحديداً، بل نحن بصدد العيش فيه كثيراً من التشعبات التي لا بد أن تكون ماثلة في أذهاننا، حتى نستطيع في نهاية الأمر أن نمرّ إلى مستوى المواطنة.
د. نادر الحماميهذا هو الشرط الأساسي، وهو الوعي بالتعدد وبالتشعّب والاختلاف.
ـ د. لطفي عيسى: والمؤشّر المحدد لذلك هو حضور التنوع الثقافي أو غيابه.
د. نادر الحماميلكن ألا ترى معي، أستاذ لطفي، أنّ المجتمعات التي نعيش فيها هي العائق الأبرز في عدم تحمّل هذه المسؤولية قبل أن تكون السلطة بكافة أشكالها هي التي تمارس هذه الوصاية الأخلاقية؟ بمعنى أنّ المجتمعات التي نعيش فيها هي التي تفسح المجال أمام تلك السلطة حتى لا تمكنها من حرياتها الشخصية ومن الواجب الأخلاقي الفردي الذاتي، فنلاحظ أنّه مهما بلغ المستوى الفكري والثقافي لشخص من الأشخاص فإنّه يبقى في حاجة إلى سلطة أخرى دينية أو روحية أو سياسية حتى يقوم بالفعل.
ـ لكن يجب ألا ننسى مسألة مهمة جداً لأنّنا جرّبناها، وهي تُسمّى تلاقي الإرادات ضمن مشروع مجتمعي واحد، فعندما نتناول مثلاً الفترة البورقيبية على علاّتها (لأننا نعرف أنّ جانباً كبيراً من التونسيين يعتقد أنّها تجربة لا يعتدّ بها لا من وجهة نظر سياسية ولا من وجهة نظر تنموية، ونحن نعتقد اعتقاداً جازماً بأنّ هؤلاء أحرار في تفكيرهم بهذه الطريقة)، وأنا أتحدث عن تلك التجربة من وجهة نظر تلاقي الإرادات؛ إرادة صانع القرار السياسي أو صاحب المشروع السياسي الذي هو بناء الدولة الوطنية، فلا يستطيع أحد القول اليوم إنّه لا يدرك أين هي هذه الدولة الوطنية فيتحدّث عن العدم، وأنا لا أريد أن أفسّر بالعدم، ولكن أريد أن أفسّر انطلاقاً من شيء موجود في الواقع، وقد تضمّن ذلك القطع مع تعدد الزوجات ونشر التعليم وتحرير المرأة والتنظيم العائلي، وبغض النظر عن الممارسة، فهذا هو المشروع الذي تتلاقى ضمنه إرادات السياسيين مع المجتمع من أجل بناء الدولة الوطنية.
د. نادر الحماميهل كان المجتمع التونسي، بداية من التجربة البورقيبية أي منذ سنة 1956 تاريخ استقلال الدولة التونسية، متقبلاً لمشروع الدولة الوطنية؟ هل كان مثلاً متقبلاً لمجلة الأحوال الشخصية لولا أنّها صادرة عن رجال دين وشيوخ؟
ـ د. لطفي عيسى: ما يهمني هنا هو رصيد الثقة الذي ينبني بين من يَحكم ومن يُحكم، فالمعادلة هي هذه، وليست هناك معادلة أخرى، فلا بدّ في آخر الأمر من وجود صاحب القرار الذي يصنع القرار ويتّخذه، بغض النظر عن شكل ذلك القرار وعن وجود وعي بالمسألة أم لا، فأنا أتحدّث عن تلاقي الإرادات من جهة رصيد الثقة بين الحاكم والمحكوم، والحال اليوم أنّ هذا الرصيد غائب.
د. نادر الحماميلو لم تكن هنالك ثقة في شخص الحبيب بورقيبة في أوائل الاستقلال، لما قبل المجتمع بأي شيء من الأشياء.
ـ د. لطفي عيسى: ولكان انفرط عقد الدولة الوطنية في مهده.
د. نادر الحماميوهذا ما سمّيته تقابل الإرادات، فهذا المجتمع، بفضل الثقة التي له في شخص الحبيب بورقيبة، كان بإمكانه أن يقبل كلّ تلك الإصلاحات الغريبة عنه آنذاك.
ـ د. لطفي عيسى: كان بإمكانه أن يتصوّر نفسه مختلفاً عمّا كان سابقاً، فقد كان هناك نموذج مسيطر وهو نموذج المستعمر المتمثل في الإدارة الاستعمارية وتصوّراتها، وكان المجتمع التونسي في موقع مقاومة لذلك النموذج، وإذا به يجد نفسه في موقع بناء وتنمية.
د. نادر الحماميوهل نستطيع القول (بنوع من الإسقاط) إنّ المجتمع التونسي ما بعد سنتي (2010/2011) لم يكن يتصور أنّ أمامه تلك الممكنات؟
ـ د. لطفي عيسى: لا أعتقد أنّه لم يتصوّر ذلك، فنحن كنا نتحدّث عن مبدأ تلاقي الإرادات، وهذا هو الشرط التوجيهي بالنسبة إلى التجربة البورقيبية، وتجربة بناء الدولة الوطنية، ولكننا اليوم نحن إزاء تجربة بناء الدولة المدنية، ولننتبه إلى أنّ كلّ ميثاق لا يمكن أن يمرّ في تونس اليوم إلا ميثاق المواطنة، وليس ميثاق الوطن، وكلّ المواثيق التي يراد لها أن تبنى بما في ذلك الدستور، الذي تمّ المصادقة عليه والاتفاق حوله، لا تعني التونسيين بقدر ما يعنيهم حقيقة بالإضافة إلى تصرّفاتهم اللامدنية وبالإضافة إلى تعاملهم مع الواقع بالمراهنة غير المجدية، وذلك بمعنى أنّهم يريدون الجلوس في مكانهم والتحصّل على أفضل ما هو موجود في العالم، فالكل يريد لأبنائهم أن يكونوا في أحسن وضع، والكل يريد لنفسه أحسن زوجة أو أحسن امرأة، وأحسن سيارة ... والكلام لمحمّد كرّو وهو يسخر من التصرّف اللامدني، وأعتقد أنّ له الحق في ذلك، وهذا تصوير كاريكاتوري للمجتمع، ولكنه مهم جداً حتى نستوعب الصورة بشكل أفضل، أي أن نعرف المسافة الفاصلة بيننا وبين الحقيقة، لأنّ الحقيقة قد تبدو بعيدة عنا. لكن التقاء الإرادة حول المواطنة، وهذا تصوّري الخاص، هو مربط الفرس لكلّ سياسة في تونس اليوم.
د. نادر الحماميفي الحقيقة لا يمكنني أن أتجاوز في هذا الحوار بعض الأفكار الكثيرة التي تفتح مشاريع جديدة لإعادة التفكير والنظر، هذه الأفكار التي تطرحها، وهي عميقة جداً، هي نتاج بحث أكاديمي وعلمي في إطار الجامعة التونسية وخارجها، ولذلك فهذه النتائج للأبحاث وإعادة التنقيب والحفر هو منطلق من اختصاصك الأوّل، فكيف يمكننا في نهاية المطاف أن نصل إلى هذه الأفكار، بهذا العمق في النظر، انطلاقاً من مجال اختصاص؟
ـ د. لطفي عيسى: كنّا بصدد التعرّض لجوانب لها علاقة بالفكر والممارسة في اتصالها بمضامين أساسية تخصّ علاقتنا بانتماءاتنا المتعددة وعلاقتنا بالماضي من زاوية القراءة التاريخية، وحين نعود إلى القراءة التاريخية وننظر في مستويات التطبيق التي يمكن أن يستفيد منها البحث التاريخي، فأعتقد أنّه يوجد ثلاثة جوانب، على الأقل، يمكن وصفها بأنّها قارّات غير مكتشفة في التاريخ، لنقول بشكل أو بآخر إنّه مازال ما لم نستكشفه على أرض الكتابة التاريخية، ويتعلّق ذلك بثلاثة مستويات: المستوى الأول هو تاريخ الحسّي والمحسوس (L'histoire du sensible) فهذا المجال ما يزال في بداياته، ومازلنا نتحسس موقعنا منه، وأورد هنا مثالاً كنت قد قدّمته في مداخلة في إطار ''صناعة الخبر ومدلول المجال''، وكنت قد تعرّضت في ومضة إلى هذه المسألة وسأعود إليها من تلك الزاوية، فما يعلّم المشهد الهندسي للمدينة العربية الإسلامية والفضاءات العربية الإسلامية هو صوامعها وقبابها، ولكن ما يعلّمها صوتياً هو الأذان، وهذا الجانب له أهميته البالغة، فلا بدّ أن نفهم علاقتنا به من زاوية تعليمه للمشهد، ولهذا أهمية بالغة في فهمنا للأشياء، فعندما نقول مثلاً الصّداق (عقد القران) يُكتب بعد صلاة الظهر، أو بعد صلاة العصر، ونقول أن دفن الميت لا يتم إلا في الضحى، أو بعد صلاة الجمعة إذا افترضنا أننا في يوم جمعة، وهكذا فكل ما يعلّم حياتنا اليومية له ارتباط بالروحي سماعاً، فهذه الثقافة المسموعة تعلّم واقعنا اليوم، وقسْ على ذلك العين التي تشاهد واللمس والروائح...، فهذه المسائل مازالت إلى اليوم في مخبر المؤرّخ، ولم تنته بعد. أمّا الجانب الثاني فهو الذي يتعلّق بالتفضيل الفكري قياساً على الانتماء الاجتماعي، فليس قدراً أن أنتسب إلى أوساط اجتماعية عمّالية وأن تكون لي أفكار مناضلة تخدم الفئات العمّالية، وقد أكون في موقع آخر من زاوية فكرية. أي أنّ الوسط الاجتماعي لا يحدد بالضرورة بالانتماء الاجتماعي، أي أنني أستطيع مثلاً من موقعي الاجتماعي أن أحمل أفكاراً مختلفة بل ومتصارعة. وبالتالي فصراع الأجيال مهم جداً، فلنأخذ مثلا آل بن عاشور فقد انطلقوا كحرفيين ثم بعد ذلك تحوّلوا إلى أولياء صالحين ثم بعد ذلك تحوّلوا إلى علماء دين، ثم بعد ذلك تحوّلوا إلى جامعيين، ثم بعد ذلك تحوّلوا إلى مثقفين يساريين، وإذا أردنا فهم هذا التحوّل فعلينا أن نفهم براديغم صراع الأجيال. أمّا الجانب الثالث والذي أسميه القارّة الأخيرة فهو قارّة الثقافة السياسية، فهل السياسة تحتاج إلى ثقافة؟ لا يمكن أن نمارس السياسة أي الشأن المدني خارج إطار سعة الثقافة، لأننا سنبني حكاية مع غيرنا، فحتى تتلاقى الإرادات يتعيّن علينا أن نبني حكاية تتقاطع فيها معطيات الراهن مع معطيات الماضي، المعطى الفكري مع المعطى الاقتصادي، المعطى المتصل بالعلوم الصحيحة مع المعطى المتصل بالعلوم الإنسانية. هذه المسألة تحيل في الأخير على جوانب نظرية أساسية حول كيفية نقل المعرفة من زاوية الممارسة السياسية على الشاكلة البورقيبية مثلاً، فالممارسة السياسية على الشاكلة البورقيبية هي التي تعلّم الساحة العامة وليس هناك ممارسات أخرى، وهذه المسألة مبنية على ما نسميه التناقل وهو بدوره مبني على قراءة للحداثة من زاوية ما انتخبناه على أنّه حديث، لكن من سجّل نفسه في الاحتجاج وكتب حول الاحتجاج من زاوية المناكفة مع الفكر الحداثي الذي بناه بورقيبة حول الشخصيات الممثلة للفكر الحداثي من أمثال الطاهر الحداد وأبي القاسم الشابي...، وكل هذه المجموعات التي يعتقد السياسيون أنّها الأحرى بأن تكون في السجل، أولئك الذين يرون أنّه لا يتعيّن أن تكون موجودة أو أن يكون معها أطراف آخرون، ولنفترض أنّ الطرف الآخر هو الثعالبي، ولو أنه موجود في سجل الحداثة، فكيف نقرأ احتجاجهم من خلال كتاباتهم؟
د. نادر الحماميمن خلال هذا السؤال الذي أنهيت به، وهو مشروع بحوث كبيرة في اعتقادي من خلال هذه القارّات الثلاث التي ربما لم يلجها المؤرّخ بصورة عامة، والتي على الباحثين الاهتمام بها أكثر لأنّها تفتح مجالات للبحث في التاريخ، حتى تصل إلى عمق الفكرة في نهاية المطاف، لأنّ البحث التاريخي هو حامل من حوامل الفكرة والتفكير في المجتمع وفي السياسة وفي الثقافة، وفي هذه المجالات المتداخلة برؤية منهجية وفكرية عميقة، فهذه القارّات التي حدّدتها هي دعوة للباحثين والمهتمين لإعادة النظر فيها بما تطرحه من إشكاليات من زوايا متعددة. ليست الرغبة في إنهاء هذا الحوار معك، أستاذ لطفي، لأنّ له قارّات أكثر من القارّات الثلاث التي حددتها، ولكن لعلّها تكون فاتحة أعمال بيننا في مناسبات علمية، نرجو أن تتفضّل بقبولها متى كانت لك الرغبة في ذلك.