mardi 29 mai 2012

صالح بن يوسف في قصر قرطاج: "الذاكرة الحلال"





 وُشِّحت أمسيات السبت في قصر الجمهورية بقرطاج برداء ثقافي معلن، فقد سن القائمون الجدد على هذا الفضاء عادة غير مسبوقة تمثّلت في استضافة وجوه الفكر والثقافة من داخل البلاد وخارجها لتقديم أسمار حول عدد من الشواغل الفكرية شملت "الذاكرة والتاريخ" (هشام جعيط) "السياقات التاريخية لنشوء العلمانية وأنماطها" (عزمي بشارة)، بينما خُصصت أمسية السبت الماضي لعرض شريط وثائقي حول ملابسات اغتيال المناضل الوطني صالح بن يوسف يحمل عنوان"صالح بن يوسف جريمة دولة"، تولّى إخراجه جمال الدلالي وأنتجته قناة الجزيرة الوثائقية وعاد أمر تنفيذ إنتاجه إلى شركة "آفاق للإنتاج الإعلامي Horizons for media productions ".
محمود أن يُعاد لقاعة العروض المسرحية والسينمائية بالقصر الرئاسي، تلك التحفة المعمارية ذات النمط الايطالي الـمُشرب بإحالات جليّة على المعمار التونسي الأصيل نشاطها لكي تستقبل إبداعات التونسيين في شتى المجالات المعرفية والفنية. فمن أفّضال الهبّة التي عاشتها البلاد ضد مختلف مظاهر ارتهان السيادة وسلب التونسيين مواطنتهم، تكريس رئيس المرحلة الانتقالية الثانية لرمزية احترام النخب من خلال الاستضافة الدورية لعدد منهم كي يُسّهموا في تأثيث تلك الأمسيات بفسح المجال واسعا أمامهم للتعبير بحرية، ومن موقع غير المعني بإكراهات صناعة القرار السياسي، عمّا يخالجهم من هواجس ويعتمل في صدورهم من تصوّرات بخصوص إرث البلاد التاريخي وواقعها المعقّد ومستقبلها المنظور.
قد لا يتفهّم البعض مثل هذا التوجه النخبوي المترف أو لا يستسيغوه بالرمة، متعلّلين بالحرج الناتج عن العودة اللافتة في الفترة الأخيرة لمختلف مظاهر الاحتقان الاقتصادي (تراجع الترقيم الائتماني التونسي دوليا) والاجتماعي (بلوغ عدد العاطلين سقف المليون) والسياسي (المماطلة في رسم أفق حقيقي للتداول الديمقراطي واستباق المخاوف بالمصارحة والتعجيل بتطبيق القانون)، نتيجة لأسباب غير خافية عن كل من ألقى السمع وهو شهيد. لكن سلامة المقصد ونبل المبادرة لا يمكن أن تخطئهما كل عين ناقدة كانت أم كليلة.
حسبنا القول أن مؤسسة رئاسة الجمهورية قد احتفلت يوم السبت بكثير من التأثّر وبقدر غير قليل من التحفّظ والتدبّر أيضا بدخول رمزي لافت يحمل دلالات متباينة حول مضمون إعادة تملك الذاكرة "الوطنية"، للزعيم صالح بن يوسف لقصر قرطاج. فقد أشاد رئيس الدولة الذي أشرف على العرض/ الحفل بحضور رفيقة درب "الزعيم" وعدد من المنتسبين إلى عائلته الشخصية والنضالية الموسّعة، بخصال المناضل الوطني الفذّ، مُعلنا على الملإ صدوره عن نفس الخط النضالي باعتبار العلاقة المتينة التي ربطت والده بالأمين العام لحزب الدستور، مبيّنا أنه قد تحرّك صبيا على هدّي خطاه، وأن بيت المرزوقي بالضاحية الجنوبية لتونس قد وُصم لسنوات مديدة عَنَتًا، وبعد الضلوع في تصفية المعارضة اليوسفية بــ "بيت الخونة" !
ولئن كنا لسنا في مجال التشكيك في المشاعر التي انتابت الرئيس المؤقت للتونسيين وهو يشرف على هكذا حدث، فمن حقه أن يجد في الخط اليوسفي - لا البورقيبي- منارة يهتدي بها في انتسابه إلى مشروع الإصلاح التونسي الذي تعود إرهاصاته الأولى إلى قرابة القرن والنصف من الزمن، فإن، مربط الفرس في احتفالية دخول "صالح بن يوسف" الرمزي لقصر قرطاج، ونقصد محتوى الشريط الذي بُث لتخليد الحدث والذي قامت عليه إنتاجا مؤسستان، هما الجزيرة الوثائقية والشركة البريطانية "آفاق للإنتاج الإعلامي" التي يشترك في رأس مالها النائب عن حزب النهضة بالمجلس التأسيسي عامر العريّض - وهو ممن حضر احتفالية "السبت الثقافي" وشدّد في تدخله بعد عرض الشريط على ضرورة إعادة قراءة تاريخ النضال الوطني من بوابة رد الاعتبار لجميع من أسهموا في الحَرَك السياسي خلال القرن الماضي، والقطع مع احتكار الزعامة تفاديا للنظرة الأحادية المدمّرة التي هيمنت على القراءة الرسمية للتاريخ طوال مرحلة استفراد الدستوريين بالحكم- هو ما اضطرنا إلى وضع هذه المبادرة وعلى نبل مقاصدها، موضع المسافة النقدية.
أسندت شركة بريطانية لواحد من المساهمين في رأس مالها أو القائمين عليها (فالأمر يحتاج إلى توضيح) مُهمة تنفيذ إنتاج أشرطة وثائقية حول عدد من أعلام النضال الوطني التونسي (فرحات حشاد – المنصف باي – صالح بن يوسف) أخرجها مخرج تونسي يُعلن انتسابه لحركة النهضة ونقصد جمال الدلالي وذلك لفائدة قناة الجزيرة القطرية الوثائقية.
لئن كان الشريط في غاية الحرفيّة (صورة ونسقا وحجّة أرشيفية مصوّرة ومسموعة ومروية عن صدور شهود عدل، فضلا عن مقاربات عدد من العارفين بتاريخ تونس المعاصر وتعقيدات مراحل النضال الوطني)، إلا أن معضلته قد تمثّلت في إعادة إنتاج التوجّهات الأحادية لحزب الدستور، حتى وإن بدا متمنطقا بلبوس المصارحة وردّ الاعتبار. فالمدلول الدقيق للبديل السياسي الذي صدر الفكر اليوسفي كخط سياسي فاعل استقطب اهتمام جانب كبير من المجتمع التونسي إبان الاستقلال وحتى من بعده عنه، هو تركيزه على البعد الوحدوي العروبي المصطبغ بطرح أصولي جذّرته المزايدة السياسية واحتداد الصراع بينه وبين الطرح التحديثي المرحلي la modernisation gradualiste المشدود بشكل بارز إلى الفكر الغربي الذي انتهجه الخط البورقيبي داخل حزب الدستور. ولئن كان بمقدور هذا التمشّي - لو كتب له أن ينخرط ضمن سياق ديمقراطي تعددي مستبطن لمبدأ التعايش- الوقوف بندية في وجه الطرح التحديثي المنجذب إلى الغرب بقوة، وإدخال توازن على المسيرة السياسية والتوجهات الفكرية للبلاد، فأن الحقيقة أثبتت قصور الذهنيات السائدة عندها على الـمُـضي في هذا التوجه وتغليب منطق الإقصاء والاستئصال والتشفّي الذي لا يقبل بنجاح أي فعل السياسي خارج الخط السائد لحزب الأغلبية، وهي هِنَةٍ طالت سلبياتها الفكر المعارض بجميع توجهاته يسارية كانت أم إسلامية وليس من سبيل لتجاوز هكذا انحراف حاضرا إلا بفك الحصار السياسي ودعم الاختراق الـمُفضي حقيقة إلى التكافؤ غير القانع بتشغيل آليات المناورة والاحتواء.
نحن نقدّر، وليعذرنا شهداء العدل وغيرهم، وكذا المختصون الحقيقيون وغيرهم ممن تموقعوا بعد خطيا وحادوا عن مسافة العارفين ونزاهة الخبراء أولئك الذين وَلّف القائمون على هذا الشريط الوثائقي من خلال تواتر أرائهم لحمة شريطهم، أن صالح بن يوسف قد وقف على هذه الحقيقة منذ أن فضّل المراهنة على منازلة بورقيبة من داخل نفس الحزب، وهو تصرّف أتاه هذا الأخير أيضا إبان صراعه مع جماعة اللجنة التنفيذية غداة انشقاق قصر هلال سنة 1934، لذلك سارع الحزب إلى فصّله عن الأمانة العامة وسحب بساط الشرعية من تحت أقدامه، وهو توجه استئصالي أنجرّ إليه الشق البورقيبي بعد أن استوفى جميع محاولات المناورة واحتواء الخلاف بتقديم سخي العروض على غرار القبول بتصدّر صالح بن يوسف للحكومة التفاوضية مع فرنسا. ولعل انفجار الوضع الأمني في البلاد بل وصولها إلى حالة استحراب داخلي، هو ما رجّح كفة الحكومة الانتقالية الموالية لبورقيبة وتفويض الصلاحيات الأمنية لها من قبل الإدارة الفرنسية تلك التي تورّطت تبعا في تصفية الشق المعارض بعد أن دخل من جانبه في تحالف معلن مع قيادات الثورة الجزائرية، وما ترتب عن هكذا تموقع من ترجيح لكفة ممثلي الديوان السياسي في انتخابات المجلس التأسيسي. على أن انحياز القصر في شخص محمد الأمين باي ووليّ عهده الشاذلي لشخص بورقيبة هو ما لم يترك أمام ابن يوسف غير الفرار بجلده يوما واحدا قبل تفتيش مقر إقامته الواقع بحي "مونفلوري" وتصويره بمظهر "المتآمر على أمن الدولة الناشئة وسلامتها"، الشيء الذي أخرج خطابه عن دائرة السجال الفكري والسياسي ليدرجه ضمن بوتقة التمرّد على الشرعية قاطعا أمامه كل سبيل لنيل شعبية لا يمكن أن تُقصد دون حياد إدارة ودولة تستبطنان عميقا مدلول التعددية الفكرية والسياسية وتقبلان بمنطق التناوب على السلطة.
وهكذا فإن شعبية صالح بن يوسف لم يكن مصدرها في ما نعتقد غير الإسراف في إعلاء الحقيقة الواحدة التي لم تنجح إلا في تسييج سيرة الزعيم المضطهد برفعها إلى درجة القداسة والتنزيه، متيحة للخطاب السلفي استغلال صورة الزعيم المضطهد والشهيد الوطني التي تلقّفها رجل الشارع في بلادنا وكرّستها عقود مديدة من التعتيم والمغالطة.
هذه القراءة الشعبويّة هي التي أقرّها القائمون على هذا الشريط الوثائقي تحديدا، وتلقّفها السياسيون والمعذبون من العروبيين والإسلاميين ممن طلهم صلف الاستبداد وجبروته، فازّوروا عن الفصل بين طِباعه وبين مسيرة الإصلاح التي شكّلت من منظورنا الخاص مظلة التونسيين جميع التونسيين، وحاضنة حقيقة للمشروع المدني الحديث لدولتهم، ذلك المشروع الذي ليس من الدقيق في شيء أن نحمله وزر ما دبّرته الأيادي الدستورية الآثمة المستبدة وحتى على سبيل الإثارة الإعلامية واصمين  تدبير شق من الدستوريين اغتيال صالح بن يوسف بــ"جريمة دولة" !   
         





     

jeudi 24 mai 2012

الأصول الجمالية والفلسفية للفن الإسلامي

يتميز الفن الإسلامي باتساع جغرافي كبير فقد امتد من سمرقند شرقا إلى قرطبة غربا ومن اشبيلية شمالا إلى الفسطاط فالقطائع جنوبا. ونتج عن ذلك احتكاك الفن الإسلامي بثقافات متنوعة وجنسيات مختلفة مما أورث الفنون سمة التنوع الناتج عن تمازج الحضارات المصرية الفرعونية والهندية القديمة والبابلية والأشورية والصينية القديمة وتفاعل مختلف أساليب تعبيرها بعد انصهارها جميعا في بوتقة الحضارة الإسلامية. على أن ذلك الموروث قد انفتح على الغرب في غضون القرنين الماضيين، متبنّيا جانبا من قيمه الجمالية والثقافية وخاصة بعد الاختراقات التقنية التي حققتها الثورة التكنولوجية بعد انتشار وسائط الإعلام الحديثة. ويعد احترام التراث الفني بجعله ركيزة للمعاصرة والبحث عن ذاتية حضارية خاصة عملا استراتيجيا من صميم مسؤولية المبدعين والمثقفين والفاعلين السياسيين والمدنيين. لأن رهان الأصالة متصل بالنجاح في الانخراط في الحداثة الكونية دون أن يترتب عن ذلك أي شعور بالتفسخ أو الذوبان.

  مدلول الفن الإسلامي: 


الفن الإسلامي تراث حضاري عالمي يمثل حقبة مزدهرة لابد من إقامة جسور للتواصل بيننا وبينها لنستمد منها عناصر بقائنا وحضورنا واستمرارنا، إذ ما رمنا امتلاك هوية حضارية خاصة بنا تعكس أصالتنا وشخصيتنا في تفرّدها وتفاعلها مع القيم الكونية في آن. يتكون التراث الإسلامي من جانبين واحد مادي ملموس يتصل بالإنتاج الفني المتمثل في الآثار والمعالم والإبداعات مادية كانت أم لا مادية، وجانب فكري يتصل بالقيم ومجمل التوجهات والأفكار التي صاحبت نمو التراث الإسلامي ورفدته مشكلة على مر العصور حاضنة محورية لمختلف أنماطه وتياراته، فالتراث الإسلامي يستبطن بالإضافة إلى شكله الجمالي قيما ومعايير عميقة الأصول لها ارتباط وثيق بتكوّن الشخصية المميزة للمسلمين ماضيا وحاضرا. ففعل النهضة وفقا لما أكده جابر عصفور مثلا ليس استعارة سلبية لنموذج مغاير يتوفر عليه الأخر، إنما يحب أن يكون له امتداد تاريخي في الحاضر وعلاقة نقدية بالتراث تعيد تأويله وفقا لأسئلة الحاضر، وهو مدلول التحضّر والتقدم والمعاصرة والانفتاح والإبداع الذي لا يقنع بالإتباع وينشد الحيوية والتنوع والتغيير على الحقيقة. لا يمكن إنكار وجود جمالية إسلامية شكل الفكر الإسلامي أهم مرتكزاتها. مما يطرح سؤال جوهري يدور مضمونه حول مدى صحة القول بتوفر المجال الإسلامي قديما وحديثا على علم جمال إسلامي يتعين تحديد سماته ومضمون الإجابات التي يقدمها لنا بخصوص معنى الفن وفلسفته والهدف من وجوده والقيم الجمالية التي يصدر عنها كإبداع بشري تحيل عليه الآثار الفنية بألوانها وخطوطها وكيفية استغلالها للمساحات أو توظيفها؟ يتوفر التوحيد كحقيقة فكرية على انعكاسات جمالية تحيل على التجريد كمضمون جمالي وفلسفي معا يُؤْثر المدلول المعنوي على ما سواه من خلال التعويل على التكرار وتوظيفه بغرض التكشّف على المطلق المتناظر مع قوانين الكون التي نَعْبُـرُ من خلالها إلى ما وراء الواقع. ويبرز ذلك من خلال أهمية المركزية كمدلول جمالي في الفن الإسلامي يحاكي المركزية الكونية بالمراوحة بين الحيز والفراغ واستلهام النور والتوازن كمعيار جمالي وفلسفي في آن. وينبني تعامل الفن الإسلامي مع الطبيعة على توجه أساسي يرفع رهان تحويلها إلى معادل فلسفي جمالي ولغة تعبير جمالية عن الكل من خلال الجزء وعن اللانهائي كمدلول جمالي وفلسفي أيضا. تقتضي دواعي الإنصاف والموضوعية الاعتبار بوجود فلسفة جمالية للفنون الإسلامية قابلة لتأسيس مضامين فنية معاصرة تتسم بالأصالة والتفتح على مختلف المدارس الجمالية الكونية في آن. ويمكن اختزال تلك الخصائص والسمات الجوهرية التي صاغت مختلف مظاهر الفن الإسلامي في النقاط التالية: - التوحيد كحقيقة فكرية وانعكاسه على الفن من خلال التعبير على المطلق - الوحدة والتنوع ضمن مختلف مجالات الفنون الإسلامية - التجريد كمضمون جمالي وفلسفي - التكرار كمدلول جمالي ذا مغزى فلسفي - النظام الهندسي في الفن الإسلامي (العمارة) وارتباطه بالنظام الكوني - النفاذ من خلال الواقع إلى ما ورائه والتعبير عن ذلك فنيا. - المركزية كمدلول جمالي في الفن الإسلامي وارتباطها بالمركزية الكونية كمدلول فلسفي - الحيز والفراغ في الفن الإسلامي ومدلوله الفلسفي - الفلسفة الجمالية للنور في الفن الإسلامي - لغة التعبير الجمالي عن الكلّ من خلال الجزء أي الانتقال من الشكل الجمالي المباشر إلى المعنى الكلّي العام - تحويل مظاهر الطبيعة إلى معادل حمالي فلسفي (الأرابيسك) اللانهاية كسمة جمالية ومدلولها الفلسفي. تستقي فلسفة الجمال الإسلامية نسغها من كبار الفلاسفة والمفكرين على غرار ابن سينا والفارابي وابن حزم وابن رشد والكندي والتوحيدي والمتصوفة على غرار ابن عربي والسهروردي وجلال الدين الرومي وغيرهم.

  أراء الفلاسفة والمتصوفة المسلمين بخصوص الفن والجمال: المعنى اللغوي للجمال:


 "الجمال صفة تلحظ في الأشياء تبعث في النفس سرورا ورضا" ويذكر صاحب اللسان أن "الجمال يقع على الصور والمعاني". والجُمّال البالغ في الجمال والأكثر جمالا وهو أبلغ من الجمال. وجمل جمالا حسن خًلقه وخُلُقه فهو جميل وجَمْلاَءُ هي الجميلة وجمعها جمائل. وجمَّله يعني حسّنه وزيّنه. وقد ذكر لفظ الجمال في القرآن في عدة مواضع تحت مسميات عديدة تقع على الصور والمعاني من ذلك مثلا ما ورد بالآيتين 5 و 6 من سورة النحل: "والأنعام خلقنا لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون، ولكم فيها جمال حين تروحون وحين تسرحون". أو بالآية 10 من صورة المزّمل: "واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا"
  أبو حيان التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة : يعرّف أبو حيان التوحيدي الجمال بأنه "كمال في الأعضاء وتناسب بين الأجزاء مقبول عند النفس ... وهو على نوعين: جمال مثالي: موضوعي يصل إليه العقل المجرد المستنير بالعلة الأولى، لا بالحواس القاصرة المضللة، لذلك هو جمال مطلق ثابت لا متغيّر ولا نسبي. جمال مادي: يصل إليه بالحواس، ولهذا فهو نسبي شرطي متغير، خاضع للتغير الاجتماعي، تابع للعادات والتقاليد المحلية والطبائع البشرية. ولتفريق الجمال عن ضده في النسبة يربط التوحيدي الجميل بالنافع والخيّر دون إغفال الغاية الروحية المثلى للجمال أي الوصول إلى المطلق أي الله، وهو كل الجمال.
أبو حامد الغزالي: يؤكد على تقسيم الجمال إلى: - جمال الصورة الظاهرة المدركة بعين الرأس وهو جمال حسي. - جمال الصورة الباطنة المدركة بعين القلب ونور البصيرة وهو جمال وجداني معتبرا أن الجمال الأول يدركه الصبيان والحيوان بينما يختص أرباب القلوب بإدراك الثاني ولا يشاركهم في ذلك من لا يعلم إلا ظاهرا من الحياة الدنيا "فمن رأى حسن نقش النقاش وبناء البناء انكشف له من هذه الأفعال صفاتها الجميلة الباطنة اليت يرجع حاصلها إلى العمل والقدرة...والجميل المطلق هو الواحد الذي لا ضد له، الصمد الذي لا منازع له، الغني الذي لا حاجو له، القادر الذي يفعل ما يشاء". وإذا كان الجمال بتناسب الخلقة وصفاء اللون أدرك بحاسة البصر، وإذا كان بالجلال والعظمة وعلى الرتبة وحسن الصفات والأخلاق أدرك بحاسة القلب، مؤكدا أن لا خير ولا جمال ولا محبوب في العالم إلا وهو حسنة من حسنات الله وأثرة من آثار كرمه وغرفة من بحر جوده سواء أُدرك بالعقول أو بالحواس وجماله تعالى لا يُتصور له ثان لا في المكان ولا في الوجود". فالجمال عنده إذا على ثلاثة: جمال حسي يدرك بالحواس، وجمال وحداني يدرك بالقلب، وجمال عقلي يدرك بالعقل. وهو يميّز بين العقل والقلب ومؤكدا أن المعقولات تولّد لذة في العقل، وأن هذه اللذة مرجعها جمال العقول. ويُفرق بين جمال المعقول وجمال الصفات الباطنة التي يستشفها الوجدان.
  ابن قيم الجوزية: يتحدث عن – جمال الظاهر – وجمال الباطن ويرى أن هذا الأخير هو المحبوب لذاته وهو جمال العلم والعقل والجود والعفة والشجاعة وهو محل نظر الله من عبده ومُوْضِعَ محبته.
  ابن حزم الأندلسي: تعرض ضمن طوق الحمامة إلى أن الجمال هو " أن النفس الحسنة تولع بكل شيء حسن، وتميل إلى التصاوير المتقنة، وهي إذا رأت بعضها ثبتت فيه، فإن ميزت ورائها شيئا من أشكالها، لم يتجاوز حبها الصورة، وإن للصوّر لتوصيل عجيبا بين أجزاء النفوس النائية".
  جلال الدين الرومي مؤسس الطريقة المولوية: يتساءل "هل يرسم الرسام صورة جميلة حبّا في الصورة نفسها دون أن يأمل المنفعة من ورائها؟ وهل يكتب الخطاط كتابة فنية حبّا في الكتابة عينها دون أن تكزن القراءة هي غايته منها؟" ويجيب "إن الصورة الظاهرة إنما رُسمت لكي تدرك الصورة الباطنة التي تشكلت من أجل إدراك صورة باطنة أخرى على قدر نفاذ البصيرة".
 توضّح مختلف هذه العينات أن قضايا جمالية عديدة قد طرحت وتم تحليلها من قبل الفكر الإسلامي على غرار مدلول الجمال والجلال، قرون قبل تناولها من طرف علم الجمال الحديث. ومن بين الباحثين المختصين المعاصرين المنظرين لعلم الجمال الإسلامي نشير إلى أبحاث عفيف بهنسي وعبد الفتاح وراس قلعة جى وسمير الصايغ فضلا عن أعمال العديد من المستشرقين على غرار Titus Berckhardt, Olegue Graber et Gustave Le Bon تناولت مختلف البحوث المتصلة بالفن الإسلامي نشأة هذا الفن ومدارسه وعمائره ومدارس الرسم والزخارف الكتابية والهندسية والنباتية ورسوم الحيوان ضمن المجالات الفنية المختلفة كالخزف والمنسوجات والسجاد والحفر على الخشب والعاج والعظام والتحف المعدنية والزجاج والبلور والحفر على الحجر والجصّ والمقرنصات، بدأ من مرحلة الإسلام التأسيسي مرورا بالعصرين الأموي والعباسي والفاطمي والمملوكي والسلجوقي والمغولي، وصولا إلى المرحلة العثمانية فالاستعمارية فمرحلة نشوء الدول الوطنية عند أواسط القرن الماضي. وغالبا ما تناولت مجمل تلك البحوث الفن الإسلامي من خلال تصنيف الأعمال الفنية إلى مجالات كالعمارة والخزف والزخارف وتحويل المعادن والزجاج والنسيج والخشب إلى أعمال إبداعية والبحث في الجوانب التقنية لواحد من تلك المجالات. في حين تقف دراسات أخرى عند حدود التصنيف التاريخي والسياسي من خلال نظرة تاريخية تصنّف الفن الإسلامي من خلال العصور الأموية أو العباسية أو المملوكية أو السلجوقية أو الفاطمية أو العثمانية...وما يميز كل عصر عن الآخر. أما معظم الدراسات الإستشراقية وجانب من البحوث المتأثرة بها عربيا وإسلاميا، فقد ركزت على محاكاة الفن الإسلامي للموروث البيزنطي والروماني الهليني أو الساساني الفارسي، والحال أنه قد تجاوز حدودها المكانية مشكلا جغرافيته الثقافية الخاصة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب ومن أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، مع تميز أصلي يركّز على مدلول الوحدة في إطار التنوع، وهي سمة جمالية ملازمة للفن الإسلامي. وإلى هذا ينعَت الإستشراق الفن الإسلامي بسمة الفن الزخرفي التزيني ويدرجه ضمن مُسَمّى الفنون الصغرى الحرفيّة أو التطبيقية، مشكّكا في قيمه الجمالية اعتبارا لفشله في محاكاة الواقع وهروبه إلى الزينة الزخرفية.
مدلول الفن الحديث وصعوبات إعادة تملكه إسلاميا: 

يُعنى علم الجمال الحديث بقوانين التطور العامة للفن باعتباره أعلى شكل في عملية الاستيعاب الجمالي للواقع. ويبحث حاضرا في حقيقة الوعي الإنساني الذي يعتبر انعكاسا للوجود. ولئن يعسر عامة تعريف الجمال فأن وجوده كحقيقة ماثلة يدفعنا إلى اعتباره صفة أو مجموعة من الصفات أو القيم الكامنة في الأشياء الطبيعية أو المصنوعة وفق نظام خاص ودقيق وبعلاقات خاصة تحدث إحساس بالمتعة والرضا وهي قيم لابد منها لأنها تهذب السلوك وترتقي بالذوق العام وتدفع بالمجتمعات في طريق التقدم. لقد تم تمثّل التحديث الفني داخل المجال الإسلامي عامة على أنه توجه فوقي فرضه الغزو الخارجي، لم ينبع مطلقا عن حراك الفاعلين الداخلين. لذلك كثيرا ما اخذ شكلا تغريبيا، أجج الخلافات وعمّق الضغائن بين الغرب والشرق. والبيّن أن الفنون مختلف الحديثة لم يطل تأثيرها غير بعض مظاهر الحياة السطحية، وعدد محدود من الفئات الاجتماعية وخاصة المثقفين والميسورين وجانب من كبار أعوان الدولة الذين انخرطوا شكليا في سياق ذلك التأهيل الفكري والثقافي، وهو ما زاد في سخط المدافعين عن التوجهات المغالية في الوطنية أو "العروبية" أو"الإسلاموية" المغالية، مُضخما من الفوارق الاجتماعية ومُعمقا مشاعر التفسخ الأخلاقي والذوبان الثقافي. حاول "جاك بيرك Jacques Berque" و"غوستاف فون غرونباوم Gustav von Grünbaum " على سبيل المثال إنجاز تحليل معمّق لبعض مظاهر تلك العلاقة المأزومة بالحداثة التي طالت منظومة القيم الثقافية، فتبين لغرونباوم أن مسار التحديث قد وضع الشعوب والدول المنتسبة إلى الثقافة الإسلامية في مواجهة أساسية مع هويتها وقيمها الثقافية، بينما عثر ج. بيرك ضمن لغة التخاطب العربية حاضرا عن الإطار العاكس للقطيعة بين ما هو عصري / وما يحيل على التقليد. فمن خلال دراسته للأشكال الأدبية والفنية الحديثة التي برزت في عالم عربي كان يجهل تماما مند قرن أو يزيد فنون الرسم والنحت والأدب بالمعنى الذي سحبته الحداثة على جميعها، توصّل جاك بيرك إلى الكشف عن التناقضات التي تودي، وعبر مختلف مظاهر الفعل الإبداعي (المقال والرواية والموسيقى والمسرح والسينما...) إلى حصول تشنجات لافتة تؤذن في بعض الحالات بحصول تصلّب غير مسبوق للقيم الثقافية السائدة. ففي ظل مثل تلك القيم الثقافية التي لا يخلو ضمنها عاديُ الأمور من تمسّك مرضي بالتقليد، يُلحَق كل استثناء "يجرؤ على الزيغ" عن هذا الإطار، وفي متقاسم المجتمع الذهني إن بشكل مباشر أو بطريقة غير مباشرة، بأصول أجنبية ويستدعى ردود فعل إستئصالية وتكفيرية عنيفة. وهكذا يخلص بيرك إلى أن الحداثة الفنية لا تشغل عربيا وإسلاميا دور الإبداع الحر المثوّر لقيم المجتمع، بقدر ما تحيل مضامينها على النقل أو على المثاقفة، وذلك ضمن إطار تبادلي عقيم بين مفاهيم مشدودة إلى أصالة لا تخلو من حسّية وتسطيح، وقيم خارجية منقولة دون تدبّر عن ثقافة الأخر الغربي. يعتبر بودلير Baudelaire ضمن مقال له حمل عنوان "رسام الحياة الحديثة Le peintre de la vie moderne" نُشر خلال سنة 1863 الحداثة الفنية تجسيما "لكل ما تنجلي عنه الصيرورة التاريخية من شاعرية". كما عمد إلى اشتقاق مدلول التقليعة أو الموضة في كلمة mode، رابطا بذلك بينها وبين لفظة حديث moderne التي طغى عليها راهنا الاعتناء بالميسم والحركة والقيافة، بالإضافة إلى سجل الإشارات وشفرة فكّ دلالتها، معتبرا أن لكل مرحلة تاريخية طريقة مخصوصة في ذلك "تشكّل روح الحياة الخارجية لذلك الزمن في راهنيته"، لذلك يرى في تقليعات الموضة مؤشرا ذو دلالة هامة فيما يتصل بالتعرّف على تطور الذوق المعبِّر عن عالم الـمُثل الذي غالبا ما يرقى وضمن الذائقة البشرية فوق جميع ما نكدّسه وفي إطار ما نعيشه يوميا من تافه التصوّرات وضئيل أو منحط الممارسات. يتساوق هذا التصوّر الذي صاغه بودلير في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مع فهم "رولان بارط Roland Barthes"، في القرن العشرين للحداثة الفنية. فقد اعتبرها نوعا من السير على الأطراف ومغامرة تنجز على الهامش، غير متفقة مع الضوابط الناظمة للتصرفات المقبولة اجتماعيا وأخلاقيا، وهي تصرفات تحميها سلطة القديم وقداسته. وهي فكر يتسم بعدم الاكتمال يقبل عن طواعية تسرّب الشك إليه والخضوع إلى النقد على الدوام. كما أنها نزوع باتجاه الخلق وقطيعة معلنة مع جميع التوجهات الفكرية والنظريات المستندة على التقليد الذي يجعل من القديم مرجعا ومن التصوّرات المدرسية قاعدة.

jeudi 17 mai 2012

"حمّــام الكــلمات"








"لقد عثر العلم في تقدمه( الجنوني) على ممحاة (رهيبة)  قادرة على فسخ الأفق"
فريدريك نيتشه Friedrich Nietzsche


 
       تتوفر العديد من المقاربات المنهجية بخصوص الوضعية الراهنة لعلم النفس[1] على وجهات نظر مختلفة حول حاضر هذا الاختصاص ومستقبله. فقد بينت تلك المقاربات مثلا "أن مستقبل علم النفس على صلة وثيقة بالتمثيلات الدماغية المجسمة إعلاميا".[2] وإذا كان الأمر على هذه الشاكلة فإن ما يخشى حقيقة هو أن علم النفس كما عرفناه منذ بدايات القرن الماضي أضحى معرفة قابلة، كالذوات البشرية تماما، إلى الانمحاء.
     لا يراودنا أدنى شك في وجود الكثير من علماء نفس، غير أن جميعهم غير معتكف على البحث العلمي التجريبي. قلة هم من اختاروا العيش بين جدران المخابر ليمارسوا تجاربهم العلمية على عينات أو نماذج بشرية عبر إخضاعها لجملة من المهام المستغربة والاستمارات المضبوطة بعناية مسبقا، قصد قيس كيفية إنجازها لتلك المهام وما ينجر عن ذلك الانجاز أو الإجابة عن تلك الاستمارات من ردود أفعال.
        يتحدث هؤلاء الباحثون قليلا، مفضّلين الانهماك في حساباتهم واستنتاجاتهم العامة ذات الطابع الكوني حول علاقة الذاكرة بالكلمات في التفكير الناطق، حول كيفية رؤية الألوان، حول طريقة فض المشاكل وتجاوز الصعوبات لدى الكهول أو لدى الأطفال والقردة المتطورة الذكاء.
         يعلق "ميشال فوكو Michel Foucault" في استعارة بديعة بخصوص التجربة التي تعمد إلى إثبات كذب الأطفال قصد تفادي العقاب لدى المختصين في علم النفس المخبري "أن هناك من بين الباحثين في التخصص من يغالي في عدم التحفظ لدى الانحناء للنظر من ثقب النافذة والحال أنه إزاء باب من البلور" ! [3]
        يستند علماء النفس من دعاة التوجهات العلمية الصرفة في تجاربهم على قناعة مؤيدها أن حقيقة الإنسان قد استوعبتها ذاته الطبيعية، رابطين تجاربهم العلمية وأبحاثهم بتقليد معرفي يحيل على تصورات أساطين هذه المعرفة على غرار "بياجي Piaget" و"سكينّر Skinner" و"شومسكي Chomsky"، تواضعت جميعها بخصوص معقولية دراسة التصرفات البشرية بشكل مخبري معزول عن أي محيط بشري، معتبرة أن الوظائف النفسانية الأساسية على غرار اللغة والذاكرة والتمثّل لها طابع عام موحد. ولعل مثل تلك القناعة هي التي أدت بهم في الأخير إلى الاعتقاد بأن علم النفس ليس سوى حلقة ما ضمن السجل الواسع للعلوم البيولوجية.
    مهّدت مثل تلك التصوّرات الشديدة الوثوق بنتائج البحوث النفسانية المخبرية الطريق أمام التخصصات البيولوجية لاختراق هذا الحقل المعرفي، متوغلة في سمك "لحمته الحية"، لتقدم لنا نتائجها الخاصة حول تقصّيها للظواهر النفسانية. فقد تقعّد ظهور ما يوسم حاضرا بـ"العلوم العصبية"، وإذا ما تملينا الأمر جيدا، عن هذا التسليم بمحورية البعد الطبيعي، وهو ما أعَدّ العدة بالتدرج لتراجع الدور الموكول للبحث النفسي المخبري بعد اكتفاءه واقعيا بإنجاز العمل التمهيدي وتهيئة الظروف للباحث المختص في علوم الأعصاب حتى يوافينا بالقول الفصل ويشرح لنا بأدواته المعرفية الخاصة طبيعة الظواهر النفسانية المدروسة.
      لا مندوحة، وفقا للدعاوى العلمية المغالية لمثل هذا الخطاب أن نعتبر أن علم النفس المخبري يتجه حاضرا نحو تنميط البشري بنزع جميع خصوصياته الإنسانية عنه، متناسيا دور كل ما هو ذاتي أو غيري، تاريخي أو معيش، محسوس أو شعوري. فالعلوم الإنسانية كثيرا ما تجد نفسها مطالبة بتحمّل مسؤوليات أخلاقية لا يقع وزرها غالبا على رصيفتها الطبيعية.  فإثبات "كوبرنيك" على سبيل المثال لمحورية نجم الشمس قياسا لكوكب الأرض ليس له مطلقا أي تأثير على دوران ذلك الكوكب حول ذاك النجم، غير أن حديث "فرويد" عن اللاوعي يمكن ابتساره في تصوّر ذهني مجرد غير قابل للإثبات، قام عالم نفس بإقناع جانب من البشرية وعلى مدار قرن من الزمن أو يزيد بإمكانية وجوده. ثم كيف لنا أن نجزم يقينا أن نظام التلقين لدى المتعلمين من طلبة المدارس يتدرج ضرورة عبر المرور بمحطات ذهنية منطقية متفاوتة وفقا لما انتهت إليه نتائج البحوث البيداغوجية "البياجية" (نسبة لجون بياجي)، دون أن ينتابنا الشك في تحويلهم بمقتضى تلك الخطة التدرجية البيداغوجية إلى آلات حساب باردة؟
       يقابل هذه الأقلية من الباحثين التجربيين أو المخبريين في علم النفس، صنف آخر من المهتمين بهذا العلم يشكل أغلبية المنتسبين إليه نطلق عليهم عادة تسمية الأطباء أو المحللين النفسانيين أو "البْسي" بلغة العصر. ويأخذ حضور هؤلاء ضمن النسيج الاجتماعي الحضري شكلا ملفتا، إذ غالبا ما تتموقع عياداتهم بشقق العمارات، كما نجد لهم حضورا داخل المؤسسات التربوية والهياكل الاجتماعية وكذا ضمن الناشطين في المجالين الخيري وجمعيات المجتمع المدني. كما لا نعدم وجودا لهؤلاء المحللين بجانب من طالتهم الأرزاء أو تعرضوا للتحرش والترهيب والتعنيف اللفظي والجسدي.  
       يبحث هؤلاء عن الكيفية المثلى التي تسمح بمد يد المساعدة قصد شد عضد من طالهم الإحساس عميقا بالضيم وانسدت الآفاق في وجوههم أو انقطع رجاءهم، معولين على "كلمات مهدئة" وصيغ تبعث الأمل وتحث على التحمّل عبر الانفتاح على مشاكل الغير والإصغاء إليه ومرافقته في عملية استكشاف هشاشته والتفطن لما يعيق توازنه الحسي أو العاطفي.      يعمل هؤلاء وفقا لاستعارة "هيدغير Heidegger " البليغة على "مساعفتنا بالكلمات المطهّرة التي نفصح من خلالها عما أخفيناه عميقا في دواخلنا من عذابات".
       هم يعرفون جيدا كيفية التأثير باستعمال الكلمات، معولين على إطار طقوسي وطريقة في الأداء تحيل عن سجل سميائي معروف، نَغْنم كثيرا لو عاودنا زيارته عبر مساءلته عن حقيقة الدور الذي يمكن للخطاب الطقسي أن يلعبه في نحت مختلف تصرفاتنا كذوات بشرية.
     يتعين على هؤلاء المحللين النفسانيين أن يكونوا على بيّنة من جميع ما هو إنساني، كما ينتظر من تجاربهم أن تحيط بكل شيء، أن تستمع في هدوء وجلد لجميع التعبيرات بما في ذلك أقلها نضجا ونزقا وهوسا دون أن تبرح مكانها أو تفقد اتزانها.
      ليس هناك أكثر تعقيدا من الذات البشرية، فكيف لنا إدعاء الإحاطة بجميع خصوصياتها ؟ لقد شدد "ديكارتDescartes" ضمن تأملاته Méditations على انعدام القدرة على استكشاف قوانين الطبيعة كلما عنّ للذات الإلهية العبث بالكون وتغييره بين الفينة والأخرى، غير أن تلك القدرة أدرجت لسوء حظ المحلل النفساني شيئا من العبث في تشكيل الخصوصيات الناظمة لنفسية الكائنات البشرية. فمن مرحلة زمنية إلى أخرى ومن مكان إلى أخر لا تفتأ الذوات عن إرباكنا بتقلباتها وتغيراتها وتحوّلاتها، مما يعني أن ليس هناك من قوانين ثابتة تسمح واقعا بالإحاطة بشكل دقيق بمّا يشكل نفسية البشر في مختلف وضعياتها. فعلى غرار ما ذكره "إلياس Elias  و"فرنان Vernant " و"ميرسون Meyerson " لا يتوفر الإنسان على ذاكرة ووعي، وعن لا وعي وذكاء أيضا، بنفس الطريقة التي يتوفر بها على معدة وقلب وأعضاء.
       إن ما يشغل المحللين ويتغاضى عنه علماء النفس، هو تلك القدرة على الترميز الدائم للمعيش، والتطرق إلى جميع جوانب الحياة بالتعويل على رموز الكلمات. ولا يحتاج هؤلاء المحللين في تعاملهم مع الواقع إلى تكوين نظري أو إلى شهادات علمية تستوعب الأبعاد الأنثروبولوجية - بالمدلول الذي سحبته عليه "الكانتية Kantisme "- أو السوسيولوجي أو التاريخي، فالإنساني لا يدرّس لدى القيام بالتحليل. فأولئك الذين يصغون للإنساني ويتعهدوه بالتحليل لا يحدّد تكوينهم المعرفي واقعيا غير المباشرة الميدانية لنشاطهم، لذلك يصدق أن نعتبرهم حرفيين بالمعنى العملي الدقيق للفظة حرفة.             
    هذا النوع من التحليل النفسي الذي نسعى إليه قصد التخفيف من عذاباتنا يبدو أكثر قابلية إلى البقاء والتواصل قياسا لغيره، فأقراص السعادة أيا كان الاسم الذي سيعطى لها - وبفرض وجود تلك الأقراص طبعا - ليست في متناول اليد حاضرا ! جميعنا دون استثناء تقريبا نحتاج وعند منعرج ما في مسار حياتنا إلى "حمام كلمات" يهدئ من الروع، ويؤنسن التصرّفات. لذلك نغنم يقينا لو كان بمقدور هذا المجال التحليلي أن يتموضع ضمن دائرة البحث العلمي حتى يتناول بالدرس العديد من التساؤلات النظرية التي تخترق المجال الإكلينيكي الصرف.
        فعندما نعيد قراءة ما كتبه الظاهرتيون على غرار "مرلو بونتي Merleau-Ponty"[4] و"بينسفانغر Binswanger " مثلا، يواجهنا سؤال محيّر حول طبيعة فهم أو تأوّل هذا البحث الموسوم بالإكلينيكي لتصرفات الآخر "مرضية" كانت أم "سويّة"؟ وهل أن ذلك الفهم اكتشاف للمعنى العميق، غير المريء وغير الموضوعي أيضا للتصرفات البشرية يتساوق مع اكتشاف "كولوب" لأمريكا مثلا ؟ أم أنه اختراع لمعنى التصرّف البشري وتعبير دقيق عن مدلوله بالكلمات؟ ألا يكون المعنى الذي نبحث عنه مثلما يقترح أولئك الفلاسفة الظاهراتيون منصهرا في التصرف ذاته، أم أننا محتاجين في التعبير عنه إلى الفصل بينه وبين التصرف؟ أسئلة محرجة وملغزة بقدر ما هي محددة بالنسبة لمستقبل معرفة إنسانية تبدو في أشد الاحتياج حاضرا إلى الانبعاث من رمادها.
       ويبقى سؤال أخير لا يخلو من وجاهة خاصة حال ربطه بما كنّا إزائه. يتراء أن لنا جميع من تعرفوا، حتى بشكل سطحي، على مجال علم النفس كما أعادت "الفرودية" صياغته أقرب إلى الاقتناع حاضرا بأن في مكان ما من أعماقهم يقبع لا وعيهم، المُتلبس في شكل شخصية مفصولة عنهم، لها ذكاؤها وتأثيرها ونوازعها الخاصة. كثيرون أيضا هم أولئك الذين يحدوهم الاقتناع أيضا بأن النوازع المدفونة طي أعماقهم هي ما يدفعهم على الحقيقة إلى اقتراف ما يصنعون بأيامهم، رافعة عنهم كل كلفة أخلاقية، ساحبة تمام المشروعية على تصرفاتهم، متجاوزة جميع قدرات وعيهم البشري، والحال أن الجميع على بينة أن مجال النوازع والأحاسيس وبقية المؤثرات العاطفية والوجدانية الأخرى غير قابل للملاحظة الدقيقة وقيس التجريبي البارد.
       فالنوازع التي تتجاذبنا ما هي في الواقع إلا نتاج لمعطيات لها اتصال وثيق بأسلوب عيشنا وبالعلاقة التي تربطنا بغيرنا خاصة. فمن دون حضور تلك "الآخرية" ليس هناك من نوازع أو من أحاسيس، ليس هنالك غير مجاراة عمياء لما يشكل الجانب الغريزي والحيواني في داخلنا!
      تلك هي حقيقة الأخطار التي تحف بالممارسة المعرفية المتصلة بأحوال النفس حاضرا. فكلما طوحت تلك الممارسة المعرفية بعيدا مدّعية القدرة على ربط جذور التصرفات البشرية بمدلول محسوس، فإنها لا تقوم عبر ذلك السلوك حقيقة إلا بدعوة العلوم البيولوجية إلى أخذ موقعها والحلول محلها تدريجيا. ومن دون أن يخامرها شك في أن حصول ذلك ما سيقود أقدامنا مستقبلا إلى المحلل النفساني لا يمكن أن يخضع إلا لمجرد وصفة دوائية أو لمعالجة جينية صامتة بوسعنا الحصول عليها والمواظبة على جرعاتها دون ما حاجة إلى "حمام كلمات"، أو إلى أي "أنسنة" تمر ضرورة بجلسات إصغاء وتفريغ وتحليل مغلقة تنظّم طقوسها داخل حيّز العيادة الهادئ والمريح.
    إذا ما قُدّر أن يتخلى المحللون النفسانيون بوصفهم "أطباء روح" عن مثل ذلك الدور، فإن تصرفهم سيكون بالضرورة مدعاة لانقراضهم، وجريرة غير مسئولة بل وغير أخلاقية في آن في إتلاف القيمة الإنسانية للذات البشرية والتفريط فيها لكي تتولها مستقبلا وصفات صيدلة باردة وخرساء في آن.           


[1]  تشكل هذه العروض اختزالا لأبرز الأفكار الواردة صمن مقال "فرنسواز بارو Françoise Parot " علم النفس شروط البقاء La psychologie les conditions de la survie" الصادر ضمن: Université de tous les savoirs : L’Histoire la Sociologie et l’Anthropologie, éd., Odile Jacob, Paris 2002, p. 9 – 20.  .
[2]  Houdé (o), Que- est-ce que la vie ? Paris Odile Jacob 2000.  P. 311 - 315         
[3]  Foucault (M), Dits et écrits, Paris, Gallimard 1994, p. 157.          
[4]  Merleau-Ponty (M), Phénoménologie de la perception, éd., Gallimard, Paris 1945

mardi 15 mai 2012

Kmar Bendana entre culture livresque et emprise sur la réalité quotidienne et vis-vers-ça



Vive la culture livresque rejoignant la réalité et lui donnant de la profondeur.
J'aime la lucidité du témoignage et l'humilité de l'humaniste pleinement engagée pour un partage horizontal et citoyen du savoir historique. Juste ce qu'il faut et simplement épatant. 
Écoutons la s'exprimer plutôt...











vendredi 11 mai 2012

مراد الصقلي ينزل ضيافا على الجمعية التونسية للدرسات التاريخية الجمعة 25 ماي 2012 على الساعة الثالثة بالنادي الثقافي الطاهر الحداد ويعرض إلى " تاريخ الأغنية التونسية وسوسيولجيتها"



 علامات ضمن مسار:  
 مراد الصقلي أستاذ محاضر بالمعهد العالي للموسيقى بتونس من مواليد 1965  يدور مجال تخصصه حول علم اجتماع الموسيقى وتحليل وتأليف الموسيقى العربية وجمالياتها وتاريخها المعاصر في تونس. ناقش مراد الصقلي أطروحته الموسومة بـ "الأغنية التونسية تحليل فني ومقاربة سوسيولوجية بجامعة السربون - بارس الربعة خلال سنة 1995.
أما إنتاجه الموسيقي فيستلهم عناصره الفنية من الموروث الموسيقي التونسي بجميع ألوانه وأشكاله وأنماطه الحضرية والبدوية والصوفية المتصلة بالسماع والأذكار أو الإنشاد الطرقي، وهو يوظف جميع تلك العناصر في شكل مؤلفات موسيقية آلية وغنائية متشبعة بالطابع الموسيقي التونسي وحركاته اللحنية والإيقاعية المميزة.
ومن بين أبحاثه العلمية وإصداراته بالإضافة إلى أطروحته المتصلة بالأغنية التونسية نشير بالخصوص إلى:
-        رسالته لنيل شهادة البحوث المعمقة والتي ناقشها سنة 1989 حول "أداء المالوف التونسي".
-       الإشراف العلمي على عمليات الجمع الميداني والتوثيق في قاعدة بيانات للتراث الموسيقي بقفصة 2002.
-       الإشراف العلمي على عمليات الجمع الميداني والتوثيق في قاعدة بيانات للتراث الموسيقي بتطاوين 2003.
-       الإشراف على تحقيق كتاب المنوبي السنوسي "مدخل إلى الموسيقى التونسية"، نشر مركز الموسقى العربية والمتوسطية بتونس 2003.
-       الأرشيف الموسيقي للبارون ديرلنجاي، نشر مركز الموسقى العربية والمتوسطية بتونس 2005.
-       الموسيقى التونسية وتحديات القرن الجديد، نشر المجمع التونسي للعلوم والآداب، بيت الحكمة، تونس 2008 .
-       الموسيقى التقليدية المتجددة وإكراهات الهوية: مفهوم اللهجة الموسيقية، ضمن ملتقى موسيقات العالم الإسلامي، أصيلة – المغرب 2007 (موقع دار ثقافات العالم بباريس)
-       الموسيقى ضمن مؤلف التاريخ المعاصر لتونس (1881 - 1956)، نشر دار الجنوب، تونس 2010
أما على صعيد الإنتاج الإبداعي فنشير إلى أن لمراد الصقلي مجموعة من الأعمال الموسيقية أنتجها تباعا بين 1999 – 2011  وهي:
-       حكاية طويلة 1999 (مهرجان قرطاج)
-       غموق الورد 2003 (افتتاح مهرجان قرطاج)
-       أربعون 2004 (تحية إلى خميس ترنان افتتاح مهرجان قرطاج )
-       أصوات تونس 2007 (افتتاح مهرجان قرطاج)
-       القيروان الخالدة 2009 (افتتاح تظاهرات القيروان عاصمة للثقافة الإسلامية)
-       أرض الزيتونة  2011  (اختتام مهرجان الحمامات الدولي).
أدار مراد الصقلي مركز الموسيقى العربية والمتوسطية النجمة الزهراء بين 2002 – 2009 كما ترأس لجنة دعم الإصدارات الموسيقية بوزارة الثقافة والمحافظة على التراث بين سنوات 2000 – 2006 مؤسسا بين 2002 – 2009 لأربعة تظاهرات موسيقية سنوية هي : "بارعون شبان"– "موسيقيون من تونس"- "ألوان من الجاز"- "موسيقات". أنتج مراد الصقلي الموسقى التصويرية لثلاثة أشرطة وثائقية ومسلسل تلفزيوني، وينتج للإذاعة الثقافية "شرفات على الموسيقات"، وهي حصة تُعنى بالموسيقى وتذاع أسبوعيا. 





  

mercredi 2 mai 2012

بلاغ عن الجمعية التونسية للدراسات التاريخية بخصوص طرد الباحثين الأثرين من رحاب جامع الزيتونة المعمور



على إثر السابقة الخطيرة التي جدت برحاب جامع الزيتونة المعمور، منارة العلم والتنوير ومعقل الفكر الإسلامي المجدّد، والتي تعرض أثناءها الزميل نوري بوخشيم أستاذ التاريخ وعلم الآثار الإسلامية إلى "محاكمة مهينة" ذكرتنا بأبشع وأحلك ممارسات التفتيش ومصادرة الفكر الحرّ والرجم بالغيب خلال العصور الوسطى. تعبّر الجمعية التونسية للدراسات التاريخية، من خلال مكتبها التأسيسي وباسم جميع أعضائها، عن انزعاجها البالغ وشجبها الصريح لمثل هذه الممارسات المتزمّتة التي تتوسل بمغالطة المصلين وآمي دروس الوعظ قصد تجيشهم ضد الأساتذة المختصين في علوم الآثار والعمارة الإسلامية وعموم الباحثين في علوم التراث من خلال الإصرار على طردهم من رحاب الجامع، والحال أن أولئك قد حصلوا على التراخيص الضرورية اللازمة لإنجاز أبحاثهم مع عدم الإخلال بقداسة المكان واحترام مشاعر وشعائر المصلين وعامة العاكفين والدارسين.

وإذ تستغرب الجمعية حصول مثل هذا الانزياح الخطير في أقدس محلات السكينة والتعبد وهذا التصرف الأرعن الذي يحيل على ماضي خلنا أنه قد ولى وانقضى بعد أن وحّد النضال من أجل عزة الوطن بين جميع أبناء وبنات تونسنا المتعلّمة والمتنورة، بعد أن أعادت هَبّة الكرامة للجامع الأعظم ألقه فاتحة رحابه للدرس والتنوير على عهد أيامه المشرقة، ها قد طالعتنا نذور الغوغائيين بعد أن خلنا حصانة بالعلم والسماحة من لوثتهم واعتبرنا أنه لن يكون لهم موطئ قدم تحت سمائنا. لكن بائعي الأوهام المتاجرين بالدين ممن يهابون ظلالهم ويتوجسون خيفة من أمراض أنفسهم، هم من طالعونا اليوم ببائس عوراتهم مُحتسبين إفكا وبهتانا على صانعي العقول التونسية المتنورة الناهلة من منابع المعرفة العلمية الرصينة المحترمة لذكاء التونسيين العارفة بتقاليدهم وعادتهم، الرافضة لكل تطاول على أقدس مقدساتهم.
إن جمعيتنا التي تضم ثلة من أكفئ وأعرق المؤرخين والأثريين التونسيين تهيب بجميع الفاعلين الرسميين والسياسيين والمدنيين وكافة المناضلين والمدافعين على قيم الإسلام السمحة النابذين لجميع أشكال الغلو والرافضين لبث الأحقاد والفتن بين أبناء الوطن الواحد أن يهبّوا دون وجل للدفاع عن المعرفة المتنورة، رادين الاعتبار للقائمين عليها، مخيّبين ظنون من كسدت تجارتهم وأعمى ما ران من تخاريف واهية ودعوى جاهلة على بصرهم وبصيرتهم مسوّلا لهم الزج وفي سابقة خطيرة مؤسفة بتوافق التونسيين في الصراع وضرب ثوابتهم في الصميم. وهو ما يطرح حقيقة ألف سؤال محيّر بخصوص دور القائمين على الشأن العام المؤتَمَنين على سلامة التونسيين في بلادهم المقدّرين في ما نعتقد لخطورة طفح الكيل بالإمعان في تأليبهم ضد بعضهم البعض.
عن الهيئة التأسيسية
لطفي عيسى  
 أستاذ التاريخ بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية – جامعة تونس