mercredi 30 mars 2016

""الجنوح زمن الأزمة"[i]



















عرض نقدي لـ "جون كلود فارسي Jean-Claude Farcy"[ii]
(ترجمة لطفي عيسى)

أول الكلام:

       شكّل مؤلف رياض بن خليفة الصادر عن منشورات "هونوري شامبيون Honoré Champion" الفرنسية في نهاية الثلاثية الأخيرة من سنة 2015، صيغة "مخففة" ووفيّة لمضمون أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه ناقشها المؤلف الذي يشغل حاليا رتبة أستاذ مساعد في التاريخ المعاصر الغربي بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية التابعة لجامعة تونس، وذلك بتاريخ التاسع من شهر نوفمبر 2009 بجامعة نيس- صوفيا أنتيبوليس Nice-Sofia Antipolis الفرنسية.
لا يسعنا منذ البداية إلا الإشادة بقيمة هذا البحث المعرفي المستوفي للشروط الأكاديمية الدقيقة، سواء من حيث هيكلته أو من حيث عمق الأفكار الواردة بداخله. كما لا يسعنا إلا أن ننوّه بجودة الصياغة وسلاسة الأسلوب المعتمد في تحريره، لذلك فإن تأمل محتواه وخاصة من قبل المتخصّصين في تاريخ القضاء من شأنه أن يصيب القصد، نظرا لتوفّر العروض المقترحة على تحاليل نموذجية بخصوص جدليّة العلاقات القائمة بين واقع الجنوح أو الانحراف وكيفية اشتغال المؤسسات القضائية والردعية، وذلك ضمن سياقات تشريعية وتاريخية مخصوصة.
فقد توصّل الباحث باقتدار نادر ومن خلال التوظيف الجيّد للنماذج المعرفية المتصلة بأبحاث "بيار بورديو Pierre Bourdieu" الاجتماعية، إلى اقتراح تحاليل دقيقة للآليات الناظمة للمراقبة الاجتماعية ولأشكال المقاومة ورفض الخضوع للقوانين المترتّبة على السلبيات المتصلة بتلك الآليات، وذلك في سياق سياسي واجتماعي معقّد شكّلته سنوات الحرب الكونية الثانية، مبيّنا بشكل جليّ أن الجنوح أو الانحراف ناتج بالأساس عن السياسات الجنائية المتبعة من قبل السلطات الرسمية الفرنسية، وعن أشكال تطبيق تلك السياسات على المستوى المحلي من قبل مختلف الفاعلين بدءا بصنّاع القرار ووصولا إلى الأطراف التي استهدفتها تلك السياسات المُزْرِيَة بالحريات العامة والشخصية للأفراد في آن.
الزجر القضائي زمن نظام "فيشيVichy  [iii]":

       ما من شك في أن اختيار الفترة التاريخية الحرجة والمتّصلة بواقع سنوات الحرب وصعوباتها فرنسيا، قد ساهم يقينا في إنجاز مثل تلك المراجعة التحليليّة التاريخية. فقد اتسمت سياسة نظام فيشي بالتطرّف على جميع الأصعدة، حتى وإن شكّل ذلك امتدادا موضوعيا للتوجّهات التي قادت المرحلة الأخيرة من حياة الجمهورية الثالثة فرنسيا[iv]. كما مثّل التعويل على المادة التاريخية التي تضمّنتها محاضر الأحكام الصادرة عن الدوائر القضائية التي بتّت في إقصاء المجموعات "غير المرغوب في حضورها على التراب الفرنسي"، أو تلك التي تم التضييق على حياتها الشخصية، مغامرة لم تخلو هي أيضا من صعوبات كأداء.
احتفظ المؤلف وضمن مجال منطقة "الألب الساحلية Alpes maritimes" الواقعة جنوب شرقي فرنسا بمحاضر الأحكام التي تم بمقتضاه معاقبة المستهدفين من هذه السياسات أمام الدوائر القضائية لمدن غراس Grasse ونيس Nice، وهي جُنح اتصلت في معظمها بمجالين غالبا ما عَزِفَتْ عن تناولهما الأبحاث التاريخية المتّصلة بتاريخ القضاء أو العدالة، وذلك حتى تاريخ فتح رياض بن خليفة لهذا الملف الشائك والغائم في آن. فقد تمحورت المحاضر التأديبية التي تم الاشتغال عليها حول مسألتين أساسيتين هما: الجُنح التي استهدفت غير المرغوب في وجودهم على المجال الفرنسي من بين الأجانب واليهود، والمخالفات التي خضعت للتتبع والرقابة الاجتماعية المسلّطة على العائلات، وذلك في ظل نظام سياسي اتسمت توجهاته بالنزوع نحو تشديد الرقابة لا على المعارضين السياسيين لتوجهاته فحسب[v]، بل وعلى جميع من تجاسر على التصريح بعدائه لتلك الإيديولوجية العنصرية الداعمة للكراهية والتباغض الديني والتمييز العرقي، والعاملة على تمجيد القيم المحافظة المُعلية للموقع الأخلاقي للعائلة واعتباره شرطا أساسيا في تحديد صدق المواطنة والتوفّر على هوية وطنية فرنسية مثاليّة.
حشد رياض بن خليفة لتحقيق أهداف بحثه جميع الأرشيفات المتاحة، مشتغلا على محتوى محاضر الأحكام التأديبية، ومُوسّعا الاطلاع على الأرشيفات الخاصة بالدوائر الأمنية المحلية وما احتفظت به إدارة الشرطة المركزية بباريس من وثائق تتصل بالمجال المقصود بالمعاينة. كما حاول الاطلاع على محتوى الملفات الخاصة بإجراءات التحقيق، وهي وثائق منقوصة لم يتم حفظها بالكامل، فضلا عمّا  أوردته الصحف السيارة أو اليومية محليّة كانت أم وطنية بخصوص حيثيات القضايا المعروضة على أنظار هيئات التحقيق أو المُحالة على المحاكم خلال تلك المرحلة العكرة من تاريخ فرنسا، ومختلف التشريعات والأدبيات والمطارحات التي ناقشت المادة القانونية التي استندت عليه الأحكام المتصلة بما اعتبره "نظام فيشي" جنوحا أو انحرافا يتطلّب التأديب والمقاضاة خلال تلك الفترة. مما ينهض حجّة على الأهمية التي حضي بها الاشتغال على الأرشيفات العدلية أو القضائية المدنية، بغرض مزيد توضيح الزوايا المعتّمة لحقيقة تورّط "نظام فيشي" المتطرّف في تكريس سياسة جنائية زجريّة. فقد ساهمت محاضر الأحكام المتّصلة بالقضايا المرفوعة للحصول على الطلاق، وهي ملفات غالبا ما تمّ توظيفها لتحليل المعطيات المتّصلة بالخلافات الشخصية الناشبة بين الأزواج، على مزيد التعرّف على الإجراءات الجزائية المجرّمة حال ثبوت حقيقة إهمال العيال من قبل أحد الزوجين. لذلك فدون التخلّي كلما كان الأمر متاحا على الاستفادة من المعطيات الكميّة لإنجاز التقديرات المرقّمة اللازمة حول حقيقة تورّط هذا النظام في استعمال الزجر الجزائي، فإن رياض بن خليفة قد آثر وبمستوى رفيع من الجدّية تنويع زوايا المقاربة من خلال التعويل على عينات ممثِلة وتقديم تفاصيل حسّاسة عن ملفات قضائية معبِّرة وتحليل مضامينها بشكل لافت دقيق.

المضايقة والإبعاد والمراقبة الإدارية:

     قسّم المؤلف عمله إلى جزأين كبيرين: خاض أولاهما في القضايا المتّصلة بإجراءات إبعاد "غير المرغوب في استقرارهم على التراب الفرنسي" والاعتبار بما ترتب على إسراف النظام القائم في المضايقة من جنوح أو انحراف لدى مختلف الشرائح والأقليات المستهدفة.
فقد تعرض الفصلان الأولان من الأطروحة إلى رسم السياق التاريخي والسياسي لحلول سيل المهاجرين الايطاليين بمنطقة الألب الساحلية، وذلك بعد أن قامت السلطات الفاشية بإبعادهم، وتوضيح كيفية مجابهة السلطات الفرنسية لهذا الواقع من خلال تكثيف دوريات المراقبة الحدودية ضمن إطار تاريخي اتسم باستفحال الأزمة الاقتصادية وتزايد المخاوف وتفاقم هواجس التباغض والكراهية.
خضعت الحدود إلى مراقبة الشرطة المختصّة والحرس والفرق الأمنية المتنقلة، غير أن جميع ذلك لم يمنع من تواصل تدفّق المهاجرين غير القانونيين واختراق الحدود بطرق سرّية، دفعت بالإدارة الفرنسية إلى إصدار مرسوم ماي 1938، الذي شدّد في إجراءات مراقبة الدخول غير القانوني للتراب الفرنسي مثلما تشي بذلك المحاضر المحرّرة من قبل أجهزة الشرطة والمقالات الصحفية ذات الاتصال، وهو ما خصّص له المؤلف الفصل الثاني من بحثه، وهو فصل تعرّض إلى عالم المهاجرين غير القانونيين، متعقّبا مساراتهم الشخصية وشبكات التضامن العائلية والدينية والإيديولوجية التي عوّلوا عليها، فضلا عن اهتمامه بالأدوار التي عادت إلى شبكات المُهرّبين أو المساعدين على الهجرة.
تعقّب هذا التحاليل المجهري تحوّلات مواضع الاستقرار على التراب الفرنسي وخاصة الساحلية من بينها بداية من سنة 1939، مستعرضا الترتيبات المتصلة بذلك باعتبار مساهمة الحرب في تراجع تيارات الهجرة غير الشرعية، تلك التي تركت مكانها للوافدين الحاملين لجوازات وتأشيرات دخول مدلّسة. في حين خُصّص الفصل الثالث للحديث عن تصلّب التشريعات المتّصلة بشروط إقامة الأجانب ومراقبة أنشطتهم المهنية وتحركاتهم والتجاوزات الناجمة عنها. فقد عمدت الدوائر المختصّة إلى تجريم غير الحاملين لبطاقات الهويّة، أو أولئك الذين لم يقوموا بتجديدها حال انتهاء مدة صلاحيتها، أو المخالفين لقرارات الطرد والإبعاد عن التراب الفرنسي، والمُقْدِمين على استعمال وثائق شخصية مدلّسة، وغيرهم ممن تعمدوا عدم إعلام الدوائر الأمنية بتغيير محلات إقامتهم.
حاول المؤلف أن يعرض علينا تحليلا ضافيا لتطوّر أساليب ردع مختلف هذه المخالفات، مُبْدِيا الاحتياطات الضرورية، متسلحا بالدقة المطلوبة. فضعف حالات التجريم من أجل حمل وثائق شخصية مدلّسة يطرح من وجهة نظره حقيقة غضّ المجتمع الفرنسي للطرف نسبيا عن مثل تلك الممارسات أو عدم نجابة الجهات الأمنية في التوقّي من تلك الظواهر وإيقاف مرتكبيها. كما قد تكون قلّة الوثائق المتوفّرة والمتّصلة بطبيعة حياة تلك الفئات المستقرة بشكل غير قانوني على التراب الفرنسي، هي التي دفعت بالمؤلف إلى التريّث في الحكم على هذا الوضع والاقتصار على عرض بعض الفرضيات (على غرار ما أثبته بصفحة 222 تحديدا) بخصوص أشكال تعامل المجتمع والسلطة القائمة مع هذا النوع من المخالفات.
فعمليات الإيقاف لم تكن تحصل إلا حال المسك بشكل متكّرر بالمُقْدِمِ على المخالفة أو بأولئك الذين ثبت حال القيام بدوريات مراقبة أنهم يحملون وثائق مفضوحة التزوير، لذلك يرجّح المؤلف أن أجهزة الشرطة كانت فاقدة للوسائل الكفيلة بردع مثل تلك "الانحرافات"، فضلا على أنه لم يكن بوسعها التعويل على مساعدة أصحاب المحلاّت  فقد اقتصرت جميع عمليات القبض على "الجناة" على دوريات المراقبة بالطريق العام دون اللجوء إلى استعمال المداهمات.
ومهما يكن من أمر، فإن تحوّلات الظرفية السياسية قد أثّرت بشكل ملحوظ في عدد من قامت تلك الدوائر الأمنية باستدعائهم للمثول أمام القضاء، بحيث تقلّص عدد المحالين على المحاكم إلى أدناه مع نهاية سنة 1940، وذلك بالتزامن مع الاجتياح الإيطالي لمنطقة الألب الساحلية.
أفرد رياض بن خليفة الفصل الرابع من القسم الافتتاحي لمؤَلفه للحديث عن كيفية تعامل السكان اليهود مع ترسانة القوانين المعادية للسامية. فالتشريعات ذات التوجهات العرقيّة على غرار عمليات الرصد والإحصاء البوليسية وفرض الختم أو الدمغة التمّيزية على الوثائق الشخصية لليهود يُجَرِّمُ جميعها عدم احترام مختلف هذه الإجراءات، مما ترتب عليه قانونيا التحديد الإجباري للإقامة، حتى وإن لاحظ المؤلف - وهو على تمام الصواب في ذلك- عدم تطبيق تلك الإجراءات المتصلة بالختم التمييزي طبقا لما نصّ عليه قانون الحادي عشر من ديسمبر لسنة 1942 طيلة فترة الاجتياح الايطالي للتراب الفرنسي وحتى بعد دخول الجيوش النازية مع حلول سنة 1943. فالعقوبات النادرة التي تم تسجيلها والناتجة في الغالب عن عمليات ملاحقة معزولة من قبل أعوان الشرطة، لم تنجح في إثناء ممثل الداخلية ووالي منطقة الألب الساحلية "جون شاينيو Jean Chaigneau [vi] عن التمسّك بسياسة التريث التي التزم بتطبيقها. فعمليات إيقاف اليهود وملاحقات النازيين العنيفة التي شملت الأجانب بين 26 و27 أوت 1942 حال اجتياحهم للمنطقة، لم تترتب عليها النتائج المرجوة بحيث لم تتجاوز نسبة اليهود الذين تم ترحيلهم فعليا إلى المحتشدات النازية 10 أو 15% وفق أرفع التقديرات. ويعود هذا "الفشل" وفق تصوّر رياض بن خليفة إلى الدور الفاتر للمصالح الأمنية الفرنسية وإلى نجاعة شبكات إنقاذ اليهود من الوقوع في قبضة النازيين أو المتواطئين معهم، وهي شبكات تعدّدت حالات مؤازرتها أو مساندتها من قبل سكان منطقة الألب الساحلية.

الزجر الأخلاقي والإزراء بالحريات الشخصيّة:

        تم تخصيص القسم الثاني من الأطروحة لموضوع سبق وأن تعرضت لجوانب منه أبحاث أخرى على غرار دراسات "سيريل أوليفي Cyril Olivier " [vii] و"مارك بوننشي Marc Boninchi[viii]" حول مراقبة الممارسات الجنسية خارج إطار الزواج والقوانين الزجرية المتصلة بحماية العائلة. فقد ركز المؤلف في هذا المجال على ثلاثة ممارسات جرّمتها القوانين السارية أيام نظام فيشي وهي: الزنا أو عدم الإخلاص في الحياة الزوجية وإهمال العيال وإيقاف الحمل الطبيعي باللجوء إلى الإجهاض، مخصّصا لكل منها فصلا بعينه درس من خلاله التشريعات الموضوعة بشكل دقيق وضافي، متعرّضا في الأول لأسُسها الإيديولوجية المحافظة لكي يتفرغ بعد ذلك للوقوف عند أشكال التجاسر على مخالفة تلك القوانين وعرض "الجناة" على الدوائر التأديبية أو القضائية.
فقد تحولت مقاومة الممارسات الجنسية خارج إطار الزواج مع نظام فيشي إلى ما يشبه الرهان السياسي وذلك كلما تعلّق الأمر بزوجات أسرى الحرب. فقد أكّدأ القانون المنشور بتاريخ 23 ديسمبر 1942 على ضرورة معاقبة النساء المتورّطات في ممارسة الزنا، مشدّدا على ضرورة معاقبة كل من ثبت تورطه في "استدراجهن". إلا أن واقع تطبيق الأحكام التأديبية المتّصلة بمثل هذه الجناية ضمن الدوائر القضائية التابعة لمنطقة الألب الساحلية يكشف عن ندرة الأحكام الصادرة بخصوصها، تلك التي لم تشمل إلا الحالات التي ثبت فيها استقبال الزوجة لخليلها في محل الزوجية وإحلاله في الخدمة محل الزوج الشرعي، وهي وضعية من الصعب إثباتها بشكل قانوني، لذلك غالبا ما حصل حفظ القضية أو إسقاط الدعوى خاصة وأن القصد من رفعها قد اتصل بالأساس بحصول المدعي على الطلاق وإثبات حصول الضّرر. ويقوم القاضي في حالة ثبوت الإدانة بتطبيق الفصل 463 المراعي لظروف التخفيف قصد الحطّ من الحكم إلى الحدود الدنيا تفاديا للأحكام السجنيّة. كما تمت مراعاة نفس الظروف بالنسبة للقضايا المنشورة بخصوص إدعاء إهمال العيال وصعوبة دفع معين النفقة لاعتبارات اقتصادية أو شخصية تتصل بتفاقم الخلافات بين الأزواج، حيث سجل عدد الإدانات الجزائية ارتفاعا ملحوظا بعد إقرار قانون الـ 23 من جويلية 1942. فقد فضّلت الأطراف المتنازعة القبول بتسويات تضمن اتساق الإنفاق والحد من الخصومات. كما آثر القضاة من جانبهم مراعاة ظروف التخفيف حتى وإن تأكد على المدعى عليه الوقوع في العود، وهو ما جرّمه القانون الجديد. أما بخصوص الإقدام على إيقاف الحمل الطبيعي باللجوء إلى الإجهاض فإننا نلاحظ البون الشاسع بين حقيقة الردع المسلّط على المتورّطين ومضمون الخطاب الرسمي لنظام فيشي الذي شجّع على الإنجاب مُدينا بشدة الإسراف في ما نعته بـ"التفسخ الأخلاقي" وتزايد عدد "منجبي الملائكة faiseurs d’anges". حيث لم تكن تحاط السلطة علما بذلك إلا حال اضطرار المصالح الإدارية للمستشفيات إلى إعلامها بالاحتفاظ بالمريض، مع تحفّظ الأطباء المباشرين عن أسباب ذلك وفق ما يفرضه عليهم السرّ المهني، أو من خلال الوشاية وتبليغ أعوان قسم التفتيش عن مقترفي "جناية" الإجهاض التابعين للفرقة الأمنية الثامنة عشر المختصّة في هذا النوع من المخالفات.
يصف المؤلف بالتفصيل أشكال التجاوزات المتعلّقة بتقنيات الإقدام على توقيف الحمل أو الإجهاض الواردة ضمن التقارير المدروسة، تلك التي تمثلت في تناول المشروبات النباتية التطهيرية أو الحقن بمواد طاردة أو تمزيق الغشاء الواقي للجنين أو ثقبه ... وتستند التشريعات المنظمة لمعاقبة مثل هذه الممارسات على الفضل 317 من المجلة الجنائية وعلى المجلة الخاصة بأحوال العائلة بداية من سنة 1939، بعد أن حدّ نظام فيشي من لجوء القضاة إلى الحكم بتأجيل التنفيذ، ذلك الذي نعته وزير العدل جوزيف برتيليمي Joseph Barthélémy[ix] تهكّما في شهر أكتوبر من سنة 1941 ووفق ما أشّرت إليه الصفحة 459 من هذا المؤلَف بـ"ديمغوجية المسامحة démagogie du pardon"، وهو ما أسعف السلطة في عرض الجناة أمام محاكم الدولة بدية من شهر فيفري من سنة 1942 . إلا أن ما يتعين التنبّه إليه في هذا المقام هو عدم مقاضاة دائرة محكمة الدولة بمدينة "ليون Lyon" لأي دعوى في ثبوت حصول حالات إجهاض في جهة الألب الساحلية أو صدور أي حكم من قِبَلِهَا يقضي بتحديد الإقامة الإدارية، فضلا عن أن الأحكام الصادرة في الغرض قد شمِلتها ظروف التخفيف، حيث فضّل القضاة البت بشأنها باللجوء إلى التصريح بالعقوبة الدنيا، لذلك فإننا لم نسجل أحكاما بالسجن تتجاوز الخمس سنوات، في حين أن مجلة الأحوال العائلية الصادرة سنة 1939 قد نصت على ضرورة مقاضاة حالات العود في تعمّد توقيف الحمل الطبيعي أو الإجهاض بأحكام تتراوح بين الخمس والعشر سنوات سجنا مع النفاذ. فقد تمّ الحكم فعليا على "الجناة" المُعدَمين اقتصاديا بسجنهم لمدة ستة أشهر أو سنة مع النفاذ. أما الأحكام الصادرة على الأطباء والقوابل الذين ثبتت مخالفتهم للقانون وممارستهم المتكرّرة لعمليات الإيقاف غير الطبيعي للحمل والتعيّش من ذلك باعتباره تجارة مربحة ونافقة، فقد تراوحت بين سنة وثلاثة سنوات سجنا مع النفاذ، في حين تم تأجيل تنفيذ الأحكام في حق النسوة المقبلات على الإجهاض اللائي تم اعتبارهن من قبل النظام ضحايا لتلك الممارسات وذلك حتى سنة 1942، على أن يتم إخلاء سبيلهن أو الحطّ من الأحكام الصادرة في حقهن، حالما لم تعد القوانين تسمح بتأجيل الأحكام.



استنتاجات ختامية:
     
وهكذا فإن الاستخلاص الرئيس لهذا البحث قد تمثل في أن قضاة منطقة الألب الساحلية قد أبدوا عامة تفهّما كبيرا للواقع الاجتماعي الذي منحوه الأولوية في تكيفهم لملفاتهم القضائية قياسا للإيديولوجية العنصرية والطهرية لنظام فيشي، معتبرين في ذلك بالظروف الواقعية الدافعة إلى الخروج عمّا نصّت عليه القوانين والمتّصلة في الغالب بالتشريعات الاستثنائية التي استهدفت من وسمتهم المصادر بـ"الأجانب"، وكذا كيفية تعامل تلك التشريعات مع الحياة الشخصية للأفراد وانحيازها الفاضح لمؤسسة العائلة. فقد أعرض القضاة عن كل تطبيق زجريّ للقوانين ولم ينقطعوا على اللجوء إلى تأجيل الأحكام، مُعوّلين في جميع ذلك على مقتضيات الفصل 463، الشيء الذي دفع بـ"نظام فيشي" إلى استنباط أشكال زجر مستحدثة على غرار تفعيل العدالة الاستثنائية وتحديد الإقامة الإدارية.
ولئن عادت خاتمة هذا الكتاب لحوصلة الاستنتاجات المتّصلة بهذا الاستخلاص الرئيس، فإن رياض بن خليفة قد آثر التعريج أيضا على الجوانب المنهجية التي جرّبها في بحثه، مشدّدا على أهمية تفحّص الأرشيفات القضائية المدنية وتنويع زوايا الملاحظة في مسائلته لمحتوياتها وتحليله لمضامينها، مقترحا التفكير حول العلاقات التي ربطت بين الأزمة وتصريف مؤسسات الدولة وواقع الجنوح أو الانحراف المسجل في سياق سنوات الحرب الكونية الثانية فرنسيا.  فقد تبيّن من خلال محتوى مختلف فصول هذا العمل المعرفي أن معظم الجنيات المقترفة قد حصلت إما نتيجة لتمسّك نظام فيشي بسياسة إكراه مقصودة وتشغيل آليات مراقبة لصيقة استهدفت "غير المرغوب في حضورهم" على التراب الفرنسي، أو لسنّ ذلك النظام لسياسة لا تستجيب لمقتضيات الواقع الاجتماعي خاصة فيما يتصل بتطوّر النظرة إلى سجل القيم المرتبطة بالحريات الشخصية وبالعلاقات العائلية أيضا.
والحقّ أن تأثير أنظمة المراقبة الاجتماعية على ظاهرة الجنوح أو الانحراف قد تمّ تحليله بشكل متميّز ضمن هذا التأليف. فلئن تراءى للبعض أن الشروع الفعلي في دراسة مختلف تلك التشريعات الزجرية لم ينطلق فعليا إلا بعد استيفاء تحرير ثلث البحث، فإن حرص المؤلف على استكمال التفاصيل المتعلّقة بالقراءة السياقية، قد مكّننا من وضع مختلف تلك "الانحرافات" ضمن إطارها التاريخي، الشيء الذي أسعف رياض بن خليفة في عرض مثال نادر لدراسة مستوفاة وشاملة لموضوع الجنوح أو الانحراف الاجتماعي، دون التغافل على أي عنصر من شأنه أن يساهم في مزيد فهم المسألة المطروحة والقراءة النقدية لجميع المصادر المستجلبة. وإذا ما أضفنا إلى ذلك الإحالات التاريخية الدقيقة والمتنوّعة التي تتقصّى المهم، عارضة علينا جهازا نقديا متينا وحرفيّا، والجهد المبذول من قبل الناشر الذي أصرّ على سلامة الطبع وتحرّى بخصوص فهارس الأعلام والأماكن، فإنه يتأكد لدينا أن هذا الكتاب الذي يعرض نفسه على واسع القراء في شكل كلاسيكي متواضع، بوسعه أن يشكل يقينا إسهاما معرفيا أساسيا ضمن الدراسات المتخصّصة في تاريخ العدالة والقضاء.        


[i]    عرض نقدي لمحتوى أطروحة رياض بن خليفة، الانحراف زمن الأزمة: قراءة في انقلاب الجُنح العادية إلى جنايات استثنائية منشورة لدى محاكم منطقة الألب الساحلية (َ1938 - 1944)، باريس، منشورات أونوري شومبيون 2015 في 606 صفحة.  قام بانجاز هذا العرض "جون كلود فارسي" وتولينا ترجمته إلى اللغة العربية. 
Référence électronique du compte rendu :
Jean-Claude Farcy, « Riadh Ben Khalifa, Délinquance en temps de crise. L’ordinaire exceptionnel devant la juridiction criminelle des Alpes-Maritimes (1938-1944) », dans Criminocorpus [En ligne], 2016, mis en ligne le 08 janvier 2016, consulté le 08 janvier 2016. URL : http://criminocorpus.revues.org/3130
Riadh Ben Khalifa, Délinquance en temps de crise. L’ordinaire exceptionnel devant la juridiction criminelle des Alpes-Maritimes (1938-1944), Paris, Honoré Champion, 2015, 606 pages.

[ii]   هو باحث مشارك بمركز جورج شوفالي Georges Chevalier التابع لجامعة جهة بورغونيBourgogne  بمدينة ديجون Dijon  الفرنسية. خصصت أهم أبحاثه المنشورة لتاريخ الأرياف وتاريخ القضاء بفرنسا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. وهو علاوة عمّا ذكرنا عضو بهيئة تحرير المجلة الرقمية "مدونة علوم الإجرام Criminocorpus".
[iii]   تولّى نظام فيشي الذي قاده "الماريشال فيليب بيتان le Maréchal Philippe Pétain" حكم فرنسا خلال مرحلة الحرب العالمية الثانية من 10 جويلية 1940 إلى 20 أوت 4194 وذلك زمن احتلال البلاد من قبل القوات النازية للرايخ الثالث، والذي اتخذ من مدينة فيشي الواقعة شرقي فرنسا مركزا رسميا له.  
[iv]   تولّت الجمهورية الثالثة حكم فرنسا بين 1870 و 1940
[v]    تحسن العودة في هذا المجال إلى محتوى أطروحة فرجيني سانسيكو التي ركّزت أبحاثها على استنطاق الأرشيفات المتّصلة بمحاضر جلسات المحاكمات الخاصة بالقمع السياسي على أيام نظام فيشي المتواطئ مع النازية:
 Sansico (Virginie), La justice déshonorée 1940 – 1944. Paris, Tallandier 2015. 623 pages.   
[vi]   شغل جون شاينيو Jean Chaigneau خطة والي على منطقة الألب الساحلية بين أفريل 1943 وماي 1944.
[vii]   Olivier (Cyril), Le vice ou la vertu. Vichy et les politiques de la sexualité 1940-1944, Toulouse, Presses universitaires du Mirail, 2005, 308 pages.
[viii]   Boninchi (Marc), Vichy et l’ordre moral, Paris, PUF, 2005, XIX-319 pages.
[ix]  شغل جوزيف برتيليمي خطة وزير للعدل في نظام فيشي يين 1943 و 4194.

عرض نقدي لجون كلود فارسي حول مضمون أطروحة رياض بن خليفة "الجنوح زمن الأزمة" الصادرة ضمن منشورات هونوري شمبيون أواخر سنة 2015، قمنا بترجمته إلى اللغة العربية ونشر ضمن العدد السادس من مجلة "الفكر الجديد".