vendredi 26 septembre 2014

طلياني شكري المبخوت كاماسوترا بنكهة يسارية











لست أدري ما الذي دفعني حيال قراءة رواية "الطلياني" لشكري المبخوت، وهو عمل روائي أول غاص بمبضع جراح ماهر في سمك سياقات الثلث الأخير من القرن الماضي، عارضا على قراءه وضمن سردية قصصية محكمة الحبك، "نثارا من [سير] جيل الخسارات المبهجة والأحلام المجهضة" تونسيا، إلى استعادة أحداث رواية الكاتب المغربي محمد الأشعري "القوس والفراشة"؟
فلئن غاب التواشج بين مضمون الحكايتين، فإن السياقات الزمنية المربكة التشابه لا يمكن أن تخطئها كل عين متدبّرة. يكفي أن تُعرض تلك السياقات على الإضاءة المركّزة، حتى نكتشف كبوات جيل ضائع أضناه التأرجح أزلا بين عالمين متخالفين دون فكاك أو رحمة.
فالفاجعة التي نزلت على رأس "يوسف الفرسيوي" المناضل اليساري ذي الأصول البربرية الألمانية حال فقدانه لفلذة كبده "ياسين" الذي راح ضحية انتسابه إلى الجماعات الإرهابية بعيد انتقاله إلى باريس لمزاولة دراساته الهندسية وتوجّهه بغتة للقتال بجبال أفغانستان حيث قضى نحبه، لا يكن أن لا  تعيدنا إلى الدوافع الحقيقة التي كانت وراء خروج المناضل اليساري "عبد الناصر" عن طوره يوم تشييع جنازة والده الوجيه "الحاج محمود"، لما انهال أمام أعين الحاضرين ضربا مبرّحا وتقريعا مقذعا على الشيخ "علاّلة" وهو من تولى إتمام مراسم لحد والده ووجيه رأس درب.
بين أحضان ريحانات متقلبات الطباع والسجايا أمضى عبد الناصر المشهور بـ"الطلياني" و"يوسف الفرسيوي" حياتهما المفتوحة على احتمالات لا متناهية، عكست تحولات مسارهما الشخصيين وتطورات السياقات التاريخية التي كيّفت طموحاتهما وحدّدت إخفاقاتهما أيضا.
تتعدد محطات قطار حياة عبد الناصر ضمن متاهة الرواية المكانية التي شيّدها شكري المبخوت بين أزقة وشعاب، ومنعرجات، وأروقة، ومنحدرات، وثنايا، ومسالك، وسكك، ومفترقات، ودروب، ومضايق وطن التونسيين، تقابلها تحولات سيرة يوسف الفرسيوي في علاقتها بالانقلاب الكلي الذي عاينه مشهد مربع الدار البيضاء - زرهون - الرباط ومراكش على إثر حصول التناوب وصعود ملك المغرب الشاب إلى سدة الحكم.
ما مدلول التحولات التي طالت فكر اليسار ونضاله جنوب المتوسط؟ ما المعنى الذي يمكن أن تكسبه المقاومة ضمن مجتمعات اجتاحتها العولمة، وشارفت على فقدان سيادتها في غفلة تامة من شعوبها؟ ما قيمة الحرية داخل مجتمعات تعاني الهشاشة المادية والنفسية، وتدار من خلال تشغيل ثقافة الوصاية وتأجيل الاعتراف بحرية الأفراد ريثما يتم الانتهاء من معركة النماء واللحاق بركب الأمم المتحضرة؟
ثم ما حقيقة القول بانغلاق قفص الهامشية على حياة المحسوبين على نخب المعرفة والرأي؟ وما وتيرة تدرّج تأثيم النجاح الفردي وانقلابه إلى ما يشبه الخطيئة الأصلية، حيث يتدحرج المثقف إلى مجرد عابث أسود يندفع قدما نحو سقوط مدوي في مستنقعات الرداءة والدناءة المعمّمتين؟
تقريظ على معنى الرثاء أو لعبة الكاماسوترا بنكهة يسارية، هو على الحقيقة العنوان الذي نعتقد اختزاله لمضامين حكايات قصها علينا كلا المؤلفين دون عجل، نقلتنا من مضاجعة الابن الضال والزعيم اليساري عبد الناصر لربة الصون والعفاف "للاّجنينة" إلى معاشرة الفيلسوفة البربرية "زينة" والاستمتاع بغنج السويسرية "أنجيليكا" الفاتن والاهتبال بمتعة الخيانة الزوجية صحبة أستاذة التربية البدنية "نجلاء" والاغتباط بضم طالبة الفنون الفارعة الطويل "ريم" إلى سجل عشيقاته. يقتفي يوسف الفرسيوي في قوس محمد الأشعري وفراشته المفتون على شاكلة المناضل اليساري عبد الناصر بصاحبة الجلالة، نفس المسالك المظلمة متنقلا بين زوجته الرضيّة "هنية" وصديقته الخبيرة فاطمة وعشيقته المطلّقة ليلي.
اختار المؤلفان عن قصد الحفر في التحولات المتلاحقة التي عاينتها حداثة الدولة الوطنية المعلنة وذلك من نافدة التطورات الفارقة التي طالت مسارات حَدِيَّة، اعتقد أصحابها وبقدر غير قليل من السذاجة أن قدر قطار النضال من أجل تحقيق قيم الحداثة وفقا لمبادئ الاشتراكية الماركسية، سبيل معلومة من المستحيل أن تحيد عن مسارها قيد أنملة. فكان اصطدامها بالواقع المتقلّب مفزعا حوّل مسارات حياتها إلى ما يشبه تراجيديا فاجعة لأبطال مأساة اجتماعية تعمّد المؤلفان بعناد مهرة الرواة الحفر في ثناياها الملتويّة والتكشّف على إنسانيتها المربكة وبطولتها الموهومة وإخفاقاتها المستجّلية لطباعها البشرية.
جنوب المتوسط حيث زرقة السماء وعافية الماء يجثم فكر الجماعة الوصي على خضوع الجميع لبرد اليقين المعدم لنعمة الشك والتساؤل، لا فكاك من القبول بأنصاف الحلول المعدّلة بدهاء على عقارب ساعات تشبه حركاتها دورات الطبيعة الأزلية. لا يسار ولا يمين لا حرية ولا عبودية لا مواطنة ولا رعية لا إفراط ولا تفريط، اعتدال فجّ ومخزن يعيد إنتاج نفسه بمنتهى الدهاء والمكيدة. رحلة في عطالة الفكر والروح، نجوس عبر منعطفاتها في عاصف ذكريات عبد الناصر من مختبر تنشئته العائلية ورفاق نضاله في الجامعة ومستنقع الصحافة الموبوء الذي ساقته الظروف لمعاشرة دينصوراته، لكي نصل في الأخير إلى انكسار ألواح أشرعته وأزف روحه النزقة على صخرة الاعتداء الفاحش على طفولته الغضة.
نفس تلك الأقدار تضع بطل رواية محمد الأشعري أمام مساره العاثر الذي دفع بابنه الوحيد ياسين إلى السقوط في مخالب الإرهاب، وإصراره العبثي على استحضار روحه قصد مساءلتها بخصوص الدوافع التي جرت وحيده إلى اقتراف رزيّة بذلك الحجم من دون الحصول على شفاء للغليل. فر الفرسيوي من فجيعته المتمثلة في فقدان أمه الألمانية التي قررت بعد أن رافقت والده لسنين وضع حد لحياتها عند موقع ولّيلي الأثري المصاقب لمرقد شريف الأدارسة بزرهون، ليجد نفسه مغدورا في فلذة كبده المنتسب لخفافيش الظلام ومدبري الجرائم الإرهابية. تحت سماء الكيد المعمّم واللعنة الأبدية تعيد الحكايتان رسم عبثية أقدار من أصابوا قدرا من المعرفة متشوّفين إلى رسم أفق مفارق. يغرق والد يوسف الفريسوي في العمى بعد أن يخسر واسع الثروة والجاه، متحوّلا إلى دليل سياحة مجنون يطوف بزائريه في أركان موقع أثري مهيب، تماما مثل ما اضطر "سي عبد الحميد" مدير الصحيفة الرسمية التي آوت عبد الناصر مصحّحا مبتدأ فصُحفيا لامعا، إلى التفريط في إنسانيته في خوف مريع وجبن مخزي إلى شياطين المخزن وزبانيته. ينغلق قفص الهامشية على ذوات قلقة يدفعها مصيرها الحالك قسرا دون رضا إلى الشعور بالصغار والمهانة، فراشات ترقص في زهو حذو اللهيب المستعر لتتلظى بألسنته وتسقط في الدرك الأسفل من نيرانها.
تقريظ عبثي لمفتعل الأفراح ومسترق اللذات يتسلل من تجاويف مشاهد الحانات المعربدة والغرف المغلقة التي تغشاها روائح الانعاض وتعرّق الأجساد المتلويّة من فرط الالتحام وتدفق صنابير الشهوة، لكي يفتح أعيننا على جسامة تكلّس فكر النخب اليسارية تونسيا وغربته المؤذنة بفساد مادته طوال عشرية ثمانيات القرن الماضي الحالكة. كاماسوترا باذخة تذكّرنا بأجواء "ديكامرون" بوكاش و"ساتيركون" بيترون الفاجعة، تلك التي يندفع أبطالها تحت مفعول خوف مدمّر في طواف هستيري وجنوح ماجن إلى الهروب إلى الأمام حيث لا فكاك من السقوط في الهاوية.
رواية شكري المبخوت البكر تشريح مفزع بنكهة شبقية لسياقات انحدار "نخب" اليسار الرثة تونسيا، "نخب" لم تبرح الوقوف عند محطات لم تعد تصلها بقطار اللحاق بالأمم المتحضرة أية سكة.                                        
                       

samedi 13 septembre 2014

سياق ما بعد الثورة والتباس مدلول الكرامة تونسيا











         هل يستقيم ومن منظور التدقيق في المدلول الغائم للكرامة أن نقبل بتعريفها من زاوية أنها قيمة أخلاقية رُسخت في أذهان المحسوبين على الشرائح الاجتماعية الفقيرة أو المعدومة، تعزية لهم عن واقع الاحتياج الذي تردوا فيه"، حتى وإن لم يتم ذلك إلا على سبيل التهكّم الأسود أو التنفيس عن الغم والكمد؟
لا يمكن طبعا الانسياق وراء مثل هذه التصوّرات المغالية، حتى وإن تعيّن التدقيق في مدلول تلك الكرامة الذي لا يمكن تعقّل وجدودها خارج المجالات القادرة على توفير الظروف الموضوعية التي تسمح بادعاء تكريسها على أرض الواقع قولا وفعلا.
فهناك من وجهة نظر القانون غموض في سحب مدلول دقيق على هذا المصطلح بوسعه التأليف بين الدلالات اللغوية والمقاصد الدينية والفلسفية والقانونية المتداخلة ضمنه. كما بينت السياقات الحادثة (على غرار نموذج الثورة التونسية) أهمية الربط بين الكرامة والحرية، حتى وإن تعين أن لا يلهينا الحرص على حضور مثل ذلك التكامل عن وجود نوازع هيمنة متخفّية وراء تدخل الدولة تحت غطاء توفير الشروط الدنيا الضامنة لاتخاذ الأفراد لقراراتهم بكامل الحرية. كما ينمّ تمثل شرائح واسعة من التونسيين لمدلول الكرامة عن لبس حقيقي كشفت عنه بشكل جلي السجالات الحادة التي خاضوها طوال الثلاث سنوات المنقضية والتي أفرغت لدى جميعهم كل رغبة في رسم أفق يضمن تعايشهم بشكل صحي وسليم. على أن نتائج الاستحقاقات الانتخابية لسنة 2011 قد أفضت من ناحيتها إلى فتح أعينهم على حقيقة تورّطهم في إعادة إنتاج نفس الممارسات التي عاشوه خلال مرحلة الاستبداد، وغياب الحد المطلوب من الحريات، حيث لا نستبعد أن تكون لذات تلك التصرفات نفس النتائج السلبية حال توجه هؤلاء قريبا لاختيار حكامهم بالنسبة للخمس سنوات المقبلة.                 
غموض التعريف القانوني لمدلول الكرامة:
يمثل مبدأ كرامة الذات البشرية إطارا قانونيا يحول تفعيله دون التعامل مع الأشخاص بوصفهم أشياء أو أدوات لا تتوفر على قيمة في ذاتها. بل يقتضى حضور مثل تلك القيمة المعيارية والأخلاقية الرفيعة النظر إليهم باعتبارهم جديرين بكامل الاحترام، بصرف النظر عن سنهم أو جنسهم أو سلامتهم الصحية والعقلية، أو ظروفهم الاجتماعية أو ديانتهم أو أصولهم العرقية، وذلك توافقا مع ما تضمنته ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر سنة 1948 من إشارة صريحة إلى أن "كل البشر يتوفّرون في ذاتهم على ما يحفظ كرامتهم"، وتنصيص الفصل الأول من نفس الإعلان على أن جميع الناس "يولدون أحرارا ومتساوون في الحقوق".
نميّز إجماليا بين مدلولين أساسيين للكرامة البشرية، يركز الأول على اعتبارها أثرة متقاسمة بالتساوي بين جميع الذوات البشرية، في حين يلحّ المدلول الثاني على أن توفر عنصر الذاتية في اتخاذ الشخص لقراره، هو ما يحدّد على الحقيقة حضور كرامة الأفراد من عدمها.
غالبا ما يدفع التقابل الجلي بين هذين المدلولين حال مباشرتنا للواقع، إلى الإقرار بحضور جملة من الممارسات تحدّ من الحريات الشخصية، أو تناضل على عكس ذلك من أجل توسيعها، مما يؤشر على تعمّد اللجوء إلى نوع من الغموض في تعريف مدلول الكرامة قانونيا، وتعارض ذلك أيضا مع التصوّرات التي صاغها العديد من الفلاسفة حولها.
يندرج مدلول احترام الكرامة البشرية في القانون المقارن ضمن الفصل الأول من الدستور الألماني، في حين يضمن القانون البلجيكي وفقا لما نص عليه دستور البلاد وضمن فصله 23 الحق في العيش وفق مقتضيات الكرامة البشرية. أما بالنسبة للقانون الفرنسي فقد أعلى المجلس الدستوري من مكانة الكرامة معتبرا أنها " مبدأ يتوفر على قيمة دستورية".
ومهما يكن من أمر القوانين والدساتير الناظمة للحياة الجماعية في مختلف البلدان النامية من بينها أو المتقدمة، فقد شدّد العديد من العارفين بفقه حقوق الإنسان على الطبيعة الشكلية الفضفاضة والملتبسة لهذا المصطلح مع افتقار تعريفه القانوني للحد المطلوب من الدقة، بحيث يكون من السهل توظيفه بأشكال متباينة وجد متناقضة، الشيء الذي يحول عمليّا دون صياغة نظرية متكاملة للعدالة بالاستناد على مدلول الكرامة. فقد سبق وأن تم اللجوء إلى هذا المدلول الغامض قصد المنافحة مثلا بخصوص حق المصاب بمرض فقدان الذاكرة مثلا في الإعراض عن أخذ الدواء و"تقبل مصيره المحتوم بكرامة"، أو الاستناد على ذات المدلول لنقض مثل ذلك التصوّر والعمل على وإرغام المصاب على متابعة العلاج، لأن البقاء على قيد الحياة يتوفر في حد ذاته على مقصد الكرامة.
وهكذا يتبين لنا أن مدلول الكرامة باعتبارها خاصية محدّدة للحياة البشرية، توافقا مع ما نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر سنة 1948 بخصوص "تساوي الجميع في حق الحياة بكرامة"، يتعارض مع تمثل ذلك المدلول تحديدا باعتباره سندا لحق كل ذات بشرية في صون ذاتيتها كلما تعلّق الأمر بتحديد قرارها المتوافق مع مصلحتها الخاصة أو الفردية، من جميع أشكال الوصاية المعلنة من بينها أو الخفيّة.                    
في ضرورة معاضدة الكرامة لممارسة التونسيين لحرياتهم:
يتضمن الفصل 23 من الدستور التونسي الجديد الذي تمت المصادقة عليه في 26 من شهر جانفي 2014 التزام الدولة بصون كرامة جميع مواطنيها والدفاع عن حرمتهم الجسديّة. إلا أن تمتع الأفراد بحريتهم وفقا لما حدده القانون لا يمكن أن يلهينا واقعيا عن تعدّد الحالات الاجتماعية التي يصعب إزائها إدعاء القدرة على التصرّف في الاختيارات بشكل حرّ أو مستقل. وهو ما يتساوق مع ما شدّد عليه كارل ماركس بخصوص ضرورة الربط بين ما تمنحه الدساتير أو القوانين من حريات سياسية وبين الظروف المادية لمن يتمتعون بتلك الحريات. مما يدفع إلى التبصّر بقيمة الكرامة كشعار أساسي في الحراك الاجتماعي الذي أحدثته ثورة "الحرية والكرامة" تونسيا.
فإذ لم يكن أمام الفرد حتى يضمن لقمة عيشه، غير القبول بالإذلال والتعنيف، فإن الإصرار على اتسام تصرفاته بقدر معقول من الحرية أو الكرامة أمر غير ذي مدلول. يستقيم تماما تسمية هذه الحالة التي يتحوّل ضمنها حضور الكرامة إلى شرط توجيهي في ممارسة الحرية بالوضعيات (كـ - ح).
وحتى وإن تقلص منسوب الحرية ضمن مثل هذه الحالات قياسا لما سواها، فأن ذلك لا ينبغي أن يدفعنا إلى القول بحضور تناظر بينها وبين الوضعيات التي تتدخل فيها السُلط العمومية لتأمين حد معقول من كرامة الفرد (كـ)، لأن القول بتماثل الوضعيتين يتعارض مع قدرة الأشخاص المحسوبين على الحالات من صنف الأول على التعبير عن حرياتهم والذود عن حقهم في ممارستها.
وهكذا فإن كل تدخل لتلك السلطة لا ينبغي أن يتعامل مع الأشخاص الذين يعيشون وضعيات اجتماعية صعبة من زاوية قصورهم القانوني، بل يتعين عليها أن تضمن لجميع الأشخاص حدا أدنى من الدخل غالبا ما نسمه بـ"عتبة الكرامة"، كي يتمكنوا من اتخاذ قراراتهم بمعزل عن كل وصاية، تجاوزا لجميع الشعارات السياسية الفضفاضة ونوايا أصحابها المعلنة أو المبيّتة أيضا.
تختلف تلك العتبة المشار إليها تساوقا مع الظروف المادية لكل مجتمع على حدة، غير أن ذلك الاختلاف لا يلغي الإقرار بأن الإجابة المثلى عن غياب شرط الكرامة لا يمكن أن تصيب هدفها خارج قدرة الدولة على توفير حد أدنى للدخل، وتأمين الخدمات الموجهة لدعم الأفراد الذين يعيشون الخصاصة نفسيّا، باعتبار أن ممارسة الحرية تقتضي التوّفر على حد أدنى من التوازن النفسي أو السيكولوجي.
يفيد استعراضنا لمختلف هذه الوضعيات كثيرا في فهم المنافحة الشديدة التي تلاقيها عملية "أهلنة" القيم الكونية في العديد من المجالات النامية، وهو ما يمكن تفهّمه اعتبارا لطغيان الهيمنة على السياسات المعتمدة من قبل الدول المتقدّمة. فما دامت الدول الغربية لا تري حرجا في أن تشرّع لنفسها تواصل التعامل مع من دونها من زاوية الهيمنة أو الوصاية، فإن المحسوبين على تلك المجالات لا يمكنهم التخلي عن النضال من أجل وضع حد لتناقض الغرب بل و"كلبيته" السافرة في تبني القيم الكونية أو التخلي عنها وفقا لما تقتضيه مصالحه دون سواها.
فهل بوسعنا النجاح مستقبلا في "أهلنة" الكوني وإكسابه طبعا تونسيا في ما يعنينا؟ ثم هل يستقيم أن نقرّ يوم ما بازدواج انتسابنا للثقافة الإسلامية وللقيم الكونية؟ تشكّل الإجابة عن مختلف هذه التساؤلات وغيرها إطارا ناظما للتفكير حل استحضار حدث الثورة بوصفه حدثا فارقا، وخاصة عندما نصرّ على رفض كل اعتقاد في قدرة التوجهات المتشدّدة أو المنغلقة على تكييف علاقتنا بالإرث الثقافي الإسلامي. فجميعنا مسلمون بالاعتقاد أو بالانتساب الثقافي، إلا أن تونسيتنا ليست عربية صرفة، بل تتجاذبها انتماءات متعددة إفريقية شبه صحراوية، ومتوسطية وشرقية وغربية أيضا.
كما إننا عندما نعيد التفكير بخصوص مسألة تنوع الانتماءات الثقافية المتصلة بمدلول "التَوْنَسَةِ" مثلا، فإنما نحن نعيد بذلك تركيب هويتنا من بوابة التنوّع وإثراء مشتركنا الثقافي الذي يعطي لجذورنا اللوبية أهمية بالغة باعتبار اتصالها بلغة تخاطبنا وحضورها ضمن أشكال عيشنا اليومي وتراثنا اللامادي أيضا.
التباس مدلول الكرامة في تونس خلال مرحلة ما بعد الثورة:  
ما هو المدلول العميق للحداثة في ظل الحرج الذي يتسم به الانتصار لمبادئها ضمن المشهدين السياسي والثقافي التونسي حاضرا، وتحوّله بَعْدُ إلى وسيلة سهلة للتهجم على جميع الداعين إلى حسم مسألة انخراط البلاد في مسار الحداثة منذ انطلاقها مع التجربة الإصلاحية لأواخر القرن التاسع عشر، إي منذ قرن ونصف على الأقل؟
إن شعارات الثورة المتّصلة بالحرية والكرامة لا يمكن فصلها عن ممارسة المواطنة والاحتكام إلى التعاقد والالتزام بالقوانين، وجميعها توجهات تنخرط ضمن صيرورة الحداثة. غير أن المستغرب هو أن للدفاع عن مكاسب الدولة المدنيّة قد أصبح يجابه بمزيد من التحفظ والارتكاس، بل ويؤًوَّلُ من قبل شرائح واسعة تنتسب إلى المجتمع التونسي باتجاه ربطه بنزوع إلى الانطواء والعدوانية تجاه المدافعين على مدنية الدولة! 
فنحن نلاحظ حضور مزايدات بخصوص الخطاب الحداثي مع عدم التحفّظ عن وصم دعاته بـ"الزنادقة" وتكفيرهم عنتا، بل والتحريض على تهميشهم والتشفي منهم، مما يثبت الاختلاف الصارخ داخل المجتمع التونسي في ما يتعلق بتأويل ما قد يصح وسمه حاضرا بـ"عودة الديني أو التبئير حول الطقسية الروحية".
فالسمة الغالبة على خطاب التيارات السياسية الدينية هي الانتقائية وانحسار المعرفة بمصادر إصلاح التفكير الديني نفسها. فحال إشادة الإسلاميين التونسيين مثلا بدور محمد الطاهر بن عاشور في تجديد الفكر الديني، يعتّم هؤلاء على التوجهات المتفتحة لابنه الفاضل، معتبرين أحفاد ذلك العلم أبناء غير شرعيين لذات العائلة، شوّهوا إرثها بل وتورطوا في مسخه بالرمّة، موضحين في هذا الصدد أن التجديد الحقيقي للفكر الديني يتعيّن أن ينهل - بزعمهم طبعا - من توجهات مفكري السلف، وإقرار مبدأ "التدافع الاجتماعي" كآلية في تجاوز الاختلافات الفكرية، مع العمل على "أسلمة الدولة من الأسفل". وهو ما يتعارض بالكامل مع ضرورة اتخاذ الدولة موقع الحياد، ويكشف أيضا عن النوايا الحقيقية للتيار المحافظ الـمُقحم للدولة ضمن التجاذب السياسي، غير المكترث على الحقيقة بفصل الدين عن السياسة.
على أنه يتعين التأكيد في الصف المقابل على شدة تأثير النموذج الفكري الفرنسي على التصوّرات التحديثية التونسية إلى حدّ يستقيم معه التساؤل بخصوص مدى صحة حضور نزوع من قبل العائلات الفكرية والسياسية الموسومة بالتقدمية تونسيا، إلى حالة من الاحتضان بل والاتكال أحيانا ساهمت في سجنها ضمن تصوّرات مغرقة في الأحادية جعلت من عملية "أهلنة" القيم الكونية مغامرة عسيرة الولادة غير مأمونة العواقب. فتاريخ التوجهات التقدمية كونيا يشي بتنوّع منابعها ذات الروافد الأنجلوساكسونية والإيطالية وحتى اليابانية في مراحل متأخرة، قياسا لكونية قيم الثورة الفرنسية.
على أن نتائج انتخابات المجلس التأسيسي التي أُجريت في 23 من شهر أكتوبر 2011 قد بينت من ناحيتها أن العامل الحاسم في تلك الاستحقاقات السياسية قد تمثّل في حضور قدرة على الانضباط ورصّ الصفوف لدى التيارات المحافظة قياسا لتشرذم التيارات المنتسبة إلى العائلة التقدمية الموسّعة. فالفارق الذي أحدثه تيار "العريضة الشعبية" على سبيل المثال على حساب مناضلي القطب الحداثي المدافعين على المطالب المتّصلة بالحق في الشغل والصحة والتعليم والسكن ضمن ما سمي بـــــ " Dignity act " يبدو جد جليا في الأحياء الفقيرة لتونس العاصمة وبالجهات الداخلية أساسا، وفقا لما أسفرت عليه نتائج تلك الانتخابات. فقد وظّفت التيارات المنتصرة في تلك الاستحقاقات آليات بسيطة شددت في المقام الأول على إمعان المنتسبين للعائلة التقدمية والمحسوبين على النخب الحضرية المتعلِّمة في التعالي وضرب قيم البداوة وتهميش الفئات الفقيرة والحطّ من قيمتها من خلال الإسراف في تشغيل آليات ما وسم بـ"الحُقْرَة"، والنجاح تباعا لذلك في دغدغة العواطف المحتدمة وشحذ أساليب التفكير التي لا تزال تعوّل على نظام الثنائيات (متديّن / ملحد) (مسلم / كافر ). هذا بالإضافة إلى الطبيعة المفتوحة لتلك الآليات التي أصبحت تشتغل حاضرا وفقا لمنطق خارجي يتعامل بكثير من الدُونية مع ذاته وحقيقة أوضاعه المحليّة.
وفي المحصلة يمكن أن نعتبر أن إشكالية الكرامة ضمن سياق ما بعد الثورة تونسيا تحيل في البعض من دلالاتها على مدى قدرة المجتمع على تجاوز نوازع الوصاية ورسم طريق سالكة تُسعف في القبول بمنطق التعايش والاعتراف بحقيقة تنوّعنا الثقافي تجاوزا لجميع أشكال الانطواء ودواعي الإقصاء، وهي وضعية ليس لنا أي حظ في تخطيها ما دامت معرفتنا بالتاريخ في وجهيه التعليمي والتخصّصي حبيسة خطاب سياسي مسطح وثقافة مسرفة في التمركز حول ذاتها، أضحى من أوكد مهام العارفين بالشأن التاريخي حاضرا الخروج نهائيا من ضيقها تجاوزا لقصور نظرنا، وتشوّفا إلى كتابة جديدة تتسم بتعدّديتها ونقديتها وانفتاحها، توسيعا لفضولنا وقطعا مع تركيزنا المشطّ على الحفر في مربع الوطن الضيق الذي ينحسر أسهامه في توسيع أفق غربتّين القريبة أو الأليفة.     

  

mardi 2 septembre 2014

بماذا يدين الغرب فكريا للإسلام ؟






        






       لم يشغل السجال الذي عاينته الساحة الأكاديمية الفرنسية بمناسبة نشر كتاب "سيلفان غوغنهيم Sylvain Gouguenheim " الموسوم بـ"أرسطو بجبل القديس ميشال Aristote au Mont-Saint Michel  [i] الساحة الثقافية العربية الإسلامية، فالتصورات الإيديولوجية والفكرية السائدة حاضرا تجعل تلك الساحة قليلة التحمس لتعقل طبيعة الوشائج التي ربطت موروثها المعرفي عامة والفلسفي منه بالخصوص، بالجذور الإغريقية الرومانية.
     كما أن العلاقة التي تربط الفكر العربي الإسلامي حاضر بالدرس الفلسفي لا تنبئ عن حضور تمثل سوي لهذا البعد، فالمنجزات المعرفية العلمية التي تحققت على يد المسلمين تبدو أكثر وضوحا من حيث التمثل أو الإدراك الجمعي، قياسا للموقع الضبابي للفلسفة الإسلامية في علاقتها المتميزة قديما بالدرس الإغريقي، هذا بصرف النظر طبعا عن ضبابية المدلول الواقعي للتفلسف ورهاناته داخل المجال العربي حاضرا.
لكن "ما الفرضية الأساسية التي ينجلي عليها مؤلف "غوغنهيم" تحديدا؟
    يعتبر هذا الباحث الذي يشغل خطة أستاذ فلسفة بمدرسة المعلمين العليا بمدينة "ليون" الفرنسية أن أوروبا لم تكن لها حاجة إلى معارف العرب حتى تتصل بالإرث الفلسفي والمعرفي اليوناني، وأن فضل العرب المسيحيين الأساسي في ربط العالم العربي الإسلامي واقعيا بالفكر اليوناني "الهليني" لا يمكن التقليل من شأنه بأي شكل من الأشكال. ومما أورده الباحث بهذا الشأن نسوق هذا المقتطف: "فيما عدا النصوص القديمة المترجمة، فإن التبادل الثقافي بين الإسلام والمسحية كان فاترا إلى أبعد الحدود. فالحضارة الأوروبية لم تنقل عن الإسلام كدين أي معطَى نصيا أو حجة عقدية، كما تصدق نفس الملاحظة تماما على الميدانين السياسي والقانوني، فقد بقيت أوروبا وفية لقانونها كما لهياكلها المؤسساتية". [ii]
تباينت المواقف من الفرضيات التي أوردها هذا الباحث الفرنسي الجامعي ردا وقبولا. فقد تلقفت وسائل الإعلام وبسرعة مذهلة هذه التصورات منذ صدور مؤلف "غوغنهيم" وجاءت المقالات الصادرة بالصحف المختصة على غرار صحيفة "لومند Le Monde" لتشيد بـ "نهاية الأفكار المسبقة حول دور المسلمين المزعوم كهمزة وصل فارقة في نقل الفكر الهيليني إلى أوروبا [وأنه] على نقيض النبرة الممجوجة السائدة منذ ستينات القرن الماضي، فإن تاريخ الثقافة الأوروبية لا يدين في تطوره بشيء مهم إلى الإسلام. فقد وضع هذا البحث الدقيق والمدعم بالشواهد العلمية، والذي لا يخلو أيضا من رصانة وشجاعة -بزعم مؤلف المقال طبعا- عقارب الساعة عند توقيتها الصحيح".[iii]  بينما انبرت أقلام أخرى نشرت مقالاتها صحيفة "لوفيغارو" اليمينية لتشيد بهذا "المجهود القيم والضخم الذي دحض بشكل قاطع ونهائي الدعاوى القائلة بوجود إسلام تنويري". [iv]
ولم تعدم الساحة الثقافية والعلمية الفرنسية منافحين لهذه الآراء تولوا وباقتدار عكس هذا التيار على غرار ردود "غبريال مرتينيز- غرو Gabriel Martinez-Gros "  و"جوليان لوازو Julien Loiseau" الذين بادرا ضمن مقاليهما بصحيفة "لوموند"[v] بالتشديد على الدور الهام الذي لعبته الأندلس في ربط العالم الأوروبي الوسيط بالموروث القديم، قبل أن يحذرا وبجلاء من حضور تعاطف مشبوه بين "غوغنهايم" والأوساط السياسية اليمينية المتطرفة. في حين تصدى "ألان دو ليبيرا Alain de Libéra " وهو واحد من أبرز المختصين الفرنسيين في فلسفة القرون الوسطى، وضمن مجلة "تيليراما Télérama"، لهذه التصورات مثبتا تهافت آراء "غوغنهيم"  بالجملة، واصفا فرضياته "بالمتسرعة التي لم ينوّه بها غير البسطاء ممن يعيشون حالة رهاب من الإسلام islamophobie" ممن لا تتجاوز دعوى تصوراتهم العلمية الأفكار الشعبية الساذجة". [vi]    
لم يعد للمسلمين وفقا لتصورات مؤلف كتاب "أرسطو بجبل القديس ميشال" أي دور يذكر، فحتى ذلك الدور العنيف الذي ألصقه بهم منظرو المحافظين الجدد من أمثال "سامويل هينتغتون Samuel Huntington" عبر نظريته السيئة الذكر والمقاصد حول "صدام الحضارات"، تلك التي تعرض خيارا سياسيا تصادميا بين معسكرين، في حين يصر "غوغنهيم" على إدعاء تناظر وهمي بين الانتساب إلى أوروبا وامتلاك الانتماءين المسيحي- الإغريقي، الشيء الذي لا يمكن أن ينجم عنه بزعمه دائما، غير تعارض تاما بين تاريخ أوروبا وأربعة عشر قرن من تاريخ الإسلام لم يفض امتدادها الطويل إلى حصول أي تقارب عملي بين هذين المجالين الحضاريين. [vii]  بقطع النظر عن احتدام السجال بين الجامعيين وغير الجامعيين حول المضمون السجالي لهذا المؤلف، ألا يعكس هذا الخلاف الحاد صعوبة تحديد مدلول واقعي لمضمون الهوية الأوروبية، تلك المسألة التي أضحت تُبسط بأكثر إلحاح منذ أن أصبح الإسلام دينا قائم الذات ضمن المشهد العقائدي الأوروبي، لأن السؤال الحقيقي الذي يتخفى وراء توهم خلاف تاريخي بشأن الموروث الإغريقي، هو البحث عن تعريف دقيق لحقيقة تغلغل الإسلام في سمك التركيبة الاجتماعية ضمن المشهد الديمغرافي الأوروبي حاضرا؟
تبدو الإجابة التاريخية الأكثر اتزانا بخصوص ماهية هذا السجال، هي تلك التي اقترحها المؤرخ الفرنسي "غبريال مرتينيز-غرو" وذلك ضمن المقال الصادر له ضمن مجلة "تاريخ Histoire"[viii] في السياق الزمني الذي شكّل واقعيا دينامكية الاشتراك في الرصيد المعرفي الكوني بين المجالين العربي الإسلامي والأوروبي المسيحي. لذلك نحاول ضمن هذه العجالة القراءة بدورنا في هذا العرض التوليفي المقترح من قبل هذا الباحث الألمعي في التاريخ الإسلامي، علّنا نسهم في إخراج المسألة من دائرة التوظيف، رابئين به عن جميع نوايا الإساءة أو الإجحاف. فقد بيّن هذا الباحث أن العالم المتوسطي قد عرف خلال القرون الوسطى حركتين علميتين لعبت ضمنهما الترجمة دورا فاعلا. فقد سُجل انتقال للمعارف الإغريقية إلى اللغة العربية داخل عاصمة المسلمين بغداد بين 750 –  950 م، وهو انتقال استتبعه خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر إعادة تملك للرصيد الإغريقي الإسلامي من قبل الغرب اللاتيني عبر الأندلس وصقلية والعالم البيزنطي الذي احتمى بالمظلة اللاتينية بعد الحملة الصليبية الرابعة عند بدايات القرن الثالث عشر (1204 ) تلك التي ترتب عليها استباحة العالم اللاتيني الغربي لحاضرة الروم الشرقيين القسطنطينية وتوصّله إلى التثبت في النصوص الأصلية الإغريقية المتبقية من أمانة ودقة الترجمات العربية الأندلسية لهذا الإرث الكوني.
وهكذا يتبن لنا أن حركتا الترجمة قد استغرقتا قرنين من الزمن داخل المجالين الإسلامي واللاتيني، وأن مختلف المعارف التي تم نقلها أو إعادة تملّكها قد شكلت على حد تعبير "مارتينيز" "غنيمة حرب" بالأساس على حساب الفرس والبيزنطيين في حق المسلمين، ثم على حساب هؤلاء في حق اللاتينيين. كما أن الشعوب المغلوبة ضمن هذين السياقين التاريخيين ونقصد نصارى الشرق ببغداد واليهود الأندلسيين بإسبانيا قد أسهمت جميعها وبفاعلية كبيرة في إنجاح مثل هذه المشاريع الحضارية المعرفية.
ويتمثل الفرق بين السياقين يكمن، حسب ما عمل على توضيحه مقال هذا الباحث، في الدور المحوري الذي عاد للبلاط العباسي بداية من سنة 762 م ببغداد في دعم هذا النشاط العلمي بعد أن شهد ضمورا ملحوظا في العالمين الروماني المنهار والبيزنطي المنغلق وذلك منذ حلول القرن الثالث الميلادي. فقد أُثر عن الخليفة العباسي المأمون 813 – 833 اشتراطه الحصول على نفائس المخطوطات الإغريقية مقابل عقد الهدنة مع البيزنطيين. كما أن تأمين مجال الانتشار الإسلامي قد فتح بين أواسط القرن التاسع وأواسط القرن الذي يليه مجهود النقل المعرفي وترجمة أمهات المصادر اليونانية والفارسية والبيزنطية ببغداد على المنتسبين لمختلف الأعراق والنحل والديانات التي صهرتها حضارة المسلمين وديانتهم.
      وعلى نقيض ذلك تصدرت الدوائر الدينية للكنيسة اللاتينية لحماية حركة نقل المعارف وترجمتها طوال القرن الثاني عشر، ولم تشمل تلك الحركة ملوك أوروبا على غرار "فريديرك الثاني" و"ألفونس العاشر القشتالي" إلا خلال القرن الموالي. بدت علوم الإغريق للمسلمين علامة مضيئة وموروثا إنسانيا سامقا عمل الخلفاء العباسيون على استجلابه وإقراره بحاضرتهم الجديدة، أما بأوروبا القرن لثاني عشر فقد اتخذت عملية نقل ذلك الإرث شكل ربط الصلة مجددا بموروث ثقافي مفقود بعد الشرخ الحضاري العميق الذي عاينه العالم القديم بين القرنين الخامس والسابع الميلاديين، وهو لقاء بين المورثين اللاتيني-الإغريقي، والمتوسطي الشرقي الذي سيطر عليه العرب نهائيا والأوروبي من جانب آخر، وعليه فقد حافظ البلاط الإسلامي على دوره الطليعي كحامي لمعارف وعلوم القدامى، بينما انبرت "الجامعات" وهي مؤسسات تابعة في أصولها إلى الكنيسة لاستيعاب العلوم العربية-الإغريقية أوروبيا. والمرجح وفقا لتصور صاحب المقال دائما، أن اتصال المسلمين بالمصادر الإغريقية وإعادة تملّكها في لغتهم الأم قد انطلق واقعيا بعد انهيار دولة الأمويين بدمشق وانتقال الخلافة مع العباسيين إلى بغداد، وهو مجال استوعب العديد من النخب المتأثرة بالثقافة الهلينية الإغريقية، لم يعاين سيطرة الأرثوذكسية الثقافية والدينية النصرانية، فقد تمازجت داخله المؤثرات الإغريقية بالتقاليد الفارسية القديمة والأقليات المنسوبة إلى نحل مختلفة كالنصارى النسطوريين على سبيل المثال لا الحصر. تمكنت مختلف تلك الأوساط من الحفاظ على معرفتها الجيدة في اللغة اليونانية القديمة، لذلك كان من الطبيعي أن يلجأ الخليفة العباسي إليها بالأساس لانتداب العديد من المترجمين على غرار "ثابت بن قرة" عالم الفلك المعروف.   
ومع بداية القرن العاشر وبالتزامن مع تراجع الخلافة العباسية انتقلت الثقافة الإسلامية المتمركزة ببغداد إلى العديد من الحواضر الطرفيّة بوسط أسيا وبغربي إيران وبمصر الفاطمية وبالأندلس حيث تمكنت حركة التنصير الكاثوليكي من الاستحواذ على واحد من ابرز تلك المراكز الطرفية النشطة، موفّرة فرصة ثمينة للغرب المسيحي لكي يجدد اتصاله بالموروث المعرفي الإغريقي، مستندا في ذلك وبالأساس على الترجمات العربية، وهي آثار سارع مثقفو مختلف الممالك الأوروبية إلى نقلها إلى اللاتينية ثم إلى اللغات الناسلة عنها لاحقا. والمؤكد أن الازدهار المادي وحركة التحضّر الشاملة التي عاينها الغرب الأوروبي قد أسهمتا سويّة في إعادة صياغة التساؤلات الفلسفية والعلمية والنظر إليها من زوايا غير مألوفة استجابت لطبيعة الحاجيات الجديدة، الأمر الذي ساهم بلا جدال في ظهور الأعمال التوليفية الكبرى على شاكلة الآثار الفارقة التي خلفها "طوما الأكوني Thomas d’Aquin". وليس هناك من شك في أن هذه الترجمات المزدوجة من الإغريقية إلى العربية ومن العربية إلى اللاتينية قد أسهم جميعها من إعادة تجميع مدونة المعارف الكونية القديمة وتخطي حواجز العقائد وفوارق اللغات وتشريعات القوانين وتقلبات التاريخ، مسعفّا مجالات متعددة وشعوبا متنوعة في الاتصال مجددا بالمعارف القديمة كالرياضيات وعلم الفلك والطب والفيزياء والفلسفة.
يرفض "مارتينيز" بشدة المزاعم التي رُوجت بخصوص عدم قدرة الثقافة الإسلامية على استيعاب الموروث الإغريقي قياسا للسهولة التي وجدها الغرب اللاتيني في إعادة تملك ذلك الرصيد، مبيّنا أن القائمين على تلك التصورات يطرحون المسألة بشكل مغلوط، لأن ما يصدق على العلوم النقلية لا يستقيم بالمرة في حق المعارف العقلية الكونية. ألم تعاين الساحة العلمية الإسلامية أعلاما تضلّعوا في مجالي النقليات والعقليات كالغزالي وابن رشد وابن خلدون؟ ألم يتبنى  الغرب اللاتيني ذاته - وما كان له أن يقوم بغير ذلك - تقسيم المعارف وفقا للأقانيم الإسلامية، حال تمكّن "الجامعات" الغربية من إعادة تملّك موروث إغريقي عربي وصلها ناجزا متكاملا معافى من التأثيرات العقدية والدينية؟
تضمنت الترجمات العربية الأولى آثارا شرقية، كالقواعد الفلكية السند-هندية مثل كليلة ودمنة، في حين عاينت نهاية القرن التاسع وبداية القرن الموالي تزايد عدد النصوص المترجمة عن اللغة الإغريقية كهندسة إقليدس وجغرافية بطليموس وطب الماليخوليا وعوارضها لجلينوس Galien" ونظريات الفيزياء وأدوات التفكير المنطقي والتصورات الفلسفية عند أرسطو وأفلاطون، مع تعاليق تلامذتهما من أمثال"بروكليس Proclus" وبورفير porphyre" و"الأسكندر الأفرودي Alexandre d’Aphrodise" على مختلف الآثار التي خلفاها.  كما أعلى سلم كفاءة الشعوب والأمم لديهم مقام العلوم الحكميّة والتفكير الفلسفي عند الإغريق والتدبير السياسي لدى الفرس والمعارف التقنية لدى الشعوب الصينية القديمة وصلابة الأتراك في المنازلة والقتال.
والبيّن بعد هذا أن اهتمام دار الإسلام بفلسفة أرسطو في بداية القرن التاسع الميلادي قد تنـزل ضمن بحثهم الاستفادة من أدوات منهجه الدلالي المنطقي، لذلك حظيت تصوراته بهذا الخصوص باهتمام أعلام الفكر الإسلامي على غرار أبي حامد الغزالي وأبي الوليد بن رشد الحفيد، الذين تصدرا للتعليق على فرضياته الفلسفية منذ نهاية القرن الحادي عشر وأثناء القرن الذي يليه، حتى وإن عوّل هذا الأخير في تعاليقه المتصّلة بكتاب الفيزياء على ترجمة غيره اعتبارا لعدم حذقه اللسان الإغريقي.
ومع امتداد حركة "الكثلكة" تمكن الغرب من التعرف على المخطوطات العربية بعد أن تمكن من ترجمتها إلى اللاتينية، متعرفا من خلال ذلك على مؤلفي "الفيزياء" و"الميتافيزيقيا" لمن وسمه علماء المسلمين تعظيما باسم "المعلم الأول". فقد قام "ميشال سكوت Michel Scot " منذ حلول القرن الثالث عشر بترجمة آثار ابن رشد المعروف بـ"المعلق Le Commentateur" على فلسفة "المعلم الأول"،  مُسهما بذلك في ربط صلة الغرب مجدّدا بالفلسفة الإغريقية من بوابة تصورات أساطين الفكر الإسلامي لمحتوياتها. فقد تضمّنت التصورات الفيزيائية الإغريقية ضمن نظرياتها الاعتقاد في الاختلاف بين الأجرام العُلْوية غير القابلة للفناء والكائنات السفلية الخاضعة بالضرورة إلى دورة الحياة والموت، مما أحرج كثيرا المنظومة العقدية المؤمنة إسلاميا بحقيقة البعث. وحتى وإن اعترفت الميتافيزيقا بوجود قوة بارية محرّكة للخلق، وبدا من الهين وصلها دينيا بفكرة الإله الواحد، فإن المنطق الأرسطي الذي افترض أن طابع الخلود المتصل بالسبب الأصلي في الخلق لا يمكن أن يترتب عليه بالضرورة غير خلود ما أقام ذلك الخالق تحديدا على خلقه، قد ولّد سجالا ذهنيا وتساؤلات ميتافيزيقية محيرة بخصوص حقيقة الخلق والبعث والحساب. لذلك طفت على السطح إشكالية التوفيق بين المنجز الفلسفي الأرسطي الذي تم إنجازه ضمن بيئة تتسم بتعدّد الآلهة والقوانين الناظمة للفكر الإسلامي المنبثقة عن رؤية تجديدية للفكر الديني التوحيدي؟ ألا يدفعنا مثل هذا التباين إلى الإقرار بتعارض العقيدة الدينية التوحيدية مع الحكمة الفلسفية؟ ذاك هو السؤال الكبير الذي تصدّر ابن رشد باقتدار ومنذ القرن الثاني عشر للإجابة عنه، مشدّدا في جميع مقالاته على وحدة الحقيقتين الدينية المنـزلة والحكميّة أو الفلسفية الموضوعة. لذلك لا يمكن أن يعترينا أدنى شك في أن الغرب اللاتيني المتصدّر بدوره لنقل المعارف العربية - الإغريقية هو الذي ورث أهلية البت في مناقشة مسائل معرفيّة سبقه الفكر الإسلامي تاريخيا إلى طرحها.               



[i]  Gouguenheim (Sylvain), Aristote au mont Saint-Michel Les racines grecques de l'Europe chrétienne, Ed. Du Seuil, Paris 2008
[ii]  Ibid., p. 197
[iii]   Article de Roger-Pol Droit, paru dans le journal « Le Monde », numéro du 4 avril 2008.
[iv]   Article de Stéphane Boiron, paru dans le journal « Le Figaro » numéro du 17 avril 2008.
[v]  Article paru dan le journal « Le Monde » numéro du 24 avril 2008. 
[vi]   Article d’Alain de Libéra dans Télérama daté du 24 avril 2008.
[vii]  Blog culturel de Pierre Assouline 27 avril 2008. 
[viii]  Matrtinez-Gros (Gabriel) «Ce que l’Occident doit à l’Islam », dans Histoire, numéro 342 mai 2009 p ; 6-13.