jeudi 30 avril 2015

محمّد كرّو لمجلة الفكر الجديد: نحن نسير قُدُمًا نحو وضعِ ما قبل السّياسيّ


















تواصل مجلّة "الفكر الجديد" سلسلة حواراتها المطوّلة، وفي عددها الثّاني تستضيف محمّد كرّو أستاذ العلوم الاجتماعيّة بكلّية الحقوق والعلوم السّياسيّة بتونس التّابعة لجامعة المنار. وتدور الأسئلة على بحوثه في التّحوّلات الّتي طالت المجال العموميّ داخل المجتمعات العربية المعاصرة والمجتمع التّونسيّ تحديدًا، ورصدنا معه أشكال الانتقال الّذي عاشته تلك المجتمعات، ومختلف الرّهانات المتّصلة بدرجة تأثّرها بالعولمة ومستويات تملّكها لمبادئ الحداثة واحترامها للقيم الكونيّة.
نودّ بدءًا أن تعرّفنا بمجالات بحوثك الاجتماعيّة وما يشغل اهتمامك في الحاضر، وعلاقة ذلك بكيفيّة مقاربة التّحوّلات السّياسيّة والاجتماعيّة التي لا تزال تعصف بالبلاد التونسيّة، في واقع ما بعد 14 جانفي 2011؟
من المفيد في تقديري أن نذّكر، أوّلاً، بتعريف يورغن هابرماس (Jürgen Habermas) للمجال العموميّ فذلك يساعدنا على فهم طبيعة التّحوّلات الّتي طالت العديد من المجتمعات العربيّة عامّة والمجتمع التونسيّ خلال السّنوات القليلة الماضية؛ والمجال العموميّ هو مجالٌ تمثّله في تصوّر هذا الباحث في الشّأن الاجتماعيّ الأوساط البرجوازيّة رأسًا. وهو يُحيل على "مجموع الأشخاص الفرديّة الذين يعوّلون على العقل العموميّ لمناقشة شؤون المجتمع".
ويثير هذا التعريف مشكلتين:
أولاهما مسألة خصوصيّة الفرد، فطالما نكون إزاء أشخاصٍ متساوين في ما يتّصل بممارسة الحياة السّياسيّة، لهم نفسُ الحقوق والواجبات ويُنظر إليهم بوصفهم نكرات أمام القانون فإنّ واقعهم كمواطنين يجعلهم في حِلٍّ من إعطاء أيّ أسبقيّة لانتماءاتهم العائليّة أو المحلّيّة، تلك الّتي تتّخذ موقعًا أدنى قياسًا إلى انتمائهم للوطن بوصفهم مواطنين. وهذا واقع لا يمكن ادّعاء حضوره بشكل واضح ضمن ما تعاينه مجتمعات ما بعد الثورة عربيا.
وثانيتهما: توظيف الشّاغل العامّ الّذي يطرح بدوره عدّة مشاكل، حتّى ضمن المجتمعات الدّيمقراطيّة نفسها. هنا أيضا وُوجه هابرماس بنقد شديد، لأنه بقي، على ألمعيّة تصوّراته، متأثّرًا بهيمنة التّوجّهات العقلانيّة وانتسابه إلى مدرسة فرنكفورت وارتباطه بالتّقاليد الماركسيّة. ومن البيّن أنّ العقل لا يفسّر وحده ما نحن إزاءه من تحوّلات؛ فالعواطف وردودُ الفعل الوجدانيّة والمخاوف والقلق وحالات التهيّب ومستويات التّصوّر أو التّمثل، يتدخّل جميعًا بقوّة لتوجيه التّحوّلات الّتي هي بصدَد الحصول ضمن المجال العموميّ.

لكن ألا تزال متمسّكا، بعد هذه التّوضيحات الّتي كنت بصدد عرضها في ما يخصّ العوائق المنهجيّة الّتي ينطوي عليها تعريفُ هابرماس للمجال العموميّ، بأنّ واقع البلاد التّونسيّة يتوفّر حاضرًا على ثلاثة مجالات عمومية مخصوصة ومتباينة عن بعضها بعضًا؟ 
يتوفّر الواقع الاجتماعيّ التونسيّ حاضرًا على ثلاثة مجالات عموميّة، لا ترفض الدّخول في حوار في ما بينها بل قد تتجاوز ذلك لتُعْرِب أحيانًا عن حالة من التّضامن المُعلَن على غرار ما حصل بساحة باردو الواقعة بالضاحية الشرقيّة لمدينة تونس خلال صيف 2014 الّذي شهد إيقاف مداولات المجلس التّأسيسي التّونسي بعد اغتيال النائب عن حزب الجبهة الشّعبية المرحوم محمّد البراهمي. فقد قرّر المعتصمون عندها تقاسم وجبة إفطارهم والدخول في نقاشات حامية، راوحت بين الاختلاف والاتّفاق والمُزاح والخصام وقبول الرّأي المخالف واحتدام المشاعر إلى حدّ التّلاحم. وهذا يبرهن على حضور آليّات تتجاوز ضيق التّفسيرات العقلانيّة الصّرف وتُحيل على عالم التّفضيل العاطفيّ في أبعاده المتعدّدة.
-       ألا تعتقد أنّ مثل هذا التشديد على الجوانب الحسّيّة أو العاطفيّة يحيلنا أكثر على نموذج المجتمعات التّقليديّة لا على مجتمع مواطنين؟
 نعم هذا صحيحٌ، لكنّ العلاقة بالحسّ أو العواطف اتّخذت أشكالاً جديدة تبتعد بنا كثيرا عن مدلول "الزّردة" مثلاً أو وليمة القربان التي تقام بزوايا شيوخ الصّلاح، وهي ليست قطعا "أرزًا بالفاكية،" كما وصفها رئيس المجلس التّأسيسيّ التّونسيّ، "مصطفى بن جعفر"، متهكّمًا.
ويحتضن مجال الإعلام من ناحيته حوارا يدلّ على حيويّة كبيرة، والوضع نفسه يتّسم به المجالُ المؤسّساتي. ولا يخلُو الحوار الدائر حاليّا بين مختلف تلك المجالات من نقد مبطّن أو مباشر؛ فقد ذكر القياديّ بحزب النّهضة عبد اللّطيف المكّي في تعليقه على تشكيل حكومة الحبيب الصّيد الأولى مثلا، أنّ تلك الحكومة تُشتَمُّ من تركيبتها رائحةُ "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثّورة" المحسوبة على الفاعلين السّياسيّين القريبين من فكر اليسار. وهو ما ينمّ عن وجود حوار ساخن بين مَن آلت إليهم، بمقتضى نتائج الانتخابات، مسؤوليّةُ تشكيل الحكومة الجديدة، ومَن يتابعون المُجريات عن كثبٍ من المحسوبين على بقيّة التّيارات السّياسيّة المدنيّة.
المستوى الثّاني الّذي يسمح بفهمٍ أدّقَّ لِما يحصُل من تطوّرات في الواقع المجتمعي التّونسي هو مسألة الحضور القوي للمُتخيّل (l’imaginaire ) الاجتماعيّ والسياسيّ. وإنّ إغفال ذلك لا يسمح بفهمِ ما هو بصَدَدِ التّبلور حاضرًا... بل أكثر من ذلك: أنا مِن أولئك الّذين يزعمون أنّه من دون الرّجوع إلى جانب المُتخيّل لن يكون بالإمكان إدراك الحدث الثّوريّ في كلّيته. ويتّصل ذلك بالطّابع المباغت لِمَا حصل (أقلّ من شهر من الزمن) وغياب عنصر التّخطيط المُسبق لدى السّاخطين الّذين حرّكوا المُواجهات ونفخوا الرّوح في حدث الثورة.
-    أوَلست تُحيل بهذه الطريقة على التّصوّرات التي صاغها الفيلسوف اليوناني كورنليوس كستورياديس  (Cornelius Castoriadis)؟
ذاك بالتّحديد ما قصدت. لكنّ قراءة كستورياديس تتضمّن هي الأخرى محاذير يُمكن إثارتُها بعد عرض تعريفه للمتخيّل بما هو وسيلة لتحليل المجال العموميّ وباعتباره مؤسِّسًا ومؤسَّسًا (instituant et institué ) في آنٍ. فما الذي يعنيه كاستورياديس بالمتخيّل الاجتماعيّ؟ يبدو فيما أعتقد أنّ الأمر مُتصلٌ بما يسمح للأشخاص بالمقاومة الجماعيّة حين يتفاخرون بأصولهم القبليّة مثلاً (نحن جلاص، نحن همامّة...)، تلك هي لُحمتهم المُتخيّلة، وذاك هو مدلول المتخيّل الاجتماعيّ لديهم. ذلك ينطوي على المبدإ التّاريخي للتّحوّل... صحيح نحن تونسيّون، لكنّنا نُدرِج ضمن ذلك الانتماء انتماءات منافسة أيضًا.
يمكن لمزيد فهم ذلك اعتمادُ مفهوم المجال العموميّ المؤسّساتيّ وهو يتوفّر على أطُر تخيّلية متعدّدة؛ فالمجالُ التّخيّلي الأوّل يُحيل على أولئك الّذين نجحوا في الفوز بانتخابات 23 أكتوبر 2011، نقصد المُتخيّل المرتكز على الهويّة الإسلاميّة والمدافع على فكرة الأمّة الإسلاميّة، حيث لا يُصاغ الانتساب بالاستناد إلى مفهوم الوطن، بل يصاغ بالعودة إلى مفهوم الأمّة أوّلاً.
هؤلاء قرّروا، وهذا حقّ من حقوقهم، بعد أن فازوا بفارقٍ عريض أن يكتبوا الدّستور، غير أنّهم جُوبهوا، وقد تصوّروا أنّ الطّريق معبّدة أمامهم، بمُعارضة شديدة من قِبل مَن وُسِموا تحقيرًا بجماعة "الصّفر فاصل"، وهي تسميةٌ تحيل بدورها على مدلول متخيّل.
وهناك في المقابل مُتخيّلٌ آخر لا يخلو هو أيضا من نزوع إلى التّعويل على مسألة الهويّة، وإن كان قد شكّله وطنيّا، سياسيًّا وبشكل لاحق، حزب "حركة نداء تونس"؛ وهو إلى حدّ السّاعة عبارة عن صدَفةٍ فارغة لا ترقى إلى مستوى الحزب السّياسي المُهيكل.
لكن ما وسمته بالمُتخيّل اّلذي كان وراء تأسيس هذا الحزب ليس "صدَفة فارغة" كما قلت؟
بالفعل، وهذا ما ساهم تحديدًا في عودة الزّعيم الوطني بورقيبة وأشكال توظيفه، فقد أحضروا الزّعيم ورفعوا صُوَرَه عاليا، لكأنّهم أخرجوه من غياهب النّسيان ليُعِيدوا إليه الحياة من جديد. هنالك المُتخيّل الإسلامي والمُتخيَّل الوطني الذي يدّعي الحداثة على الرّغم من أن توجّهاته وطنيّة صرف، ببيارقها ولافتاتها وتجمّعاتها الجماهيريّة. فحتى وإن كانت أعلام المرحلة الراهنة ليست أعلام ثلاثينات أو أربعينات القرن الماضي وكانت استعمالاتها ورمزيّتها مختلفة، فإنه يتعيّن علينا أن لا نغفل عن التّلازم الموجود بين المُتخيّل ورمزيّته.
هذان الطرفان الإسلاميّ والوطني هما اللّذان أنجزا التّوافق، وحرّرَا سويّة دستور 26 جانفي 2014، وفق مقولة للمرحوم عبد القادر الزغل وظّفها عياض بن عاشور ضمن مقاله الموسوم بـ "التّوافق بين الدّولة المدنيّة والدّولة الدّينيّة". أفلا يدعو وضعٌ كهذا الّذي نصف إلى مزيد تدبر لتوصّل الدّستوريّين، وبعد حلّ حزب "التّجمّع" قانونيًّا، إلى توافُقٍ بين مُكوّنات مشروع حزبهم الأساسية.
-       لكن لماذا لم يحصل مثل ذلك التّوافق خلال مرحلة ثلاثينات القرن الماضي واضطرّ الحزب الدّستوري إلى الانقسام سنة 1934، بينما نضجت إمكانية حدوثه بعد الثورة؟
يتعيّن في نظري ألاّ نكون جازمين، هناك طبعا تشابهٌ، لكنّ الأمر ليس على نفس الشّاكلة. لماذا نجح هذا التّوافق المبنيّ على نوع من التّرميق (bricolage) حاضرًا ولم ينجح زمن الحركة الوطنية؟ قد يكون الأمر راجعًا إلى ميزان القوى. هناك نصّ غير منشور لعبد القادر الزغل يشير فيه إلى أنّ حزب النّهضة نجح في تحقيق هيمنة سياسية، لكنّه فشل في بسط هيمنته ثقافيًّا وإيديولوجيًّا. فقد احتفظ مُتخيّل الشّقّ الوطنيّ على سَطوة لا تُمارى على الإدارة نظرًا إلى افتقار حركة النّهضة للكوادر وافتقارها أيضًا لتصوّر دقيق لتصريف دواليب الحكم أيضا. فكثير من المحسوبين عليها عاشوا في المهجر أو/ وفي المعارضة. هذا الوضع ليس خاصًّا بحزب النّهضة وحده، فوضعيّة حليفه حزب المؤتمر من أجل الجمهورية كانت أكثر عبثيّة بجميع المقاييس. عمُومًا وعلى الرغم من وجاهة السّؤال الّذي طرحتماه عليّ فإنّني بصراحة لا أملك إجابة عنه، لأنّني بكلّ بساطة لم أفكّر في ذلك مطلقًا.
-       لكن ما يعنينا هو كيف ساهمت مرحلة الانتقال في إنجاز هذا النوع من "الفبركة" أو هذا التوافق التلفيقي؟ قد يكون لتنوّع المجالات العمومية أو تعدّدها دور حاسم في ذلك؟
ممكن جدّا. لكن لي تحفّظ على فكرة التّوافق لهشاشتها؛ فالمتخيّلان المذكوران هما متخيّلان نخبويّان، لا نجد لفكرهما حضورًا واسعًا لدى عامّة المحسوبين على الأوساط الاجتماعيّة... حتّى لا أنعتها بالشّعوب أو بالجماهير. وأنا لا أعرف حقيقة تشكيل هؤلاء لشعب أو جمهور بالمعنى السّياسي، لكنّني أفضّل تسميتهم بـ"الأشخاص العاديّين" أو بـ"المواطنين العاديّين" وهي عبارة سبَق للفيلسوف ميشال دي سرتو Michel de Certeau)) أن وظّفها لفهم مثل تلك الظّواهر نفسها. إنّ ما ينتظره هؤلاء حقيقةً لا يتّصل بالصّراع من أجل إقرار حرّيّة الضّمير في الدّستور... حتى وإن ناصر أغلبهم مبدأ الدفاع عن تواصل مدلول الأمة الإسلاميّة، ما يريده هؤلاء هو توفير حاجياتهم الأساسيّة وامتلاك سقف يحميهم، وضمان مستوى عيش كريم يساعدهم على تعليم أبنائهم وتحسين أوضاعهم المعيشية. فالسّجالُ حول كتابة الدستور لا يهمّهم بدرجة كبيرة. وهذا واحد من أخطاء سوء التّقدير الّتي وقع فيها المؤسّسون وخاصّة المختصّون في فقه القانون، أولئك الّذين سيطروا على المجال العموميّ الثّالث ... بل هم من يحكمون على الحقيقة.
-       واضح من كلامك أن هناك مجالَ متخيّل ثالثا يتعيّن أن نحدّد ملامحه
هذا المُتخيّل الثّالث هو الذي يتعيّن علينا الوقوف عند ردود فعله الّتي نرصدها في الأحداث الحاصلة بالجنوب الشّرقي، على الخطّ الحدوديّ بين تونس وليبيا... على غرار ما جدّ بالذّهيبة وبن قردان. هؤلاء لا تتّسم تصرّفاتهم بمطلق النّزاهة والشّعور بجسامة المسؤوليّة المُلقاة على عاتقهم كما يزعمون، فالكثير منهم يدافع على ممارسة التّجارة الموازية، وهو منخرط بأشكال معقّدة في شبكات التّهريب، وإن كانوا لا يختلفون في ذلك عن بقيّة أفراد الشّعب التّونسي الّذين ينشدون الحصول على أكبر قدر من المال دون بذل أيّ مجهود أو القيام بأيّ عمل ! فالتّونسي يريد أن يُقضّي يومه جالسًا في المقهى وأن يحصل مع ذلك على مال كثير ويقتني أفخر السّيارات ويسكن في أبهى البيوت ويتزوّج أجمل النّساء، وهو يُجهد جيبَه حتّى يكون ترتيب ابنه الأوّل في صفّه أو في دفعته ! قد يكون الأمر شرعيًّا، لكن ألا يتعيّن بذل مجهود حقيقيّ من أجل الحصول على ذلك؟ التّونسي لا يرى الأمور بتلك الطّريقة.
-    من أين جاءتنا كل هذه الرداءة؟
نقطة استفهام! ليس لي أيّ إجابة عن ذلك ... مثلما لا أملك إجابات عن سبب استعمالنا المكثّف للألفاظ النابية في لغة تخاطبنا اليوميّ، والأمر عامّ في جميع شرائح المجتمع ... من رئيس الدّولة إلى حارس المرآب! هناك مشكلة حقيقيّة تتمثّل في ابتعاد تصرّفاتنا عن ضوابط الحياة داخل المدنيّة. فنحن نتحدّث كثيرًا عن المجتمع المدني، ولا نفتح المجال للحديث بنفس القدر عن المجتمع اللاّمدني، ذاك الّذي يندم فيه الفرد عن اليوم الّذي قضّاه وهو يؤدّي واجبه بهمّة وتفان!!  ومن حدث الثورة نفسه انسلّ مجتمعٌ لا مدنيّ، لا يحترم إشارات المرور ولا يؤدّي معلوم الجباية ويتنصّل من جميع التزاماته ولا يتورّع عن شتم غيره باستعمال نابي الألفاظ ويسمح لنفسه بالتعدّي على غيره إفكا وبهتانا وليس بالوسع رده عن غيّه أو زجره بأيّ شكل من الأشكال.
أنت تقرأ في الصّحف الرقميّة على غرار "بناء نيوز" (القريبة من الإسلاميّين)، مثلاً، أشياء غريبة، بل لا تُصدَق أحيانا، من ذلك ما قام به حارس ليليّ بمدرسة ابتدائية تقع بأمّ العرايس من ولاية قفصة في الجنوب الغربي التّونسي، فقد عمد إلى إيقاف العمل بالمدرسة وإعلان الإضراب بها واشترط تسجيل اسم زوجته بقائمات المستفيدين من عمل الحضائر حتى تعود المدرسة إلى سالف نشاطها !
مهما يكن من أمر فإنّه يتعيّن التّشديد على أنّ المتخيّلات الثّلاثة الّتي نحن بصدد الحديث عنها ليست مختلفة فحسب، بل هي متضاربة. نعم حصلت مصالحةٌ بين ما وسمناه بالمُتخيّل الإسلاميّ ونظيره الوطنيّ، لكن عندما نعود إلى تاريخ ما قبل الحضور الاستعماريّ لنتملّى نتائج انتفاضة سنة 1864 بالبلاد التونسية مثلا، نلاحظ أنّه حصل تعليق العمل بدستور سنة 1861، وهذا يدعونا إلى التّفكير جدّيًّا في إمكانيّة حصول الأمر ذاته حاضرًا أو التوّجه عمليًّا نحو تجميد فصول من الدّستور.
إذا تجاوزنا مختلف الإشكاليات التي يطرحها موضوع المُتخيّل، لشرح ما اعتبرته خضوع مختلف التحوّلات حاضرا إلى مسار متقطع يحتكم إلى المصادفة. فهل أنّ نموذج التّفسير الّذي تقترحه علينا يخصّ البلاد التونسيّة وحدها أم أنّه غير قابل للفهم خارج الواقع المُعَولم الّذي نعيش فيه؟
يحيل ما يحصل في تونس وفي غيرها من البلدان على واقع كونيّ أطّرت العولمةُ معظم ردود أفعاله. لقد تبلورت لديّ مثل هذه القناعات بالتعويل على "الاختلاس" أو ما أسمّيه تأسّيًّا بـميشال دي سارطو 'الصيّد غير المرخّص فيه' braconnage "؛ فمن خلال تتبّعي لظاهرة المواجهات الّتي كثرت بشكل ملحوظ خلال العقود الثلاثة أو الأربعة المنقضية وخاصّة في العقد الأخير، بدأت أفهم بشكل أفضل أنّ ما يحصل في بقاع عديدة من العالم خاضع إلى الآليات نفسها تقريبًا.
-       أتقصد أشكال التّعبير عن التبرّم والسّخط والاحتجاج ؟
ليس ذلك بالمرّة، لأنّ ما أقصده هو حصول مواجهات تنطلق بمقتل أحد المتظاهرين، وهو ما يمكن حصوله بأيّ بلد من بلدان العالم. وإنّ ما حصل لمحمّد البوعزيزي لا يمثّل استثناء، غير أنّ الجديد هو انتشار المواجهات في أكثر من مكان واحد بشكل سريع ومباغت كالنّار في الهشيم. أنا من أولئك الّذين يعتقدون، في ما يخصّ ما عقب انتحار البوعزيزي، أنّ الأسئلة لم تطرح بشكل جيّد. فالانتحار بإضرام النّار في الجسد، لم يؤدّ إلى النّتائج نفسها لمّا عمد الشّابّ "تريمش"، أصيل المنستير، مثلا، قبل اندلاع المواجهات بسنة أو بسنتين، إلى حرق نفسه.
يتّصل الأمر في نظري بمُتخيّل المواجهة، فحال اندلاعها حدث تقطّعٌ خاضع للصّدفة في المسار وأصبح من العسير على السّلطة السّيطرة عليه أو فكّ شفرته في الإبّان، لأنّه لم يقع التّفطّن بالمرّة إلى إمكانيّة حصوله. الثّورة التّونسية لم يتمّ التفطن إليها بالمرّة من قبل أيّ كان، وجميع مَن يدّعون اليوم خلاف ذلك منافقون وكاذبون.
-       تحدّث فتحي بن سلامة عن "الزّاوية الميّتة الّتي انبثقت منها الثورة، فهل الأمر موافق للصّورة الّتي تفيدها تلك الاستعارة؟
أعتقد أنّ الأمر متّصل بمتخيّل فتحي بن سلامة أو مُتخيل عبد الوهاب المؤدّب، ليست المسألة متّصلة باستعارة الزّاوية الميتة، بل هي لا تتصل بهندسة الزّوايا أصلا، وأنا أفضّل عدم الدّخول في سِجال حول مثل تلك التّفاسير الّتي لا تبدو لي جديّة بما فيه الكفاية.
إن إصرارنا على الطّابع المُعولم لظاهرة المُواجهات يستند إلى الدّراسات الميدانيّة المتّصلة باستشراء هذه الظّاهرة كونيًّا، وعلاقة حصولها بتقطّع المسار الخاضع للمصادفة كما أسلفنا؛ فمنذ أن تنطلق المُواجهات ينقلب تاريخ المجالات المحتضنة لها رأسا على عقب. انظر مثلا حادثة قتل شرطي أمريكي اعتباطيّا لشخص لم يتعرّض له بسوء وما ترتّب على ذلك من مواجهات ضارية. لقد كان بالإمكان ألاّ تحصل تلك الحادثة بالمرّة غير أنّها حصلت وبتلك الطريقة العنيفة أو القصوى... لا أحد بوسعه إذن السّيطرة على مثل هذه الصّيرورة، فما إن تندلع المُواجهات حتّى تتحوّل إلى ما يشبه فتيل البارود الّذي ليس بوسع أحد أن يطفئه، وكلّما تدخّلنا لإطفاء الحريق، على شاكلة ما حاول الرّئيس التونسي السابق بن علي القيام به، إلاّ ازداد الوضع خطورة.
ليست الثّورة وحدها على ما وصفناه، بل إنّ المسار الانتقالي نفسه يبدو لنا خاضعًا للمواصفات نفسها، حتى وإن ولم يكن الأمر بنفس الشّكل. لكن هناك أوضاع لا نستطيع أن نقدّر مآلها، على غرار العمر الحقيقيّ لحكومة الحبيب الصّيد مثلاً ؛ هل هو سنة أو ستة أشهر؟ حزب النّهضة نفسه، من خلال تصريح نائب رئيسه، قدّر عمر الحكومة الجديدة بسنة ونيف... فالأمور بين أخذ وردّ. ونحن نُعاين وضعيّة تقطّع المسار الخاضع للمصادفة في تسميات وزراء تلك الحكومة... يُعلن عن تسمية شخصيّة مّا على رأس وزارة، ثم يتمّ التّراجع عن التّسمية ! أو قد يتمّ الإعلان رسميّا عن تسمية شخص على رأس وزارة ثمّ ينقل بالخطة نفسها لوزارة أخرى ! حين غاب التّوافق بخصوص تكليف الأمين العامّ لحزب حركة نداء تونس بمهمّة تشكيل الحكومة، بعد أن حُسمت مسألة رئاسة البلاد، تمّت تسميته وزيرًا للخارجيّة. هذا ما يعطي انطباعًا بأنّ السّياسة تحوّلت إلى ما يشبه لعبة الورق المسمّاة في تونس بـ"ـالشكبّة" ! الأمر خاضع إلى المصادفة على غرار نظام الاحتمالات في الجبر فما الّذي يميّز رئيس الحكومة الحالي؟ لو كان رئيس الدّولة عرض عليه وزارة الفلاحة مثلاً لكان قبل ذلك شاكرا ! هذا بغضّ النّظر عمّا يدور في الكواليس من أنّ تسميته تسمح للرئيس المنتخب بوضع اليد على جميع مفاصل الجهاز التّنفيذي.
 خرجنا بحكم وقوع الثورة من مجالات تفسير الظّواهر الاجتماعيّة بإخضاعها للعقل وحده أو بربط أسبابها بحتميّة قاهرة، ونحن نرى ضرورة مزيد نقد تلك النماذج في التفسير ومحاولة استنباط نماذج تحليل جديدة والسير في مسالك غير مطروقة وإنجاز قراءات مفتوحة.
-       أنت تنقد القراءات المُعوّلة على العقل وعلى الحتميّة وحدَهما، وتدعو إلى فتح مجال الإنسانيّات والاجتماعيّات على نموذج التّحليل الّذي وسمته بـ"تقطّع المسار الخاضع للمصادفة"، إلاّ أنّ القراءة الحتميّة في الماركسيّة تمكّن من التوصّل إلى معقوليّتها الخاصّة، حتى وإن أخضعت المعطيات المدروسة لـ"سرير بروكوست" وأرغمتها على التوافق مع نموذجها التّحليليّ، لكنّ ما تقترحه علينا لا يفسّر أيّ شيء، بل لا يتجاوز مستوى التّوصيف، باعتبار أن "طاقتة الإنتاجيّة"، كما يُقال، ضعيفة لا تؤدّي إلاّ إلى استنتاج يتيمٍ مُستندُه أنّ حدث الثّورة التّونسيّة فريد من نوعه، لا يمكن مقارنته بغيره. فما الشّيء الّذي يجعل تلك الثورة مختلفة عن الثّورات الّتي سبقتها برأيك؟
هذا سؤال مزدوج ومُهمّ، يتصل جانبه الأوّل بالطّبيعة الوصفيّة للتّفسيرات الّتي توظّف بُعدَي المجال العموميّ والمُتخيّل لتفسير الظواهر.
-       عفوًا، الأمر لا يتعلّق بذلك، بل بالتّصوّرات الّتي وافيتنا بها حول "تقطّع المسار الخاضع للمصادفة" باعتباره أنموذج تحليلٍ في العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة؟
نعم فهمت المقصود. لا أعتبر أنّ هذا النموذج وصفيّ فحسب... هو يدفع إلى تجاوز التّصوّرات المُعوّلة على تضادّ الثّنائيات والنظر من زاوية هيمنة الفرد ويدعو إلى تجربة أشكال التّفسير المُعوّلة على التّعدّد: تعدّد القراءات، وتعدّد زوايا النّظر وانفتاحها، وهو ما يقرّ بعدم أحاديّة المجال العموميّ ويدعو إلى الاعتقاد في تعدّده. فما خصوصيّات الثّورة التّونسية؟ هي قبل كلّ شيء ثورة لم تحصل ضمن إطار وطني، انطلقت من مدينة سيدي بوزيد والجهات الدّاخليّة الغربيّة للبلاد التّونسية  ثمّ سرعان ما انتقلت إلى الجزائر ولم يكتب لها النّجاح، ثم اتّجهت إلى المغرب فليبيا ثم البحرين وإسرائيل، فالصين وأمريكا...إذن هي ظاهرة متلازمة مع العولمة. بيد أنّه يتعيّن ألاّ يغيب عن أذهاننا أنّ الأمر يتعلّق بدورة مازالت في بداياتها؛ فقد تدوم قرنًا من الزّمن أو أكثر. هوبزبوم يعتبر أن القرن العشرين انتهى سنة 1989 وأن بدايته تعود إلى سنة 1870 ... قد يكون القرن الواحد والعشرين بدأ بدوره متقدّمًا في الزّمن، أي أنه لم يبدأ بحلول سنة 2000 بل انطلق قبل ذلك ... حتى وإن كنت من بين أولئك الّذين يدعُون إلى الإقلاع عن دراسة الأسباب والتركيز أكثر على دراسة النتائج، لأنّ البحث في الأسباب شكل مُضمر لفرض تفسير معقلن فمن الأسباب الّتي أعتبرها وجيهة في تفسير حصول حدث الثّورة تونسيًّا التّرهّل الاجتماعي للنّظام القائم ووصوله إلى حالة إشباع قصوى. فالرّاجح أنّ نظام بن علي دخل في تلك الحالة قبل سنة 2011 بكثير، ومن البراهين الدّالّة على ذلك دخول فاعليه السّياسيّين في حملة جديدة من أجل "انتخاب" الرئيس بمجرد حصول هذا الأخير على عهدة جديدة في "انتخابات" سنة 2009. هناك مغالاة وتصرّف أخرق لا يمكن أن يقبل به أحد. وهناك مسألة أخرى مهمّة في تفسير ما حصل وهي تتعلّق بما لم نتوصّل إلى معرفته بخصوص ما حصل تحديدا يوم 14 جانفي بين العاشرة صباحا والخامسة بعد الزّوال؟ ثمّ ما الّذي حصل تحديدًا خلال الأيّام الثّلاثة الأولى على إثر إغلاق المجال الجوّي التّونسي؟ ما طبيعة المباحثات التي دارت خلال تلك الفترة الحسّاسة؟ وما مضمونها بالضبط؟ مسألة أخرى مهمّة: شاع قبل حصول الأحداث توصيف حلّت محلّه من بَعْدُ توصيفات مغايرة، على غرار تسمية ما حصل بـ"الربيع العربي". لقد انطلق ذلك يوم 6 جانفي، وإن كان نعت "الرّبيع العربي" استعمل منذ سنة 2005 على هامش إنجاز الانتخابات العراقية بعد الإطاحة بنظام البعث واجتياح بغداد سنة 2003.
جميع هذه الأشياء غير واضحة وتحتاج إلى تدبُّرٍ بشكل أدقّ؛ ما حصل في مصر يبدو أكثر وضوحًا ... فالأمور مُحيّرة تونسيًّا وأشدّ دهاء وتعتيمًا، فما حصل بمصر هو انقلاب واضح، لأنّ المجلس العسكري هو مَن طلب من الرئيس حسني مبارك التنحّي؛ أمّا بتونس فقد حصلت الأمور بشكلٍ مقنّع وأشدّ تشعّبا بل أكثر لُؤمًا !
فإذا ما كان السّابع من نوفمبر انقلابا، حتّى وإن احتمل الأمر تفسيرا آخر باعتبار أن تحليله لا يكتفي بوصفه بالانقلابيّة، فإنّ ما حصل في مستهلّ سنة 2011 يبدو أشدّ تعقيدًا من ذلك بكثير. فمن خصوصيّات الثورة التّونسية انخراطها في العولمة واتّسام ما ترتّب على حصولها يوم 14 جانفي بالغموض. مَن الّذي أوقف الجنرال السّرياطي؟ لماذا رفض الجنرال رشيد عمّار تحمل أعباء حكم البلاد لمّا عُرِض عليه ذلك؟ وما حقيقة تنحّيه؟
العنصر الثّالث والأخير الّذي يحيل على خصوصيّات الثّورة التّونسيّة هو اقتصارها على المجال السّياسي فحسب، بل على السّياسة وحدَها. ونظرًا إلى أنّ الشّرطة والقضاء لم يشملهما أيّ تغيير، فإن الثّورة قد اختُزلت في جانبَيها السّياسي والدّستوري أو التّشريعي الجزئي... هي لم تشمل لا الاقتصاد ولا الثّقافة، وكما لم تعرف الإدارة أيّ تغيير بل ازدادت تقوقعًا وتصلّبا.
-       يبدو توصيفك للثّورة التّونسية بأنّها ثورة سياسيّة ذات مضمون تشريعيّ جزئيّ دقيق ومنتج للمعنى، لكن ألا ترى أنّ الثّورة الّتي عرفتها رُومانيا مثلا ضمن سياقها الزّمنيّ والمحلّي المتّصل بأوروبا الشّرقية، تشبه الثّورة التّونسية إلى حدّ بعيد؟
هذا صحيح وهو ممكن جدّا. تريد أن تقول إذن أنّه لا توجد خصوصيّات مثلما أوضحت ذلك أعلاه، وأنّ ظاهرة العولمة وحّدت جميع الاحتجاجات على السّلطة. لكن يتعيّن عدم إغفال ما أشرت له بخصوص تفاقم التّصرّفات اللاّمدنيّة تونسيّا. ففي أيّام الدّكتاتوريّة اتّسمت تصرّفات مختلف الشرائح الاجتماعية كما تصرّفات الأفراد بقدر أكبر من المدنيّة مقارنة بما أصبح عليه الوضع أيّام الدّيمقراطيّة والتّعدديّة السّياسيّة. هذا أمرٌ تختلف فيه التّجربة التّونسيّة عن جميع بلدان العالم، فأغلبيّة السّكّان لا يحترمون إشارات المرور في الطّرقات ولا يدفعون ما تخلّد بذمّتهم من ضرائب، النُّخب المتعلّمة والمثقّفة ذاتها ترفض أن تدفع (الأطبّاء والمحامون ...)، نفس الشّيء بالنّسبة إلى مسألة أخرى مهمّة، غالبًا ما نتحاشى الحديث عنها، وهي النّظافة العموميّة. سبَق أن ربطنا ذلك بضعف حكم النّهضة، إلاّ أنّ الوضع لم يشهد تحسّنًا بعد وصول حركة نداء تونس إلى الحكم. وإنّ الانتخابات البلديّة المنتظرة قد تتحوّل إلى عائق إضافيّ باعتبار نوعيّة المُتخيّل الذي ستخضع له عمليّات الانتخاب. وليس من المستبعد أن يفضي ذلك إلى عودة التّصرّفات القبليّة والعشائريّة والعائليّة، أي إلى عودة كلّ ما يندرج ضمن ما يُسمّى بـ"ما قبل السّياسيّ"، ونحن نسير في تصوّري قُدُمًا نحو وضعٍ كهذا !
-       ما هي المؤشّرات الدّالّة على حصول ذلك بتلك الطّريقة تحديدًا؟
هناك معطيات يمكن استخلاصها من العارفين بهذا الموضوع من بين الإداريّين على غرار كاتب الدّولة السّابق للجماعات المحليّة، القاضي عبد الرزاق بن خليفة الذي أعرب في حوار أُجري معه مؤخّرًا عن رفضه لانتخاب الولاة، ومساندته لانتخابات المجالس المحليّة. هو يخشى من عودة النّعرات القبليّة واحتدام الخلافات المتّصلة بالولاء المحلّي والقبلي والعائليّ، وهي وضعيّة تهدّد وجود الدّولة برمّتها. فهناك في ولاية قفصة مثلا مَن يعتبر أنّ سكّان المنطقة أحقّ من غيرهم بالعمل في قطاع المناجم، والخطير أنّنا لا نعدم ضمن كوادر اتّحاد الشّغل من يدعَم مثل تلك التّوجّهات ويساندها من خلال توظيف الخطاب الشّعبويّ.
-       يعتبر إمي سيزار أن العلاقة بالذّاكرة تشبه علاقة القلم بالمِمحاة، فما الّذي سيُحتفظ به من حدث الثّورة بالقياس إلى ما سيتمّ محوه ؟ وماذا سيبقى من شخصيّة البوعزيزي؟
أفضّل هنا طرحَ جملة من الأسئلة أكثر من تقديم إجابات؛ لقد قام محمّد البوعزيزي بحرق نفسه أمام مقرّ ولاية سيدي بوزيد بعد شِجارٍ مع عون التّراتيب البلدية فادية حمدي التي لا تنتسب إلى سيدي بوزيد، فهي أصيلة قرية المكناسي. ونحن نعلم أنّ هناك عداوةً قائمة بين تلك القرية المحسوبة على أولاد عزيز وفصيل البوعزيزي من الحرشان المستقرّين بمدينة سيدي بوزيد. أَلم تلعب قضيّةُ النّوع الاجتماعي دورًا مّا في هذا الخلاف؟ لو حصل التعزير من قبل رجل لا امرأة فإنّ الامتثال كان من الممكن أن يحصل. أمّا ونحن إزاء امرأة ذات أصول أجنبيّة عن المدينة وتمثل السّلطة الحاكمة فالحالة مختلفة. ثمّ مَن وقف في صفّ البوعزيزي؟ أفراد قبيلته من سيدي بوزيد؟ وسيدي بوزيد نفسها، تلك الّتي تريد احتكار حدث الثورة، انتفض سكّانها بعد حصول الحرق خلال شهر ديسمبر، ولكن لم يحصل فيها أيّ شيء يوم 14 جانفي، غير أنّ أصيليها يعتبرون أنّ رمزيّة الثّورة لا يمكن أن تشمل غيرهم. وهؤلاء الّذين يريدون احتكار الشّحنة الرّمزية للثّورة التّونسيّة صوّت غالبُهم في انتخابات أكتوبر 2011 للعريضة الشّعبيّة وهي سياسيّا وحتى أخلاقيّا، أنكى وأمرّ من دكتاتوريّة بن علي. وقسمت سيدي بوزيد أصواتها في الانتخابات الّتي أُجريت في نهاية السّنة المنقضية بشكل استثماريّ. ويتعيّن ألاّ ننسى أنّها شكّلت أكبر مدينة محسوبة على حزب التّجمّع الدّستوريّ الدّيمقراطيّ في البلاد. ومهما يكن من أمر فإنّ الإهانة الحقيقيّة الّتي تعرّض لها البوعزيزي تكمن في أن لا أحد من الرّسميّين وافق على استقباله. البوعزيزي بائع متجوّل يشتغل بشكل غير قانونيّ، وهو من هذا المنظور يعيدنا إلى حادثة اعتصام حارس مدرسة "أمّ العرايس" بولاية قفصة الّتي ذكرناها أعلاه، تلك الحادثة التي اشترط أثناءها المضربُ عن العمل ترسيمَ زوجته في سجلّ عمّال الحضائر حتّى يسمح بعودة الدّروس التي قطعها اعتصامه بالمدرسة الّتي كان يحرسها. عندما نتساءل عن خصوصيّات الثّورة التّونسيّة فإنّ من الظواهر البارزة المترتّبة عنها إفرازَها لشبكات غامضة من "المافيات"، تبدو سلبيّات تصرّفاتها أشنعَ بكثير من تلك التي ثبت تورّطُ أصهار بن علي في اقترافها. لكأنّ الثّورة التونسيّة عمّمت ديمقراطيّا التّصرّفات الغامضة والمشبوهة وغير القانونيّة ! شيء آخرُ أحرِص كثيرًا على تسجيله، وهو توفّر نظام بن علي البوليسيّ والعائلي على إدارة وعلى مشاريع حقيقيّة أحدثت بنيةً تحتيّة لن تتمكّن العديد من الحكومات المتعاقبة من بعده من برمجتها أو انجازها واقعيّا. وهذا يُغمَر إعلاميّا في الغالب لأنّ التّصريح به مُتستهجن من قبل جميع التّيّارات السياسيّة المجرِّمة لمثل ذلك الانزياح المحسوب على قوى الردّة والثّورة المضادّة !
-       أستسمحك في غلق هذه الأقواس المتّصلة بالثورة واستتباعاتها والعودة إلى ما أنجزته من أبحاث، حتّى وإن كان مدلول تقطّع المسار الخاضع للمصادفة لديك لا يتعدّى النّقيض المنهجيّ الّذي يُسعف في الاعتراض على الإفراط في التّعويل على العقلانيّة وتفادي شطط التّصوّرات الحتميّة. لكن ما يهمّنا هو هذا المسار اللاّنمطي الّذي اتّسمت به تجاربك البحثيّة والمهنيّة. فقد اخترت التجذيف في العديد من الاتّجاهات بتناول مواضيع الصّلاح والولاية والتّحوّلات الّتي طالت مجال مدينة القيروان وتاريخها، والحجاب، وتقاطعات سيرتَي بورقيبة الأب وبورقيبة الابن... فضلاً عن الحفر في التّوجّهات المنهجيّة لعالم الأنثروبولوجيا الأسترالي كليفورد غيرتس( Clifford Geertz)؟
أستطيع الجزم بتوفّر مسيرتي الجامعيّة على قدر غير قليلٍ من الاندفاع أو من الحركة المزدوجة. فقد كان عليّ أوّلا أن آخذ مسافة أمانٍ من الفكر المُهيمن أو ممّا يسميه بيار بورديو Pierre Bourdieu  التّفكير المعوجّ ويقصد بذلك ما نعتقد أنّه صحيح وندافع عنه بجميع ما أوتينا من قوّة... لذلك تلاحظون أنّه ليس لي أيّ انتماء لا سياسيّ ولا معرفيّ. فأنا لا أعتقد في جدوى ذلك، وأفضّل الابتعاد عن جميع أشكال التفكير المستند إلى "الكليشيات"، على غرار الإيمان الأعمى بجدوى الإسهام بشكل منتظم في تحرّكات المجمع المدنيّ. فلمّا وظّف عبد القادر الزغل هذا البعد في تفسير بعض الظّواهر السّياسيّة والاجتماعيّة كنت أشكّ كثيرا في جدوى توجّهه، لكنّني أعترف اليوم أنّه كان على صواب، حتى وإن كنت لا أزال أعتقد أنّه لابدّ من توخّي الحذر، لأنّ المجتمع المدنيّ لا يتورّع من توظيف الإعلام أو استعمال أساليب استثماريّة مشبوهة. فتنظيم ندوة علميّة أو نشر كتاب أو مجلّة أضحى اليوم يتطلّب جهدًا خُرافيًّا، في حين أنّ هناك جمعيّات بوسعها أن تحصل بسهولة على مالٍ وفير قد لا تعرف فيما يتعيّن عليها صرفُه !
ويتمثل مدلول الحركة أو الاندفاع في رفضي لكلّ محاولات حصر مسيرتي في تخصُّص بعينه وهو علم الاجتماع. فأنا ممّن لا يجدون أنفسهم في أيّ تخصّص، لا في تداخل الاختصاصات ولا في تعدّدها ولا في ما هو فوقها.  مُنتهى اعتقادي أنّني منخرط في توجّهات تتموضع خارج الاختصاصات. وهو ما أتحمّل تبعاته داعيًا جميع الباحثين إلى الاعتبار بذلك وتكريسه... فعندما كنت أدرّس بمعهد الدّراسات الهندسيّة وأحضر ندواته لم أكن أُدعى إلى أخذ الكلمة إلاّ قبل نهاية الأشغال، وذلك بغرض "الاستماع إلى رأي علم الاجتماع" ! وهو نفس الوضع الّذي أعيشه اليوم حين أحضر اجتماعات قسم العلوم الإنسانيّة بالأكاديميّة التونسية التي أنتسب إليها !.
ليس هناك معرفة مستوفاة تخصّ شخصًا بعينه دون غيره، بل هناك في اعتقادي مسائل بحث يمكن الاشتغال عليها سويّة، وهذا ما ينقصنا حقيقة في تونس، بحيث يكون بوسع العديد من الباحثين المهتمّين بمجالٍ محدّد الانضمام إلى مركز أو هيكل أو مخبر. من ذلك موضوع الّنبيذ مثلاً الّذي يقتضي درسه علوم المجتمع والعلوم الطّبيعيّة. نفس الشّيء بالنّسبة إلى موضوع الماء أو الطّاقة الشمسيّة أو المشاكل المناخيّة والفيضانات... جميع هذه المسائل ليس بالوسع ادّعاء تناولها بالتّعويل على تخصّص واحد. فما ينقصنا حقيقة هو العمل في فرق تضمّ البيولوجيّ وعلماء النّبات والحيوان والآثار والتاريخ والاجتماع والنّفس... بمقدورهم جميعًا تقديم توضيحات عن مسألة محدّدة، لذلك أدعو إلى بعث مركز للدراسات المتقدّمة يجمّع المعارف حول مسائل بعينها.
وأنا لا أعتقد أنّه بوسعي القبول بتصوّر نظريّ واحد، أي نموذج معرفيّ مغلق. فأنا من أولئك الّذين يبحثون دائمًا عن شيء آخر نظرًا إلى حالة "التّيه الابستيسمي" الّتي أعيشها. وهذا ما يدفعني في أحيان كثيرة إلى اللّجوء إلى التّعويل على نوع من التّرميق المنهجيّ... حيث تستهويني النّماذج أكثر من النّظريّات لأنّها قابلة للتّغيير؛ فالخروج من نظريّة يستدعي تعويضها بأخرى، في حين أنّ النّماذج تبدي قابليّة أكبر للتّواؤم... هابرماس اشتغل على نموذج المجال العموميّ، لكنه تجاوزه بعد ذلك. والفرق بين النّظرية والنّموذج مهمٌّ، لأنّه إذا ما انتسبنا إلى التّصوّرات الماركسيّة أو البنيويّة المتّصلة بها، فإنّنا لا نستطيع التّحوّل إلاّ من داخل النّظريّة ذاتها؛ فالخروج من النّظريّة يشبه من هذه الزّاوية الإقدام على إلغاء الذّات.
-       لِمَ تقول ذلك؟ فإذا ما عدنا إلى اللّينينيّة باعتبارها شكلا من أشكال الماركسيّة  نعاين حصول تحوّل لا يشمل السّياسة فحسب بل الفلسفة أيضا. لكنّ اللينينيّة لا تعكس هي ذاتها تصوّرات غرامشي Gramsci أو ألتوسيرAlthusser  أو هنري لوفيفرHenri LeFebvre  أو التمثّلات الّتي صاغها الألمانيّ "كارل كورش Karl Korsch ... وغيرهم. لا بدّ من الاعتراف بتوفّر تلك النّظريّة على قدر غير قليل من الدّيناميّة.
هذا صحيح، لكن تلك الدّيناميّة لم تتعاف في نظري من التصلّب تمامًا. جميع النّظريات، سواء كانت ماركسية أو بنيويّة أو وظيفيّة تتّسم بقدرٍ غير قليل من التصلّب، فهبرماس وظّف نموذج المجال العموميّ ثم انتقل إلى غيره، أي أنّه أضاف لَبِنات جديدة ِلمَا شيّده منهجيًّا وزاد في علوّه... وذاك هو المدلول الحقيقيّ للتّراكم المعرفيّ. وبالعودة إلى كاستورياديس الذي لم يشتغل على المجال العموميّ، بل اشتغل على المتخّيل الاجتماعيّ، فإن أهمّية مُنجزه إذا ما تأمّلنا بدقّة ما كتبه وإدغار موران (Edgar Morin) وكلود لوفور( Claude Lefort) سواء ضمن "الاشتراكية أو التّوحّش" (socialisme ou barbarie)  أو ضمن كتاب المنفذ أو الفتحة La Brèche الّذي يتّصل بشكلٍ أوثق بما يعنينا... فإنّ مسألة "فتح منفذ جديد" تدفع إلى التفطّن إلى خاصّية أخرى للثورة التونسية تتعلّق بضرورة التّفكير في ما حصل وعدم الاكتفاء بقراءته أكاديميًّا. لقد فتح حدث الثورة منفذا ليس بالوسع حاضرا أن نتعقّل أين يمكن أن يؤدّي بنا على وجه الدقّة. فتحت الثورة منفذا سياسيا ومنفذا علميّا، فما على جميع الباحثين إلاّ أن يغيّروا مواقعهم لأنّه إنْ اكتفينا بالمعالجة الخاضعة لمختلف التّصوّرات المتفرعة عن النّظريّة الماركسيّة فيا خيبة المسعى، كما يقال !
الّذين يعيشون منذ خمسة عقود على الأقلّ على المعتقدات نفسها مع الاقتصار على إدخال بعض التّحويرات الطفيفة عليها، ولست هنا في مجال الحديث عن أشخاص بعينهم، ليس من حقّهم إيهامنا بأنّهم تطوّروا، والحال أنّهم أُكرهوا حقيقةً على ذلك، لأنّ الخطاب الّذي صدر عنهم خلال سبعينات القرن الماضي ليس بالوسع مواصلة توظيفه حاضرا. هذا ينهض حجّةً على أنّ جميع دعاوى التجديد الصادرة من هنا وهناك باطلةٌ وغير ذات مدلول، فالجمود لا يشمل الخطاب فحسب بل يتعدّاه إلى الانتماء وهذا أنكى وأمرّ.
-       نعود إلى الحديث عن مُنجزك المعرفيّ وتفسير طبيعته المتشظّية التي دفعتك إلى الاهتمام بمجالات متنوّعة أبرزها التّحوّلات الّتي عاشتها مدينة القيروان، تلك التي شكلت ما يشبه "حديقتك الأنثروبولوجية" المفضّلة.  
لست أدري كيف أجيب؟ فمن الواضح في اعتقادي أنّني لا أمعن النّظر إلاّ فيما لا أستطيع المسك به، أو قل إنّي لا أبحث إلاّ في كل ما يبدو لي غامضًا، لأنّني لا أتصوّر نفسي قادرا على البحث والتمحيص خارج إطار حضور شهوة أو غواية المعرفة.
-       هذا أمر جيّد جدّا، فلأوّل مرّة في تقديرنا يحيل باحث تونسيّ على مثل هذا البعد الذّاتي الّذي يحيل على تصوّرات جورج بطاي (Georges Bataille)، بغرض تفسير مساره المعرفي.
هذا التّوجّه هو ما غيّرني حقيقة، فأنا لا أتعامل مطلقا إلاّ مع المسائل الّتي تثير فيّ الفضول ولذّة المعرفة. أنا أخفق في العمل تحت الضغط أو الإكراه، وأعجز عن العمل بشكل منضبط... على شاكلة الخدمة العسكريّة.
بخصوص الحجاب مثلا، أثارت ملاحظاتُ والدتي فضولي بشكل كبير للبحث في الموضوع؛ فقد خطر لي مرّة أن أسألها عن رأيها الشخصيّ في ارتدائه فأجابت بأنّ الأمر يحتمل الانزلاق في شكل مبطّن من أشكال الانحراف الاجتماعيّ، بل حتى الدّعارة في حالات كثيرة ! جارتُها الّتي ارتدت الحجاب كانت تتعاطى الدّعارة متخفيّة وراء ذاك اللّباس حتّى تُبعد الشّبهة وتظهر بمظهر المتمسّك بالحشمة ! هذا مثال تجريبي بيّن لي جانبا غير مبذول أغراني بمزيد الحفر في تلك الظاهرة. هناك مسألة أخرى دفعتني إلى تعميق التفكير بخصوص واقع المرأة تونسيّا، وهي تتّصل بمزيد التّشجيع على إنشاء مجالات عموميّة نسائيّة لا ترفض استقبال الرّجال، لكن من دون أن يتعلّق الأمر ضرورة بالنّضال النّسويّ. فالمهمّ هو تكريس "جمالية الحضور" وإثبات القدرة على تعليم المجالات العموميّة، لا التّظاهر بالنّضالية والدّفاع عن حقوق المرأة. التّونسيون لم يفهموا الفائدة من وجود مثل تلك المجالات المخصّصة للّنساء، لأنّهم مهووسون مرضيّا بتشغيل مختلف أشكال "الترصّد" أو "التصيّد.
ما أقوم به حقيقة لا يتعدّى الاحتفاظ بمسافة نقديّة من جميع ما يتمّ تبنّيه أو التّصديق به بشكل جماعي، فأنا أشتغل أيضا بشكل من أشكال الصيد الممنوع قانونيا، الّذي يحصل خارج الموسم، مع حرص شديد على احترام قانون الطبيعة، أصطاد دون ترخيص لكنّني أحترم الطبيعة. أخرج من جميع المسالك المعبّدة لكنّني أحاول احترام القوانين النّاظمة لعمليّة إنتاج المعرفة دون أن أنضبط للتّصوّرات السّائدة والمنحازة لسطوة التّوجّهات العقلانيّة أو أن أدّعي أيّ شكل من أشكال الحتميّة. لأنّ تلك التّوجّهات عقيمة غير قادرة على فهم ما يحصل داخل المجتمع وتحليله بأعلى قدر من الدّقّة.
-       هناك تعاملٌ مفارق مع المعرفة الاجتماعيّة دون خروج عن ضوابطها طبعًا. فعند الاطّلاع على حوارك مع الحبيب بورقيبة الابن الّذي نشرته دار سراس في السنة الماضية، بدت لنا أهداف تلك المحاورة غير مقصودة حيث لم يتم الاكتفاء باستعراض مسيرة الرجل السياسية فحسب. فهل وضّحت لنا الأمر؟
 من البداية اشترط عليّ بورقيبة الابن ألاّ ينشر مضمون ما سيدور بيننا وهو على قيد الحياة وأنّ لورثته مطلق الحقّ في قبول النّشر أو رفضه. وهو ما لا يستقيم معه منطقيا الإقدام على تلك المغامرة، لكنّني قبلت مع ذلك بشرطه. ولمّا أعلمني النّاشر أنّه تمّ الاتّفاق مع الورثة بخصوص نشر ذلك الحوار أسعدني الخبر كثيرًا. ما شدّني لبورقيبة الابن تصرّفاته الّتي تحيل على جوانب تُشبه ما يأتيه أباؤنا، فتصرّفاته مطبوعة بنوع من التّحفّظ الإرادي غير أنّه بمجرد الحفر وراء صورة الواجهة نعثر على قدر غير قليل من السّخاء وكرم السّجايا.
هؤلاء الأشخاص يُوحي ظاهرُ تصرّفاتهم بأنهم يُغالون في التهيّب والمحافظة، لكنك بالمعاشرة تكتشف أنّهم يتوفّرون على قدر غير قليل من الشّجاعة على قول ما يعتقدون أنّه صواب ومن اللّياقة في التّعامل مع الآخرين واحترام المواعيد بل الحرص على الاعتذار مُسبَقا عندما لا يكون بوسعهم الإيفاء بالتزاماتهم.
ما كنت أبحث عنه من خلال محاورة بورقيبة الابن هو الكيفية الّتي كان والده يفكّر بها. فأنا أعتقد أنّه رغم اختلافه عنه بحكم انتسابه إلى جيل آخر، فإنّ تصرّفاته تشبه تلك التي تحيل على مميّزات شخصيّة والده، لأنه حتى إن حاولنا جاهدين الابتعاد عن طباع آبائنا، فإنّنا نقوم بإعادة إنتاج تلك الطّباع جزئيا أو كليّا بأشكال ملتوية، غير واعية. مسألةٌ أخرى استرعت انتباهي، تتّصل بحقيقة طباع بورقيبة الأبّ القويّة والمفارقة. لقد سُئل بخصوص ذلك حفيده (معزّ بورقيبة) وكذلك زوجته الثانية وسيلة بن عمار الّتي اعتبرت في حوار أُجري معها أنّ "معاشرة بورقيبة عن كثب تبيّن أنّه يختلف عن بقيّة التّونسيّين وأنّه يتوفّر على خصال لا توجد لديهم." وهو عين ما أفصح به حفيده معزّ بورقيبة فقد اعتبر أنّ جدّه لا يدين لأحد بشيء، أي ليس له أيّ شكل من أشكال الولاء يصله لا بأبيه ولا بأخيه أو بأمّه، فجميع أشكال التّبعيّة أو الولاء للغير لا تعني شيئًا بالنّسبة إليه.
-       لكن ألا يقوم هو أيضا بعمليّة تلفيق للثقافة الّتي احتضنته؟ ثم لماذا تمّ الاختيار على ذلك العنوان "تاريخنا Notre histoire" ؟ وما فائدة عودتك للحفر في سيرة بورقيبة؟
بلى هو ذلك تمامًا، فهو استوعب تلك الثقافة إلى حدّ أضحى يعتقد معه أنّه أفضل ممثّليها على الإطلاق. لقد حصل ما يشبه الانصهار الكليّ بينه وبين تلك الثقافة. أمّا بخصوص العنوان فأنا أعتقد أنّه وجيه جدّا، والجزء الثاني من ذاك الحوار الذي سيصدر في غضون شهر جوان المقبل سيحمل عنوان "سيرتي الشّخصيّة". وهو يتعلّق بسيرة بورقيبة الشّخصيّة.
سؤالك بخصوص دلالة العودة إلى بورقيبة حاضرا وجيه جدّا، غير أني لم أفكر في الأمر مطلقا، فأنا أفضّل عدم مجاراة أيّ عقلنة، قد يكون ما أشرت إليه بخصوص إجابة حفيده معزّ بورقيبة، أي انعدام جميع أشكال الولاء لدى جدّه، هو ما حفّزني للتّوجّه إلى البحث في ذلك. وقد تكون هناك مسألة أخرى تتّصل بأنموذج الجيل، فأنا من المحسوبين على الدّولة الوطنيّة الّذين يعتبرون أنفسهم نتاجا لفكر باني الدّولة الجديدة بورقيبة. هناك في تركيبة الشّخصيّة الأساسيّة لجميع هؤلاء تعايشٌ للثّنائيات المتناقضة فبورقيبة كان بالأساس ملتبس الشّخصيّة: هو المؤسّس والدكتاتور، المصلح والمحافظ، الباني والهادم. حالة التداخل هذه، أو الجمع بين المتناقضات تغريني كثيرا، لأنّ ما يميز المُتخيّل هو اتّسامه بتلك الخاصيّة تحديدًا وقبل أيّ شيء آخر... كما أنّ ما يميّز المجال العموميّ أيضا هو احتضانه لتلك الثنائيات المتناقضة، فهو ماديّ وفكريّ في آن ... على أنّ الإنسان ذاته هو نتاج لتلك الثنائيات. ما شدّني أيضا هو علاقة بورقيبة الملتبسة بالمرأة وتواصل التباس علاقتنا نحن بها أيضًا، وهو ما نرفض غالبا القبول بحضوره عميقا في عقلنا الباطن. هناك في علاقتنا بالمرأة ثنائية ملتبسة بين التقليديّة والحداثة، بين الإعجاب والرّفض، بين الجاذبيّة والخوف... وجميع ذلك هو ذات اللّبس الذي يشقّ علاقتنا بالثّقافة العربيّة في أدقّ تفاصيلها.
-       نعود إذا ما تفضّلت إلى مسارك المعرفيّ لنفهم بشكل أوضح طبيعة العلاقة الّتي ربطتك بالمعرفة الأنثروبولوجية وبتصوّرات كليفور غيرتس لواقع مجتمعات المغارب تحديدًا؟
شكّلت الانثروبولوجية ودراسة الصّلاح أو الولَاَية بالنّسبة إليّ، في البداية على الأقلّ، شبه مهرب، لأنّ دراساتي الجامعية العليا تمحورت حول العلوم السّياسيّة. فقد عدت إلى تونس قبل أشهر قليلة من وصول بن علي إلى السّلطة ولم تكن هناك مطلقا أيّة إمكانيّة لتدريس العلوم السياسيّة، لا خلال زمن بورقيبة ولا من بعده، وحتى مع حصول الثورة لم يتمّ التفكير في ملء ذاك فراغ. وضعيّة العلوم الاجتماعيّة أتعس بكثير من وضعيّة العلوم القانونيّة، لأنها لم تضع في اعتبارها أهمية دراسة المدينة (la Polis)  كشرط توجيهيّ في فهم مدلول السّياسة. وهذا ما لم يفهمه الماركسيّون ولا اليساريّون ؛ فالمدينة هي قلب السّياسة النّابض.
شكّل اللجوء إلى دراسة الصلاح والولاية من وجهة نظر أنثروبولوجية إذن مهربا بالنسبة إليّ، لكنّه غير مفصول عن موروث شخصي، فجذوري العائليّة من جهة والدتي تربطني بالتّزوّي. فقد ولدت بالزّاوية وأنا أعرف بشكل تفصيليّ خصوصيّات ذلك العالم. أنا شاهد عيان على كيفيّة أداء طقوس الطّريقة العيساويّة كما لم يعد من الممكن أداء تلك الطقوس حاضرا، فما بقي لا يتعدّى الأشكال الفولكلورية الّتي لا همّ لها مبدئيّا غير التّسلية وتنشيط السّاحات العامة ثقافيّا.
في ما بين سنة 2000 أو 2002 كنت جالسا بمقهى الصّفصاف بالمرسى بمعيّة عبد القادر الزغل (وهي جلسة عرض تفاصيلها ضمن مقال نشره ضمن أعمال النّدوة المهداة لـ"غيرتس")، ومرت من هناك مجموعة من الفتيات المحجبات، اللاتي كن ذاهبات لأداء صلاة التراويح جماعة بالجامع المُحاذي للمقهى. ولقد تزامنت تلك الظّاهرة مع انتشار العولمة كما أن التّوسّع في ارتداء الحجاب برز مع تعاظم تلك الظّاهرة أيضا. وسألني الزغل عندها بخصوص إمكانية تأويل المسألة معرفيّا، ولم يكن بوسعي عندها مطلقا مدّه بأيّة إجابة ! لكنّنا زرنا سويّة وبعد مدّة وجيزة اسطنبول وبداية من تلك الزيارة بدأنا نقبل بحضور الحجاب في المجال العموميّ دون القدرة على تفسير تلك الظاهرة أو فهمها بدقّة.
كنت أعتقد أنّه يتعين ألاّ ترتدي المرأة حجاب، لأنّ مجرّد قيامها بذاك يعني تحوّلها إلى سلعة أو شيء يستحيل مقارنته بالذوات البشريّة ! غير أنّني رأيت في تركيا أشياء أخرى متقدّمة على تونس بمسافة جيلٍ على الأقلّ. فقد حسم الأتراك المسألة بشكل مفارق، فأنت ترى المرأة المتحجّبة تمارس الرياضة وتعمد إلى توقيف السيارات لتنقلها حيث تريد أن تذهب، وهذا ما لا يمكن تقييمه انطباعيّا على الأقلّ إلا بشكل إيجابيّ.
لم يعد لديّ أيّ مشكل مع مَن يرتدين الحجاب بل حتى النقاب داخل الجامعة أو غيرها من المجالات العموميّة الأخرى، فالمهمّ أن تكون المرأة حاضرة في المشهد العامّ ومُعلِّمة له وألاّ تبقى حبيسة جدران البيت.
نعود إلى موضوعنا، عندما كنت تلميذا في سنوات ما قبل الدخول إلى الجامعة، هيمنت التصوّرات الماركسية على تفسير جميع الظواهر الاجتماعيّة، إلا أنّني لم أجد ضالتي في ذلك بالمرّة. واحتميت من سطوة تلك التفسيرات بالإقبال على قراءة فلسفة "نيتشه"، وهو ما ساعدني كثيرا على تجاوز التّصورات الماركسيّة الجديدة، تلك التي قامت عليها أفكار نيكوس بولانتساسNikos Poulantzas  . فأنا ممّن يعتقدون أنّ جميع من واصلوا الوفاء لتلك التصورات تُعساء، يصدرون عن حالة بائسة من التّكلّس الذّهني. انتقل معظمهم مباشرة من تصوّراتهم القبليّة الشّديدة المحافظة إلى واقع مُعَولم، دون أن يمرّوا بالتصوّرات المحدّدة للعيش في المدينة واستيعاب ضوابط الدّولة الوطنيّة. فليس من السوّي في شيء الانتقال من بنية ذهنية بدائية إلى بنيات متشعّبة ومخترقة للأوطان. ومهما يكن من أمر فأنا ممّن يعتقدون أنّ مجالات البحث يرتادها ثلاثة أنماط من الباحثين لا رابع لها: من لا يقرؤون ولا يفهمون، ومن يقرؤون ولا يفهمون ومن لا يقرؤون ويتوصّلون بالتعويل على نوع من الذّكاء الحدسيّ إلى فهم المقصود.   
-    لنتجاوز مثل هذا التحنيط أو الجمود الفكري... هل لك أن توضّح لنا طبيعة العلاقة الّتي تربطك بالفنون والآداب ... الرّواية مثلا ؟
أنا غير قادر بالمرّة على إنهاء قراءة رواية، لأنّني عندما أكون بصدد قراءة الصّفحات الأولى أقفز بشكل لا إراديّ لقراءة صفحاتها الأخيرة، لأنّني أريد أن أعرف مُسبَقا الكيفيّة الّتي تنتهي بها الحكاية.
أحب كثير الأقصوصة لأنها قصيرة وتتوفر على حبكة قوية، فأنا الآن بصدد قراءة "المنفى والمملكة"  لألبير كامو. جنس الأقصوصة محبّب لديّ بشكل مخصوص. فقد قرأت لكامو أعمالا أخرى مثل "الغريب" و"الطاعون" و"العادلون" وهي قمّة أعماله المسرحيّة التي تثير مسألة الاغتيال التي تتّسم حاضرًا بكثير من الراهنيّة. "المنفى والمملكة" هي عبارة عن أقاصيص، تأتي في مقدّمتها قصة المرأة الخائنة (هي حكاية امرأة ترافق زوجها الذي كان يشتغل تاجرًا للأقمشة في رحلة بالصّحراء الجزائرية، وتقع في غرام مشاهدها الطبيعيّة الجميلة الّتي استبدّت بكيانها وأسقطتها في غرامها). على مدى قراءتنا لتلك الحكاية الشيقة لا نعثر على المدلول الشائع للخيانة الزّوجية، بل على متخيّل يتحوّل مع الزّوجة إلى شيء يتجاوز الواقع بل هو الواقع حقيقة. فما الذي دفع بكامو إلى إسناد هذا العنوان إلى قصّته؟ هل يتعلّق الأمر مرّة أخرى بالمتخيّل؟ كل شيء منشدّ إلى ما يعتمل في رؤوسنا. فلا وجود لواقع وخيال، لأن الخيال لا يقوم بتلفيق الواقع بل ينغرس في صميمه. عشرون صفحة لا وجود فيها للخيانة، غير أنّ أمر ذلك منغرس عميقا في ذهن بطلة الحكاية التي تكره مهنة زوجها وتكره تنقلاته من فجّ صحراوي إلى آخر، ولا تعرف إن لم يكن السبب الذي دفعها حقيقة إلى مرافقته لا يزيد عن تحاشي البقاء وحيدة؟
أحبّ أيضا المسرح لأنّه تشخيص لأدوار ويتضمّن بالضّرورة حالات ارتجال، فالأدوار لا تُلعب بنفس الطريقة عند القيام بعرض جديد، الأقنعة تستهويني، لأنّ الحياة الاجتماعيّة عبارة عن لعبة أقنعة. غير أنّي لا أحبّ كثيرا السّينما لأنّها تدفعني إلى الاسترخاء، وهناك عدد قليل من الأفلام تابعتها من البداية إلى النّهاية. لكن بوسعي، وهذا أمر غريب، مناقشة مضمون ما شاهدت. وهذا ما يذكّرني بمقال كتبه الباحث المصري "علي فهمي" نشره بمجلة المستقبل العربي وعنوانه "المثقّف بالسماع". وفيه أشار إلى ظاهرة مستشرية لدى النّخب العربيّة وتتمثّل في الحديث عن الكتب بالسّماع دون تكبّد عناء/ متعة الاطّلاع على محتوياتها حقيقة. وهذا مماثل لما جاء في مقال باحثة مصرية أخرى، "منى عبازة"، حول موضوع "السّياحة العلميّة" تلك التي يفد الباحث ضمنها من بلد آخر (على غرار جيل كيبال (Jules Kepel) مثلا) ليجلس ببعض الصالونات ثم يُصدر "كتابا" عن الثورة ! أو ينشر مقالا بموقع "ميديا بارت" (Mediapart)  مثلا ويسمح لنفسه بمراجعتك ومناقشة ما أنت بصدد تملّيه بكثير من الأناة والرّصانة ! الجميع منغمس حتى الأذقان في هذا الضّرب المزري من "السياحة العلميّة". فكيف استطاع هؤلاء وبتلك السرعة المذهلة حقا فهمَ ما استعصى علينا استجلاء غموضه !؟
-    يتضمّن هذا السّؤال وجه إحراجٍ نعتذر عنه مُسبَقا، لأنّه يتّصل بطبيعة العلاقة التي تربط بين محمد كرو وأبي القاسم محمّد كرّو؟
كانت له عليّ أفضال كثيرة، فقد كان يوفّر لي في كلّ عطلة مجموعة من الكتب للمطالعة، لكنّني لم أكن أقرأها مباشرة، بل أعود إليها حالما يدفعني لذلك حبّ اطّلاعي. لقد زرع فيّ شيئا مفارقا مثلما نزرع زيتونة يمكن أن تكبر أو أن تذبل أو أن تموت. يمكنها أن تطرح زيتونا طيّبا أو أن تكون عقيمة ... مسألة ثانية يمكن أن تحسب له فقد كان كثير التّسامح على الرغم من تشدّده الظّاهر، فالأب التّونسيّ متسامح عامّة يقبل الاختلاف ويتحاشى الحديث معك في المسائل الخلافيّة. وهذا في حدّ ذاته شكل من أشكال الاحترام.
وتحضرني هنا أيضا حادثة طريفة يمكن أن أوردها: فقد طلبت مني الأستاذة منيرة شابوطو أن أساهم في ملفّ صحفيّ حول مدينة قفصة، ورغم تردّدي في البداية قبلت المشاركة. وفي الأثناء عثرت صدفة على كتاب في أزقّة باريس عنوانه "الوردة والإمام La rose et l’imam" فوجدت أنّه يتحدث عن إمام الحي الذي احتضن طفولتي وعلّمني القرآن ولم يسمح لي بأداء الصلاة لأنّه يعتبر أنّني لا أصلح لذلك فحضوري في المسجد من شأنه أن يخلّ بطهارته. لكن علاقتي به بقيت جيّدة. هذا الإمام تعرّض إلى جوانب من شخصيّته أو من مساره راهبٌ مسيحيّ ضمن هذا المؤلّف. ولما كتبت مقالا في الغرض راق الأمر كثيرا لمنيرة شابطو وأخطرتني أن المقال سينشر بحذافيره ضمن مجلّة المغرب الشّهريّة الخاصة. ثمّ طلبت منّي بعد ذلك أن أضع مقالاً حول سيرة عمي الأستاذ أبي القاسم محمد كرو، وهو أمر أحرجني كثيرا، غير أنّها ألحّت عليّ فقبلت على مضض، طالبا مدة زمنية لإتمام الاتصالات وعرض الموضوع ومحاورة صاحب الشّأن الّذي لم يرحّب بالفكرة، علما أنّه سبق للأستاذة شابطو أن حاولت إقصاءه من المشاركة في ندوة نظّمها عبد الوهاب بوحديبة حول "الهويّة الثقافية" في بداية السّبعينات وذلك بحجّة عدم انتسابه للجامعة. ومع ذلك نجحتُ في إقناعه وأنجزت مقالاً وجّهته إليها.
غير أنّها اعترضت على الصيغة المقترحة متعلّلة بطولها على الرّغم من أنّها كتب بنفس مقاييس النّصّ الأوّل، وعمدت إلى حذف نصفها وتوجيه تصوّر جديد لا يتعدّى الملخّص المبتسر. وهنا رفضت نشر المقالين وهدّدت باستعمال جميع الوسائل لمنع ذلك. ونظرًا إلى أنّني لم أكن واثقا في أنّ الأمور ستتمّ بتلك الشّاكلة، توجّهت إلى مقرّ الجريدة سحبت المقالين ونشرت المقال المخصّص لتكريم مسار أبي القاسم محمّد كرو بجريدة "لابريس" اليومية وتزامن ذلك مع عيد ميلاده السّابع والثمانين. صحيحٌ أنّ علاقتي انقطعت قرابة السنة بالأستاذة منيرة شابوطو، إلاّ أنها عملت على عودة علاقاتنا إلى سالف صفائها، وهو تصرف يُحسَب لها، لأنها تتوفّر على ما قد يستقيم وسمُه بـ"النرجسيّة الليّنة"، خلافا لعدد كبير من المحسوبين على اليسار الماركسيّ الذين غالبا ما تصدر ردود أفعالهم عن نرجسية عنيفة .
معظم باحثي اليسار الماركسيّ من التونسيّين ومن العرب لم ينتجوا معرفة يُعتدّ بها، وفشلوا في تصوّري في إثراء فكر اليسار ومكتبته كونيّا. فبلاغتهم عقيمة لا تتوفّر على أيّ شعريّة، ولا تستطيع تتحمّل تلازم المتناقضات مع ادّعاء سافر بامتلاك الحقيقة.
- لكن ألا يتعلق الأمر بعمق مشاعرك الروحانية أو الدّينيّة وتوافقك مع الفكر التقليديّ؟  فكيف يتراءى لك واقع الأزمة الدّينيّة أو أزمة الهويّة في تونس؟  وما حقيقة احترازك على اللائكيّة واللائكيين من المحسوبين على النخبة المثقفة تونسيا؟
الأمر مؤكّد. فقد سبق أن ذكرت أنّني قد وُلدت في زاوية وجدّي للأمّ دفن بتلك الزّاوية، فالمسألة تُحيل على وسط طبيعي بل على "جينات ثقافية"، أنا ممّن عاصروا آخر تمظهرات ذلك الفكر وعاينوا كيفيّة ممارسته في واقع التونسيين الحيّ في أواخر ستّينات القرن الماضي.
أنا أعتقد أنّ هناك مستويين لتحليل الظّاهرة الإسلاميّة في اللمجال العمومي. فللمرّة الأولى تقام بتونس ممارسات دينيّة اضمحلّت سابقا، على غرار أداء الصّلوات في السّاحات العموميّة والتّظاهر بالشعيرة كارتداء النقاب وتوظيف الخطاب الديني. أمّا المستوى الثاني فيتعلّق بحضور شخصيّات دينيّة في المجال العمومي على غرار شيوخ السّلفيّة وإمام جامع الزّيتونة حسين العبيدي ودخولهم حلبة المنافسة قصد افتكاك ريادة هذا الشأن العمومي. إذا تمّلينا كثيرا في الأسباب العميقة لاندلاع الثورة تبيّن لنا أنّ الأمر اتّصل بتغيير الشّخصيات الفاعلة في المجال السّياسي، إلا أنّ تبدل نظام الحكم لم يترتّب عنه تحوّل فارق في المنظومة السّياسيّة. مع أنّني أعتقد أنّ مصطلح "أزمة دينيّة" ليس سوى إنتاج خاص بفكر المثقفين الحداثيّين الّذين يصدرون عن قراءة مُنحازة للمسألة الدّينية تُناكف القراءة المحافظة وإن اشتركت كلتا القراءتين في الأهداف. ومثلما حصل الاتّفاق حول مضمون الدّستور بوسع كليهما الاتفاق بخصوص المسألة الدّينيّة. فإذا كان هناك بعدَ هذا أزمةٌ فهي متّصلة بكيفيّة التصرّف في الشأن الدينيّ.
فلطالما انتظم هذا الشأن وفقا للأنموذج العثمانيّ الّذي تتّصل مسألة تصريف الشّأن الدّينيّ ضمنه بالدولة بعد توافقها مع الأعيان، وهو ما وضّحَته بشكلٍ جليّ أبحاثُ محمّد الهادي الشريف وحفرت في مختلف خصوصيّاته الأبحاث التّي أنجزها المؤرّخون المختصون في الفترة الحديثة من بين الأجيال التي انخرطت في نفس التّصورات المعرفيّة. إلاّ أنّ الأمور لم يعد بوسعها أن تُدار وفق نفس المنهج. فهذا الشأن لازم نموذج الدّولة الوطنيّة وعبّر عن حدود إيجابياته في تركيا منذ سنوات، ولم يعد بالإمكان تواصلُه تونسّيا أيضًا.
فإذا عدنا قليلا إلى الخلاف الذّي نشب حول ارتداء النقاب خلال حصص الدرس والامتحان بكلّية الآداب والفنون والإنسانيات التابعة لجامعة منوبة في غضون السّنتين المنقضيتين، لتبيّن لنا بالحجّة والدليل أنّ القضية مفتعلة برمتها وأنّ عميد الكلية نجح في تحويل الخلاف إلى ما يشبه "الرّأسمال التّجاري" أو الرّمزي الّذي استغلّه شخصيّا واستفاد منه المحسوبون على التّيار الحداثي. ويتعيّن عدم الذّهول هنا عن حضور التّلاعب، فقد سبق لي أن درّست بمعيّة عميد هذه الكلية بجامعة "دوفين" Dauphine الباريسيّة، لذلك لست على تمام اليقين من أنّ مختلف تصوّرات النّخب الجامعيّة المحسوبة على التّيار الحداثي الفرنسيّ لا تُعشّش داخل كليّة الآداب بمنوبة أيضًا، وذلك مظهر آخر من مظاهر العَولمة. وأنا لا أتهّيب في وسم جميع هؤلاء 'بأساطين التلاعب'، فحرب التّموقع لا تزال على أشدها حاضرا بين العديد من الطامحين من بين الجامعيّين اليساريّين من بين قياديّ الصّف الثّاني في حزب نداء تونس، للظفر بإدارة مركز الدّراسات الإستراتيجيّة على سبيل المثال لا الحصر.
لقد عاين الفكر اللائكي العديد من التّشوّهات الّتي سبَق للبحث التاريخيّ المختصّ أن وضّح سياقها ومدلولها. و تاريخ اللّائكية يحيل على حصول توافُق بين الكنيسة والدّولة الفرنسيّة، غير أنّ ذلك التوجّه لم يكن خطّيا بالمرّة بل اعترته العديدُ من الاهتزازات. وهو ما لم يشكّل سوى مرحلة في تطوّر الفكر اللائكيّ والممارسات المنبثقة عنه. فقد أخذ ذلك التيار توجّهات تحيل على تصورات متعدّدة، منها ما تحوّل بَعْدُ إلى عقيدة متشدّدة حاربت الدّين في جميع مظاهره، على غرار ما نعثر عليه لدى "إلزابيت بادنتير (Élisabeth Badinter)  مثلا.
تبنّى معظم المحسوبين على اللّائكية تونسيّا تلك التصوّرات المشوّهة الّتي ليس لها أيّ حضور واقعيّ في تحوّلات التاريخ السّياسيّ للبلاد التونسية. ما حصل حقيقة هو تدرّج باتّجاه الإقرار بمدنيّة تلك الممارسة ولم يحصل أيّ نضال فعليّ من أجل إقرار المبادئ اللائكية بما في ذلك تجربة بورقيبة الّذي لم يدافع عن اللّائكية، وهو خطأ شائع كان للفرنسيّين دور كبير في ترويجه بين الفئات التّونسية المثقفة.
تُجاور هذه التّصوّرات المشوّهة في سلبيّاتها التصوّرات اليساريّة الماركسيّة المتشدّدة، تلك الّتي تمّ احتضانها اجتماعيا، في حين لم يثبت تاريخيا تحقيق التصورات اللائكية مطلقا لمثل تلك الوضعيّة. فإذا ما استثنينا حمّادي الرديسي وصالح الزغيدي فإنّنا لن نجد أحدًا يؤمن حقيقة بمثل تلك الأفكار تونسيّا، لا رجاء بن سلامة ولا غيرها. ما حصل بالفعل هو أمر سبَق لي عرضُه ضمن مقال تحيّل في سرقة مضمونه باحثٌ مغربيّ معروف، ويتمثل في تدرّج باتّجاه تكريس ما سمّيته ـ"المدنيّة الخرساء            une sécularisation muette"، الّتي تفضّل عدم التّعبير صراحة عن نفسها، وذلك منذ تأسيس الدولة الحسينية وربّما من قبلها أيّام البايات المراديّين. فرجال الدّين كانوا خاضعين برغبتهم الكاملة لسلطة صانعي القرار السّياسيّ. وهو ما تواصل على امتداد الزّمن حتّى السنوات القليلة الماضية. غير أنّ ما يحصل حاليّا متّجه نحو القطع مع ذلك المسار التاريخيّ الخطّي، لذلك يتعيّن، مثلما هو حاصل بأوروبا وبفرنسا، العمل على تكوين جيل جديد من الأئمّة وتغيير برامج التعليم الديني ومضمونه وتطوير أشكال تملّك الثقافة المدنيّة. فالتّونسيّ يجهل جوانب كثيرة من تاريخه لا تتّصل بالتاريخ القديم فحسب، بل تُحيل على أعلام المرحلة المعاصرة (مثل صالح بن يوسف أو عبد العزيز الثعالبي، وكذلك مدلول الاستقلال الدّاخلي والتام...). هناك إذن مشكل حقيقي في ما يتصل بالثقافة وباكتساب مبادئ الحياة المدنيّة. وهذا لا يتعين أن يتحوّل إلى مادّة تدرّس على مناضد المعاهد مثلما كرَّس ذلك النظام السابق، بل يجدر أن يتحوّل إلى ما يُشبه التكوين الأفقي المخترق لجميع الاختصاصات الإنسانيَة والأساسية معًا، بالاستناد إلى الأنشطة لا إلى الدروس، لأنّ الناس يمقتون أساليب التكوين الفوقيّ المنضبط التي تقترحها المدارس.
سؤال أخير، ما علاقتك بالّلغة العربية؟ ولماذا فضّلت الانخراط في سياق الجيل الأول من علماء الاجتماع الّذين نشروا معظم أبحاثهم باللّغة الفرنسيّة؟
سؤال مهم جدّا. هذا الأمر لا يتّصل بشخصي فحسب، بل يحيل على وضعيتنا جميعا إزاء ما سبَق وأن وسمته بالقبول بتعايش المناقضات. فقد أعدّ عبد القادر الزغل أطروحته بإشراف جاك بيرك (Jacques (Berque  الذي لم يكن يقرأ عموما محتوى الأطروحات المعدّة بإشرافه، وذلك على غرار غيره من كبار المؤطّرين الذين لا يقبلون أيّ مشروع يعرض عليهم ويتعاملون وفق قانون الحدس والثّقة في قُدُرات الباحثين الذين يشتغلون معهم. ذكر عبد القادر الزغل أنه لمّا التقى مجدّدا بـ"جاك بيرك" بعد أن سلّمه عمله للتقييم، قال له "أنت تحرّر أبحاثك كما لو كنت فرنسيَّ المنشأ". وتحمل تلك الملاحظة التي ساقها "بيرك" إحالة مباشرة على ما سمّيناه بتعايش المتناقضات.
أنا أحبّ اللغة العربية لكنّني أتهيّب من الكتابة بها، لأنّ ذلك من شأنه أن يقصيني عن حركيّة الساحة العلمية الكونيّة وصانعيها على الحقيقة، حيث يستوجب البحث المحكّم تفاعلا متّسقا واستفادة مطّردة من التّصوّرات المحدثة ونتائج البحث العالي الجودة.
مسألة أخرى استرعت انتباهي في العلاقة باللغة العربية جعلتني أتهيّب من توظيفها معرفيّا، هي طابعها البلاغيّ أو الإنشائيّ الّذي لا يعبأ بضوابط إنتاج الدّلالة الدقيقة، وهذا لا يتعلق بالّلغة العربية في حد ذاتها بل بطريقة الكتابة فيها. فأنت تلاحظ ضمن ما يُنتج ويُنشر بالمجلاّت الثّقافية الجامعة انعداما للمراقبة، بل ترى هذيانا لا يحترم القارئ. وهو أمر ليس له أي نظير في الساحة الثقافية الفرنسية والغربية عامّة، حتّى وإن تعلّق الأمر بصحيفة  "باري ماتش " !
لكن ومع ذلك هناك من ينتجون جانبا كبيرا من بحوثهم بالّلغة العربية وتتّسم مساهماتهم بقدر غير قليل من الدقّة العلميّة والدّراية أيضا بما ينتج في غير لغتهم؟
هذا صحيح، لكن هؤلاء قلّة قليلة، لو كان بوسعي شخصيّا أن أكتب بحوثي بالّلغة الإنكليزية لفعلت ذلك دون تردّد، على الرغم من عشقي للفرنسية تلك التي لا أخفي خلافي مع بلدها ومع جانب كبير من المنتسبين إليها حاضرا. كما أنه يتعيّن موضوعيا ألاّ أخفي علاقتي الصعبة مع العربيّة ومع العرب والعروبة. لقد سبق لي أن كتبت في اللغة العربية مقالين نُشرا في مجلة "المستقبل العربي" وحبّرت مقالاً ثالثًا حول ماكيافلّي نُشر بمجلّة "الحياة الثقافية"، لكنّ جميع تلك البحوث لم تُشفع بأيّ نقاش معرفيّ، في حين أنّ نشرها في اللغة الفرنسيّة مثلا أثمر حوارا حقيقيّا مع مختصين مشهود لهم بالكفاءة في ذلك الشأن. ومشكلة معظم النّاشرين العرب أنّهم لا يعبؤون حقيقة بما يصلهم من مشاريع، بل لا يجيب معظمهم عن مراسلات أصحابها مطلقا، إلاّ في حالة الاستعانة بوسطاء أو الدخول في علاقة صداقة شخصيّة معهم ! غير أنّ الناشرين في الغرب يجيبون عن المراسلات ويُعربون صراحة عن رأيهم قبولا أو رفضا، ويتعاملون بشكل أكثر شفافيّة وتحضّر.
عموما أنا لا أجد لذة في الكتابة باللغة العربيّة. فنحن مدرسون وغير مطالبين عمليّا وضمن جامعاتنا على الأقلّ أن ننتج معرفة عالمة وهو أمر غير مسموح به في الجامعات الألمانيّة مثلا حيث يكون وراء من وصل إلى خطة أستاذ تعليم عال عددٌ كبير من الكتب والمنشورات العلميّة المُحكّمة المعترف بقيمتها العلمية كونيّا. مستوى ما ينتج في اللغة العربية هو بصراحة دون المأمول بكثير. لكن يتعيّن عدم القطع أو التعميم فالمشهد المعرفيّ يحتوى كونيّا على الحبّة الجيّدة والنبتة الفاسدة في آن. ولا يعتريني اليوم أدنى شكّ في أنّ مسار التعريب تونسيّا قد أدى إلى حصول تراجع في مستوى ما يكتب باللغة العربية. والمشكل ليس في التعريب في حد ذاته، بل الأمر يتعلق بأولئك الّذين استغلّوا ذلك ووظّفوه بدهاء للارتقاء المعرفيّ على الرغم من ضعف مستوى ما أنجزوه، وقلة نجابتهم في الاطلاع على ما يكتب في غير اللّغة العربية فضلا عن الكتابة بلغة غيرها. المعضلة لا تتّصل باللغة المستعملة بل بقيمة ما يتمّ إنتاجه فيها معرفيّا.
هناك في مجال الّلغات حاضرا اللغة المُهيمِنة واللغة المهيمن عليها، والّلغة العربيّة هي لغة مهيمن عليها، ويعود السبب إلى تعمّد تهميشها من قبل الاستعمار، وهو ما ترتّبت عنه انعكاساتٌ سلبيّة على مستوى الإنتاج في تلك اللغة، فأغلب ما يكتب في اللغة العربيّة لا يرتقي إلى نفس مستوى ما يكتب في اللغات الأجنبيّة. ويتعين علينا منطقيّا أن نكتب بشكل أساسيّ في لغتنا، لكن هناك مشكل حقيقيّ في هذا المستوى، فليس بوسع حاضر لغتنا العربيّة البرهنة على قدرة عدد كبير من مستعمليها على الوصول إلى مستوى الإبداع الحقيقي ووضع حدّ للهذيان واستسهال الحذلقة والاقتصار على بلاغة الّلفظ وتقنيات الإنشاء.  

   حاوره لطفي عيسى وشكري المبخوت