lundi 2 novembre 2020

وقفة مع لطفي عيسى (صدرت بالصحيفة الرقمية العربي الجديد 2 نوفمبر 2020)

 








تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أسئلة حول انشغالاته الإبداعية وجديد إنتاجه وبعض ما يودّ مشاطرته مع قرّائه. "حرصتُ ألّا أجدّف ضمن الاتجاهات السائدة وهي تتكئ على الثنائيات السطحية في صياغة تصوّراتها"، يقول المؤرّخ التونسي في حديثه إلى "العربي الجديد".


■ ما الذي يشغلك هذه الأيام؟
- أتابع مثل بقية الناس حالة الهلع التي انتابت العالم جراء استشراء الوباء المستجد، والتأثير الكارثي لذلك على اقتصاديات جميع البلدان. كما أسبر هيمنة أشكال الذكاء الافتراضي وتدبير الحياة اليومية عن بُعد، وتغدية المخاوف المتّصلة بمشاكل المحيط وعجز النظام الصحي عن مجابهة الجائحة، وتعاظم سطوة التشدّد الديني والتصوّرات اليمينية المحافظة، وتفاقُم الانخراط الجمعي في مساوئ الديستوبيا وجميع الرؤى القيامية.


■ ما هو آخر عمل صدر لك؟ وما هو عملك القادم؟
- أنتظر صدور كتاب جديد يحمل عنوان "مساءلة الانتماء من منظور المباحث التاريخية التونسية"، ستنشره دار "كلمة" بتونس، وذلك ضمن سلسلة جديدة أديرها، وتحمل عنوان "البصمة والمنوال". أمّا قادم مؤلّفاتي فيتمثّل في الانتهاء من ترجمة كتاب "الذاكرة الجمعية" لعالم الاجتماع الفرنسي موريس هالفاكس، إلى لغة الضاد، وهو مشروع في لمساته الأخيرة.


■ هل أنت راض عن إنتاجك ولماذا؟
- هذه مسألة نسبية، فأنا أبذل ما في وسعي لتطوير عروضي الفكرية، وأبحاثي المعرفية، ومختلف المشاريع التي أنا بصدد تحويلها من مستوى الفكرة التي تعتمل في داخلي إلى موقع التجسيد أو الفعل الملموس. على أنَّ ردود فعل المتابعين لمختلف الأعمال التي تحيل على منجزي المتواضع تدلّ على توفّر حد معقول من الرضا والاهتمام، بل والشغف في بعض المواضع، مع منسوب مبهج من الفضول لدى شرائح متنوّعة من المتعلّمين والمحسوبين على النُّخب المتابعة لما يصدر في اللغة العربية بالخصوص؛ حيث يغلب على الإنتاج في لغتنا الإنشاء مقارنة بصناعة الدلالة، لا سيما وأنّ ما أنجزتُه ضمن حقل الإنسانيات والاجتماعيات يبدو للكثير من المطّلعين على محتوياته متشعّباً ولا يجدّف في الاتجاهات السائدة في اتكائها المفضوح على الثنائيات السطحية في صياغة تصوّراتها الفكرية والمعرفية، وحتى الإبداعية أيضاً.   


■ لو قُيّض لك البدء من جديد، أيّ مسار كنت ستختار؟
- لا أعتقد أن فضولي سيبتعد كثيراً عن الانشغال بالكتابة والبحث والإبداع الفني، بصرف النظر عن مجال اشتغالي المعرفي ضمن حقل الإنسانيات أو ضمن مجالات أُخرى جمالية. كما لا أنكر أنّ مجال النضال المدني والفعل السياسي وصناعة المحتويات وإعادة اختراع اليومي من خلال توسيع نطاق المدركات الجمعية، والتأثير في الرأي العام والإسهام في صياغة الانتقال وتشبيك الوساطات، أمور تستهويني جميعها، ولها قدرٌ غير قليل من الإثارة في أعماق شخصيتي. 


■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
- أريد لمن أحسب على عالمهم وأتّصل - ذائقةً وانتماءً - بثقافتهم أن ينخرطوا من دون تشنّج مغال في نبض العالم، وذلك بعد إنجاز المراجعات الضرورية الصعبة، ومن أوكدها الانصراف للعمل الجاد والكريم، واستبطان أخلاق الأحرار، وإعادة بناء الثقة مع مختلف الغيريات الثقافية والحضارية المساوية لنا، أو التي جاوزتنا بسنوات ضوئية كونياً.   


■ شخصية من الماضي تود لقاءها، ولماذا هي بالذات؟ 
- هناك العديد من الشخصيات التي وددت لو قُيّض لي الاحتكاك بها ومعرفتها عن قرب، حتى وإن تراءى لي أن فضولي الخرافي وانفتاحي على أزمنة مديدة بحكم نبشي في الغيرتين الزمنية والمكانية، قد دفعني جميعها إلى الحفر في جوانب متعددة تتصل بمسارات حياة من عاصرتهم أو من سبق مرورهم وجودي بقرون. لكن المؤكَّد أنني اصطدمتُ صبيّاً بجماليات الصورة السينمائية، فقد قُدر لي التردّد على القاعات لمتابعة عروضها مبكّراً، ومنذ سنوات الطفولة الأولى. لذلك فإن إعادة تركيب الأزمنة والأمكنة بشكل مرئي بغرض الإجابة عن أسئلة الحاضر دون سواها، تصرُّفٌ حرّك مشاعر الدهشة لدي، وشكل واقداً تعالَق بشكل عميق مع مساري الشخصي، مطوّراً قدراتي التخيليّة الذاتية. ولأنني أحببت السينما فقد تأثرت كثيراً بمنجز آباء الواقعية في سينما المؤلّف ومن نحا منحاهم وسار على خُطى إبداعاتهم شرقاً وغرباً. فقد أذهلتني مثلاً القراءة الجمالية غير المسبوقة لـ فيليني، إلى حدّ عقد العزم على متابعة الدراسات العليا في مجال الإخراج السينمائي. غير أن سياقات مساري الدراسي والوسط الذي نشأتُ فيه شاءت غير ذلك وحوّلتني إلى الاشتغال بالإنسانيات عبر مرافقة مسارات عفا عنها الزمان واحتفظت بها الذاكرة الانتقائية لجامعي الأخبار والحوليات وكتّاب التراجم، وهي لو ندري مادة يمكن من خلالها صناعة معرفة أدق بذواتنا أشد مضاء وفاعلية من تلك التي نعتقد أن مخالطة من يتقاسمون معنا الأيام والأعمال كفيلة وحدها بالمسك بتعقيداتها وتفاصيلها المربكة والعصيّة عن أفهامنا في أحايين كثيرة.   


■ صديق يخطر على بالك أو كتاب تعود إليه دائماً؟
- أستطيع دون مكذوب ادعاء أنني قارئ نهم يتوفّر على قدر كبير من المصابرة والمتابعة والدقيقة. وهو أمر أتقاسمه مع عدد غير قليل ممّن أعرف سعة اطلاعهم ومقدار فضولهم أيضاً. غير أنني مع بالغ الأسف لم أرافق طوال مساري أناساً كثيرين. كما أني لم أشعر صدقاً بالحاجة الملحّة لمثل هذا الطقس المفعم بالوديّة والإصرار على تطوير دائرة المخالطة قصد الاستفادة وتقاسم الخبرات والمصالح أيضاً. وهذه واحدة من سمات شخصيتي في طبيعتها الخجولة والانطوائية، وهو ما لم أشعر بالحاجة لمراجعته أو تقويمه. غير أن جميع ذلك لا يعني أنني لم أحظ ببعض الاهتمام، بل وحتى إعجاب الكثير ممن تقاطع مساري الأُسري والاجتماعي والمهني معهم. غير أنّ انصرافي إلى العزلة والقراءة منذ سنوات الشبيبة الأولى، وحتى قبل ذلك في ما أعتقد، هو الذي طوّر مخيّلتي وحدّد جوانب من شخصيتي الافتراقية القلقة، في سذاجتها الإرادية واستعصاء جماليتها النزقة أيضاً عن فهم العديد ممن اقتربتُ منهم أو اقتربوا منّي. فقد كان لي اطّلاع مُبكر على الإنتاج الفكري وعلى بعض الجوانب المتّصلة بالفلسفات الغربية والشرقية، سبق بكثير مطالعتي للأعمال الأدبية وتذوّق الشعر والروايات العالمية والأدب الكلاسيكي وكتب التراث العربي الإسلامي أيضاً. أمّا ضمن تخصّصي المعرفي الضيق فأشير إلى أثرين أعتبر أنهما قلبا مجرى إدراكي الشخصي لحرفة المؤرّخ، وأقصد تحديداً كتاب "حرب البيلوبوناز" لمؤرّخ أثينا توقديدس، و"خريف العصور الوسطى" للمؤرّخ الهولندي يوهان فيزنغا. أمّا بخصوص مصادر التراث العربي الإسلامي فإنني لم أقرأ صدقاً مؤلّفا أروع من "عثمانية" الجاحظ.


■ ماذا تقرأ الآن؟
- أنهيتُ في استعجال مفعَم باللذة قراءة رواية المهندس الجزائري عبد الوهاب عيساوي "الديوان الاسبرطي". كما قرأتُ بنفس النهم رواية لا تقلّ عنها إثارةً كتبها الصحافي البرتغالي رودريغاش دوس سنتوس، عنوانها "الصيغة الرياضية المشفّرة لله".


■ ماذا تسمع الآن وهل تقترح علينا تجربة غنائية أو موسيقية يمكننا أن نشاركك سماعها؟
- أطرب كثيراً لألحان بليغ حمدي وعمر خيرت ومحمد عبد الوهاب التي وسمت بشكل لافت عصرها وتُواصل بريقها لعشريات مديدة. كما أحب كثيراً محاكاة الموسيقى الكلاسيكية في إعادة توزيع أغاني التراث وحتى عروض المنوّعات ذات الزخم الشعبي في موسيقى الشعوب، وكذا الموسيقى الإثنية والموسيقى الروحية في ضروبها وألوانها المتعدّدة. كما أنني غير منقطع عما يُسمّى حاضراً فنَّ الشوارع والموسيقى البديلة ضمن أعمال بعض المجموعات وتجارب العديد من الفنّانين على غرار مجموعة "اتجاه إجباري" المصرية، والأعمال الفنية لعازفة الأكورديون يسرى الهواري، وعازفة العود كاميليا جبران، والفنانة المغربية نبيلة معن، وغيرهم.


بطاقة 
مؤرّخ تونسي من مواليد 1958 بالقيروان. أستاذ التاريخ الثقافي بجامعة تونس. تدور اهتماماته البحثية ومنشوراته الأكاديمية حول التاريخ المقارن للمجالَين المغاربي وضفّتَي المتوسّط طوال الفترة الحديثة والمعاصرة. من أبرز أعماله: "أخبار المناقب: في المعجزة والكرامة والتاريخ" (1993)، و"مميزات الذهنيات المغاربية في القرن السابع عشر" (1994)، و"مغرب المتصوّفة من القرن 10 إلى القرن 17: الانعكاسات السياسية والحراك الاجتماعي" (2005)، و"كتاب السيَر: مقاربات لمدونات المناقب والتراجم والأخبار" (2007)، و"بين الذاكرة والتاريخ" (2015)، و"أخبار التونسيين" (2018). كما أشرف على مؤلّفات جماعية من بينها: "الأنثروبولوجيا التاريخية: المساهمات، والمكاسب، والآفاق"، و"تمثلات المجال بالمغارب وما سواها"، و"في التونسة: وجهات نظر متقاطعة".