lundi 20 avril 2020

الفيلسوف الإيطالي ايمانويل كوتشيا: حُرّا ، فوضويّا ، لامرئيّا ، بلا انتماء ، يملك الفيروس قوّة تحويل كلّ الكائنات الحيّة (ترجمة كمال الهلالي - الصحافة اليوم)

























في إطار الملف الذي خصّصته "مجلة فلسفة " الفرنسية لكوفيد 19 وحاورت فيه علماء وفلاسفة حول الجائحة التي تعصف بعالمنا الان، أدلى الفيلسوف الإيطالي ايمانويل كوتشا بدلوه ، وقدّم مقاربة مختلفة تذكّرنا بحقائق نتغاضى عنها: الحياة بأشكالها الألف امتداد واحد ولسنا وحدنا، نحن البشر، من يملك "مزيّة " التدمير. فيروس كوفيد 19 ، الضئيل والحقير يستطيع أن يشلّ الحياة ويوقف الحضارة. 

****في كتابك الأخير" تحولات"، تقولون أنّ كل الكائنات الحيّة تتحدّر من نفس الحياة التي تتحوّل باستمرار. هل هذا ما نختبره كلّنا الآن للأسف مع الوباء ؟ 

-الصفحتان الأخيرتان من "تحولات"- المكتوبتان قبل الجائحة الحالية- مخصّصتان للفيروسات. أطرح فيهما فكرة أنّ الفيروس هو الشاكلة التي يوجد بها المستقبل في الحاضر. الفيروس، في الواقع، هو قوّة محضة للتحول الذي يسري من حياة إلى أخرى دون أن تكتفي بحدود الجسد. حرّا، فوضويّا ، لامرئيّا بالكاد، بلا انتماء فردي ، يملك الفيروس قوّة تحويل كلّ الكائنات الحيّة ويتيح لها أن تتحقّق في شكلها الفريد. تذكّروا أن قسما من ميراثنا الجيني ADN ، في حدود 8/ دون ريب، مصدرها فيروسي. الفيروسات قوّة تجديد، تغيير، تحويل، ولها قدرة محتملة على الابتكار الذي لعب دورا أساسيا في النشوء والارتقاء الطبيعيين l’evolution . الفيروسات شاهد على أنّنا في إرثنا الجيني شتاتٌ فريد جدّا bricolages multispécifiques . كتب جيل دولوز في كتابه mille plateaux ( بالإشتراك مع فيلكس غاتري، منشورات مينوي ،1980 ) يقول: 

« nous faisons rhizome avec nos virus, ou plutôt nos virus nous font faire rhizome avec d’autres bêtes ». 

من هذا المنظور يبدو المستقبل، كمرض للهوية وسرطان للحاضر: يجبر كلّ الكائنات الحيّة على التحوّل. يجب أن نمرض، أن نستسلم للعدوى، وأن ننتهي إلى الموت، كي نتيح للحياة أن تتبع مسارها وللمستقبل ان يُولد. 

** هذه الشاكلة في النظر إلى الأشياء تبدو مربكة وغير مُطمئنة ... 

- قوة التغيير التي تملكها الفيروسات تثير فينا دون شكّ شيئا من الخوف في الوقت الذي يشرع فيه كوفيد 19 في تغيير عالمنا بعمق. سيتمّ تجاوز الأزمة الوبائية في النهاية، ولكنّ بروز هذا الوباء بدّل دون رجعة طرائقنا في العيش، الحقائق الاجتماعية، التوازنات الجيوسياسية. الخوف الذي نشعر به اليوم نتج في قسم كبير منه ممّا اختبرناه من أنّ الكائن الحيّ الأصغر قادر على شلّ الحضارة الإنسانية الأفضل تجهيزا من الناحية التقنية. هذه القدرة على التبديل لكائن لا مرئي، ينتج عنها كما أعتقد، التشكيك في نرجسية مجتمعاتنا. 

** ماذا تقصد ؟ 

-لا أعني فقط النرجسية التي تجعل من الإنسان سيدا على الطبيعة، بل أيضا النرجسية التي تنتهي بنا إلى نسبة، قوة تدميرية خارقة للتوازنات الطبيعية خاصة، إلى الإنسان. لا نزال نعتبر أنفسنا كائنات مميّزة، مختلفة، استثنائية، بما في ذلك تدبّرنا للأضرار التي نتسبّب بها للكائنات الحيّة الأخرى. ومع ذلك، فإنّ هذه القدرة التدميرية، تماما مثل القدرة على الإنشاء génération، مُوزّعة بشكل عادل على كلّ كائن حيّ . الانسان ليس الكائن المُميّز الذي يبدّل من الطبيعة. بإمكان أية بكتيريا، أيّ فيروس، أيّة حشرة أن تضرّ العالم ضررا كبيرا. 

*** هل يجب أن تدفعنا الجائحة الحاليّة إلى تغيير فكرتنا عن الطبيعة ؟ 

-تواصل الإيكولوجيا المعاصرة في التغذّي من مخيال تبدو فيه الأرض بيتا للحياة. هذه الفكرة مُضمرة في كلمتي ايكولوجيا ونظام ايكولوجي: فـ oikos، في الاغريقية، تعني المنزل، المجال الخاص المرتب بعناية ( la sphère domestique bien organisée ) . في الحقيقة، ليست الطبيعة مملكة للتوازن الدائم، حيث يستقرّ الكلّ في مكانه. الطبيعة فضاءٌ للابتكار الدائم للكائنات الحية الجديدة التي تأتي لتزعج توازنها. كلّ الكائنات تهاجر، كلّ الكائنات تحتلّ منازل الآخرين. هذه هي الحياة، في العمق. 

*** بالإضافة إلى الخوف من الفيروس، هل يكشف الجو السائد الان بالنسبة لك عن خوف من الموت ؟ 

-بالتأكيد. من الطبيعي ان نخاف من الموت وأن نكافح ضدّه في إطار الممكن. ومن الطبيعي أن نتخذ اجراءات لحماية المجموعة وخاصة أعضاءها الأكثر هشاشة. ولكن فيما وراء الأزمة التي نمرّ بها، تميل مجتمعاتنا إلى التغاضي عن الموت وإلى النظر إلى الحياة الفردية كمطلق. في حين أنّ الحياة التي نحياها لا تبدأ بولادتنا: إنّها حياة أمّنا التي تواصلت فينا وستتواصل في ابنائنا. نحن من نفْس الجسد، نفْس النفس، نفْس ذرات أمهاتنا اللواتي حضنّنا طيلة تسعة أشهر. الحياة تعبُر من جسد إلى آخر، من نوع إلى آخر، من مملكة إلى أخرى من خلال الولادة، الغذاء وبالأخصّ الموت. لذلك وبسبب أننا نقتسم (بشر، آكل النمل الحُرشفي، نبات، فُقاع، فيروس...) نفس الحياة ذاته فإنّنا معرّضون للموت: فقط لأنّ الحياة التي أحوزها بقدرتها أن تصبح حياة شخص آخر فمن الممكن أن افقدها. 

*** هل الموت نهاية للحياة ؟ 

-لا، الموت تحوّلٌ لنفس الحياة التي تسري وتتّخذ باستمرار أشكالا أخرى. حين نموت، نُورث هذه الحياة إلى كائنات أخرى. الإعتقاد بأنّ الحياة التي تعتمل فينا تتوقّف مع موت أجسادنا هي نتيجة للاعلاء من ذواتنا fétichisation de notre moi - للفكرة التي تقول أنّ كلّ واحد فينا يملك حياة أصيلة، تخصّه وحده. يجب التحرّر من هذا الفهم. 

*** هذه المقاربة تحرّرنا ولكنها تزعجنا، أليس كذلك ؟ 

- الحياة ذاتها مربكة وغامضة. كلّ حياة هي إمكان للخلق، للابتكار: كلّ حياة قادرة على فرض نظام جديد، منظور جديد، شاكلة جديدة في الوجود. ولكنّ هذا الانفتاح على المجهول يستدعي معه دائما جانبا مظلما ومدمّرا. يكفي أن نفكّر في واقعة التغذّي الأولية: حياتنا قائمة بالكامل على جثث الأحياء. جسدنا مقبرة لعدد هائل من الكائنات الأخرى. و نحن أيضا سنُلتهم من كائنات أخرى(....). 

***يجب التخلي إذا عن الفكرة التقليدية عن تراتبية الأنواع ؟ 

بالطبع.نحن نعتبر، بطريقة عفوية، أنّ الحيوان أرقى من النبات، وأنّ النبات أرقى من البكتيريا، وهكذا دواليك. مع ذلك، أشكال الحياة الصغرى ليست أشكال الحياة التي تحتوي أقلّ عناصر او الأكثر بدائية. لا يوجد كائن حيّ واحد حافظ على الشكل الذي كان له منذ ملايين السنوات. كلّ كائن حيّ يملك، من خلفه، قصّة سحيقة تضمّه والكائنات الأخرى. تطوّر الفيروسات، مثلا، ذو صلة بتطور الكائنات الحية الأخرى، لأنّها " تتغذّى" من أجزاء من الADN. 

*** ماهي خاصيّة نمط وجود الفيروسات ؟ 

أولا، يدور حولها نقاش لن يُحسم باعتقادي أبدا: هل الفيروسات كائنات حيّة؟ هذا النقاش النظري، كما أراه ، لايعدو أن يكون إلاّ سؤالا أسيء طرحه. يوجد دائما الجماد non-vivant في الحي. نحن والتراب من نفس المادة: نملك بنية جُزيئيّة structure moléculaireبها نسبة ما من المعدن. هناك كتاب جميل جدّا لتوماس هيمس يقترح علينا فيه أن نتحدث عن " ما تحت الحياة" infra-vies عوضا عن الجماد non-vivants. تُختزل الفيروسات تقريبا في الADN أو الARN ، باختصار في مواد جينية. هي لا تملك بنية خلوية، قلبا، ميتندوريات mitochondries إلخ.. وهو أمر يدعو إلى العجب، لأنّ الخلية تمْثل غالبا كوحدة أساسية مشتركة بين كلّ الكائنات الحية. حتّى البكتيريا تملك بنية خلوية، رغم كونها أوّلية. مهما كان الأمر، تحتاج الفيروسات، لإعادة إنتاج نفسها، إلى الاعتماد على بُنى بيولوجية أوسع: إنّها " تُقرصن " خلايا الأجساد الأخرى وتنقل إليها أوامر جينية جديدة كي تتكاثر. 

****هل يجب أن نقبل بأنّ الفيروسات تشكّل جزءا من الكائنات المتعدّدة التي تسكننا ؟ 

نحن جميعا أجساد تنقل كميات هائلة من البكتيريا، الفيروسات، الفقاع، ومن كائنات من غير الإنسان. ثمة 100 مليار من البكتيريا تترواح بين 500 و1000 نوع، اختارت أن تسكن فينا. ذلك يشكل أكثر من عشرة أضعاف الخلايا التي يتشكل منها جذعنا. باختصار، لسنا كائنا حيّا واحدا، بل تجمّع سكّاني، حديقة حيوان متنقلة نوعا ما، زريبة حيوان. وإذا ما تعمقنا أكثر، ثمة كائنات لا انسانية متعدّدة – بدءا من الفيروسات- ساهمت في تشكيل جسم الإنسان، شكله وبنيته. بذلك، فإنّ ميتندوري mitochondries خلايانا، التي تنتج الطاقة، هي نتيجة لاندماج البكتيريا فينا. هذه البديهيات العلمية يجب ان تنتهي بنا إلى التشكيك بالفرد باعتباره جوهرا، وبفكرة أنّ كلّ كيان منكفئ على ذاته ومنغلق على العالم وعلى الغيريّة. ولكن يجب أن نقطع أيضا مع النظر إلى الأنواع باعتبارها جواهرا substantialisation des espèces . 

*** ماذا تريد أن تقول ؟ 

في تمشّ مُضاد للعلم، خلقنا هاوية بين مختلف الأنواع. لم نستوعب بالكامل حدْس دروين الذي لم يكن يودّ القول: "" الإنسان منحدر من الرئيسيات primates "، بل: " لا يوجد نوع نقيّ ، الكائنات جميعا هي خليط عجيب، صنع بديع chimère ، شتاتٌ bricolage ، كشكول من الهويات الجينيّة متكونة من الأنواع الأخرى التي سبقته". خُلقنا من بعضنا البعض، نحمل معنا العلامة على وفرة الأشكال التي عبرتها الحياة قبل ان تنشأ الشكل الإنساني. انظروا إلى جسد الإنسان: أغلب ملامحه المورفولوجية مثل الأنف أو العيون ليست إنسانية تخصيصا. حياتنا بالكاد إنسانية. نحن، الأحياء، خلاصة نفس الحياة التي جاءت من مكان آخر والمتبدّلة قليلا. حياة بدأت قبلنا بكثير. كلّ نوع يشبه الفراشة بالنسبة لنوع آخر والشرنقة المستعدّة للتحوّل إلى أنواع أخرى بلا عدّ. الحجة الحاسمة على ذلك، من وجهة نظر كيمائية، تكمن في أنّنا نتقاسم نفس الآلة الجينيّة – ADN وARN . 

*** لكي نختم ، ماذا تنصحون بقراءته في أزمنة الحظر هذه ؟ 

هناك نصّ بديع لأدولف ليوبولد " أوديسه " [1942, lien en anglais], يروي فيه قصة الحياة من منظور ذرّة تعبر أشكالا مختلفة من الحياة. هذه القراءة تسمح لنا بإدراك أنّ كلّ ما يحيط بنا يقتسم معنا ذات النفس وذات الحياة.



mardi 7 avril 2020

«في زمن الكورونا ما ليس بالوسع تحاشيه يتوجّب على العاقل مؤالفته وتوقّيه»










المؤرخ لطفي عيسى لــ « الصحافة اليوم» : 7 / 4 / 2020


«في زمن الكورونا ما ليس بالوسع تحاشيه يتوجّب على العاقل مؤالفته وتوقّيه»



أمام تعدّد الاراء والحوارات التي يقدّم فيها مثقفّو الشمال رؤيتهم لجائحة كورونا التي تعصف بعالمنا ، في عبور جارح وعادل للثقافات والمجتمعات ، كان لابدّ من مساءلة العقل التونسي عمّا يحدث ، كي نتدبّره تدبيرا جميلا . هنا حوار مع المؤرخ لطفي عيسى :

1/ كيف ترى ما يحدث؟ طبيعة تُدافع عن نفسها؟
شكلّت معضلة حماية المحيط وجه من وجوه العولمة القبيح، ولم تفلح المؤتمرات المنعقدة منذ بداية التسعينات (ريو دي جنيرو 1992) حول الحدّ من انبعاث الغازات الملوثة والسّامة، من وضع حد للتسابق بين العالم الحرّ والقوى الآسيوية الناهضة وفي مقدمتها الصين بؤرة انتشار وباء السارس كوفيد 2 المستجد. غير أنّ ما قد ينبغي التشديد عليه في تقديري، هو ضرورة القطع مع القراءة الجمالية الحالمة أو الرومنطيقية الجديدة بخصوص ثقافة حماية المحيط، لأنّ المطلوب في الواقع هو إعادة الاعتبار لمدلول الصمود résilienceومجابهة الكارثة الحقيقية التي حلّت بالأدميين من موقع التواضع واحترام التوازنات الحيوية والحفاظ على التنوّع البيئي والانخراط فيه دفاعا عن بقاء الحياة على كوكب الأرض والاعتراف بتحمّل تبعات التسابق في إجهاد الطبيعة بل وإفنائها برُمّتها من وراء حجاب. فلئن كان العالم القديم في حالة احتضار وشيكة، فإنّ بديله أو مـُحدثه يُبطئ في الظهور. فمن نافدة شعاع الضوء العتم ينبجس سوء تقدير البشرية وهوْل وحشيتها.
2/ ما الأثر الذي يتركه فيروس كوفيد19 وهو يعبُر الثقافات والمجتمعات؟

يبدو أننا نتّجه نحو توزيع جديد للخارطة الكونية مع ظهور فاعلين جيو إستراتيجيين جدد، وذلك بمجرّد انقشاع غيوم هذا الوباء القاتل. فعندما نلاحظ مدى اتساع رقعة انتشار الوباء بالولايات المتحدة ونقرأ في تصريحات رئيسها الرعناء، ندرك أنّ شيئا ما هو بصدد الحصول، وأن إمبراطورية العالم الحرّ تعيش أسوء لحظاتها. فهل يمثّل ذلك بداية نهايتها، أم أنّ المسألة لا تتجاوز الكبوة الوقتية التي لا يشكّل ضمنها التعثر أو السقوط سوى فرصة جديدة للوقوف؟ لا يبدو الوضع مطمئنا في ظل تراجع النمو وانقطاع محركات الاقتصاد الليبيرالي بالكامل. كما أنّ انهيار سردية الاتحاد الأوروبي بعد تعدّد القرائن الدالة على تصرفات مختلف مركباته وفاعليه السياسيين المتطرّفة والـمُخجلة في آن لا يمكن موضوعيا إلا أن يدفع إلى الاعتقاد في النهاية الوشيكة لذلك الصرح على غرار ما عاشه المعسكر الشرقي خلال القرن الماضي.
وفي جانب مقابل تبرهن السياسة الهجومية المعلنة المنتهجة من قبل الصين الشعبية أو امبراطورية الوسط القديمة ومنطقة البريكس، والمنافسة التي تضعها وجها لوجه إزاء الولايات المتحدة، على قدرة أوسع في حسن التدبير وتشبيك العلاقات الاقتصادية والاستثمارية آسيويا، وشرق أوسطيا، وأوروبيا، وإفريقيا. فقد تمكّنت الصين من بناء شراكات مع لا يقل عن 120 دولة أو كيان سياسي، وبالتالي فقد بات بوسعها رفع تحدي تجاوز الأزمة بأضرار أخف، قياسا لتلك التي ستواجه في المدى القريب جميع اقتصاديات العالم الحرّ.
3/ أيّة براديغمات ( قيم ، رؤى للعالم ) ستسقط؟ أيّة براديغمات ستنهض؟
يعتبر «أدغار مورن» في الحوار الأخير الذي أجرته معه مجلة «لو نوفل أبسرفاتور» الفرنسية، أنه على الرغم من قدرة العولمة على التشبيك وصياغة الترابط، فإنها قد كشفت عن فقدانها التام للتضامن. فالعولمة لم تُبْد نجابة حقيقية في بناء التفاهم بين الأمم أو الشعوب.بل أدّى شططها إلى الوقوع في أزمات مالية واندلاع حروب طاقية ومشاكل بيئية وانخرام للاقتصاديات المنظمة لفائدة القطاعات الاقتصادية الموازية وشبكات التهريب الغامضة والخطيرة وتيارات اليمين المتطرف الداعية إلى الانطواء والأنانية المُغذية لأبشع المخاوف. لذلك فمن المحتمل منطقيا أن تندفع الإنسانية نحو بناء سياقات مفارقة للتضامن تعيد الاعتبار لـ «قيم الاستعمال» على حساب «منطق التملّك»، محافظة على الخدمات المشتركة وبناء الرفاه بجعل اقتسامه ممكنا لا الاستئثار به أو احتكار منافعه، مع بناء الاكتفاء الذاتي وإعادة توطين الأنشطة الحيوية والشروع في تعاون دولي عفوي لمجابهة هذا النوع من الكوارث الصحية والبيئية المهيأة موضوعيا للتجدّد بأشكال مريعة على المدى القريب والمتوسط. فما يحصل في العالم اليوم يحثّ على تدبير الهلع ومقاربة الحجر الطوعي باعتباره فرصة حقيقية لمحاسبة النفس وتأمّل الوجود وتقدير مجالات الممكن قياسا لطلب المستحيل، مع الكفّ عن توسيع مجالات الافراط المؤذي في الاستهلاك، وبناء علاقة جديدة بالزمن الجوّاني المحفّز لمشاعر الحب والصداقة وجمالية الحضور الجذلى أو شاعريتها.
4/ كيف ترى الحال في تونس في التعاطي مع الفيروس؟
يتعيّن في اعتقادي مجابهة حقيقة «ورطة» ما بعد سنة 2011 (بمعنى النقلة التي استعصى عليها القطع مع القديم واستحثاث ولادة الجديد أو المُحْدث)، وهو أمر كان لنا فرصة التفصيل في البعض من جوانبه ضمن حوارنا السابق( صدر الحوار بجريدة الصحافة بتاريخ 22/06/2019 تحت عنوان : التونسيون أبطالٌ مرضى...). فقد تم تأليف العديد من البحوث الهامة حول مسألة الانتقال وظروفه وملابساته وتأويلاته، واستتباع ذلك بأشكال تدعو إلى تعديل عقارب الساعة وفهم الثقافة السياسة بشكل مفارق يضع في اعتباره شروط الوساطة والانتقال وضمان المرور الجيّد والفهم الدقيق للخبرات والمعارف في صدارة اهتماماتنا.
غير أنّ ما نعيشه اليوم وبعد مرور قرابة العشر سنوات على حصول تلك النقلة الفارقة في تاريخ تونس وفي بناء مواطنتها الغضّة، يدعونا إلى استعادة تضامننا الوطني من بوابة نبذ الانغلاق والأنانيّة والاعتبار بمصيرنا المشترك مع الإنسانية قاطبة في تدبّر معضلات تدهور المحيط، والافراط في التسلّح، والتهاون مع أشكال الاقتصاد غير المنظّم الذي يوشك أن يلغي تكافئ الفرص وبناء شروط العدالة الاجتماعية، مع العمل على تفادي جميع أشكال السقوط في التصوّرات الوطنيّة الراديكالية اليعقوبية منها أو الدّينيّة.
فإذا لم تنقلب الإنسانية على مخاوفها القاتلة بالتعويل على تصرفات مخزية تحيل على انهيار النظام الدولي على غرار ما نعاينه من خلال عمليات القرصنة المفضوحة على شحنات المعدّات الصحية والأدوية وتجريم حركة تنقّل الأفراد والأفكار والسلع وتُصغي حقيقة لناقوس الخطر، فإنّ الأزمة لا يمكن لها إلا أن تتفاقم بشكل مُهلك للجنس البشري بأكمله.

5/ يملك التونسيين في تاريخهم وفي مخيالهم الجمعي تجارب مع الأوبئة التي مرّت بهم. كيف تمّ التعاطي معها وهل أنتجت سلوكات ومواقف معيّنة (النظر إليها ربّما كامتحان وكمحنة؟)؟

هذا صحيح نسبيا، غير أنّ جميع ما عرفناه سابقا لا يخرج عن الأنماط المعروفة في انتشار الأوبئة وتزامنها أو تعاقبها مع الجوائح والمجاعات والحروب وفقا للشروط التي كشفت عنها الديمغرافيا التاريخية باعتبارها معرفة قائمة بذاتها نسلت عن المعالجة العمودية للمعطيات الرقمية أو سلاسل الأرشيفات الخورية( من خُوري : رجل الدين ) غربا، والضريبية ضمن المجالات الخارجة عن ذلك النطاق الجغرافي أو الحضاري. كما أنّ العلاقة بالتوقيّ من الأمراض الوبائية مثل الطاعون، والجذام، والزُهري، والصفراء أو الكوليرا، بالتعويل على الحجر الصحي ومختلف أشكال ما وُسم حاضرا بالتباعد الاجتماعي، قد عاينت من جانبها سِجَالَات حامية بين العقل الديني والعقل العلمي. وهي سجالات حضرت بكثافة ضمن أمهات المصادر والمخطوطات الفقهية أو «النوازلية» تونسيا، تماما مثل الجدل الذي قام منذ بداية القرن السابع عشر حول ظواهر مستجدّة اتصلت بـ»شرب الدخان» واستهلاك القهوة وارتياد المبغى أو الحانة، وانتشار الممارسات الجنسية المثلية وغيرها من السلوكات التي أدانها العقل الديني أخلاقيا، بل وأوغل أحيانا في الانتقام من المقبلين عليها اجتماعيا.
6/ بأيّة ذهنية، نحاربُ الفيروس (تونس أو المسلمون أو العالم الحرّ...)؟
ينبغي ألاّ نعوّل في مثل هذا المقام إلاّ على أنفسنا. فـ»الحاجة سيّدة الاختراعات» كما يقال. ولعل فيما نعيشه راهنا فرصة متجدّدة - بعد ورطة 2011- لمراجعة حسابتنا المغلوطة وبناء مجتمع التدبير العقلاني في مقابل مجتمع الحسيّة الـمُفرطة والارتجال المضحك والاعتداد بالتهاون والكسل الذهني بوصف جميعها «رياضة وطنية» أو «طبيعة ثانية». فالبيّن أن ضوابط جديدة هي بصدد التشكل كونيّا يقوم مدلولها بالأساس على الانضباط واحترام القوانين والتصرّف وفق تدبير مُحكم وواقعي، مع الالتزام أخلاقيا بقيم التضامن والكدّ والفضول المعرفي واحترام الطبيعة والحفاظ على المحيط.
7/ كيف ترى تجربة الخوف وتجربة الموت في زمان الكورونا ؟
نحن في مفترق جديد لما سمي بـ»زمن الألفية» وهو زمن تتجدّد خلاله مزاعم قرب طي بساط الكون والاعلاء من قيم الاستقامة في انتظار قيام الساعة. ألم تغذي مخاوفنا إبان الانتخابات الأخيرة استحضارنا لـ»مهدي» أوكلنا له رئاسة الدولة مع تجديد «البيعة» للتشكيلات المتمسّكة في شعبويتها البدائية بالعقل الديني. الشيء الذي يدفع إلى التفكير جديّا في الكيفية المثلى لتدبير الخوف لا لتغذيته في «زمن جنون الكورونا» مثلما تشفّ عن ذلك معارك الطحين والتسجيل ضمن قواعد معلومات الـمِنَحِ وطوابير استخلاصها بمختلف جهات ربوعنا. فالخوف من النهاية المحتومة مسألة وجودية بامتياز تندرج في صلب المعركة من أجل تواصل الحياة. لذلك ليس من المجدي في شيء انكار تلك الحقيقة أو القفز عليها.
كما أنّ العلاقة بالمقدس تمثل وفقا لما أثبتته دراسات علم الأديان المقارن ضمن مؤلفات «موس»، و»إلياد»، و»ديبرون» و»باستيد» و»جيرار» و»فياتمو» وغيرهم ركيزة من ركائز الحياة لا مرحلة من مراحلها. إنما مقصد الحياة أو الوجود هو تعبئة الطاقة إيجابا وتوجيه الارادات نحو صياغة مدلول واقعي للتكافل المتضامن تطويعا للوجود في مقاومة حتمية الموت والعدم.
8/ ماذا عن القيم؟
قد يتمثّل أهم درس تلقته الإنسانية عبر تحمّلها للتبعات المزرية بحرياتها ضمن واقع الوباء الذي نعيش، في الالتفات إلى القيمة السامقة لـ «سعادة الشأن اليومي»، وفق ما عرضه «ميشال دي صرتو» في مؤلفه الـمُلهِم حقا «اختراع اليومي». ففك عزلة الأفراد وبناء الثقة والتقارب والإحساس بالتواد وصناعة الفرح المبطل للنكد والتعاسة والسقوط في العدمية والإحباط، هي مربط الفرس في توجيه الثورة المعلوماتية حاضرا، والحؤول دون قدرتها الرهيبة على استغراق الافراد افتراضيا ثم سقوطهم في حبال الهشاشة النفسية والانطواء ومجابهة غول الانعزال والتعصب الديني والعنصرية العرقية.
9/ فلسفيّا ماذا يحدث؟
أعتقد أن أبلغ تعبير فلسفي بخصوص ما يعيشه العالم حاضرا هو ذاك الذي نستحضره من خلال متابعة الأدب الروائي. وهو ضرب من المقاربة بالحدس بوسعه وبكثير من المسافة، أو «بحكمة اللايقين»، وفقا لعبارة الروائي التشيكي «ميلان كونديرا» الرائعة، أن يندسّ عميقا في سمْك عوالم بني البشر النفسية والجوانية.
ففي كتاب «الضحك والنسيان» كما في اقتباس «بازوليني» لـ»ديكامرون» بوكاتشو»، نلاحظ حضور كثير من الخفة المُسلية والحكيمة في آن. إذ كلما نزل خطْب جليل بالإنسانية يدفع بها إلى الاستياء والضجر وارتفاع منسوب الرعب، فإنّ من يتمكنون من تجاوز تلك الأوضاع هم بالأساس من لم ينتابهم الجزع المُميت ولم يتخلوا مطلقا وبالرغب من تحوّطهم عن قدرتهم على المزاح، «فما ليس بالوسع تحاشيه يتوجّب على العاقل مؤالفته وتوقيّه». فلا الشقاء بالقدر المسلط ولا السعادة أيضا، وما قدرتنا على تجاوز الإحن( الشدائد ) إلا في صمودنا ومغالبتنا، تماما مثل من تعوّد الملاحة ضد قوة التيار طلبا لحياة تفرض نفسها بالرغم عن القسوة والشدائد. ففتح الأبواب قصد الهروب من داهم الأخطار يستوجب في أحيان كثيرة منتهى الشجاعة، غير أنّ تجاوز عتبة تلك الأبواب ومواصلة الطريق بهمّة وجلد يحتاج إلى بطولة في البلاء والصمود على الحقيقة./.
الأبواب ومواصلة الطريق بهمّة وجلد يحتاج إلى بطولة في البلاء والصمود على الحقيقة./.


حوار: كمال الهلالي


samedi 4 avril 2020

الأثر العفوي للكتابة: ارتسامات دونتها ليلى بن صالح













تلقي هذه الزاوية الضوء على موقع إلكتروني لمبدع عربي في محاولة لقراءة انشغالاته من خلال فضاء استحدثته التكنولوجيا وبات أشبه ببطاقة هوية للكتّاب.

ظاهرياً، يبدو الكتاب الأخير ("أخبار التونسيين: مراجعات في سرديات الانتماء والأصول"، (منشورات مسكلياني، 2019) لـ لطفي عيسى(1958)، بعيداً بعض الشيء عن الانشغالات التي عُرف بها المؤرّخ التونسي، إذ انكبّ عمله الأخير على دراسة عناصر من الهوية الجماعية التي تؤثّر في الحاضر التونسي.
وقبل ذلك اشتهرت له أعمال متقاربة الثيمات، أبرزها: "أخبار المناقب: في المعجزة والكرامة والتاريخ" (1993)، و"مميزات الذهنيات المغاربية في القرن السابع عشر" (1994)، و"مغرب المتصوّفة من القرن 10 إلى القرن 17" (2005)، و"كتاب السير: مقاربات لمدونات المناقب والتراجم والأخبار" (2007).
في مدوّنة بعنوان "Griffonnages" (يمكن ترجمتها بالأثر العفوي للكتابة، وهي تسمية قريبة من عنوان كتاب جينيت المذكور آنفاً)، يجمع المؤرّخ التونسي منذ 2011 كلّ ما يحيط بمساره المعرفي من قراءات في كتبه وحوارات معه ومقالات يكتبها من حين إلى آخر في الصحف التونسية والعربية، وبذلك كأنه يطبّق أدوات المؤرّخ على نفسه بمواظبة قلّما نجدها لدى الباحثين في العالم العربي، وقبل ذلك يقترح على قرّائه إطاراً جامعاً يتيح لهم ولوجاً أسهل إلى عوالمه وانشغالاته.قد نجد حلقة رابطة بين الانشغاليْن في كتاب لعيسى بعنوان "بين الذاكرة والتاريخ" صدر في 2014، وبدا فيه أنه بصدد شحذ أدوات معرفية ونظرية جديدة لمقاربة إشكاليات مختلفة عمّا تصدّت له مؤلّفاته السابقة، ويمكن أن نتخذ طريقاً آخر حين نعتمد أحد المفاهيم الخمسة، التي اقترحها المنظّر الأدبي الفرنسي جيرار جينيت (1930 - 2018)، وهو يدرس في كتابه المرجعي "طروس" (1982)، أشكال العلاقات التي تعقدها النصوص في ما بينها، وإذا كان أشهر هذه المفاهيم ما يعرف بالتناص intertextualité، فإن جينيت ينظّر لعلاقة يسميها بـparatextualité أو النصوص الحافّة، وهي مجموعة الخطابات التي تحيط بالنص دون أن تصبح جزءاً منه، مثل الأعمال الأخرى للمؤلف، أو المقالات النقدية والصحافية حول كتاب ما.
تُخبرنا مدوّنة لطفي عيسى بأن مبحثه أشمل مما تبدو عليه قائمة مؤلفاته، حيث ينشغل بالتاريخ الثقافي، وهذا الفرع من حقل البحث التاريخي يتّخذ محامل كثيرة مادة له، وبذلك يُمكّننا من أن نُبعد أي تناقض قد يذهب إليه من يكتفي بقراءة مؤلّفاته، فيشعر بقطيعة مفاجئة بين أعمال ما قبل 2014 وما بعدها.
لكن المدوّنة تتيح ما هو أوسع، حيث لا تضيء فقط أنشطة المؤرّخ بل تفتح على اهتمامات أخرى كثيرة له، منها انشغالاته السياسية كمواطن متورّط في الشأن العام أو اهتماماته بالفكر الأفريقي. وإلى ذلك، نقف على اهتمامات له ضمن دوائر معرفية أخرى، مثل الأنثروبولوجيا أو قراءاته في الأدب، وكلّ ذلك مما لا تتيحه الكتب، ولعلنا نفهم بعضاً من أدوار هذه التقنيات الحديثة في ثقافة ما. بذلك لم يجعل عيسى من Griffonnages مدوّنة بالمعنى المعروف، فهو لا يستخدمها لكتابة آرائه، بل جعلها مرآة عاكسة لأنشطته في المجال العلمي وفي الحياة العامة.