jeudi 21 janvier 2016

خواطر الطاهر الحدّاد: صورة لشقاء التونسيين الفكري والنفسي والاجتماعي


















         سنتان بالكاد تفصلان الثلاثة والستين خاطرة التي حبّرها الحداد بين شهري ماي وجويلية 1933 عن موعد رحيله النهائي عن عالم الشهادة والناس في شهر ديسمبر من سنة 1935. وتنطوي تلك العيّنات التي اتخذت فيما بدا لنا شكل الفهرس التمهيدي لمشروع مدوّنة فكرية أشمل حاولت محاكاة ما أنجزته وضمن نفس الجنس الأدبي غربا من خواطر أو مقابسات، على معالجة طريفة تنكّبت اقتصاد العبارة وبساطة اللفظ في تشخيص أسباب شقاء التونسيين وتعاسة واقعهم المادي بعد أن استحكمت عليهم قبضة الاستعمار، داعيا إلى ضرورة الاعتبار بحُزمة من القيم المنبثقة عن محصّلة ذكاء السبّاقين في مصاف التقدّم والحضارة، عارضا على معشر العقلاء من أبناء جلدته أراء مبتكرة تدفع إلى الاجتهاد في إدراك معاني التقدّم والاعتداد بصواب الرأي ومجابهة ظاهر العيوب وما بطن منها، والإقلاع عن نوازع الهدم والتكفير بدعوى حماية الشرف والدين، والإعلاء من شأن الحرية والتقدّم، ومعرفة الماضي بردّه إلى سياقه، وتعظيم العمل وتحرير المرأة بُغية الخروج من سفالة الذُل والمهانة، وصون الثقافة الحيّة وتطوير قابلية الأفراد لاحترام القوانين تشوّفا لبلوغ مستوى الشعوب الراقيّة المتحضّرة.
إن ما يُغري في التوقّف عند مختلف هذه المعاني الرفيعة ومحاولة ردّها إلى السياق التاريخي العصيب الذي عاين ولادتها، لا يتصل مطلقا بالشحنة الأخلاقية التي ضُمنت داخلها بقدر ما يحيل على إرادة من ابتكرها مجابهة حملة التشكيك التي استهدفته، وإصراره على التمسك بمبادئه، حتى وإن حوّله ذلك إلى رقعة تصويب سهلة وكبش فداء منذور مع تجاوز لنوازع الخوف واقتناع بانقطاع السُبل أمام خصومة وتهافت حُججهم عقلا وذوقا.
فما علاقة الجنس الأدبي للخواطر بسجل القيم الكونيّة الحديثة؟ وإلى أي حد تندرج خطاطة خواطر الطاهر الحداد ضمن مشروعه النضالي الاجتماعي؟ ثم ما الأبعاد أو المعاني والقيم الكبرى التي ركّزت عليها تلك الخواطر، وما طبيعة التوجهات الفكرية التي انطوت عليها؟ وإلى أي حدّ تنمّ تلك التوجهات تحديدا عن صدور مؤلفها عن قراءة عميقة للواقع تنهض حجة على أصالة فكره وتمييزه التام بين التعويل على الدراية والابتكار واستسهال الاحتكام إلى النقل والإتباع؟
1 - الخواطر جنس أدبي حاضن لقيم الحداثة
تشكل الخاطرة تعريفا نثرا أدبيّا يضم عبارات بليغة، وصور أو استعارات ملهمة صيغت بغرض التنبيه إلى قضية تحتاج إلى تدبّر وتأمّل. وتقترب الخاطرة من أساليب القصّ وقصيدة النثر، دون الالتزام بموازين الشعر أو قوافيه. فهي تعبير عما يجول بخاطر المؤلف وكشف عن حالة شعورية خاصة في قالب أدبي بليغ يوظف المحسّنات البديعية والتصوير والشحنة الجمالية للألفاظ بغية تصريف حالة الانفعال الوجداني أو التدفّق العاطفي التي انتابته.
وهي وليدة اللحظة تُنشَأ لحظة حدوث الشيء أو بعده ولا تحتاج لإعداد مسبق أو لأدلة وبراهين. كما أنها لمعة أو شعلة عابرة غير مكتملة استدعتها عفوية الخاطر وفتنة القالب أو أسلوب الكتابة.
دخلت لفظة خاطرة بمعنى كلمتيPensées ou Essais  على الآداب الفرنسية في حدود القرن الثاني عشر ولم تأخذ المدلول المتعارف عليه راهنا إلا خلال القرن السادس عشر، حيث سُحب الاسم على مختلف عروض النثر الأدبي الحرّ المستجلبة بغرض التفكير حول مسألة بعينها أو تأملها من دون إدعاء الإحاطة بها أو استيفاء مدلولها بالكامل، لذلك غالبا ما عُرضت الخواطر بشكل نثري مختصر ومتوازن مدلولا وعبارة، وذلك تساوقا مع المعنى الأصلي للفظة خواطر اللاتينية التي تحيل على الرجحان نقدا وتفحّصا ومكافحة. فكاتب الخاطرة يبحث على الإقناع الذي ليس بوسعه تحقيقه دون افتتان المتلقي بجمال الأسلوب الأدبي وبلاغة العبارة المستجلبة. 
تحيل كلمة خاطرة أو مقابسة (وتعني في اللغة العربية الشعلة أو الجذوة من النار) في آثار مرسال مونتاني (ت 1592م) على معاني متعدّدة احتفظ من بينها المؤلف بمعنى التجربة الشخصية، وهي دلالة ضيقة تخطتها آثار من لحقه وخاصة فلاسفة الأنوار العقلانيين في القرن الثامن عشر، أولئك الذين تيسّر لهم التحبير في أغراض متنوعة مثلما تشي بذلك مضامين خواطر كوندورسي (ت 1794م) Condorcet وأعمال فولتير (ت 1778م)  Voltaire مثلا، على أن يعاين القرن الموالي توسيعا للمدلول بحيث شملت الخواطر المؤلفات الأدبية والفنية والجمالية والفلسفية والتاريخية وغيرها، بينما ساهم تطور العلوم الإنسانية خلال القرن العشرين في ربط مدلول الخواطر بمجالات غير مألوفة في عالم الإبداع الأدبي سابقا.
ومهما يكن من أمر فإن الخواطر غالبا ما شكلت آثارا لها صلة وثيقة بخصوصيات السياق الزمني الذي ألفت خلاله، مع التأثر مكانيا بالتجربة الخاصة لواضعها، لذلك فأن كل عملية تحليل منهجي لمضمونها تستدعي التساؤل بخصوص ظروف التأليف؟ وموقع المؤلف داخل المجتمع؟ وكذا حول الأسباب التي دفعته للكتابة؟ والهدف الذي كان يبحث عنه؟ وإلى أي شريحة اجتماعية أو فكرية قصد التوجّه بخطابه؟ ولأن الخواطر أو المقابسات تتعامل مع الأفكار مُحاوِلة عرضها بشكل غير مسبوق، فإن باستطاعة مؤلفها إثارة أحاسيس القارئ وزعزعة مسلماته وهز قناعاته، عامدا إلى دفعه إلى التساؤل والحيّرة وذلك بالتعويل على المشاكلة والسجال والتهكّم ومخالفة الأعراف أو العادات السائدة.
وهكذا ساهمت الخواطر أو المقابسات ومن خلال محاورتها مع التصّورات والممارسات السائدة أو تحليلها للأفكار الطارئة زمن صياغتها، في تطوير تاريخ الأفكار وتكوين رأي عام والانخراط عامة ضمن إيديولوجية المرحلة الزمنية التي شهدت ميلادها. ولئن شكّلت الخواطر غربا جنسا أدبيا تعاظمت مكانته بمرور الزمان، فإن مردّ ذلك هو تساوق المجهودين الفكري أو التأملي والإنشائي أو البلاغي في تحديد هويتها الأدبية على الحقيقة، حيث لم تفتأ الخاطرة على المخاتلة الأدبية بسبق إصرار وترصد لا حدّ لهما، باعتبارها محاولة واعية لأخذ الكلمة وتبليغ الصوت عبر تجاويف العبارة بمدلولها المخصوص الذي يعرضه مؤلف الخاطرة بشكل يبدو قريبا من الذات ومتوجّها إلى الغيرية في آن، وهو ما أضفى على أسلوب كتابة الخواطر مسحة خاصة تتراوح بين الواقعية والمثالية أو الطوباوية. حيث تمنح المقابسات إمكانيات متعدّدة للتعبير تبدأ من محاورة الذات لتصل إلى الحجاج أو السجال، مرورا بالإيحاء والإعلام والنقد والتوصيف ورسم التقاطيع، والقصّ، والمُلْحَة، والحكمة، والفكرة العميقة، والمثال المجّسم والحوار الوهمي.
ويمكن حصر السمات الطاغية على الخواطر كجنس أدبي في أربعة عناصر هي على التوالي:
- التعبير عن الأحاسيس وإثارة المشاعر
- البحث عن الإقناع بالعويل على صياغة تقع بين العروض الفكرية والتجليات الأدبية
-       الصدور عن فكر نزق وحرّ
-       التساؤل حول قضايا وجودية على غرار الحياة والموت والحب والوجود والعدم والسلطة والغيرية والصحبة والمخالطة.
وجميعها سمات تشترك فيها مختلف الخواطر أو المقابسات وتفسر أيضا الرواج الذي ما فتئ يلقاه هذا النوع من الآثار، لذلك فإن ما يتهدّد هذا الجنس الأدبي هو التعامل معه باعتباره مظنة للحصول على أجوبة باتة، والحال أن دوره لا يتعدى إلقاء أسئلة مثيرة ومحيّرة حول مسائل تبدو حارقة ومصيرية بالنسبة لمعاصريه.           
2 – خواطر الحداد امتداد لنضاله الاجتماعي
يبدو مشروع الطاهر الحداد (1899 - 1935) جد معبرا، حيث ينطوي استدعاؤه حاضرا وبعد أن وُفقنا في إعادة تملّك تجربة النضال الوطني من بوابة ترسيخ أفق الفعل السياسي التعددي، على رغبة في تنزيل هذه التجربة النضالية ضمن أفق لا يكتفي بالإنصاف والتنويه فحسب، بل ينشد تمثّل هذا الفكر ضمن مسوغاته الموضوعية ومن داخل التطوّرات التي عاينتها الساحة الفكرية التونسية طوال عشرية تجريد الحداد لقلم نضاله الاجتماعي بين بداية عشرينات وأواسط ثلاثينات القرن الماضي.
فقد بدت لنا الشهادة التي أفردها للوقوف عند أوضاع التعليم الزيتوني وشروط تطويره: "التعليم الإسلامي وحركة الإصلاح في جامع الزيتونة"، وهي شهادة لم يتم طبعها وتحقيقها إلا بعد زهاء نصف قرن عن وفاة مؤلفها، عن منحاه العقلاني التنويري الذي يستند على فكر عبد الرحمان بن خلدون في تفويق العقل على النقل، مع الدعوة إلى الكفّ عن ملاحقة أصحاب الفكر النقدي الحر من مشايخ الزيتونة، وضرورة إدخال العلوم الصحيحة ضمن مقرّرات التحصيل، تأهبا لإصلاح العقول والالتحاق بالأمم الناهضة. "فلا علم إلا حيث يوجد الرأي، ولا رأي إلا حيث يوجد العلم".
اعتقد الحداد في تلازم النضالين الاجتماعي والسياسي، فقد عرض ضمن مؤلفه: "العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية" الصادر سنة 1927 ، وهو أثر شكّلت روحه المقالات العشرين المنشورة بين 1925 و1928 ضمن "لسان الشعب" و"مرشد الأمة" و"إفريقيا"، تصوّراته بخصوص إعادة تملك مبادئ الفكر النقابي بعد استيعاب ما تمخضت عنه تجارب البلدان الناهضة أو المتحضرة في الغرض، وتطويعها لما تقتضيه حاجيات البلدان المولى عليها. فلئن أبدى الحداد انتصارا صريحا للفكر الاشتراكي ناقدا التوجهات الاستغلالية للرأسمالية، فإنه لم يتوان على نقد أوضاع المنتجين التونسيين الذين "يسيرون في عملهم بلا عقل غير حب الفرد لنفسه بصورة مرَضِيَّة مشطّة". "فالأمل طريق العمل ولا فوز لأمل بدون عمل".
وكانت تجربة "جامعة عموم العملة التونسيين" التي أسسها محمد علي الحامي (1890 - 1928) نزولا عند دعوة عمال الرصيف المضربين خلال صائفة 1924، إيذانا بتجذّر الشعور الوطني وحصول تواشج وثيق بين الشأنين الاجتماعي والسياسي. فقد ساهم الحداد من موقعه في تخليد تلك التجربة والتأريخ لها والنضال في صلبها والانخراط في الدفاع عن القيم التي صدرت عنها وتَبَنِّي روحها الأمميّة، مع إعطاء الأولوية المطلقة للمشاغل المحلية قبل سواها، وربط كل طموح سياسي بالنجاح في رفع التحديات الاجتماعية الكفيلة بتحويل الأُمم إلى شعوب نابضة بالحياة وناهضة لتحقيق الرقي والتقدم. لذلك يتعين أن "تسبق الحركات الاجتماعية [جميع ما سواها] مع شرح حقيقتها وأصول أعمالها وواجب عموم الشعب فيها"، لأن المناداة بالكرامة والعدل والمساواة والحرية قد امتزجت ومنذ طلائع النضال النقابي بالدفاع عن المنتجين وربط النضال السياسي الوطني بإبداء نجابة في الارتقاء بمنزلة الإنسان، مع الانتباه لضرورة ربط الممارسة السياسية بالحدود الدنيا للفضيلة.
وما كان للحداد أن يتصدى لتأليف بيانه الفارق في الجدل الشرعي القانوني حول علاقة المرأة التونسية بالشريعة والمجتمع، إلا مدفوعا بهاجس حريتها في اختيار شريك حياتها بدل إكراهها على ذلك، وحرية تصرّفها في أموالها بدل ولاية الزوج عليها. لذلك تمثَّل جوهر سؤال الحداد ضمن بيانه حول توافق روح التشريع مع إنصاف الحق في تحديد الطريقة المثلى التي تسمح بفهم أحكام الإسلام فهما موضوعيا يدفع ومن حيث تقصّي فضيلة العدل إلى الانتصار لحرية الإنسان وربط الأوضاع المزرية للمرأة التونسية بقلة نجابة نُخب العلم والسياسة في الانتصار للحرية والمساواة.
تصدر مختلف الأفكار التي صاغتها عارضة الحداد ضمن مختلف كتابته الصحفية والأدبية والنضالية الاجتماعية والتأملية والشعرية والإنسانية، عن تمثّل خصوصي لـ"رسالته في الدنيا"، اتصل رأسا بـ"تحريك إرادة الحياة" في الضمير الجمعي للتونسيين، لأن ذلك "أفضل ما في العبادة" وُفقا لما أقره عبد الرحمان الكواكبي(1855 - 1902) ضمن مؤلفه حول "طباع الاستبداد"، حيث شكّلت "إرادة الشعب" لديه "مُراد السماء".
وتتوافق النظرة الاجتماعية في فكر الطاهر الحداد بالكامل مع ما حملته خطاطة خواطره الثلاثة والستين التي سوّدها في 13 صفحة بين نهاية ربيع وبداية صيف سنة 1933. فقد أصر مؤلف تلك الشذرات المكثّفة والعميقة على مواصلة نهج الإصلاح الاجتماعي بالوقوف في صف المغيبين من أبناء الشرائح الاجتماعية الفقيرة، أولئك الذين دعاهم صراحا إلى الفكاك من قيود التقاليد البالية والوقوف في صف الحق والحرية والتطوّر، والتخلّص من تقديس الماضي وعبادة الحكّام، والقطع مع ثقافة التزمت والتكفير والتواكل والكسل والصدوف عن العمل الجاد ونبذ عقلية العجز وقلة الحيلة بمزيد بذل الجهد وتحكيم العقل والمعرفة الدقيقة بدل الإفراط في التعبير عن العواطف الجياشة والإسراف في ردود الفعل الحسيّة، وجميعها فضائل تندرج ضمن توجّه واعي هدفه صياغة مشروع مجتمعي جديد يأنس للفكر المتنوّر ويضارع دون الشعور بالضآلة والصغار ما وصلت إليه الشعوب المتقدمة من حداثة.       
3 – شقاء التونسيين في خواطر الطاهر الحداد:
يستقيم في نظرنا تقسيم خواطر الحداد إلى ثلاثة أبواب مترابطة حاولت تأمل مدلول الحياة والعمل والعقل واحترام التفكير والتعريف بمعنى الحرية والشعب (24 خاطرة)، والوقوف عند تمثل التونسيين للدين والإيمان والزعامة، وتقديسهم للماضي وللغة الضاد وانتفاء قدرتهم على إدراك مدلول التقدم غربا وحقيقة ما يضمره الاستعمار الفرنسي تجاههم (18 خاطرة). في حين خاضت بقية الخواطر (21) في تعرية مختلف العيوب التي شابت سلوك للتونسيين إبان خط الحداد لمختلف تصوّراته وصياغتها في ذلك الشكل الأدبي المقتصد الجذاب.
يعتبر الحداد أن من شيم كمال الشعوب إعلاءها لإرادتها، فحياتها الحقيقية تمكن في المثال الأعلى الذي تصرّ على نصبه أمام أعينها، أكثر من بقية الحاجيات الأخرى بما في ذلك أصعبها على الإرجاء أو التأجيل كتوفير المعاش. كما يتساوق في نظره حب الله مع حب الحياة، لأن الحياة حركة تأبى الوقوف عند ما خلّفه الأسلاف وتنتظم بالتعويل على التفكير لا عبر التمسّك بالماضي. فالإيمان بالحرية رفض لجميع أشكال التسخير والاستعباد حتى وإن لم ينعم بها إلا من حازها وسد باب الوصول إليها على غيره. ولئن شكلت الحرية جبلّة في الإنسان ومصدرا للنظام فإنها قد مثلت أيضا المِعْوَلُ الذي يُسعف في تهديم ذلك النظام حال تنكّره لها وتضييقه عليها، فبقدر ما تشيخ النظم وتبلى فإن زهرة الحرية "لا ينتهي شبابها".
يستعير الحداد للعِلْمِ صورة فتح مغالق الغيب بسعي ظافر والخروج من الظلمة إلى النور، معتبرا أن العمل مصدر كل ثروة وأصل في التقدّم وأمضى من الاكتفاء في الجهاد بالكلام. كما أن الاعتراف بعدم الكمال فيه دافع إلى تجويده بالشجاعة والتفاني والبلاء الحسن. وأن "التفكير بدء الحياة"، لذلك يتعين إطلاقه من سجنه حتى يرسم لنا طريق الخلاص ويطهّر الرؤوس من رجسها، فاحترام التفكير تمسّك بالحكمة وطلب لإنقاذ الحياة من مخالب الفناء. ولا يكمن الإصلاح عند الحداد في تركيز التونسيين لجهدهم على كشف عيوب غيرهم والذهول عن نقائصهم واستهلاك ما أنتجه الأجداد والتمسك المرضي به دون التفكير في تجويده وترقيته بالإسهام في تصريف الشأن العام وتنظيم الاقتصاد وكسب القوة العسكرية ضمانا للمناعة. فـ"الهدم لا ينفع إذا لم يكن للبناء"، والشعوب المتشوّفة إلى التقدّم على غرار اليابانيين والترك والفرس والروس وغيرهم قد أدركت بَعْدُ ذلك وانخرطت فيه بكليتها، في حين لم تزل شعوب الشرق تراوح مكانها "فما أبعد الغاية وما أطول الطريق على العاجزين".
يشدد مؤلف الخواطر على أن الإسلام قوة تثوير تمنح لمعتنقها فُسحة التحرّر من جميع القيود، غير أن ما يسميه بحميّة الجاهلية والاستبداد هي التي حوّلته إلى "نفاق اجتماعي يجري عليه عرف الناس [فـ] يسلمون إليه أنفسهم في غيبوبة من الألم والحسرة"، ليتلبّس عندها الماضي بالحاضر ويرزح الناس تحت استعباده ويُقبِلون صاغرين على تقديسه، والحال أن بداية التاريخ مشروطة بالقطع مع الماضي والإقلاع على استجلابه، حتى وإن كان ذلك على سبيل السلوى من كبوات الحاضر أو خيباته.
أما بخصوص مدلول الزعامة فقد قصره الحداد على من وهبوا حياتهم للشعب و"أنكروا حقوقهم الشخصية ومكاسبهم وروابطهم العائلية"، فإذا ما ذهبوا بقيت "أرواحهم وأفكارهم نورا يستهدى به"، مشيرا في لهجة تنطوي على كثير من التهكّم إلى أن جميع من يدعون الزعامة من بين التونسيين رجال تعلّموا في أرقى جامعات فرنسا، لذلك طالبوا إدارة الحماية بمجلس تمثيلي يمتلك حق التشريع، فوافتهم بمجلس مختلط تُحترم في كنفه أحكام الدين المحنطة غير القابلة لأي تطور، وذلك تماشيا لتصوّر من استشاروهم من بين شيوخ جامع الزيتونية، وهو ما يدفع إلى الاعتبار بأن اشتغال المرء بعمل شريف يكتسب منه عيشه أفضل بكثير من احتراف الزعامة بغرض التكسّب بآلام الناس دون أدنى شعور بوخز الضمير.
ومع تفهّمه التام لرغبة التونسيين في التعلم ورفع غشاوة الجهل والتكلس، فإنه لا يتهيب من الاعتراف بحقيقة سيطرة الفرنسة على طرق المعاش قياسا لواقع اللغة العربية التي انقطع اتصالها بالحياة ولم تبرح أسوار الزيتونة، بحيث انسجم واقعها المتردي مع الأوضاع المزرية لأسواق المدينة الجامدة والعاجزة عن التطوّر، تلك التي تحوّلت في أعيان زوارها الأجانب إلى ما يشبه متحف للهواء الطلق أو موقعا تراثيا أثيلا.
يشهّر الحداد في دقة فهم وعمق حسّ كبيرين بسيطرة النفعيّة على سلوك الأوروبيين الذين يتشدقون بالدفاع عن أسمى القيم ويقصرون الحرية على أنفسهم ولا يرون لغيرهم أي حق في الحصول عليها، لذلك فإن قوة البيان لا تصلح معهم على الحقيقة، في حين أن أقل عمل يلفت أنظارهم. ويومئ الحداد في استهزاء مكشوف إلى أن ما يسمه بـ"جهاد الكلام" لا تقابله أوروبا الناهضة إلا بإمداد أصحابه ببعض الكلام حول منحهم الاستقلال والبرلمان والدستور والانتخابات لذلك صدق من قال أن شعوب الشرق "قانعة بالقشر عن اللّب ومكتفية باللفظ عن المعنى".
                   
4 – "كلنا في الهمّ شرق":
تخوض بقية الخواطر في جملة من العيوب التي يسهل ملاحظة نتائجها السلبية على واقع التونسيين اليومي خلال مرحلة صياغة الحداد لمختلف تأملاته. فقد شكّلت مختلف تلك المضامين خلاصة تجربته المريرة، ورجع صدى لخيبته القاسية بعد ردود الفعل المتشنجة التي قوبل بها أثره الفارق حول واقع المرأة التونسية البائس وضرورة السعي إلى تحريرها.
غير أن تلك التصرفات التي ترتب عليها اضطراره إلى الانطواء والقبول بالانكفاء على الذات والحد من الظهور على الساحة العامة، لم تمنعه مطلقا من التمسّك بنفس المواقف والتعبير عن نفس الآراء المتصلة بواقع المرأة وربطها بجملة من الممارسات الاجتماعية السلبية التي حال انتشارها بين مختلف الأوساط، دون القطع مع بالي التقاليد وتقويم الخلل الطارئ على التصرّفات التي لم يعد لها من موجب مقارنة بما صارت إليه الأوضاع لدى الشعوب المتقدمة أو تلك التي اختارت أن تقتفي أثرها.
ومن بين تلك الهنات يستحضر مؤلف الخواطر تحديدا ربط التعلّق بالمرأة بالبحث عن إشباع الشهوة الغريزية دون توجيه تلك العواطف المطلوبة عقلا وذوقا نحو إثارة الأفكار والأرواح، لذلك نرى معشر المسلمين أحرص على الغيرة منهم على استبقاء الشعور بالحياة والحرية. كما أن دعاوى هؤلاء بخصوص ما اصطلحوا على تسميته بـ"ستر العيوب"، يفضح عجزهم عن التفكير في "إمكان زوالها" والاعتذار عن تكرار الوقوع فيها مجدّدا بأنها مقدرة في الأزل، لذلك غالبا ما شكّلت مختلف تلك الممارسات تعلّة لدى الماسكين بالحكم يحتجّون بها قصد الهروب من المرجعة، مع إسراف في سوء التصرّف وجولان لليد بغير حق في ما استباحوه دون موجب سوى الاستمتاع بما سمحت لهم به الغلبة والاستئثار بالسلطة.
وتبدو الهنات المستجلبة جد معبّرة عن طبيعة التناقضات التي شقت المجتمع التونسي وعن درجة الإحباط الذي خلفته لدى مؤلف الخواطر، وخاصة من حيث قلة نجابة التونسيين في تحمل مسؤولية تصرفاتهم ورفض الاعتراف بالنقص أو القصور تفاديا للوصف بالعجز، والتفاني في جمع المال مع الإعلان عن احتقاره تحت غطاء التمسك بالتقوى، والإصرار المبالغ في التمسّك بالنقل والتقليد والاستعاضة عن العمل بعديم السجال والمماحكة والبقاء عالة على الشعوب المنتجة للمعرفة استعظاما لما حققته وتثبيطا لعزائم الراغبين في اقتفاء أثرها وتوجيه سهام النقد لجميع المبادرات الصادرة عنهم. كما شجبت الخواطر العديد من السقطات المتفشّية بين جميع شرائح المجتمع التونسي على غرر كثرة الجدل وقلة العمل واستسهال توجيه النقد للغير، مقابل التمسك بالمحافظة والعجز عن تجاوز الخوف والتستّر على العيوب والإفراط في الرياء والكِبْرِ المُعْدِمِ لكل ذوق. هذا فضلا عن تناقض التونسيين الصارخ في ادعاءهم الرغبة في إصلاح منظومة التحصيل مع الارتياب من تلقي العلوم العصرية وقَصْرِ تحصيلها على الذكور واعتباره رذيلة في حق غيرهم، والتهيب من تقليد الأمم الناهضة في آدابها وفنونها خشية التفسخ والذوبان، والتشوّف إلى سن الدساتير مع التلهف لاستلهام الماضي الذهبي لخلفاء الإسلام المبكر وملوكه.
وتتضخم تناقضات المجتمع من خلال شعوره المرير بالنقص والإحساس بالفقر مع الإسراف في صرف فادح الأموال بغية اقتناء ما تنتجه مصانع الأمم المتحضّرة، وهو ما ينهض حجة على الاستعاضة عن الاعتراف بالصغار والعجز بادعاء الفقر وقلة ما باليد والإفراط في الحسية وإلهاب المشاعر والإمساك برسن العقل خشية انطلاقه نحو "جنة" أرضية لا يُغني التشوّف لها مع "بغض الطرق المؤدية إليها". لذلك يعتبر مؤلف الخواطر أنه لو قدر لمعاصريه التبصر بعيوبهم "لنالوا من الحياة أمانيها" وتمكنوا من تصويب تصرفات حكامهم بردّها إلى الحجج والقوانين العقلية دون سواها.
يشجب الحداد في معرض توقّفه عند قصر ذاكرة التونسيين وعدم اتعاظهم بجميع ما حصل لهم من كبوات على غرار محاولة الإدارة الاستعمارية الاستيلاء على الأوقاف الخاصة وإجبار الباي الناصر في مفتتح العشرينات على التنازل على العرش وصدور قانون التجنيس وانتزاع الأراضي الزراعية وتمكين القضاة الفرنسيين من البت في النزاعات بين التونسيين ونصب تمثال الكردينال لافيجري بمدخل المدينة العتيقة، استغراق معاصريه في نهش لحم بعضهم البعض تخوينا وتكفيرا وانتقاما ممن ينبئوهم بمساوئ تصرفاتهم المُخجلة المُشينة، والحال أن تطرّفهم في القول وإفراطهم في التعبير عن حماسهم غالبا ما يوازيه التفريط في حقوقهم المسلوبة بحكم الاستغراق في التحاسد والتباغض ودعاوى الاعتدال الكاذب.
يتبين بالتعويل على ما صاغه الطاهر الحداد ضمن خواطره أن التأليف في هذا الضرب نوع من الاستغراق في الذات مداره تأمّل الواقع المعاش واستشراف المصير عبر الشّك في جميع الثوابت، مع اعتبار ما يطرأ على تصرفات البشر من تقلّبات أمرا طبيعيا يَعْسُرُ معه التعرّف على حقيقتهم التي لا تخضع لأي منطق علمي كان أم فلسفي. وهو ما يسهل استقراؤه بالرجوع إلى المضامين التي جُمعت ضمن خواطر مارسيل مونتاني Marcel Montaigne  ومقابسات برنار روسيل Bernard Russel وبلاز بسكال Pensées de Blaise Pascal ولويس فرناند سيلين Louis Ferdinand Céline  وغيرهم. حيث يتبيّن لنا بجلاء خضوع هذا الجنس الأدبي لمطلق التجريب واتصال عملية تجويد محتواه بالزيادة، والحذف مع التعويل على التأمل الخلاق دون التفكير في تبويب مسبق أو تدرّج منطقي.
فالإنسان لا يقبل بغير ما شبّ عليه، ولا يرتاح لغير أفكاره المسبقة المتعصّبة لمصالحه، وهو في جميع ذلك مجرد لعبة تتقاذفها الظروف الخارجية وتخضع قراراتها إلى انطباعاتها المنحازة. هذه الحقيقة الأزلية هي ما حوْصلته بالضبط خواطر الطاهر الحداد للتونسيين بتلقائيته المعهودة. فقد عولّ على بسيط الكلم الممزوج بحيوية الحسّ، مع قدرة عجيبة على تقريب أعمق التصوّرات من ذهنية عامة الناس، والصدور عن شعرية فذّة نزّلت المجردات منزلة الاستعارات الأليفة، تماما مثلما تناقلته الأغاني التراثية من معاني عميقة نجهل من ألف كلماتها السهلة الممتنعة على شاكلة هذا القبس من "عروبي" أو "فوندو" "فراق غزالي" الذي احتفظت بها الذاكرة الجماعية للتونسيين وشَدَتْ به حناجر مشاهير فنانيهم كابر عن كابر:              
يحدث على العبد ساعات... الشيء الذي لا يوالم
بني ادم اللي يقرأ العقبات ... تبعد عليه المظالم

حكرت ووزنت الأوقات ... ولا حد من حد سالم...