vendredi 30 septembre 2011

بلاد الأفاريق ووطن التونسيين *




أفريكا وأخواتها:


اقتبست لفظة إفريقية من الأصل اللاتيني "أفريكا" إذ يبدو من الثابت أن تلك الصيغة مشتقة من الجذر اللغوي "آفر" وجمعه أفري، وهو ما أوردته المصادر اللاتينية القديمة التي تعود إلى ما قبل سقوط قرطاج بزمن طويل. فقد مُنح "سقبيون الأكبر" (235 -183 ق.م) بعد انتصاره على "حنبعل" في واقعة جامة سنة 202 ق.م لقب الإفريقي، كما وسَمت روما الأرضي الملحقة بسلطتها بــ"المقاطعة الإفريقية"، واعتبرتها وطن الأفارقة مع الفصل أحيانا بين أولئك وبين البونيين وهم سكان قرطاج في التمثل اللاتيني دائما.
لكن ما أصل كلمة أفريكا بالتدقيق؟
نحن نجهل تماما أصل هذه الكلمة، حتى وإن تشكلت العديد من الفرضيات بخصوص مدلول تلك اللفظة منها ما يمكن اعتباره أسطوريا، ومنها ما يمكن رده إلى أصول اشتقاقية أو ربطه باعتبارات جغرافية ومجالية.
إن الانتساب إلى أصل جوهر يحيل على جذور إلهية وبطولية وخرافية يجعل من أفريكا بلادا لأولاد "آفر"ابن ليبيا، سليلة جوبيتار أو نبتون. وقد يُربط "آفر" أيضا بهرقل ليبيا أو بكرونوس إله الزمن وكذا بالنبي إبراهيم. ولم يكن العرب أقل مدٍ لحبل الخيال فيما يتصل بتقصّي الأصول ممن سبقهم من الشعوب الوافدة على مجال المغارب، حتى وإن ارتبط إرثهم الأسطوري بالتصوّرات النَسَبِيَّة التي قادت طريقة نبشهم في الأصول، لذلك فإن علاقة الأفاريق بجدٍ مؤسس قد أحالتهم على أفريقس أو أفريقش. وهو تصوّر تبناه رواة الأخبار والجغرافيين لاحقا على غرار النسابة ابن الكلبي (ت 819م) والراوية ابن عبد الحكم (ت 871م)، الذي ندين له بأقدم الأخبار المتصلة بفتوح بلاد المغرب وإفريقية. فقد اعتُبر العرب البربر مشارقة كنعانيين أو حميريين، مؤكدين أن أفريقس هو من كبار ملوك اليمن على أيام سليمان الحكيم، وهو فاتح بلاد المغرب ومن أطلق عليها اسمه، مركّزا بها على وجه الاستقرار بعض قبائل جنوب الجزيرة العربية.
ويشدّد البلاذري في فتوحه نقلا عن هشام بن محمد الكلبي أن اسمه افريقس بن قيس بن صيفي الحميري. أما لدى غيره كالمسعودي في المروج، والبكري في المسالك، وياقوت في المعجم، فهو أفريقس بن أبرهة بن الرائش، على أن تحيله روايات أخرى وبالاستناد على الأساطير اليونانية اليهودية على الأنبياء التوراتيين، معتبرة أنه أفريق بن إبراهيم الخليل من زوجته الثانية فاتوراء. وهو عين ما ذكره البكري في المسالك وابن أبي دينار في مؤنسه، حتى وإن رد نسبه إلى سلالات توراتية مغايرة.
أما بخصوص الاشتقاقات اللغوية فقد أورت المعاجم على غرار تاج العروس للزبيدي أن الجذر اللغوي (ف ر ق) ومدلوله فصل، هو المعوّل عليه في حسم الدلالة في لفظة افريقية، اعتبارا لتفريقها جغرافيا بين مصر وبلاد المغرب، أو بين أوروبا وجزء من آسيا لوجود البحيرة المتوسطية، وفقا لتفسير الحسن الوزان في وصفه
لإفريقيا. بينما تذهب تفسيرات لغوية أخرى، على غرار ما أورده "إزيدور"، إلى ربط علاقة بين اللفظ اللاتيني "أبريكا" ومعناه الساخنة و"أفريكا"، وهو ما أقره مؤلف المؤنس وأوّله بِرَدِ معناه إلى لفظة بريق السماء وصفائها في اللغة العربية. كما تمت العودة بالأصل إلى لفظة "أ-فريك" اليونانية ومعناها بدون برد، حتى وإن ذهبت بعض التأويلات إلى اعتبار ذلك اللفظ متصلا بالتسمية القديمة لقرطاج ومعناه المركز المنفصل، أو المستعمرة المفصولة عن قاعدتها الفينيقية صور. وهو تأويل يفتقد إلى سند مصدري يُعتد به، فكلمة "آفر" ومشتقاتها أو أخواتها غير اللاتينية لم ترد في أي نقيشة بونية في ما عدا ردّها إلى معنى المغارة في اللغة البربربة، لذلك فإن تفادي المجازفة يقتضي القول بأن لفظ "أفريكا" قد يكون مشتقا من الجذر اللغوي السامي (ف ر ق)، علما أن الإغريق قد وسموا ذلك المجال بليبيا، فلا يبقى لنا عندها غير ربط تلقي الرومان للتسمية عن البونيين بعد الاحتكاك بهم وانتزاع قرطاج من أياديهم لتحويلها إلى مستعمرة تحمل تسمية "أرض أفريكا" أو "مقاطعة أفريكا".
بقي أن ندرك أن تردّد العرب في النطق بالتسمية، مرده قلة ضبط الحركات ضمن المعاجم. فتأرجح النطق بين التخفيف والتشديد في كلمة "أفريقيا" أو"افريقيّة"، هو ما دفع بالتدرج إلى إحالة الدلالة المخفّفة على القارة، بينما سُحبت نظيرتها المشدّدة على البلاد التي انتشر عليها المسلمون خلال الفترة الوسيطة، وهي مجال ترابي لازمه الغموض ولم تتضح معالم حدوده المدركة حاضرا إلا بشكل تقريبي. فقد طابقت الحدود الأصلية أيام الانتشار الإسلامي الأرض التي حكمها البطريق جرجير تلك التي امتدت من طرابلس إلى طنجة، حتى وإن نقل البلاذري في الفتوح فصل عمرو بن العاص الجليّ بين أرض طرابلس وأرض افريقية، مما يقوم حجة على أن نقطة الانطلاق في الانتشار قد سُحبت على كامل مجال المغارب، على أن يطرأ عليها بعض التعديل في مؤلفات الإخباريين المتأخرين تساوقا مع التحولات السياسية التي عاينها ذلك المجال الممتد، باعتبار توافق اللفظ في كلمة افريقية مع مجال الامتداد السياسي للإمارة الأغلبية، وهو ما شدّد عليه كل من البكري والاصطخري وياقوت والمراكشي واليعقوبي، وواصل غيرهم الإشارة إليه حتى حسم ابن أبي الدينار المسألة، مبيّنا أن تسمية افريقية على أيامه (أواخر القرن السابع عشر) لم تعد تشمل سوى سهل مجردة الموسع، وهو المعنى المستعمل حاضرا في توصيف مجال النجعة البدوية.
ومهما يكن من أمر فإنه يمكن الجزم بأن الرقعة الجغرافية لافريقية قد ضمت في نواتها الأصلية ولايتي البروقنصلية والمزاق الرومانيتين، على أن يشمل ذلك أحيانا مقاطعات طرابلس ونوميديا، مما يشي بحضور نوع من التلازم المربك بين الدلالتين الجغرافية والإدارية جعل الرقعة العائدة بالنظر إلى قاعدة القيروان ثم المهدية فتونس تمتد وتنكمش وفقا للسياق التاريخي، مُدخلا على تسميتها كثيرا من اللَبس الذي تلازم مع المرحلة التاريخية والسياق الزمني المقصود.

التونسيون أو مغامرة البحث عن وطن:


ما من شكّ في اعتبار حملة سنان باشا خلال خريف 1574 م مفصلة زمنية فارقة في تاريخ تونس الحديث، وهي التي أسهمت في وضع حدّ للحضور الأسباني، منهية الحكم السلالي للعائلة الحفصية. ولئن وضعت تلك الحملة حدا لحالة التجاذب المجالي من خلال سحب هوية مستقلة على البلاد وربط مصيرها قانونيا بالخلافة العثمانية باعتبارها واحدة من إيالات الغرب الثلاث، فإن تلك الوضعية القانونية لم تسمح بضبط الحدود الجغرا-سياسية لتلك الإيالة تلك التي بقيت رهن التشكّل على امتداد الفترة الحديثة.
ولعل في الحملات العسكرية التي نظمتها السلطة السياسية القائمة بمدينة تونس والتي استهدفت الوصول إلى نتيجة مزدوجة، تمثلت في ضبط الحدود مع الجارتين الغربية والشرقية وإخضاع بدو الدواخل (السعيديين والشنانفة)، ما يثبت انبثاق مجال خاضع للمراقبة الإدارية والضريبية لحكاّم تونس الأتراك، شكّلت دفاتر الدولة دليلا صارخا على طابعها الواقعي الملموس، مما يحسم الجدل في حضور علاقة تلازم بين الدفتر وبين قدرة الجهاز الإداري والعسكري للدولة الجديدة المتمركزة بتونس على مراقبة المجال الداخلي عبر تسجيل مختلف المجموعات المحلية المشكّلة للقاعدة البشرية للدواخل، مُثبتا تلازما في النشأة بين الدفتر والمجال الترابي، ومبرهنا على أن الطابع الهلامي للمجال يتنافي مع إمكانية تدوين الدفتر كدليل على المعرفة الميدانية بالمجال وإقرار بحقيقة سيطرة المؤسسات الإدارية والعسكرية للدولة عليه.
والمهم بهذا الصدد تلمّس ما عكسته ديباجة تلك الدفاتر المتصلة بالأرشيف الرسمي للدولة بخصوص تطوّر الصورة التي حملها ذلك الجهاز حول المجال الترابي الـمُخضع وكيفية تنظيمه بالشكل الذي يكفل حسن تصريف الأمور داخله. فقد أحالت الصورة التي عكستها عملية تمثّل ذلك المجال ضمن الدفاتر الضريبية على تقسيم ثلاثي للجهات ضم مناطق الشمال المرتبطة بفحوص تونس والممتدة ترابيا بين سهول ماطر وبلاد الدخلة أو الوطن القبلي فبلاد فريقه وسنجق الكاف، وجهات الوسط وضمت الساحل وسنجق القيروان، وبلاد الجنوب التي احتوت على منطقة الجريد وسنجق قابس، ذاك الذي وسمته الدفاتر أيضا بجهة الأعراض الممتدة بين مدينة قابس وتخوم ولاية طرابلس.
ما يلفت الانتباه ضمن هذا التقسيم الترابي هو البحث عن صيغة تمزج بين المورث المجالي للبلاد في تسميات افريقة والساحل والجريد، وإثبات الانتساب إلى هوية عثمانية حادثة من خلال استعمال التقسيمات العسكرية الاعتبارية لفرق المراقبة التركية في لفظة سنجق، فضلا عن اكتساب التسميات القديمة لمدلول ترابي محدّد، والقطع تبعا مع الإطار الجغرافي الفضفاض الذي شكلته سابقا. على أن جديد هذا التقسيم وإذا ما تملينا المسألة بشكل دقيق، هو بروز الحيّز الحضري لمدينة تونس كإطار ناظم للمجال أو كمنطلق في تشكّل القاعدة الترابية للدولة، بعد أن سيطرت البداوة سابقا على الحراك السياسي لقيام الدولة المخزنية الوسيطية مغربا. ومع ذلك فلئن عكست الدفاتر توجّها مطردا نحو مركزة عملية مراقبة الدولة للمجال، فقد حافظ هذا الأخير على تجزؤه حتى أواسط القرن الثامن عشر ولم يحمل أي تسمية تعكس توافقا ملموسا بين الموروث والمحدث، وتبرهن عن توصّل المجال الحضري والجهات التاريخية المستقرة لفرض سيطرة نهائية على مجال البداوة. وهي حقيقة لم تعاينها البلاد إلا مع حلول النصف الثاني من ذات القرن بعد أن تبلور مدلول الحكم الفردي للبايات، وعكست الدفاتر ذلك الواقع الجديد من خلال إعادة تملك لفظة افريقية عبر افتراض تطابقها مع حدود إيالة تونس العثمانية.
والبيّن أن عملية التدرّج باتجاه اكتساب تلك الهوية المجالية هي التي كانت وراء تخلي كتاب الدفاتر الضريبية للدولة على التسميات القديمة على غرار "محلة الهواء" و"وطن دار الباشا" والساحل والجريد واستبدالها بتقسيمات جديدة أحالت على القيادات أو العملات الحضرية كأوطان تونس وباجة وماطر ومثيلاتها بالنسبة لبقية الجهات الجغرافية للبلاد، الشيء الذي أدى - وفي تأخر ظهور التمثيل الخرائطي- إلى الاحتفاظ بتلك الصورة الكتابية الوحيدة بيد الدولة للحصول على تمثل منظور لمضمون سيطرتها الواقعية على المجال الترابي. ذلك المضمون الذي لعبت المدينة عبره دورا محوريا قلب التوازنات التقليدية التي شفّ عليها البيان الخلدوني حول تشكّل الدولة المخزنية طوال الفترة الوسيطة.
لم يقتصر تصوّر البنية الترابية لمجال الإيالة العثمانية الجديدة على ما رصدته فواتح الدفاتر و"برامجها"، بل شمل نظرة مؤلفي كتب الأخبار الموالين للحكّام والعاملين على تشريع سلطتهم وهم من بتّ في مدلول تلك السلطة الجبائي ومضمونه الترابي أيضا. ومن المفيد هنا الإشارة إلى سيطرة التكوين التقليدي على ذائقة الإخباري، وكذا للطابع التجميعي لتعامله مع الأخبار واقتفائه لدور الحاكم كفاعل في مقابل هدوء المجال المتماسك والقابل سياسة وشرعا لقرارات حكّامه، فضلا عن سيطرة سجل القيم الحضري على هوى المؤرخ الذي بقيت توجهاته وجميع مواقفه حبيسة التصورات الرسمية ولم تعبّر عن أي رغبة في تجاوزها أو الانقلاب عليها.
ولعل أبرز تحوّل يهذا الصدد قد تمثل في الميل إلى ربط الشرعية الحاكمة بمدى نجاح حكامها ومؤسستها في فرض التبعية ومد سلطة قهرهم الشرعية على مجال ترابي محدّد. غير أن ابتسارهم لمدلول الشرعية في البعد السياسي قد نمّ على ما سمّته بعض الأبحاث التاريخية بـ"الاكتفاء المجالي"، وهو ما يقوم حجة على أن محورية الجغرافية السياسية في انبعاث أو قل في "اختراع" تونس الحديثة وقبول التونسيين بمجال ترابي متسم بالضمور أو التواضع، قياسا لما عاينته بقية مجالات والكيانات السياسية المجاورة. كما يتعين التنويه عند هذا الحد بالنظرة المنحازة لجلّ الإخباريين الذين لم يرو في سيطرة مدينة تونس على بقية المجال أي تعاظم لدورها، حتى وإن لم تتوصل تلك الحاضرة إلى استيعاب أو وراثة نفس الأدوار التي لعبتها إفريقية في الفترة الوسيطة.
ومهما يكن من أمر فقد بقيت نظرة الإخباري حبيسة تقيم مرضي يجعل من الدولة شأنا خاصا بالأمير، مما ينم عن صعوبة القطع مع الموروث الثقافي والسياسي للدولة الإسلامية. فعلى امتداد القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تبلورت صورة المجال التونسي لدى كتّاب الأخبار متفاعلة مع صورة الأمير القوي الذي تحوّل إلى رمز "للمملكة". فقد عكست لنا الصورة التي نقلها صاحب الإتحاف مثلا عن أحمد باي، تمثّلا "مشخصنا" للمجال وبالتالي مساهمة في تدعيم سلطة الإطلاق التي أوقف ابن أبي الضياف تأليف مدونته على نقدها. والمضنون أن تفتح المؤلف على الفكر الإصلاحي في توجهاته المشرقية أو الأوروبية، هو الذي كان وراء إعادة صياغة تصوراته الفكرية بخصوص المجال، حتى وإن لم يرتق تمسّكه بالانتساب إلى تونس، التي ساوى بين حبها وبين الإيمان، إلى مرتبة التقديس، ولم يكن ميّالا، لا هو ولا خير الدين، لسياسة أحمد باي الاستقلالية، رغم تمسّكهما بضرورة إنجاز عملية إصلاح عميقة لهياكل الدولة المخزنية التقليدية، كي تنهض البلاد وتتجاوز صورة "المملكة الفقيرة حسّا ومعنى".
هذا بخصوص أدبيات المخبرين وأراء المصلحين، لكن ماذا بخصوص تجارب التمثيل الخرائطي لمجال الإيالة العثمانية أو المملكة التونسية تلك العمليات التي تزامنت مع الحضور الاستعماري الفرنسي بالجزائر؟
يتعين أن نضع في اعتبارنا شاغلين أو هاجسين أثرا بشكل بالغ على موقف حكّام تونس بخصوص هذه المسألة: أولاهما يتعلق بتطوّر تقنيات التمثيل الجغرافي بعد دخول الاستعمار إلى الجزائر وانطلاق عملية استكشاف ميداني ساهمت في إكساب المجال مدلولا ماديا غير مسبوق، وثانيهما يتصل بالكشف عن طبيعة الاستراتيجيات التي رافقت عمليات التمثيل الخرائطي والتدقيق في طبيعة العلاقات التي ربطت بين المهندسين الأجانب وبين الفاعلين السياسيين في كلا البلدين، والتي ترتبت عليها مشاكل اتصلت بالخصوص بضبط المسالك ورسم الحدود مع أجوار تونس الجدد.
عاينت عملية التمثيل الخرائطي لمجال البلاد التونسية خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر تجربتين محوريتين عقبتهما منجزات خرائطية شكّلت في مجملها منجز شخصيتين هامتين هما: قبطان البحرية وقنصل الدانمارك بتونس بين (1821 و 1832) "كرستيان تكسان فالب"، والمقدم الملحق بالفيلق الثاني للجيش الفرنسي الذي تم إنزاله بإفريقيا بداية من سنة 1834 "بريكو دي سانت ماري". فقد تولى الأول انجاز تصميم لمدينة تونس وضاحية قرطاج مشفوعا ببحث ميداني إحصائي وتاريخي مع عملية قيس طوبوغرافي. ومكنت تلك التمثيلات من التعرّف بدقة على البنية الحضرية والأوضاع السكانية والرصيد الأثري والقدرات العسكرية البرية والبحرية لحاضرة البلاد تونس. كما استعان "فالب" في انجاز عمله بما حوته الخريطة التي وضعها الرحالة الانجليزي "توماس شو" للبلاد التونسية في أوائل القرن الثامن عشر (1727)، متنقلا بين بنزرت وتونس والقيروان والكاف وتبرسق وماطر وصولا إلى القصرين، مما سهل عليه انجاز العمليات الحسابية والهندسية الخاصة بأكثر من 265 نقطة ارتفاع، وإعداد أول منجز خرائطي جامع لجانب من المجال المستكشف للإيالة وذلك في حدود سنة 1839.
أما "بريكو دي سانت ماري" فقد التحق رسميا بتونس في نفس تلك السنة بعد أن كلفه الجنرال كلوزو القائد العسكري الفرنسي لجهة الشرق القسنطيني باستكمال تمثيل مجال إيالة تونس، مستعينا في ذلك بأعمال سابقيه، من "توماس شو" إلى "كرستيان فالب"، وهو ما تُوّج بوضع مجسمات خرائطية للإيالة أنجزت تباعا بين سنة 1842 وسنة 1857، وامتدت لتشمل مناطق شط الجريد غربا وتخوم طرابلس شرقا.
والأكيد بعد هذا أن هذه العمليات الاستكشافية قد حركت فضول السلطة ممثلة في شخص أحمد باي واستفادت من معرفة سكان البلاد بالمسالك والطرقات ونقاط النزاع بين مختلف المركزيات السياسية حول التخوم الفاصلة بينها. كما سهّلت على الجيش الفرنسي اقتحام البلاد التونسية لاحقا، وشكّلت لبنة أساسية في عملية وضع أول خريطة مستوفية لمختلف مقاييس التمثيل الجغرافي للبلاد، تم الانتهاء من إعدادها سنة 1891 وذلك بالتعويل على خرائط المسالك التي أنجزها الضباط الفرنسيون بين سنوات 1881 و 1887.
والظن عندنا أن استفادة الطرف الغازي من تلك الـمُـجسمات ودخول عملية إتمامها في نطاق خطته الرامية إلى ما وسمه بـ"الاستكشاف العلمي" للمجال تسهيلا لعملية استعماره واستغلاله، لا تنفي حصول انتقال ذو دلالة فارقة في معرفة النخب السياسية والعسكرية التونسية بطبيعة المجال والبحث على تمثيله بالشكل الذي يُسعف في تسهيل عمليات مراقبته واستكشاف تركيبته الجغرافية والسكانية، مع إعادة تملّك وعبر تدريب طلبة المدرسة الحربية التونسية على تقنيات التمثيل (80 خريطة لجهة الساحل وجزيرة جربة على مدى عشرين سنة)، للتمكّن من تحديد مقدّرات البلاد وجردها وتحويل ما حوته الحجج والعقود والاتفاقيات المبرمة ضمن وثائق الدولة إلى تمثيلات دقيقة ملموسة، من شأنها تسهيل مراقبة مجال البلاد بشكل أفضل، خاصة وقد بات من المؤكد لدى النابهين من أبنائها أن تعقُب الهزات الاجتماعية والاقتصادية الداخلية لستينات القرن التاسع عشر مصاعب سياسية وعسكرية خارجية، أفضت في الأخير إلى وقوع البلاد تحت نير الاستعمار.
وهكذا فلئن تحوّلت صورة البلاد التونسية القريبة من عقل التونسيين ووجدانهم إلى مسلّمة بديهية متقاسمة لا تثير أي نوع من الغموض، فإن مدلولها الملموس لم يكن بتلك الدقة طوال مراحل ممتدة من تاريخ البلاد الطويل. والطريف في هذا الصدد أن انبثاق الدولة الترابية الذي عاينته البلاد بشكل جد متقدم، هو ما مكّن مجتمع المدن، وفق ما عاشته المجالات الأوروبية بالتزامن، من لعب دور أساسي في تشكيل الهوية الترابية التونسية تلك التي انطبعت أزليتها وبديهيتها حاضرا في ذائقة عامة التونسيين.

* يدين هذا العرض التوليفي في جوانب منه لما حوته الأبحاث الواردة ضمن أعمال ندوة
Perceptions de l’espace au Maghreb et ailleurs, Travaux réunis et présentés par Lotfi Aïssa, Université de Tunis, Faculté des Sciences Humaines et Sociales 2O11.
وبالتحديد إلى مقالي:
Fatma Ben Sliman, « De l’espace au territoire de l’identité, registres fiscaux et représentations de l’espace dans la Tunisie ottomane (fin 17ème – début 19ème siècles) », p. 83 – 100.
ومبروك الباهي، "صور مجال إيالة تونس في الأسطوغرافيا الحديثة" ص، 171 – 191.

samedi 24 septembre 2011

Oser la démocratie


Le slogan inscrit sur cette affiche dit:
" C'est ma première fois...Donc, réfléchis bien avant de me pénétrer..."
Tout est dans ce qu'on osera mettre comme bulletins dans les boites du scrutin ou les urnes...Sagesse et douceur sont de mise. Crétins, abrutis, frustes et compères...dont acte.

jeudi 22 septembre 2011

قــــصّ ولـــــصـــق محمد الكحلاوي ومناقب السيدة المنوبية



البارحة حصلت ومن يد المؤلف شخصيا وهو الذي صادف طريق عودتي من الكلية، على كتاب مناقب السيدة عائشة المنوبية في تحقيق ودراسة لمحمد الكحلاوي، مع إهداء باذخ "يأمل مزيد تنوير الحق والتصوّف"[كذ]. وقد أشرت لصاحب الكتاب فيما خاطبته به، بعد الثناء على صنيعه نشرا وإهداء وطبعا، أنني قد لمحت عمله وأنا في طريقي إلى العمل معروضا بواجهة مكتبة محترمة تقع في قلب الشارع الرئيسي لمدينة تونس، وأن نيتي كنت متجهة إلى اقتنائه للاطلاع على محتواه.
اليوم وقد أتممت قراءة العمل دفعة من أوله إلى آخره، أجدني محرجا بعض الشيء، لأن الهدية تردّ بمثلها، ولأني لا أرى في ما سأورده حول هذا العمل ما يقابل ما حصلت عليه مقرونا بلطيف المجاملات المبذولة في هكذا مقام، لكن أليس في طبع الرياح أن تجري أحيانا بغير ما تشتهي السفن؟
يقع هذا العمل الذي عُرض على القراء في شكل أنيق جذاب طباعة وغلافا، وصدر سنة 2011 عن منشورات كارم الشريف ضمن سلسلة أُفردت للتصوّف يُعتبر هذا الأثر باكورتها، في 200 صفحة من الحجم المتوسط. ارتأى المحقق أن يضم إليها ثلاثون صفحة باللغة الفرنسية، تولى ترجمتها عن الأصل محمد الخالدي ولم نجد لحضورها ضمن نفس الأثر من سبب وجيه، غير تخصيصها للتعريف بالتصوّف الإسلامي عامة ولتقديم نبذة مبتسرة عن سير أبرز أرباب الصلاح إفريقيا، وعن الآثار الموضوعة في مناقبهم.
قُسم الكِتاب، إذ ما استثنينا التقديم والتمهيد إلى قسمين: يحمل أولاهما عنوان "مداخل نظرية وتاريخية"، ويتضمن ستة عناوين تعرّضت تباعا إلى مناقب المنوبية وإلى الخوض في هوية مؤلِفها، وسياق ظهور النساء الصوفيات بإفريقية والغرب الإسلامي، وإتيقا الصوفية، وتحديد مميزات الأنوثة في الخطاب الصوفي، قبل التفرّغ للتعريف بالوليّة، ووصف عدد من المخطوطات المتصلة بسيرتها ضمن رصيد دار الكتب الوطنية بتونس.
أما القسم الثاني فقد خُصص من ناحيته لتحقيق متن المناقب وتضمن ستة فصول، أَلحق بها المحقق مختارات من المدائح المأثورة في سيرة الوليّة وشمائلها، فضلا عن الملاحق والصوّر والفهارس وقائمة المصادر والمراجع.
لم يتسم هذا التخطيط الثنائي بالتوازن، فقد شغل القسم الافتتاحي أكثر من مائة صفحة بينما لم يشمل تحقيق المتن المناقبي إلا نصف ذلك العدد، مما يدل على انزلاق في السهولة وتعويل على الحشو وتكديس المعطيات الجانبية والإيغال في الإنشائية والقفز من المعالجة الأدبية والحضارية إلى المقاربة التأملية الدينية مع ادعاء التوسّل بمناهج الفلسفة والتاريخ وغيرها من علوم الإنسان والاجتماع.
حسبنا التوغل في مضمون تلكم المقاربات المقترحة، لكي نتفطن إلى أن كتاب محمد الكحلاوي أحبولة مُضحكة مُبكية في قالب مُنْجَز معرفي رصين، وأن "المحقق" الذي يدعي التعويل على مقاربة تاريخية سياقية لهذا الأثر المناقبي، واعدا بـ"تجاوز السائد والمألوف" "ودحض آراء بعض المؤرخين" الذين اتخذ من أبحاثهم رقعة تصويب لا لشيء إلا لأنهم خالفوه الرأي، مصنفين بزعمه التصوّف الإفريقي، وبالتعويل على توجهات البحث الإستشراقي، في خانة "التصوف الطرقي" أو "التدين الشعبي"، من دون أن تكون لهم معرفة معمّقة وفي نباهته طبعا بالمتن المناقبي وبالإرث الصوفي الكفيل وحده بـ"فهم الدين فهما ذوقيا روحيا وإتيقيا أنطولوجيا مركزه الذات / الأنا"[كذا]. مُحيلا وإثر ذلك مباشرة، وفي تناقض مُلفت على أعمال واحد من أساطين الإستشراق الفرنسي في شخص "جاك بيرك" ليثنيَ على آرائه دون الاطلاع حقيقة على مضمونها، بخصوص محورية الانكباب على استنطاق متون مناقب المغارب بغرض استكشاف خصوصياته التاريخية وفهم تركيبته الاجتماعية وحساسياته الدينية وسجل تمثّلاته كما مستوى تطور الذهنيات السائدة داخله، واعدا في هذا الصدد بفتح ملفات شائكة بخصوص سيرة هذه الوليّة الصالحة، على غرار مسألة لقائها بالشاذلي واحتكاكها سلوكيا وذوقيا به، حاسما المسألة دفعة وما له من برهان على ذلك سوء الإشارة إلى أن مضمون حلقة الذكر الشاذلي بمقام السيدة وانتساب وكيل المقام حاضرا إلى الطريقة الشاذلية !
أما بخصوص التعريف بمنهج التحقيق فيعرض الباحث إلى النسختين اللتين عوّل عليهما، فضلا عن طبعة العربي الغربي لسنة 1926، ذاهلا عن الإشارة إلى بقية النسخ وخاصة تلك التي وظّفها في نسب تأليف الأثر إلى أبي العباس التادلي المغربي ونقصد النسخة المحفوظة بالمكتبة الوطنية تحت رقم 9646. وهو افتراض ساقه هشام عبيد ضمن أطروحته، معوّلا على اعتراف الناسخ بالنقل على "ديوان [كذا] الشيخ...التادلي"، مع الاستئناس في ذلك بما أشار إليه كل من بروكلمان ومحمد محفوظ. كما يضرب "المحقق" فيما عدا الإشارة إلى عنوان المرجع صفحا عن تقليب النظر في النسخ التي عوّلت عليها نيللي سلامة عمري في نقل هذا الأثر إلى اللغة الفرنسية والاستفادة من مقدمة عملها ومن الجهاز النقدي الذي توفر عليه، مما ينهض حجة على عدم اطلاعه على هذا البحث، فضلا عن تهافته الصارخ لما حكم بالظن على تصحيف بعض "المؤولين" للمناقب، والحال أن القائمة التي ألحقها بمتن التحقيق للنسخ المخطوطة المحفوظة بالمكتبة الوطنية لا تتوفر على كل نسخها، بما في ذلك النسخة رقم 8906 وهي عين الأثر الذي تم الرجوع إليه في نقل شذرات من سيرة المنوبية المناقبية، وتأوّلها بما يخدم الإشكاليات التي اشتغلنا عليها حال بداية اهتمامنا بالظاهرة الصوفية في بلاد المغارب وظهور باكورة أبحاثنا "أخبار المناقب" وهو كتاب مرّ على نشره اليوم قرابة العقدين من الزمن.
لا يبدو المحقق دقيقا في تأويلاته ومتمعّنا من دُفعاته بخصوص مختلف المسائل التي تناولها إلا فيما ندر من الحالات التي ليس من المغالاة في شيء تصنيفها ضمن قائمة "ما لطف ربك". فقد طغى على استدعائه للعديد من المصادر والبحوث المرجعيّة، المشرقية منها والمغربية، طابع القطع واللصق. ذلك أن معظم ما أورده في معرض ما وسمه بالقراءة التاريخية السياقية لظهور النساء الصوفيات مغربا أو لــــ"إتيقا الصوفية والأخلاق الاجتماعية" وكذا لموضوع "الأنوثة في الخطاب الصوفي"، لا يعدو أن يكون اجتزاء من مراجع أو مصادر معروفة، مع أخطاء أولية نتحفّظ على ذكرها في رسم الأسماء أو المصطلحات بالأحرف اللاتينية، ارتأى الكحلاوي ربطه بفقرة قصيرة في خاتمة كل فصل شكلت حجة الحسم في توفّر سيرة الولية على تلك القيم، وتعبيرا منه عن اتصافها ما تم عرضه من مآثر سامقة تحيل على سياق مغاير يبدو من دواعي الإسقاط ربطه ومن وجهة نظر تاريخية دقيقة بغير أرباب التصوّف الراقي للأفراد، مشرقين كانوا أم أندلسيين.
يتدرجّ "المحقق" على إثر ذلك إلى التعريف بسيرة السيدة المنوبية من وجهة نظر تاريخية، وكذا إلى الخوض في مميزات تجربتي التصوّف والولاية اللتين خاضتهما. يشير الكاتب عند هذا الحد إلى تعويله وبالإضافة إلى ما تضمنه متن المناقب، على البحث الميداني الذي أنجزته "كاتيا بواسفان سويد Katia Boissevain-Souid" ونشره معهد بحوث المغرب المعاصر IRMC سنة 2006: "وليّة بين الأولياء: السيدة المنوبية أو إعادة تركيب ثقافية لتونس المعاصرة" حتى وإن اتسم تعامله معه بكثير من الخلط سوى على صعيد نماذج البحث التي وظفتها الباحثة، أو حتى في فهم محتوى عرضها الأنتروبولوجي بالدقة الكافية أو المأمولة. كما استجلب عدد من الروايات الواردة ضمن أعمال الوزير السراج (الحلل) والباجي المسعودي (الخلاصة) وحسن حسني عبد الوهاب (شهيرات) وأحمد جمال الدين الخياري (بلوغ الأرب) ومحمد الحشائشي (العادات). وجميعها أعمال تفصلها عن حياة الولية أكثر من خمسة قرون من الزمن، وذلك بقصد التعرض إلى مسائل تتصل بتحديد موضع دفنها أو "قبر السر"، وبلدنية تكوينها وبلقائها بالشاذلي وسلوكها طريق الإرادة على يديه، مبررا ضرب المصادر المعاصرة أو القريبة من مرحلة حياة الولاية، وعلى غرار مدونات مناقب صلحاء مدينة تونس خلال العهد الحفصي الأول، صفحا على ذلك من قبيل ما وقع فيه الزركشي في تاريخ الدولتين من تغاضى عن سيرة الشاذلي، والحال أن مرد ذلك وفق ما سبق وأن قدّرناه، متصل بتأخر حصول التوافق بين جنحي التصوّف السني الـمُحتسِب المتمسّك بالأحكام الفقيه، والتصوّف القاعدي الـمُؤثِرـ للعادة والعرف، وهو ما لا يمكن ربطه إلا بمرحلة نهايات الدولة الحفصية واستقرار الحكم بيد الأتراك العثمانيين على أيام المراديين والحسينيين على وجه التحديد.
ويعود "المحقّق" مجددا وضمن عروضه المخصصة لتجربة تصوّف السيّدة، لإثبات شأوها السامق و"مرجعيتـ[ها] الفكرية الدينية العالمة" التي ذهل عنها البعض (وجميعهم في حصافته مؤرخين)، متناسيا في ذلك اتسام النص المناقبي بالتلفيق وقدرة واضعيه على المخاتلة الروائية، مع سبق إصرار وترصد لحدّ لهما.
المنوبية "شخصية مثالية...تكلمت في بطن أمها" رأت أنبياء التوحيد (موسى وعيسى ومحمد) وغيرهم من الأنبياء، ولقنها كبار الصحابة وأساطين الصلاح كالجيلاني والشاذلي. كما لقيها الخضر مرارا وتكرارا وواصلها وخطب ودها، بل وقلبها أثناء سياحتها العديدة داخل المجال الاعتباري المقدس للحاضرة الجديدة تونس، فأعرضت عن الصحبة متمسّكة بالتوحّد في الذات الإلهية، وهي التي خاطبتها وناجتها في الأرض والسماء، تأسيا بالحلاج ورابعة العدوية وعمر بن الفارض ومحي الدين بن عربي. وكفى بذلك حجة في اعتبارها "قطبة الأشراف" بل "سيدة الرجال". فتجربتها الصوفية على طريق الملامة يضارع مأثورها بلاغة الرومي في مثنوي والشيرازي في أريج البستان، بعد أن اعتبرت وهي على فراش موتها أن غياب القلب مُعدم للذكر باللسان.
ويرى "المحقق" أن تعارض الآراء حول تجربة السيّدة المنوبية الصوفية، وخاصة تحامل المؤرخين على غرار "ما ذهب إليه توفيق البشروش" وما صاغه لطفي عيسى من" كلام [كذا]" بخصوص شخصيتها القلقة وتصرفاتها المنفلتة بمقاييس المجتمع الإفريقي في غضون الفترة الوسيطة المتأخرة، تشكّل "رؤية وضعانية للتاريخ وللظواهر الدينية والروحية وللمقدس" في حق الأول، وهو أمر تفطنت له العروض التي صاغها زهير بن يوسف الذي رد تصرفات الوليّة إلى "السلوك العرفاني"، أو ابتسار "سيرتـ[ها] في محيطها الاجتماعي من زاوية معيارية أخلاقوية تصادر على المطلوب وتتأوّله تأويلا" [كذا] في حق "كلام لطفي عيسى" الذي لم يستسغ -بزعم "المحقق" دائما- فكرة الاختلاط والصحبة في الطريق، معتبرا أنها لا تشكل جرأة بل يحسن تأويلها على أنها ضرب من ضروب الانحراف. لأن صاحب نفس ذلك الكلام لا يريد غير المضمون الأخلاقوي المعياري هدفا لدراسته، والحال أن مقصد الوليّة الصالحة من الصحبة، البحث عن "إكسير الخلاص ومعراج السير إلى الله الذي حفظها [أو لنقل صراحة عصمها] في الدنيا من الآفات والمعاصي"، وهو على جميع ذلك ضرب من الفُتوة التي عرفتها سِيَرُ الجيلاني "فارس بغداد" و"رايس لبحار" أبو سعيد الباجي على سبيل المثال لا الحصر. وهو عين التأويل الصحيح و"تنوير الحق في التصوّف" بصيغة الإهداء التي حباني بها "المحقق"، مع"معرفةـ عميقة" (لا سطحية) و"وعي محايد بمدلول المصطلحات الصوفية".
ما بنا من رغبة في الرد على جميع هذه المزاعم التي لفقها المحقق بكثير من التنكر إلى أبحاث غيره، تلك التي وَجْهَت ذائقته توجيها، وغرف من معينها غرف حامل أوزار لا متدبر. ولكنّنا نريد مع ذلك تنبيه المقبلين على قراءة عمله إلى واحدة من سوءات جامعاتنا ووعيها الحزين حاضرا. فالأكيد أن حضور من هم على سجايا "المحقق" ضمن مشهد البحث الجامعي يشفّ على كارثية ما عاينته جميع مؤسساته بحكم تفشي المغالطة والمداهنة والتهاون، من تسوية إلى أسفل. فالبين أن صحابنا متعطش إلى انتزاع الاعتراف انتزاعا، حتى وإن لم يطرق الدور من أبوابها بل تأبط لخلعها حتى وإن وجدها مشرعة خاوية على أركانها، معوّلا على الغرف الموصوف والقطع واللصق، مع تعمد الإساءة للغير وعضّ الأيادي التي مدت لانتشاله من غياهب تزلف الساسة والتكدّي المزري بالمعرفة، مع الخروج بمضمون مقارباتهم عن سياقها الدقيق، باستعراضه مبتَسارا لا شهوة في الإتيان به غير المماحكة والسجال الأرعن.
لم يكتف الكحلاوي بالحصول على التقدير العلمي في الآداب والحضارة ترفّقا بحاله، وهو الوافد من كلية الشريعة وأصول الدين. ولم يكْفِه التشهير بسوءاته علنا وعلى رؤوس الإشهاد في سرقة موصوفة تسربت رائحتها العطنة قبل بضع سنوات، فخرج علينا بأعمال جديدة، لا يمكن أن تحجب أناقتها الشكلية حشوها بركام من المعطيات ليس لمن أشهر على أغلفتها "دكترته" في عملية عرضها على واسع القراء غير القص واللصق، هدفه من وراء ذلك الاعتراف بـ"شأوه الأكاديمي السامق" مع انكفاء أهله على الحقيقة، ومد بعضهم لحبل الوهم لمن هم على شاكلته، مصداقا للحكمة الأزلية "إن لم تستح..."، وَهْمُ مُزيَفِ العملة يوشك أن يلتهم صحيح النقد.

vendredi 16 septembre 2011

تونس ما بعد الثورة: راهنية النضال المدني ومأزق الانتظام السياسي مقاربة تاريخية





ليس من الهين وفي أعقاب الانقلاب الجذري الذي عاينته القيم الناظمة للفعل السياسي بعد ثورة قامت من أجل استرداد ما هُدر من كرامة أن يحدّد التونسي بوضوح وضمن واقع السجال الحامي والمحاذير الأمنية والاقتصادية التي تترصد البلاد الخط السياسي الذي يتعين عليه النضال من أجله. فبعد تسعة أشهر من حصول ذلك الصدع تفرّق التونسيون شيعا جاوزت المائة فرقة، ناكفت بعضها البعض عبر الاحتكام إلى جملة من التصورات والقيم والضوابط لا يفصل بينها عمليّا وفي تقديرنا الشخصي سوى الانتصار إلى المحافظة أو الدعوة إلى التحرّر.
يندرج هذا الإصرار على تعهّد مدلولي الأصالة والتفتح بإعادة التعريف في صميم الإرث النضالي التونسي سياسيا كان أم اجتماعيا، حتى وأن وجد نفسه اليوم أمام وضعية فارقة يتجاوز إطارها الواقع المحلي الضيق ليضرب للبلاد عامة موعدا مع التاريخ. وتُمثل الحرية وعمادها المواطنة القيمة المشتهاة تحت سمائنا، هذا الحلم الطموح هو ما راود التونسيين حال ظهور أول دساتيرهم في بداية ستينات القرن التاسع عشر وهو ذات الحلم الذي تضمنه دستور الجمهورية في أعقاب تصفية الاستعمار وإلغاء الـمُلكية عند موفى خمسينات القرن الماضي.
ولئن انخرط ما نعيشه اليوم ضمن نفس الأفق باعتبار إعلاء الاستحقاق الدستوري قصد تحديد ضوابط المنافسة وسقف الصراع أيضا بين مكونات المشهدين السياسي والمدني، فإننا نعتقد أن طبيعة المرحلة التاريخية الجديدة تقتضي الانتقال بالممارسة السياسية إلى أفق بديل يلغي الشرعية عن جهاز الدولة خارج إطار ضمان الحريات الفردية.
وللمرء أن يتساءل في ظل تصحّر المشهد السياسي التونسي منذ موفى ستينات القرن الماضي عن مشروعية الدعوة إلى إنجاز نقلة في الممارسة السياسية، والحال أن استبطان الحداثة لا يزال حكرا على غرب جحود ومتغوّل. إلا أن مثل هذا الاستفهام لا يصمد أمام التحولات السريعة الناجمة عن الحدث الثوري التونسي واستتباعاته عربيّا وكونيا. فالبيّن أن رعاب الدولة أو "فوبيا" الدولة، ومدلوله الدقيق الخوف من تعاظم هيمنة هذا الجهاز وانتزاعه لحرية الأفراد قد طال مجالا جغرا-سياسيا ساد الاقتناع غربا ولزمان بعيد أنه غير مؤهل للعيش خارج وصاية دولة الاستبداد الشرقي ذات النوازع الباتريمونيالية الصارخة، لذلك فإن ما نعيشه اليوم ضمن المجال العربي عامة يؤشر بطريقته الخاصة عن الصعوبة الحقيقية التي تصادفنا في تعريف مدلول الشرعية وممارسة الحكم، وهي صعوبة لا يمكن أن لا تذكّرنا بما جد خلال القرن الثامن عشر أوروبيا لدى تزايد الخوف من الحكم المطلق كشكل مرضي لممارسة السلطة السياسية، وكذلك الأمر حال وضع الحرب العالمية الثانية لأوزارها وتزايد الوعي دخل العالم الحرّ بضرورة القطع مع الكليانية في تمضهراتها المتعدّدة، فاشية كانت أو نازية أو ستالينية.
يحيل المجال التونسي، وهو إطار جغرافي لم يكن وعلى وضوح حدوده وبداهة الاستناد عليها حاضرا، بتلك الصفة حتى بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر موعد ظهور أول تمثيل خرائطي للبلاد التونسية، وهو تمثيل شكّله منجز القبطان الفرنسي "بريكو دي سانت ماري Pricot de Sainte-Marie" سنة1857،
على مدلول التَوْنسة، وعلى تساؤلات تتصل بمضمون الثقافة المادية وبطبيعة الحساسيات الفكرية والعقدية أو الروحية. كما أن التدقيق في خصوصيات ذلك المجال الجغرافي يحيل بالضرورة على خصوصياته الطبيعية (التضاريس والمناخ والنبات والحيوانات البرية والبحرية والمخزون المائي والمنجمي والطاقي والمزروعات والمنتجات الفلاحية) وعلى الإرث البشري المتصل بتاريخ التعمير وبمختلف الحضارات التي تعاقبت على ذلك المجال الجغرافي والتي شكلت منجزاتها المادية والفكرية والفنية ذائقة كبار أعلامه من ماغون Magon صاحب كتاب الفلاحة، وأبولي Apulée مؤلف كتاب المسوخ أو الحمار الذهبي، وسانت أوغستان Saint Augustin واضع كتابي مدينة الله والاعترافات، إلى خير الدين مهندس أقوم المسالك، وإتحاف أحمد ابن أبي الضياف، وتحرير محمد الطاهر بن عاشور وتنويره، وسد محمود المسعدي وتأصيل كيانه، مرورا بمدونة سحنون، ورسالة ابن أبي زيد، وموافقات الشاطبي، وعبر ابن خلدون، وتفسير ابن عرفة ومختصره.
بلورت هذه الخصوصيات مادية كانت أم لا مادية إشكالية حارقة لا تزال تعتمل بضراوة، مشكّلة ما قد تستقيم تسميته بشخصية التونسيين الأساسية أو رصيد مخيالهم الجمعي. وتتلخّص تلك الإشكالية في العلاقة التي تربط مُحدث التونسيين بقديمهم. فقد خضعت العلاقة بين مختلف مركبات النسيج الأثني والاجتماعي التونسي إلى حضور صراع بين جناحين متباعدين، إن على صعيد التصوّر أو فيما يتصل بالمنجز الحضاري. فبينما يبدو أحد هذين الجناحين حريصا على التواصل مع التقليد منصاعا إلى موروث السلف الموسوم بالانغلاق والتحجر، يبدو الثاني مدفوعا إلى الانقلاب على رتابة تلك التقاليد عاملا على جَبِّهَا حتى وإن دفعه ذلك التصرّف إلى الانزلاق في التفسخ وتلمظ مرارة الاغتراب.
ليس هنالك من مجال للفعل بالساعد كان أو بالفكر، إلا وقد لوّنه ذلك الصراع بين هذين الجناحين، فـ"البرانس" من البربر الأفارقة قد تهيّبوا من هجمات "البتر" المتنقلين، والمدرسة المسيحية الإفريقية قد واجهتها نحلة المزارعين "الدونتيين"، وأهل السنة المالكية قد عانوا انتفاضات الخوارج ومحن "أهل التشريق" من الفواطم أيام حكم العبيدين والزيرين، وإسلام "أهل الحق والجماعة" المنسوب إلى المالكية قد ورّطه إسلام أرباب الولاية والصلاح الموغل في حسيّة نزقة منفرطة.
والبيّن أن تراجع العصبية بعد استكمال القبائل العربية الوافدة على البلاد التونسية لاستقرارها في حدود القرن السابع الهجري/ 13م ، قد عوّضه الولاء على إثر الضربات الموجعة التي كالتها لها دولة "المخزن" (عنوان السلطة داخل مجال المغارب منذ حكم الموحدين) لذلك التجاء الملك إلى “الجاه”وهو في تعريف ابن خلدون: “القدرة الحاملة للبشر على التصرّف في من تحت أيديهم من أبناء جنسهم بالإذن والمنع والتسلّط بالقهر والغلبة”، مما أكسب صاحب الملك إحساسا بالجلال، وزاد في اعتقاد الكافة من رعاياه أن كل مقرّب من جلال الملك حاصل بالضرورة على منتهى الكرامة والمجد. فـــ”فاقد الجاه [وفقا لمنطوق البيان الحلدوني ]وإن كان له مال…يسير إلى الفقر والخصاصة ولا تسرع إليه الثروة وإنما يرمق العيش ترميقا”.
هذا التمثّل الـمَرَضِي لتغوّل الملك المسنود بالجاه هو ما يفسر في تقديرنا تحوّل مجال السلطة السياسية إلى بؤرة ضوء مُشعّة شكل القرب منها على الدوام وعدا صريحا بموفور العزة وواسع الثراء في ثقافة المغاربة السياسية، سواء ضمن التجارب المتعاقبة للسلالات التقليدية الحاكمة أو حتى في العديد من تجارب الدول الوطنية الحادثة بعد تصفية الاستعمار.
كان واضع "تاريخ العبر" على يقين من أن مجال التجديد قد فارق حضارة العرب بعد دخولها مرحلة الانكفاء والتراجع والانحدار منذ القرن الرابع عشر الميلادي، لذلك عمد إلى تشخيص الخلل وتحديد الأسباب التي أدت إلى انقلاب الأوضاع من خلال حوصلة أحداث الماضي واستنتاج ما حوته من عِبَرٍ، شكلت الأنساب، وأنواع المعاش، وكيفية التداول على الملك، واحتكار الوازع والجاه، العناصر الناظمة لها. فقد تم تشغيل الملك كمحور للحراك السياسي يحدّد تداول الأمم للوازع، ذاك الذي ارتهن في ذهن ابن خلدون بالحفاظ على قوة العصبية واحتكار الجاه بغية النجاح في الاضطلاع بدور الوساطة بين نظامي العمران البدوي والحضري.
حمل "إتحاف" ابن أبي الضياف صدى غير خاف لمختلف هذه التوجهات، ذلك أن ما سماه هذا الأخير بـــــ “رياح الوطن” قاصدا بذلك “الوطن التونسي” و”القطر التونسي” و”أرض تونس” وهي تسميات تكرّرت في الإتحاف، هو ما دعاه بعد أن استوفى صياغة لوائح وبنود الدستور إلى التصدي لمشروع مدونته التاريخية التي امتدت عملية تحريرها على عشر سنوات بالتمام والكمال (1862 – 1872). حيث بسط المحرّر القول في ما حرّفته الأقلام المأجورة بخصوص مسار تقييد الملك بقانون ضمن تجربة أمراء السلالة الحسينية بتونس.
شدّد صاحب الاتحاف على ضرورة مراعاة ما أسماه بــــ”حال الوقت” في مسار التدرّج في تطبيق “نظام الملك المقيّد بقانون” ناقلا عن ابن خلدون حججه في التمييز بين الخلافة والملك، مجيزا “الإنكار” وهو في راهن مدلوله حق إبداء الرأي في جميع المسائل المتصلة بالشأن العام عبر المشاركة في عضوية المؤسسات التمثيلية، معتبرا إهمال المسلمين لذلك سببا من أسباب ترديهم، رابطا بين ما نعته بـــ”الملك المطلق” المخالف للشرع والحكم القهري كما وصّفه البيان الخلدوني، ذلك الذي تتسع معه رقعة البداوة وتزول به فضائل المواطنة من نفوس الرعايا.
ولئن لم يشر مدلول الوطن بالقياس لمدلول الأمة في آداب المسلمين إلا لمكان الولادة ولم يتم تعقّل مصطلح “ثورة” كذلك إلا بمعنى الفتنة والفوضى والتقاتل نظرا “للبلبلة العظيمة” التي أحدثتها الثورة الفرنسية من منظور كثير من مصلحي البلاد العربية، فإن الحاجة إلى ذلك الإصلاح هي ما أعطى للانتقال التدريجي غير العنيف مكانة أرقى في ذهنيات النخب المتعلّمة المستبطنة لمدلول طاعة السلطان وخدمته بالمقارنة مع تهيبهم من معاضدة جميع أشكال التغيير الجذري أو العنيف. وهي أفكار يسهل العثور عليها لدي عدد من مؤرخي المشرق والمغرب ممن شكّلت تجربة الكتابة لديهم صدمة حقيقية وانسلاخا عن الاكتفاء بمتاح الفكر التقليدي، تشوّفا إلى إعادة امتلاك مقوّمات تفكير النهضة الأوروبية على غرار "عجائب الآثار" لعبد الرحمان الجبرتي (1753 – 1825) و"الاستقصاء" لأحمد بن خالد الناصري (1835 – 1897) على سبيل المثال لا الحصر.
والبيّن أن التصوّرات التي تضمنتها “مقدمة” الإتحاف الطويلة لم تشذّ عن هذه التوجهات، فقد التزم ابن أبي الضياف سواء من خلال تعريفه أو مناقشته لما أسماه بـــ “أصناف الملك في الوجود” بمبدأ توافق ما ندبه من الإصلاحات السياسية مع مبادئ الشريعة الإسلامية، متهيّبا من مغبة التعبير عن أي تصادم مع مقاصدها. فقد قسم ابن أبي الضياف الوازع ومعناه القوة الرادعة أو الغلبة إلى خلافة وملك، معتبرا أن “أصناف [هذا الأخير] في الوجود لا تتعدى أنماطا ثلاثة
ويعتبر مؤلف الإتحاف ضمن تعريفه بأصناف الملك في الوجود وهي: “الملك المطلق، والملك الجمهوري (وهو لَبْسٌ مقصود تحاشى من خلاله المؤلف التصريح بمعقولية وجود حكم جمهوري يكتفي بذاته عن اشتراط حضور خليفة)، والملك المقيد بقانون شرعي أو عقلي أو سياسي، أن “طباع الاستبداد” منافية “لإمكان التغيير” مما يستوجب شرعا وعقلا مجابهتها بــــ”الإنكار” و”المنع” دون حاجة إلى الدخول في الفوضى أو التعويل على العنف. كما يفرّق في حصول الجور بين “اليد المبسوطة التي لا تعارضها القدرة” في ظلم السلطان للرّعية، وبين “استعمال الإخافة لأخذ الأموال من قبل أهل الحرابة والعدوان”، لأن “المدافعة بيد الكل موجودة شرعا وسياسة”، في حين أن لجوء الحاكم إلى “العدوان على الناس في أموالهم ذاهب [مثلما بيّن ذلك صاحب تاريخ العبر] بآمالهم في تحصيلها…فإذا ذهبت…انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك…وقعد الناس عن المعاش وكسدت أسواق العمران…وهو القدر المؤذن بالخراب”. لأن ذلك يجعل أهل الخيام أكثر تهيبا من بناء المساكن وغرس الأشجار ومجاورة المياه والتخلّق تبعا لذلك بطباع التوحش المنافي للعمران، علما أن شدة التعدّي والقهر في جباية المال يفضيان إلى نقص في “الكماليات الإنسانية” لدى الرعايا، فينسلخوا عندها من طباع الأحرار وتنتفي عنهم الشجاعة والإباء والمروءة وحب الأوطان والغيرة عليها.
ولئن بدا لنا صاحب الإتحاف مدركا للتصوّر الخلدوني بخصوص الدورة الطبيعية لحياة الدول، وفاهما لعلاقة قيامها بالغلبة والعصبية، وآليات انهيارها المشدودة إلى إضعاف تلك العصبية قصد الانفراد بالمجد وانقطاع كل أمل في اكتساب الجاه خارج المحيط القريب من الملك، فإن مثل تلك الدورة المؤسِسَة لا تصح من وجهة نظره في غير سلاطين المسلمين، لأن دول الفرس أو ممالك النصارى وفق تعبيره – تلك التي “وقف ملوكها عند حدود العقل”- غالبا ما امتدت حياتها على مدى قرون متعاقبة. وهو ما ينهض حجة على أن قراءة ابن أبي الضياف لمساوي الإطلاق في الحكم لم تكتف بترديد قوانين العمران كما تفتقت عليها عارضة ابن خلدون، بل حاولت اختبار مدى إجرائية تلك القوانين في ضوء طارئ مكتسبات عصر النهضة ومقتضيات الإصلاح السياسي، الأمر الذي سمح له بتجاوز مدلول الشرعية المبني على الغلبة المعتضدة بالدين، معتبرا وفي إلماع ذو دلالة بليغة أن التمادي في الجور مؤذن بإلغاء الحاجة إلى الملك.
أما الدساتير أو القوانين فمعتَبَرة بما يُقصد منها من ترتيب الأمور، وهو أمر شدّدت عليه شهادات غيره ممن أسعفهم الحظ بمعاينه أوضاع ممالك الغرب المتطورة وتدوينها على غرار الشيخ رفاعة الطهطاوي والمصلح خير الدين. ولعل أبلغ ما تم إيراده بهذا الصدد هو الدعوة إلى التدرّج في سن القوانين تحقيقا لمقصد العدل، تأسيا بالخطط المتّبعة من قبل الدول القوية عبر التمسّك بالاستقامة وتوسيع دائرة العيش بإقامة المعامل والزيادة في الإنتاج وفتح باب المتاجرة بعد تأمين مسالكها البرية والبحرية والحديدية. ويسوق ابن أبي الضياف من بين الشروط الجديدة لشرعية الفعل السياسي وجوب تأسيس مجلس نيابي يتمثل دور أعضائه المنتخبين بالاقتراع في “الوكالة على العامة حفظا لحقوقهم الإنسانية بغير خروج عن الطاعة”، معتبرا أن صلاحيات أعضاء هذا المجلس بمقتضي شرعية التوكيل الذي بين أيديهم مُساءلة سلطة التنفيذ التي يمثلها الوزراء وبقية الفاعلين السياسيين. لأن الممالك “لا تكون على نهج الاستقامة إلا إذا كانت الدولة طالبة ومطلوبة”، والدولة المقيدة بقانون “طالبة لما لها من الحقوق الملكية ومطلوبة بما عليها من الحقوق القانونية”.
والمهم في جميع ما ذُكر هو التفطن إلى انعكاس هذا التجاذب بين التمسك بالقديم والإقبال على المحدث عبر استحثاث نسق الإصلاح، أو انطباعه على مؤسسات التحصيل المعرفي التونسية المنتجة للنخب السياسية أو العالِمة. فقد بدا وضخا منذ أواسط القرن التاسع عشر أن التعليم الرسمي الزيتوني قد اختُرق من قبل روافد عدّة تزايد تأثيرها بعد طي تجربة المدرسة الحربية بباردو سنة 1864 وإنشاء المدرسة الصادقية سنة 1875. كما زاد الحضور الاستعماري الفرنسي في حدة تلك المواجهة بعد مؤازرته تأسيس جمعيتي الخلدونية سنة 1896 وقدماء المدرسة الصادقية سنة 1906، فضلا عن توفير معهد كارنو الموسوم بالفرنسة فرصة للمتخرجين منه والحاصلين على شهادة الباكالوريا لاستكمال التكوين المتخصص بجامعات ومعاهد دولة الاستعمار .
طال ذلك الصراع بين قديم ومحدث الواقع الحركة الوطنية من خلال انقسام حزب الدستور بعد سنة 1934 إلى تنظمين متباينين تمكن أحدهما من التغوّل على حساب الآخر، مشكلّا وبالتدرّج قطب جذب لم تستطع مختلف ألوان الطيف السياسي والنقابي والحقوقي والنسوي بل والثقافي التونسي الخروج عن تأثيره سلبا وإيجابا على مدى الثلاثة أرباع قرن الماضية.
فالقراءة المتأنية في سير غالبية الفاعلين السياسيين والنقابيين والطلابيين والكشفيين والثفافيين وغيرهم، سواء خلال فترة الكفاح ضد الحضور الاستعماري أو حال انبثاق الدولة الوطنية واحتكارها لتصريفها الشأن العام، تكشف بيسر عن هيمنة حزب الدستور، الذي انصهر بعد الاستقلال مع الدولة، عامدا إلى توظيف شرعيته النضالية لتبرير إخفاقاته السياسية والاقتصادية على مدى خمسة عقود من بناء الدولة الوطنية.
ومهما يكن من أمر فإن حصول حدث الثورة واندراجه ضمن ذاكرة التونسيين الحية كمفصلة زمنية فارقة وانكشاف السيناريوهات المتاحة وتحوّل القصبة إلى بؤرة للضغط على بقايا النظام السابق بتعالي الأصوات الداعية صراحة إلى ضرورة القطع معه حسا ومعنى، هو الذي جعل جانب كبير من الفاعلين السياسيين يدفعون باتجاه استكشاف ما احتفظت به مؤسسة الدولة البورقيبية من رموز بعد اختبار القابل منها للاحتفاظ به قياسا لمن جاوزته الأحداث وأبلاه التقادم. ويعكس هذا التوجه الذي انطوى على قدر غير خافي من الحسّ السياسي العملي بالنظر إلى طبيعة التجاذبات المكتومة التي أفرزته، محورية الترميز في استعادة حد معقول من شرعية الفعل السياسي. إذ كشفت عودة السياسي بعد الإسراف في إقصائه عن حاجة إلى إعادة موقعته بشكل صحي، حتى وإن لم يخل ذلك من وعي بكارثية فراغ الساحة السياسية، دون القدرة على استيعاب السياق التاريخي الذي أدى إلى حصول مثل ذلك الضمور المفزع.
فقد حملت عودة السياسي إلى الصدارة في طياتها ذاكرة الممارسة السياسية تلك التي شملها التدوين، وهو دلالة بليغة عن حضور الفعل وانطباع صورته في ذاكرة من أنجزوه، مستأنسا حضور عبرة ما في العكوف على التدوين أو الانقطاع إلى النقل. وهو أمر بالغ الأهمية يؤشر الحرص على إتمامه على حضور إدراك لقيمة ما انطوت عليه التجربة الشخصية، وكذا الفائدة المنتظرة من تحويلها إلى متقاسم جمعي. (تنخرط مذكرات الوزير الأول الحالي التي تحمل عنوان "الأهم والمهم"، وهي الترجمة العربية لكتابه المنشور سنة 2009 باللغة الفرنسية la bonne graine et l’ivraie ترميزا على التفريق في الفعل البشري بين الخير والشر، ضمن أدبيات الفاعلين السياسيين البورقيبيين).
ومثلما كان مأمول فإن الوقْع الايجابي للاعتراف بمحورية الثقافة السياسية في تسهيل تصريف الشأن العام قد ولّد الإجماع من رحم الفوضى، وأكسب الممارسة السياسية أفق واسعا لم تفلح عقلية الانقطاع المكدود إلى العمل بتنويع الخطط الاقتصادية وحث نسق بعث المشاريع الجديدة بل والضخمة في تحقيقه.
نزعت ذاكرة الممارسة السياسية في إعلانها عن نفسها إلى تعْليم (والمقصود وضع علامة طبعا) مجال الخطاب السياسي باستعراض جملة من الأخبار تحمل مواعظ غير خافية عن كل أذن منصتة وعين بصيرة، وتبدو الاستعارة المعلِّمة للخطاب السياسي الرسمي حاضرا مشدودة ومع تمسّكها بموفور سجل التقاليد قرآنية كانت أم وضعية، إلى إعادة موضعة موقع الفرد في علاقته بالفعل السياسي.
فهل نجن إزاء عودة السياسي من بوابة الخطاب الوطني كما أرسته التجربة السياسية البورقيبية في إصرارها على إعلاء القيم الفضفاضة للوطن عن جميع ما هو سواها؟ أم أن الإيماء بالتمايز مع تلك المدرسة السياسية المجدِّدة من خلال الاعتراف في أكثر من مناسبة بالتوفر واقعيا على حدّ غير قليل من “نكران الذات”، تلميح ذو دلالة بليغة على تبدّل الأحوال وإدراك صحي لمسار الشعوب كما الأفراد المضني على درب التحرّر من ربقة المواضعات المفروضة الممثِلة بزعم مروجيها لوجهة نظر الجماعة أو الأغلبية صامتة كانت أم ناطقة؟
إن ما دفعنا حقيقة إلى استحضار جانب من الواقع المعقد للساحة السياسية التونسية حاضرا هو علاقة مختلف الفاعلين ضمن مشهدها المتعدد المشارب بالخطاب السياسي، من بوابة استعادة استكشاف موقع الفرد ضمن الفعل الجماعي. فخلال سنوات الاستقلال الأولى وحتى نهاية التجربة البورقيبية لم يكتب لما تمت مراكمته من تجارب - على قيمة ما أنجز بهذا الصدد- أن يتجاوز ومن منظور أفق التعبير عن الفرد، مستوى التشديد على تأصّل تقاليد المركزة السياسية من خلال ديمومة حضور جهاز الدولة وتعرية التوجهات الاستعمارية بالكشف على تهافت إدعاءاتها بخصوص سيطرة الطابع البدوي على التنظيمات الاجتماعية أو تعارض تعاليم الديانة الإسلامية مع مقتضيات الحداثة. لذلك تم التشديد سياسيا – وكما كان متوقَّعا- على ضرورة استعادة الدولة لهيبتها، حتى وإن لم يشكّل توافق الفاعلين حول مثل تلك الحاجة خروجا فاضحا عن ضوابط العلاقة التي ربطت بين المثقف ورجل السياسة كما أفاض في تحديد مقتضياتها علم الاجتماع السياسي.
على أن ما عاينته الساحة العامة منذ موفى الستينات من استقطاب بين بالفاعلين المدنيين ممثلين في مناضلي الحركات الطلابية والنقابية والحقوقية (وخاصة النشاط الرابطي والنسوي)، وبين الفعل السياسي الموسوم بالاستبداد والإقصاء الممنهج على مدى خمسين سنة، هو ما لوّن في تقديرنا الشخصي عشريات سنوات الجمر السياسي، محوّلا النضال المدني إلى رهان حقيقي، ومشكلا تجاوزا متميزا لمأزق الانتظام السياسي تونسيا. حتى وإن أدى ذلك التركيز على سجل الفعل المدني أكثر من أي شيء سواه، إلى إكساب مسألة "النضالية" بعدا جماليا يرفض أصحابه تحوّل النزول إلى الساحة العامة إلى ممارسة استعراضية مفصولة عن الواقع وليس لها من غرض سوى مزيد التسوية إلى أسفل. وهي حقيقة لم يكن أصحاب القرار السياسي والمحتكرين لصنعه تونسيا وحتى حصول الحدث المفصلي للثورة، ذاهلين عن أهميتها اعتبارا لموقعة الخطاب الرسمي - على إغراقه في الخشبية - ضمن إحداثيات نوّهت تضليلا بفتح مجال الحريات ودعم ثقافة حقوق الإنسان وصون المؤسسات والدفاع عن كونية القيم، مع أخفاق صانعي ذلك الخطاب والمروّجين له في التفطن إلى كارثية الهوة التي فصلتهم فكرا وممارسة عن معاني ذلك الخطاب، وتعطيلهم الصارخ وعبر تشغيل آليات “مخزنة” مستنسخة وانتهازية مَهِينَةٍ لتجدّد النخب السياسية سواء من داخل الجهاز الحاكم أو حتى من خارجه، بحكم الإسراف في التسلّط والمراقبة اللصيقة والوصاية السافرة.
هذا الواقع هو الذي تبدو عناصره وفي غياب أفق يعيد للخطاب السياسي ألقه الإنساني كما صاغ أسسه الاجتماع البشري غربا وشرقا، عصيّة على الفهم. وفي انتظار حصول ذلك فأن طبيعة المشهد السياسي التونسي ستبقى مرشّحة في غياب الحاجة إلى المراجعة أو المحاسبة الشخصية، وابتسار الفعل السياسي وثقافته في تشغيل آليات التخوين والتذنيب واستسهال التعويل على الإثارة الرخيصة، للوقوع في المزايدة والدفع باتجاه الانقلاب على إمكانيات التوافق المعترِف بالطابع الصحي للصراع consensus conflictuel وفقا لعبارة ميشال فوكو الرائقة، وتحاشي السقوط في المواضعات التوافقية les inerties consensuelles رغبة في التموضع ضمن الصفوف الأولى تحفّزا للاستفراد بالفعل والقرار السياسيين.
أليس في مشهد على هذه الشاكلة عبرة تُستجلى مؤيدها أن السياسة في المقام الأول مدرسة للسلوك العملي تكمن عبقرياتها بامتياز في استبطان عميق لثقافة المسائلة حال التصدر لتصريف الشأن العام، بفتح طريقا سالكة لفهم نفسيّة الأفراد استكشافا لما يعتمل في خلد “نحنهم الجمعي”، واستحثاثا للقبول بالحلول التوفيقية بالتعويل على التبسيط والتكرار وسعة الصدر. إنه فن الممكن يسوس الكافة للقبول بناقص الفعل البشري، مع اعتبار السعيّ للاحتساب أو طلب المستحيل مؤشِّرا بليغا على نقص شخصي بل وقلة نجابة في فهم المخاوف واستباق خروجها بالتعاظم عن الضبط.
وهكذا يتبين لنا إجمالا بإن توافق مختلف الفاعلين المدنيين والسياسيين على الاحتكام في الصراع إلى انتهاج الأشكال السلمية المتحضّرة، هو الكفيل وحده بتعديل التجاذب بين مختلف المتدخلين أو الفاعلين بوصفهم مواطنين مسئولين، وهو الطريق السالكة على درب ممارسة تعددية سياسية ومدنية حقيقية تُحتَرم ضمنها قوانين اللعبة الديمقراطية. فالتجاذب الدائم بين المقترحات المتعارضة للفاعلين ضمن هاتين الساحتين هو عماد الديمقراطية التوافقية التي تعتبر أن الغرض من الصراع هو بناء حياة مدنية فعلية سواء داخل الهيئات التمثيلية أو ضمن الإطار الموسّع للحياة المدنية.

dimanche 11 septembre 2011

حدائـق خـلـفـية

هناك ضمن ما نكتب نصوصا يمكن ربطها بما قد تستقيم تسميته بالجانب المطل على الساحة، وهي تسمية تشير في الأصل إلى الجانب الأيمن لقاعة العروض في التقليد المسرحي الفرنسي، ذاك الذي يقابله يسارا الجانب المطلّ على الحديقة، والقصد منه حديقة القرميد أو التويلري التي استظافت العروض المسرحية المخصّصة للأسرة الحاكمة وحاشيتها بالبلاط الملكي. الطريف في هذه المسألة، اصطلاح الممثلين على تسمية هذا الجانب الواقع على يسار المتفرج تحديدا وفي استعارة بليغة بـ"جانب القلب" . حدائقي الخلفية ليست مُطلّة على ساحة الجدل العام، بل مجاورة للقلب، منصتة في غير استعراضية فجة عارية عن كل رغبة في إنتاج المعنى، لخلجاته. ما الذي يزيد في نبض القلب ويسرّع دقاته غير الكلف بوجه المعشوق إذ تبدّى لناظره، فيما عدا الشعور بنفس الاحساس الـمُشرَب بذات المعنى في استكشافنا لخفايا الوجود؟ ولأن إدعاء القدرة على عدّ تلك الاستجابات ينأى عن دعاوى الحصر، نكتفي هنا بما يشغل القلب منّا دون سواه، آملن أن توافق الشواغل هوى في نفس من يبتغي مرافقتنا. أما من لا تستهويه المغامرة، فالأمل أن يجد مبتغاه في الجانب المقابل من نصوصنا، وهو الذي قصرناه على الشواغل المشتركة لا الحميمة، وإلا فللمعنى مظان متعددة يمكن للسالك أن يقصدها متى صحّ العزم منه على معانقتها أو شد الرحيل إليها.



الحب المستحيل أو استكشاف الأبدية:



أولى حدائقنا إغريقية تأثثها سيرة "أورفى" الأسطورية. فقد أشارت الحكاية إلى أن تلك الشخصية المتحدرة عن كلف ملك تراقيا بوالدته المزواجة، ملهمة الشعر الملحمي كليوب، هو السبب في افتتانه بالعزف وبث الانجداب لما يصدر عن أنامله في تحريكها البارع لأوتار القيثارة بين وحوش الغاب وأشجاره وصخوره الجامدة. تبدو تلك القدرة الخلاقة واقدا دفع بالإله أبولون المولّه هو أيضا بجب والدته إلى إغداق الهديا عليه تقرّبا منها، على غرار قيثارة السبعة أوتار التي وصله بها والتي ضم إليها أورفي وترين قبل أن يسافر في البحر مع النوتية المغامرين من الأرغونوت، ليشاركهم بحثهم المحفوف بالمخاظر عن "الجلد الذهبي". فقد تكفل شدوه بشحذ عزيمة المجدّفين وتمكن سحر صوته من التغلب على فتنة أصوات عرائس البحر الآسرة وبلوغ مصر، ثم العودة مع نهاية تلك الرحلة المضفرة إلى بلاد الاغريق قصد الاستقرار بمملكة والده تراقيا.
يشكل حفل زفاف أورفي بجنيّة شجر الفلين أورسيد وفاجعته بفقدانها بعد أن أصابتها لذغة ثعبان في مقتل وهي بصدد الهروب من إغراء عشيقها والمنافس على خطب ودها أريستي، واقعة فارقة في حياة أورفي. فقد رفض الانصياع لحكم القضاء والقدر ولم يقبل بمرارة الفراق الأبدي، مُقدِما على المخاطرة بحياته من خلال النـزول إلى الأسافل حيث عالم الظلمة القاتمة وفناء الجحيم. لم يكن سلاحه في هذه المغامرة الماورائية غير ما كان يصدر عن أنامله من عفي النغمات، فقد أسرت موسيقاه حارس بوابة الجحيم وكلبها ذي الثلاثة رؤوس، كما رقّ لخطبه قلب زبانية الجحيم، فسمحت له وعلى عكس العادة بالاقتراب من إله الموت "هاديس" ومن خليلته "برسفون" تلك التي أنصفت أورفي مُقنعة خليلها بعدم الاعتراض على عودة "أورسيد" إلى الحياة ووضع حد لشقاء أورفي المعنىّ بحبها، تماما مثلما قبل تضرّع والدتها "دمتار" في إفناء كل حياة على وجه الأرض حال قضاء ابنتها كامل الشتاء بجواره، ودبيب الحياة فيها من جديد بعد انقضاء شهور الفصل البارد المؤذن بعودتها إلى حضن والدتها.
لقد قبل إله الموت خروج "أورسيد" عن عالم الجحيم ولحاقها بمحبوبها، شارطا أن لا يُلقي أورفي نظره عليها قبل أن تغادر تماما عالم الظلمة والفناء وتدخل عالم الشهادة والناس، وهو العارف بأن وَلَهَ المتيم الممزِق لأستار الموت لن يسمح له باحترام ما ألزم به نفسه من مهلِك التعهّدات. فما إن تبين لـ"أورفي" قبس من نور الحياة حتى استدار بنظره للتأكد من وجود مطلوبه وملئ أحداقه بجمال رفيقة دربه الأخاذ. ولم يكد يفعل ذلك وتمتد راحتها لتمسك بيده حتى لفّها الفراغ وانكفأ البصر منه خاسئا ذليلا.
لم يجد "أورفي" في مصابه بعد أن انقطع به حبل الامل في رجوع من أحب إلى الحياة، أي عزاء. فانتابه عندها حزن أخرجه من عالم الشهادة والناس وفصله عن متع الحياة. ولئن اختلفت الروايات حول حقيقة نهايته المأسوية، فقد أصرت الأسطورة على أن حواريات إله الخمر دينوسوس وسدنة طقوس عبادته هن اللاتي مزقن جسده إربا انتقاما منه على بقائه وفيّا لحب معشوقته. فقد عمدن إلى إلقاء رأسه في النهر حتى جرفته مياهه حيث جزيرة الشعر لزبوس. ورقّت لمأساته الملهمات، فجمعنا ما تبقى من أشلائه ودفنها عند سفح جبل أولمب. وتصرّ نفس الأسطورة إلى أن الرأس منه يصدر عنه وهو في الرمس أحيانا شدو فاتن مهيب، يذّكر الجميع بنشيد المحبة الذي لم يبخل هو بحياته من أجل إعلائه، فمنح ذاك النشيد لاسمه تعطُّفا الاندراج بأحرف بارزة في سجل الأبدية.
والمهم بعد هذا العرض السيري لمضمون الأسطورة التنويه بتشكّل تيار فلسفي ديني حول هذه الواقعة، ارتكز على توجه سلوكي يطلب الترقي بالتعويل على إثمار أنموذح مغامرة أورفي المواجه لآلهة الموت والجحيم، المتطلّع إلى كشف أسرار الحياة وأسرار ما بعد الوجود. فحتى وإن بقيت أسطورة "أورفي" غامضة سحيقة، فقد ساهم نزوله إلى الأسافل مغالبة للأقدار وبحثا عن استعادة معشوقته، في بروز عقيدة دينية سلوكية تطلب الخلاص للأرواح التي كانت عرضة للسقوط في ذنب بشريتها الأصلي، حاكما عليها بالانخراط ضمن دورة العود الأبدي أو الانتساخ الذي يحول بين الروح وإصابة الانعتاق من أصفادها، والذي لا يقترن فيها البشري بالمقدس إلا عبر الاقتداء بتجربة السلوك وهي تجربة نَسَبَت الأدبيات الشعرية الهلينستية أو الافلاطونية الجديدة مبادئها إليها.
يندرج الفرد بمجرد الولادة ضمن إطار الديانة الاغريقية المدنية، غير أنه لا ينتسب إلا اختيارا لمنظومة الترقي السلوكي الأورفية، لذلك يأخد مدلول التدين معنى محدثا يحيل بالأساس على السجل الشخصي لا الاجتماعي. فالاورفية لم تكون بالمرة مجموعة دينية منتظمة داخل العالم الاغريقي، إذ أنها غالبا ما عرضت نفسها وفق ما اثبتته الشهادات الأدبية المتباعدة من حيث السياق الزماني والاطار المكاني وعلى من آثروا اتباعها في شكل تيار ذو طبيعة فكرية وتأملية بالأساس.
ومهما يكن من أمر فإنه من الصعب تمثّل الوجه التاريخي لهذه الحركة إذا ما استثنينا اعتبارها تيارا روحيا ناقدا من الداخل لمنظومة التدين ولسجل القيم السائدة داخل المدن الدول الاغريقية. لذلك شكّل وقوع اختيار الفرد على نمط الالتزام الروحي المنسوب إلى الأورفية مؤشرا بليغا على انخراطه الطوعي في نوع من الهامشية الاجتماعية المجابهة للمنظومة الأخلاقية السائدة.
ينطوي المسرح اللاهي لـ"أرستوفان" وحوارات "أفلاطون" وشهادة "تيوفراست" أيضا على مخلفات أو بصمات للتيار المنسوب إلى أورفي ضمن التراث الأدبي الأثيني، حتى وإن تعذّر علينا حاضرا إدعاء القدرة على رسم تصوّر أولي لما يمكن أن نسمه بتاريخ تلك الحركة أو نسب أي قامة فنية أو أدبية أو فكرية إليها. فقد اندسّت التصوّرات المنسوبة إليها ضمن جملة من الأدبيات الفلسفية نخص بالذكر منها الفيثاغورية الجديدة والأفلاطونية الجديدة بعد تطويعهما بغرض التواءم مع المشترك الفكري وأنظمة التمثل العامة. كما أنه من دواعي المغالاة أيضا إدعاء تحول ذلك التيار إلى ديانة قائمة الذات، والحال أن الأورفية لا تعدو أن تكون حاضنة لمجموعة من التصوّرات حول الحياة وما يخبئه القدر للإنسان بعد الرحيل عنها. وهي تصورات انتشرت بشكل واسع لا يخضع إلى الدغمائية ضمن العالم الإغريقي الروماني، وقام المنتسبون إليها وبمحض إرادتهم بتطويعها لمختلف قناعاتهم أو ذاوئقهم الشخصية.
تتمثل العقدة المركزية للمثيولوجيا الأورفية في إقدام العمالقة أو "التيتان" على تصفية ديونيزوس، إذ يعتقد المتأخرون من المحسوبين على هذا التيار أن النشأة الأولى للجنس البشري قد ترتبت عن اللطخة الساقطة عن جثث العمالقة المصعوقين من قبل الإله "زوس" عقابا لهم عما اقترفوه من جرم في حق "دينوسوس". وتعمد تلك الاساطير إلى إدراج أسماء ذائعة الصيت لدى الاغريق على غرار "ديونيزوس" و"أورفي" و"زوس" و"التيتان و"برسيفون"...وغيرها، وهي أسماء لم تفقد جزئيا ومع تقدم الزمن جانبا من أدوارها الأصلية. فـ"برسفون المتأخرين مثلا، ليست مختلفة كثيرا عن تلك التي عرفها الأولين، فهي ملكة الجحيم وهي على ذلك أم إله الخمر ديونيزوس" لدى المنتسبين لتيار الأورفية. ويتمثل الهدف غير المعلن من وراء ذلك في الانقلاب ومن الداخل على" المنظومة الدينية الإغريقية، علما أن الالتجاء إلى أسماء جديدة من شأنه أن يحيط ذلك التوجه الانقلابي بكثير من التوجّس ويحول تبعا لذلك دون تحقيق المطلوب، مرجئا إمكانية حصوله.
تنطوي أسطورة نزول "أورفي" إلى الأسافل في محاولة لنقض الاقدار بإعادة معشوقته إلى الحياة إذن، على بعد وجودي يطرح قضية المصير الإنساني من وجهة نظر تأملية لا تخلو من توجهات تعبدية صوفية. فعودته من مواجهة آلهة الجحيم لم يُنظر إليها من زاوية شخصيته الملهَمة المتميزة بشاعرية استثنائية فحسب، بل ومن خلال عودته من عالم الظلمة محمّلا بمعرفة كشفية جديدة غير مسبوقة لدى غيره من جمّاع الأحياء من بني البشر المنذورين إلى مصيرهم المحتوم. لذلك شدّدت تعاليم هذا التيار التأملي الديني على محورية التطهّر من نزغة اندساس خطيئة العمالقة في النسيج الاصلي المقدس أو الطاهر لبني البشر، وهي نزغة أغاضت "برسيفون" فأوصدت أمام جميع المحسوبين على ذلك الجنس أبواب السكينة المقدسة، وحكمت عليهم بالتيه في حياة الجسد البهيمية، متوسلين بالنسيان قصد الاستعاضة عن أصولهم العلوية المقدسة وربط ذواتهم بالتناسخ كعود أزلي .
ويتضمن هذا الازدواج في الأصول، إحالة على قطبين في تكوين الذات البشرية: واحد مقدس لا يتعين أن يشمله النسيان، والثاني أرعن مسلوب لشهوة الخطيئة التي تدفع به إلى العصيان والانقلاب ضد كل تنظيم.
وهكذا يتبين لنا أن التقليد الأورفي الفيثاغوري وإلى حدود موفى القرن الخامس ق.م هو ما منح البشرية المتحضرة تشوفا حقيقيا إلى الخلاص من أصفاد ازدواجية المصير عبر إثمار السلوك الدافع إلى الاعتقاد بأن الروح البشرية سوف لن تخطئ في التعرف على ذاتها المطهّرة بعد نحاحها في المرور بصراط إلهة التذكر "منيموزين التي تمنح الروح قدرة على استعادة ذكرى وجودها الأزلي، مُسهمة في إطفاء ضمأها إلى التلبّس بالجسد الفاني والتمييز بين نبعين يقعان في العالم الآخر. يختص أولهما الواقع على يمين السالك بالمساعفة في استعادة الذكرى، في حين يغشو النبع الثاني الموسوم بـ"ليتي" والواقع على اليسار على البصيرة فيلفها النسيان وتفشل روحها في ربط الصلة بالأعالي المطهّرة.
" [ستجد على يسار مدينة "هاديس" [إله الأموات الخفي] نبع النسيان [ليتي)
وبحذوه ترتفع شجرة سرو أبيض:
لا تحاول البتة الاقتراب من هذا النبع
سوف يعترضك نبع ثاني تتدفق مياهه الباردة من بحيرة منيموزين [الذاكرة] التي يقف الحراس عند واجهتها.
قل: إنيَّ ابن الأرض والسماء ذات النجوم
أصولي مقدسة وهذا ما أنتن به عالمات...
عندها مع غيرك من الأبطال ستكون لك السيادة."
هكذا يتضح لنا تمحور اهتمام هذا التيار السلوكي على موضوع الخلاص الشخصي، وهو ما أساهم يقينا في استكشاف فكرة الفرد وعرضها كقيمة حريّة بأن يطالها الاهتمام التأملي الديني المتصل بمدلول الأبدية وعلاقة وجود الشخص في الوجود وحرية تصرفه في مصيره وعلاقة ذلك التصرف بصروف الزمن وأرزائه، فضلا عن الخوض في مدى
انصياعه لفكرة القضاء والقدر.

mercredi 7 septembre 2011

متوسط المشترك الثقافي أم "يوطوبيا" نقاء الهويات القاتل ؟

إلى سحر عذوبة "الفادو" في صوت "أماليا رودريغيش



تبدو الثقافة المتوسطية يافعة جميلة وإن جاوز عمرها بعض آلاف السنين. غير أنّ الذهنية الأوروبية كثيرا ما تجد صعوبة جمّة في القبول بالتمازج الثقافي، والحال أن ذاك التمازج هو أصدق التعابير عمّا شكّل ولا يزال هويتها الحقيقية. فمن "دانتي إلى "سان جون دي لا كروى" يتعقّل الأوروبيون الطرافة الثقافية في توهّم نقائها المحض النافي لحضور مؤثرات خارجة عن مجال الثقافة الغربية.
يتحوّل ذلك النفي إلى أزمة ضمير حقيقية كلما أثبت البحث بالدليل القاطع تهافت القائمين على تلك "اليوطوبيا"، مبرهنا عن حضور روافد عربية إسلامية لتك "الثقافة النقية".
لا يحتمل الغرب أن تكون سجايا الإبداع وتجلياته واحدة، فلا يرضى مثلا لبيت من شعر الغزل الصوفيّ مأثور عن "إبراهيم بن سهل"، شاعر أندلس الغرب الإسلاميّ المولّه الذي مات إبان سقوط قرطبة وبغداد في منتصف القرن الثالث عشر، أن تكون له قيمة أي قريض في غرضه مأثور عن شعراء الغرب المسيحيّ.
مُتيَّما كان ابن سهل اليهوديّ الأصول بعشق أمردين، فقد أحبّ جمال موسى ثم أعرض عنه بعد أن ابتُلي بعشق جمال نبيّ الإسلام محمّد.

لا يخفى ما لهذا الضرب من الصنعة الشعرية من رقش باللفظ لمعاني التصّوف الذوقيّ، فالحبّ الناجم عن جمال "الأماريد" هو كناية عن المحبّة الصوفية المنسلخة عن كينونتها المنصهرة في الجمال الخالص، حيث علّة الوجود وسبب كل موجود.

ما من شكّ في عودة هذه الكناية الشعرية في أصولها إلى الأفلاطونية الجديدة التي ورثتها الإسكندرية الهلينستية عن أثينا الهلينية وجدّد بريقها شيوخ التصوّف الشرقيّ المؤسّسون. في البدء تُطلّ شخصية "بوزانياس" في مؤلف الوليمة لأفلاطون وفي مطلق ظنها أن ما من عشق يرقى إلى مستوى المثْلِية، تلك التي تقتصر غايتها على ذاتها ولا تتنكب مراقي العشق لتختصر علة الوطء في الإنجاب. يتنازل "ابن سهل" في القرن الثالث عشر عن عشق موسى، مركّزا خالص "المحبّة الصوفية" على نبيّ الإسلام محمّد، بينما يُسِرُّ "مرسيل فيسان" في حدود القرن الخامس عشر، في غواية دالة لصديقه"جيوفاني كافالكانتي" أنّ "ما عَلِمه حول المحبة قد استقاه عن "أورفاي"، وأن ليس من مماحكة في فضل "أفلاطون" في الكشف عن كنه تلك المحبّة". نفس هذا التعريف روّجته أشعار "جيوردانو برينو" المقفلة المنشورة ببريطانيا الإيليزاباتية في أعقاب القرن السادس عشر ضمن مؤلف فارق ترجع أصوله إلى نظريات الأرتميتيقا الفيتاغورية حمل عنوان "الجنون البطولي "، تلك النظريات الواردة في كتاب "نيكوماك "تيولوجيا الأرتميتيقا"، التي انقطع أثرها بالكامل ولم تتمّ استعادة جوانب منها إلا من خلال ما اطّلع عليه علماء بيزنطة من جواهر دفينة حواها بلاط السلاطين العباسيين ببغداد.
يستحضر "نيكوماك" ضمن تصوراته الأرتميتيقية فكرة "الجوهرة" محاولا المزج بين خصوصياتها الطبيعية المتمثلِة في فرادتها الأصيلة المشكِلة للكون، معتبرا أنها جوهر الذات والكائن غير الفارق جنسيا وإله المادة. إنها الإناء الكونيّ الجامع الذي يحوي الانهيار والظلمة والهوّة والبشاعة وشدّة العزلة والنسيان، كما يتضمن الشمس والنار المقدسة ذلاقة لسان الآلهة من "زوس" إلى "أبولون ".
ولأنه احتوى مختلف العناصر الأصلية، فإنه قد توفّر أيضا على رموز تجربة السلوك نحو المطلق، تلك التي تشكلت في قديم التواريخ مُمثِلة رديفا لفكرة وحدة الوجود ذات الأصول الثقافية الهندية-الأوروبية، وهي فكرة أعاد التصوّف الإسلاميّ المنسوب إلى ابن عربي تملّكها بعد اطلاعه على النظريات المشكلة لكُنْه الأفلاطونية الجديدة.
نهلت النصرانية من ذات النبع مسهبة الحديث عن محاذير تجربة السلوك والترقي تجسيما للوصل والتشابك روحا وجسدا مع المعشوق. ويبرز ذلك جلياّ في الموشّح الأندلسيّ كما في "الأهازيج البروفنسالية" وفي قصائد الحب المضمّخة بروائح الورد الفرنسية وفي مقطوعات "الموسيقى البتراركية" وفي "حلم بوليفيل" ومقاطع أشعار "رولان" المسجوعة الموشاة وحتى في "مواقف كيشوت الهزلية".
ينحصر غرض هذه الأجناس على تنوعها الظاهريّ في توصيف مشاقّ الوَلَهِ تحقيقا لعلّة الوجود. وحدها عبقرية الشعر وإلهام الشاعر يستطيعان أن يعرضا علينا مأساة فاجعة في كساء براق خاطف للّبّ مُفقد للصواب، ليس للمحبّ حظّ ضمنه في تجاوز محاذير السلوك إذا لم تسعفه "المحبّة الجنونية المقدّسة"، فالجنون مرقاة الشاعر والمتصوّف معا إلى الإلهام و"المَـدَدِ" منذ "هوميروس".
التوحّد مع اللا محدّد عقلا لا يمكن أن يستجلبه غير جموح الرغبة وأزف الروح والهوس المجنون في حب خالص الجمال. لا تحتاج تجربة العشق، مثلما أفاض أبطال "كوميديا دانتي" في توصيفه، إلى رؤية خالص الجمال تمتيعا للنظر، بل إنّ حاجة الروح المعذّبة المنفيّة إلى الانصهار في بؤرة الضوء وخالص النور، هي ما يُسعف جنون المجبّة في شد المهجة واسترقاق الوجدان.
ذاك ما خلص إليه "ميكال أنجلو" الذي اعتبر أنّ ما نُصيبه من متعة التشابك مع الآخرين هو عين الحاجز الذي يحول بيننا وبين التوحّد الذي لا يرضى بغير العزلة الـمُفضية إلى السكينة ثمنا. وهو عين ما ابتغاه "الحلاج" لمّا أسلم الروح شهيدا متشوّفا إلى الفناء في مطلق الجمال الناجم عن حرارة الإيمان. وهو ما عناه "جيوردانو برينو" أيضا عندما تساءل في مؤلف "الجنون البطوليّ" عن السبب الكامن وراء "توجّه الفراشة نحو بؤرة الضّوء الساطع عير عابئة بمغبّة هلاكها بألسنة اللهب".
تتساءل "سيكادا" بطلة مؤلف "جيوردانو برينو" عن الحاجة إلى مبادئ عقل أرسطو، فيجيبها "تانسيّو" بأنها مظنَّة من مُنع القدرة، على غرار "هوميروس" و"هزيود" و"أورفي"، في الانقلاب شاعرا دون الحاجة إلى عقل أرسطو، وهي تمحّك العقيم لـمّا تعوزه الحيلة في استجلاب آلهة الإلهام، فيكتفي بعشق مُلْهِمَة "هوميروس".
عاقبت الكنيسة المسيحية "جيوردانو برينو" حرقا عن "جريرته" الإبداعية في موفّى القرن السادس عشر، غير أنها عجزت في بداية القرن العشرين في الحدّ من انتشار النتائج المربكة التي أفضت إليها أبحاث الإسبانيّ "أثين بالاثيوس " الفيلولوجية المنشورة سنة 1919 حول تأثير "الإسكاتولوجية" الإسلامية في "كوميديا دانتي الإلهية" ووقفت مشدوهة سنة 1922 أمام براهين "خوليان ريبيرا" بخصوص تأثير مقامات الموسيقى الأندلسية في تشكيل أناشيد "الكنتيغاس" الدينية المنسوخة بعناية فائقة على رقّ أشهر مخطوطات كتب الإنشاد الدينيّ المسيحيّ المنسوب تأليفها إلى الملك "ألفونش العاشر" أو "ألفونش الحكيم"، تلك الأناشيد التي عايش "دانتي أليغيري" فترة اجتراحها.
هكذا تبدّى أفق الثقافة المتوسطية العابر لدعوى نقاء الهويات الضيقة القاتلة، أفقا مُتشابك المؤثرات، مُنغرسا في موروث بحيرة المشترك الثقافيّ منذ أن امتزجت مأساة آدم المكنّى لدى صوفية المغارب بـ"أب الذراري"
بتلك التي عاشها "بروكليس" وارث مدرسة "أفلاطون" و"بلوتارك" الأثينية عندما أقصيا عن جنتهما ولم يطلهما العدم بعد. فحُكم على الأول بمنح بذرة الحياة وتجديدها متجشما في ذلك آلام الخلاص جامعا قوته بمنتهى الكدّ والمعاناة، في حين أجبَر تحوّل الأباطرة الرومان عن الديانة الوثنية وانتصارهم للمسيحية الثاني أن يتحسّس طريقه عبر سراديب السرية المظلمة، حاملا معه أفكارَ ومعارفَ وأسرارَ حضارات عظيمة ضاربة في القدم.

الهوامش:
* تشكّل الأفكار المعروضة ضمن هذا المقال صياغة حرة وترجمة تصرّف للفصل الأول من كتاب "رودريغو دي زياس Rodrigo de Zayas " "المورسكيين وعنصرية الدولة Les morisques et le racisme d’Etat " وهو فصل تساءل ضمنه "زياس" عن مدى صحة القول بوجود ثقافة متوسطية ؟
* أماليا رودريغيش هي "ديفا" غناء "الفادو" البرتغالي الجذور الأندلسي الامتداد. فقد "استوعبت حنجرتها أعذب أصوات أسراب الطيور الحائرة وشجها الحزين على امتداد ضفتي المتوسط". أما "الفادو" فهو في عرف حذّاق العالمين بمقاماته أو أمزجته:"الاقتناع بأنه ما من سبيل للخلاص مما يندس عميقا داخل ذواتنا. وهو أيضا تساؤل لحوح حول أسباب ما يتملّكنا من حيرة، حتى وأن تبيّن أن لا حظ لنا في التوصّل إلى إجابة شافية حول ما ينتابنا من حزين الأحاسيس و مهيب المشاعر .