lundi 3 juin 2013

ما السبب في اختفاء المثقفين؟*











         ذلك هو السؤال الذي تصدى المؤرخ "أنزو ترافرسو Enzo Traverso" للإجابة عنه ضمن مؤلفه الأخيرOu sont passés les intellectuels?   الصادر في شهر فيفري عن منشورات تكستويل Textuel.

يطرح الكتاب سؤال محددا: لماذا اختفى المثقفون الملتزمون، تاركين مكانهم لشخصيات إعلامية ذات حضور مهيمن، أو لخبراء مقرّبين من السلطة القائمة على غرار "برنار هنري ليفي Bernard Henri Lévy " أو برنار كوشنار Bernard Kouchner فرنسيا؟

فشخصية المثقف الناقد المعارض للسلطة والمدافع عن المضطهدين القادر على توفير حاجيته بشكل مستقل،  وهي شحصية جسمها جون بول سارتر  Jean Paul Sartreعلى أحسن الوجوه، قد اخترقت كامل القرن العشرين، منطلقة من اتهام الضابط الفرنسي اليهودي الديانة دريفوس Dreyfus  بالخيانة ومنتهية برحيل ذلك المثقف الفذّ سنة 1980.

أعلن سقوط جدار برلين بعد انهيار الاتحاد السوفياتي نهاية المثقف الملتزم، حتى وإن فضّل المؤلِف الحديث عن حالة اختفاء وقتي للمثقف. فأغامبين Agamben ورنسيير Rancière وباديو Badiou  وزيزك Zizek  يشكلون علامات فارقة للفكر النقدي حاضرا، بل ونجوم حقيقيين داخل المركبات الجامعية، لكن جميعهم يبقى غير معروف من قبل الجمهور العريض وصُنّاع الرأي العام. ويعود السبب في ذلك إلى غياب الجدل النقدي ضمن الساحة العامة، وسيطرة وسائل الاتصال الخاضعة لقوانين السوق والقريبة من مراكز النفوذ والسلطة. وهو نتاج أيضا للمنطق السائد بين التيارات اليمينية أو اليسارية التي تدعي تناظر النازية والشيوعية في انزياحهما نحو الاستبداد والكليانية، الشيء الذي أدى تدرّجا إلى التخلّي عن الفكر الثوري والاستعاضة عنه بجملة من الإيديولوجيات الرخوة التي تقدّس الذاكرة التاريخية والمرجعيات الإنسانوية الواقفة في صف الضحيّة، المحافظة على الطبيعة والمحيط، على غرار حركات الساخطين الاجتماعيين أو المحتلّين لساحة "وول ستريت"، وكذلك هبّات الشباب في بعض بلدان الربيع العربي، وهي تحركات فاقدة لكل توجه فكري مناضل لم تصدر عن أي التزام سياسي حقيقي.          

لكن كيف لنا أن نتعرّف على المثقف اليوم وقد تعرّض موقعه إلى انقلاب تام أبعده عن تعريف جون بول سارتر الذي اعتبر أن المثقف "هو ذاك الذي يحشر أنفه في أمور لا تهمه celui qui se mêle de ce qui ne le regarde pas"، أو التعريف الذي أسنده له إدوارد سعيد، لما قدّر أن "المثقف هو من يستطيع ومن خلال التجديف عكس ما يفكر فيه المعاصرين أن يميط اللثام عن الآليات الخفية الناظمة لممارسة الحكمcelui qui, à rebours de l’esprit du temps, élucide les conditions d’exercice du pouvoir parfois invisible ".

لقد سبق لميشال فوكو Michel Foucault ومنذ سبعينات القرن الماضي الإسهام في هذا السجال النظري، مُقترحا التمييز بين المدلول المخصوص للمثقف باعتبار امتلاكه للخبرة الأكاديمية والمرتبة الجامعية، والاستناد إلى رصيد معرفي حال التدخل في شؤون المدينة، والمثقّف الحامل للقيم الكونية الذي يكيّف وجهات نظره بالتعويل على توجهات إنسانية عامة.

لقد تغيّرت منذ ذلك الحين المعطيات المتصلة بهذا الموضوع بشكل يكاد يكون جذريا. فمن ناحية نجد "العالم الأفلاطوني"، أو "الفيلسوف- الملك" للمدينة الفاضلة، ذاك الذي غالبا ما تُقِضُّ تصوراته ومواقفه وأرائه مضاجع الساسة، ومن جانب آخر نجد "ناصح الأمير" أو "فيلسوف البلاط" الكيس والمهادن. وبين هذين الصنفين يتموقع المثقف الناقد للسلطة ذاك الذي تعوزه الإمكانيات للبروز ضمن المشهد المدني.

يصر مؤلف "أين اختفى المثقفون" على استبدال تسمية "ناصح الأمير" الماسك بحبال اللعبة السياسية، من خلال نعته بـ"الخبير" المُعْرِضِ عن الالتزام الإيديولوجي، المكتفي بممارسة خبراته والاختفاء وراء دعاوى الحياد.

ما من شك في أن المثقف قد أضحى بَعْدُ باحثا جامعيا، تعمل السلطة جاهدة على اقتلاعه عن موقعه الأصلي بغرض توجيه خبراته ضمن سياق يخدم تحوّله التدريجي إلى "ناصح للأمير". كما لا يتعين أن يلهينا تفضيل المؤلف لهذا الصنف الثالث من المثقفين الواقع بين العالم الأفلطوني وفيلسوف البلاط عن موقعه المتسم بالهشاشة، وهو ما يحول بينه وبين القدرة على التأثير بشكل أمثل على مجريات الواقعين الفكري والاجتماعي. يحبّذ "ترافرسو" هذا الصنف من المثقفين على نوعية المثقف التي سبق لفوكو إجلاله والتنويه بها، لأن "ناصح الأمير" أو "الخبير" وإن تحلّى بالقدرة على النقد، فإن مرور أربعين سنة على انخراطه في مثل تلك اللعبة، قد حوّله بالتقادم إلى "تقني معرفة خادم لركاب السلطة، وهي وظيفة لا يمكن موضوعيا أن تسمح لصاحبها بالحفاظ على فكره الناقد.

فهل أن مثل هذه التطوّرات هي ما يفسر حقيقة غياب أو فقدان أو موت أو -وبصيغة أكثر تفاؤل- اختفاء المثقفين وقلة مساهمتهم في توسيع رقعة الحوار الفكري وتعميقه؟ يستحضر المؤلف للإجابة عن هذا السؤال فرضيّة مؤيدها "سحق المثقفين من قبل الآلة الجهنمية للاتصال"، تلك التي لا تتورّع عن رهن مجال الحوار وتحديد مآله الفكري أيضا عبر التحكم الكامل في جميع وسائط الاتصال الحديثة.

وهكذا يبقى المثقف المثالي باحثا مختصّا منفتحا نقديا على مشاغل المدينة، حتى وإن اعترفنا بحضور جفوة حقيقية بينه وبين الفعل الاحتجاجي في معناه الاجتماعي. على أن دور الأجيال الجديدة يبقى محدّدا في إعادة اختراع مُثُلها العليا، حتى وإن بدت لنا تلك الأجيال وكأنها مشلولة الحركة، مما يشي بحضور حالة من التخاذل عن التعبير أو إبداء السخط عن الواقع المأزوم، والحال أن ما نعيشه من أعطاب هيكلية يُفترض أن يشحذ عزيمة تلك الأجيال الجديدة ويزيد من حُنقها. قد يكون تزامن الهزيمة التاريخية لثورات القرن العشرين المغدورة، وتردي الرأسمالية حاضرا في أزمة تاريخية خانقة، هما من انتزع من تلك الأجيال الجديدة حقّها المشروع في أن يكون لها نظرة متفائلة للمستقبل. فالشباب الذي تكوّن في الجامعات والذي انفتح على مصادر الثقافة، هو من يجد نفسه اليوم عرضة أكثر من غيره إلى الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية، اعتبارا للقوانين غير العادلة الناظمة للحياة العامة كونيا.

إن ما يعوز أجيال الشباب حقيقة هو حضور الفتيل اللازم لإشعال النار في البارود، حتى وإن اجتمعت مختلف الظروف المؤدية إلى الانفجار. فواقع الحال لم يعد يتوفّر على أفق حقيقي يكفل تلبية أبسط الحاجيات، وهو ما يتعيّن أن يكون مدعاة لحيرة الجميع لا إطارا لتدبّر النخب وحدها.

*نقلت مختلف هذه التصورات بتصرّف عن مساهمة بيار أسولين Pierre Assouline ضمن مجلة

 Les Grands Débats, " Comment expliquer l'éclipse des intellectuels?"  

 http://www.lesgrandsdebats.fr/Debats/Ou-sont-passes-les-intellectuels/Comment-expliquer-l-eclipse-des-intellectuels-444