dimanche 13 septembre 2020

صناعة المعرفة التاريخية العربية: سياقات بناء الدلالة وأشكال تأويل الـمُتَمَثَّل (مراجعة صادرة بمجلة أُسطور عدد 12/ 2020 )

    
















    صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسية بالدوحة في شهر أبريل 2017 مؤلف جماعي حمل عنوان "التاريخ العربي 
  وتاريخ العرب كيف كتب؟ وكيف يكتب؟ الاجابات الممكنة" متضمّنا عروضا استهلالية في 20 صفحة خُصصت للورقة الخلفية لفعاليات المؤتمر السنوي للدراسات التاريخية المنعقد ببيروت خلال شهر مارس من سنة 2016. كما اشتملت أيضا على تمهيد من وضع منسق أعمال المؤتمر وجيه الكوثراني حمل عنوان "التأريخ العربي: بين التاريخ الشامل والتاريخ الجزئي"، وافتتاحية بقلم المؤرخ خالد زيادة عرضت بشكل تركيبي مختصر إلى جملة من الملاحظات بخصوص "استخدم الوثائق في كتابة التاريخ العربي". شكلت مختلف تلك العناصر إطارا سانحا لتبويب شواغل ما لا يقل عن 32 إسهاما منهجيا وتاريخيا نُوقشت محتوياتها ضمن أشغال المؤتمر المشار إليه، قبل أن تصاغ نهائيّا لتتخذ موقعها ضمن مكوّنات هذا الأثر الجامع. فقد آثر منسق المؤتمر ومعدّ أعماله للنشر تقسيم مختلف العروض التي شغلت مجلدا واحدا احتوى على 1056 صفحة (شغل فهرسه العام 39 صفحة)، إلى ثلاثة أقسام: حمل أولاها عنوان: "كتابة التاريخ العربي حقلا وتحقيبا ومنظورا"، جامعا ما لا يقل عن عشر مساهمات امتدت عروضها المعرفية على 315 صفحة. في حين شغلت مساهمات القسم الثاني الثمانية، تلك التي حملت عنوان: "مسائل واتجاهات في التواريخ الوطنية" 270 صفحة، وتوزّعت مساهمات القسم الثالث والأخير الذي تضمن 384 صفحة وحمل عنوان "التاريخ المقارن ومسائل من حقل الذاكرة والتاريخ"، على شاغلين اثنين: اتصل أولاهما بالتاريخ المقارن جامعا 5 مساهمات، بينما خُصّص الثاني لعلاقة الذاكرة بالتاريخ أو لما قد تستقيم تسميته أيضا بــ "أشكال تأويل الـمُتمثَّل تاريخيا"، مشتملا على 9 مساهمات أو عروض. استهلالات: ناقشت الورقة الخلفية للمؤتمر مجمل الهواجس التي قادت المنظمين أو المشرفين على انعقاده، تعلّق جميعها بمسار بناء المعرفة وانتاج الدلالة التاريخية طوال الفترة المعاصرة عربيا. واتصل ذلك تحديدا بأهمية التراكم مشرقا ومغربا، وحقيقة حضور عوائق معرفيّة في البحث التاريخي شملت قراءة السياقات الزمنية أو بناء الحقب التاريخية وتحديد المجالات أو الأطر المكانية والموضوعات والمصادر والمنهجيات ومناويل أو/ ونماذج البحث المتّبعة، وجميعها مطبّات يحسن التفكير مليّا في أيسر السبل الكفيلة لتجاوزها. فليس من المنطقي في شيء الاصرار على مواصلة محاكاة التقسيم الكلاسيكي الأوروبي بعد تزايد الدعوات إلى إعادة النظر في توجهاته الإثنو – مركزية المعلنة كونيا. كما أنه ليس من المنتج للدلالة أيضا تواصل اللبس المقصود في صياغة التاريخ العربي بالتعويل على مفاهيم الأمة العربية أو/ والإسلامية تساوقا مع ما انجزته مدرسة الاستشراق في ما ركّبته مؤلفات "بروكلمان" و"حوراني" وغيرهما، تحاشيا للوقوع في الإسقاط أو "الأناكرونية" حال تركيب التواريخ العربية/ الإسلامية الشاملة أو المونوغرافيات الاقليمية الكبرى (الشام، والجزيرة والمغرب)، وكذا الأمر بخصوص صعوبة إدراج تاريخ العرب ضمن التواريخ العالمية المقارنة كما جسّمتها كتابات "توينبي" و"بيران" و"بروديل" و"ميكال"، وغيرهم، وصاغته أيام ازدهار الحضارة العربية الإسلامية في الفترة الفاصلة بين القرنين التاسع والرابع عشر الميلادي، كتابات اليعقوبي والطبري والمسعودي والشهرستاني ومسكويه. على أن العروض التي طالت التواريخ القطرية أو الوطنية قد تأثّرت هي الأخرى بالمسارات المتعثّرة للدول الناسلة عن تصفية الاستعمار، حيث وُضِعت أساسا بغرض التنشئة المدنية وصياغة مشاريع الدول الوطنية بشكل شابه التلفيق وانتابه اللبس والترميق، بحيث لم يوفّق عامة في تقديم إجابات دقيقة حول المواضيع المتعلّقة بالحدود وتعدّد الانتماءات والعلاقة بتواريخ ما قبل الإسلام، وكذا بجميع الأساطير المكوّنة للوعي الوطني. وهي حقيقة طفت على السطح حال تسليط الأجيال الجديدة من المؤرخين العرب الأضواء على موضوعات غير مبذولة صُنّفت لوقت قريب في خانة المسكوت عنه، تحيل على أيام الأفراد وأعمالهم كما على خصوصياتهم الدينية والإثنيّة والثقافية. واصل المؤرخ وجيه كوثراني ضمن عروضه التمهيدية تفكيك مأزق الكتابة التاريخية العربية المعاصرة بين الشمولية والجزئية، وهو ما ألجأ الباحثين الذي قاربوا ذلك التاريخ من الخارج إلى استعمال مصطلحات خاصة تحيل على "تاريخ الشعوب العربية/ الإسلامية"، تلك التي ساهمت جغرافية اللغة والثقافة في صهرها أو بناء تجانسها ضمن "مجتمع معنوي". وهو ما جسّمته بشكل ملموس تنقلات الجماعات الإثنية الكبرى والنخب التجارية والدينية أو الفكرية بين المشرق والمغرب، وحاول المؤرخ العراقي عبد العزيز الدوري الاستدلال على وجوده ضمن مؤلفه "التكوين التاريخي للأمة العربية". غير أن مثل هذا الجهد التاريخي المعوّل على المنظور التركيبي المنخرط في تقديم سرديات تاريخية كبرى، لم تتم الاستجابة له بالشكل المؤمّل ضمن مختلف إسهامات واضعي هذا التأليف، أولئك الذين آثروا الخوض في رصيفتها القطرية أو الوطنية وعَفَوْ بالرمّة عمّا نعته واضع هذه العروض التمهيدية بـ "التاريخ التركيبي أو التوليفي الشامل للأقاليم الواسعة (الجزيرة، والشام، ووادي النيل، والمغرب) تواصلا/ أو نقدا مع ما سبق لعبد الله العروي في بداية سبعينيات القرن الماضي إنجازه ضمن موجزه التركيبي المقارن والبديع أيضا حول "تاريخ المغارب". والظن بعد هذا أن ما لقاه محور التأريخ للفرد والأسئلة المتصلة بعلاقة الذاكرة بالتاريخ كما التركيز على تاريخ الأقليات وتاريخ المهمّشين وفقا لمعالجات توسّلت بتداخل التخصّصات بل وبعبورها أحيانا، مُندرِج كما قد بات بيّنا في محاولة لتجاوز هنات الـمُنجز، توقّيا من الكلفة الباهظة للتردّد في الانخراط معرفيّا ضمن ما اصطُلح على تسميته كونيّا بـ"المنعرج التاريخي الثقافي". ولاعتبارات تتصل بمحورية العلاقة التي يتعيّن أن تربط المعرفة التاريخية بمختلف مدوناتها، فضّل منسق المؤتمر والمشرف على التأليف إدراج إسهام خالد زيادة ضمن العروض الاستهلالية وذلك باعتبار تلازم محتواه مع ما تضمنته الورقة الخلفية والعروض التمهيدية، فضلا عن تأكيده على ضرورة توسيع الاطلاع على الوثائق الأرشيفية والتعويل عليها في بناء الفرضيات التاريخية بخصوص التواريخ العربية. وهو أمر سبق لدراسات المستشرقين المنجزة في الغرض التفطّن له ("سيديو" و"لوبون" و"بروكلمان"). فقد تواصل التعويل على ما تضمنته الوثائق القنصلية وسجلات المحاكم الشرعية في دراسة مجتمعات العرب واقتصادياتها على شاكلة ما هو ماثل ضمن أبحاث "أندري ريمون" وغيره من المؤرخين العرب لاحقا، تجاوزا للعروض المكتفية بمعالجة كتب الأخبار والوقائع السياسية والعسكرية، وتوسّعا في استقراء المسائل المتّصلة بتطوّر الأسعار والغلاء وحركات الاحتجاج الاجتماعي وغيرها من السياقات الدالة على الانتقال من الواقع التقليدي والتطلّع إلى الاندماج في زمن الحداثة عربيا. وهي طريق أسهمت مدرسة الحوليات الفرنسية إثر الحرب الكونية الثانية في رسم معالمها، ينبغي على المؤرخ العربي الاعتبار بها إذا ما رام تخطّي مختلف السرديات العربية التي لا تزال منشدّة إلى تصوّرات إيديولوجية ضمنية أو معلنة. صناعة التواريخ العربية بين الكونية والمحليّة: ليس من الهين في شيء الاقدام على توظيف جملة من الإضاءات المختلفة بخصوص طبيعة العلاقة التي تربط التحوّلات المتسارعة التي طالت ولا تزال المعرفة التاريخية كونيا بمختلف الأشكال التي خضعت لها منذ القرن الماضي صناعة التواريخ العربية ضمن مؤسسات بحث عربية أو أجنبية. فقد جمع من أقام على تنسيق عروض هذا الكتاب ما لا يقل عن عشرة مساهمات عرضت علينا - وفق تصوّرات منهجية متباينة- جملة من المسائل يحسن اختزالا للدلالة تصنيف مضامينها نقديا وفق محورين كبيرين: واحد حاول تقليب النظر في إشكالية كتابة التاريخ العربي من منظور التاريخ العالمي بالتعويل على نماذج من التواريخ الجامعة أو الكونية، مثلما تعرّضت إلى ذلك مباحث أحمد الشبول، وأحمد أبو شوك، وإبراهيم القادري بوتشيش، ومحمد مرَقْطن، وعمار السمر، ومحمد الأزهر الغربي، في حين فضّلت بقية النصوص المتّصلة بهذا القسم الافتتاحي الحفر في ذات الموضوع بالتعويل على عينات مصدرية أو أمثلة حصريّة محدّدة على غرار ما تولّت انجازه إسهامات محمد عز الدين وعبد الرحمان شمس الدين وأنور زناتي وأمل غزال. فقد تم استدعاء مدونات المسعودي وابن خلدون بوصفها عروض مُمثِّلة لحدود تطوّر المعرفة التاريخية عربيا طوال الفترة الوسيطة المتأخرة، قصد ردّها إلى منهجيات حديثة تحيل على سياقات تشكّل الحضارات الإنسانية في مؤلفات "بروديل" و"ماكنيل" و"شبنغلر" وتطبيقاتها في تصوّرات "برنارد لويس" الاستشراقية و"هنتغتون" الايديولوجية حول "صراع الحضارات"، أو ضمن تلك الواردة لدى المحتفظين عكسيا بفكرة حوارها. كما أن التطرّق إلى مختلف الصعوبات التي حالت دون الاتفاق حول أمثل السبل لتركيب وقائع التاريخ العربي زمانيا، قد أعادت فتح ملف كونية الكتابة التاريخية إلى المربع الأول، ودفعت إلى البحث عن أمثل السبل الـمؤدية إلى إدراج تلك السردية التاريخية ضمن امتداداتها الكونية المتضمّنة للحقب الثلاثة (قديم ووسيط وحديث) أو أزمنة بروديل الثلاثة (الأمد الطويل أو زمن البنى، والزمن الدوري أو الاجتماعي، وزمن الوقائع أو الحوادث السياسية السريعة)، وكذا الأمر بالنسبة لعروض مدرسة الاستشراق في مؤلفات "ديورانت"، و"هدجسون"، و"شلومو ديف غويتن"، توقيّا من التوجّهات العكسية الداعية إلى "أسلمة" تلك التواريخ وفقا للتصوّرات التي حملتها مؤلفات "قطب"، و"إلياس"، و"أشرف"، و"الصدر" و"خليل"، ودعما لتوجهات أبستمولوجيا الحقب الواردة ضمن عروض "أركون" و"العروي" أساسا. ويجد هذا التمثّل نقلة نوعيّة لمضامينه ضمن التصوّرات الداعية إلى تجاوز الحقب السياسية المتداول وردّ معرفة التواريخ العربية إلى أفق يعوّل على مقاربة الحقب الثقافية، تلك التي تفسّر الظواهر الكبرى انطلاقا من التحولات المعرفية لا السياسية، مُعتبرة بالرجّة التي عاشها المجال العربي بوصفها تمهيدا لنهضة عربية ثانية مكمّلة لما تم انجازه خلال القرن التاسع عشر. فقد حملت الحقبة الكونية الجديدة في تاريخ البشرية تحوّلات عميقة تحت تأثير الثورة الرقمية التي أنتجت فعلا بشريا جديدا بعد أن نجحت في تهجين الهويات دينيّا ولغويّا وقوميّا وجنسيّا. وأنهى "الزمن السيبراني" بالرمة عالما قديما، ليتحوّل الكون إلى خلق جديد يحتاج معه المؤرخ إلى تطوير أدوات عمله تلاؤما مع إكراهات "الحاضرية"، واستشرافا لما يخبئه المستقبل للبشرية بالتعويل على استقراء البحوث الميدانية أو الافتراضية ذات الصلة بالدينامية المتعاظمة لشبكات التواصل الاجتماعي. ولعل للاعتبارات المتصلة بحقيقة ظهور أولى الحضارات القديمة بالعالم العربي (سومر، وبابل، وأشور ببلاد الرافدين، والفراعنة بمصر، وأبيلا، وأوغاريت، الكنعانيين، والأرمية بالشام، ودلمون، ومجان بالجزيرة وعمان، وسبئية، وقتبانية، ومعينية، وحميرية، غرب الجزيرة، وكندة ولحيان وتيماء والأنباط والحضر أو تدمر شمال الجزيرة وأطرافها، واللوبيين والأمازيغ بمجال المغارب) آصرة وثيقة بضرورة تجديد التفكير في منهجية كتابة تواريخها والتساؤل عن مدى توفّر أمة العرب على هوية تخصّها. غير أن الاعتراف بقلة النجابة وتواضع المراكمة وهيمنة المنجز الأثري الغربي بتصوّريه الدنيوي الاستعماري والديني التوراتي، يدعواننا حاضرا إلى الانخراط بثبات في ما ساهمت الاكتشافات الأثرية والنقيشية خلال العقود الثلاثة المنقضية، ونقصد نقوش الجزيرة العربية وكتاباتها كالرقم الأشوري والبابلي، وكذا المصادر السريانية والأكادية والأوغاريتية والسبئية في انجازه، تخطّيا للصورة التاريخية القاصرة أو النمطية التي وفّرتها مصادر التراث العربي الإسلامي حول تاريخ جزيرة العرب القديم وحضاراتها. وهو في تقديرنا ذات الهدف الذي عملت على تحقيقه المساهمتين المتبقيتين ضمن هذا الشاغل وقد تم تخصيصهما لتقييم التجارب الرسمية في كتابة التاريخ العربي وتوضيح مدى انخراط تلك الكتابة تحديدا في انتاج معرفة دقيقة وأصيلة أيضا حول تاريخ العرب الاقتصادي. فلئن تمّت الاشادة بالجهد المبذول من قبل المساهمين في التجارب الرسمية بكل من سوريا (تلك التي لم يتم استكمال أبحاثها) ومنجز المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بعد صدور أجزاء "الكتاب المرجع لتاريخ الأمة العربية" السبع، تساوقا مع تعدّد الاكراهات التي عاشها واضعوها، فإن محصّلتها تشي باستحالة بلوغها للأهداف المعلنة من وراء انجازها ومثلما شدّدت على ذلك تقييمات المؤرخة الألمانية "أولريكه فرايتاغ" ضمن مؤلفها الموسوم بـ"الاستوغرافيا السورية 1920-1990: بين المقاربة العلمية وهيمنة الإيديولوجيا". كما أن التساؤل عن الحيّز الذي شغله التاريخ الاقتصادي صلب المعرفة التاريخية العربية ومدى مشاركة مؤرخيها في توخّي مختلف مقارباته قصد مزيد فهم الحقب أو المراحل التاريخية المختلفة التي مرت بها البلاد العربية، مسألة حَرِيّة بالتدبر، ثبت بالحجة والبرهان تواضع باع المعرفة التاريخية العربية في إتمامها. ويعود ذلك وفقا لما تم اقراره للمشاكل المتصلة بفتح الأرشيفات أمام الباحثين أو انعدام وجودها بالكامل، فضلا عن زُهد الثقافة العربية في الاعتبار بقيمة المادي والانقطاع عن التفكير في الاقتصاد السياسي الذي تبلور منذ عصر النهضة أوروبيا، بل واعتباره تصرّف "مكروه" "أو "غير مندوب"، مع عجز الحركات الإسلامية حاضرا عن بلورة فكر اقتصادي إسلامي وإخفاق حركات التحرّر عربيا في عرض بديل اقتصادي وتواضع سياساتها في الغرض إذا ما قارناها بالتركيز المشطّ على التواريخ السياسية المشوبة بتوجهات إيديولوجية غير خافية. ومهما يكن من أمر فإن عروض بقيّة المساهمات المحسوبة على نفس القسم قد آلت على نفسها التثبّت بشكل تفصيلي أو جزئي فيما قدّرته العروض التي كنّا بصددها حول أشكال انخراط كتابة التواريخ العربية وتطوّر مناهجها ضمن التصوّرات الناظمة لصناعة التواريخ الكونية. فقد بيّن الإسهام المنجزة بخصوص طبيعة المنهجية التي احتذاها "كمال الصليبي" ضمن مختلف عروض مؤلَفِه "التوراة جاءت من جزيرة العرب" مثلا، اعتماد الباحث على الجغرافيا التاريخية للتوراة وكذا لأسماء الأماكن بغرض البرهنة على أن مجال شبه الجزيرة (الحجاز واليمن) لا بلاد الشام ومصر، هو الذي عاين وقوع مختلف الحوادث المؤسِسة للرسالة الكونية للديانات التوحيدية. لذلك احتاجت المنهجية المتّبعة من قِبَلِه وفي المقام الأول إلى معرفة جيّدة باللغة العبريّة الساكنة أو القديمة الخالية من الحركات الصوتية، تلك التي مثّلت العربية مرجعا في دراستها بوصفها اللغة السامية الحيّة حاضرا، مع الاعتبار في جميع ذلك باختلاف التصويت وتحوّل الحروف في استكشاف معاني مختلف الأماكن الواردة في الكتاب المقدس بوصفه حكاية للخلق قُدّت من لغات سامية تقع بين العبريّة والعربية والسريانية والأرمية القديمة، وخضعت عملية تفكيك شفرتها إلى تقنيات الاستبدال والتعريب والترجمة. وتبدو محصلة التدقيق في طبيعة الإسهام الذي يوفره الحفر في مدونات النوازل مغربا ودور التنظيم الشبكي في تعزيز قدرات المقاومة والانتشار على كامل المجال العربي لدى الأقليات المذهبية الإباضية، عناوين فرعية لجملة من التطبيقات التقنية والمنهجية العاملة على استدرار معين مدوّنات مخصوصة ساهمت ولا ريب في توسيع أفق الدراسات التاريخية العربية وخاصة الاقتصادية والاجتماعية منها، سامحة بتغيير أفق التركيز المشطّ حول المشرق والاعتراف لمجالات المغارب والصحاري الطرفية بأهمية مُنجَزِها في صياغة سرديّة عربية تُؤثر نهج التشبيك، مُقرّبة في حق الإباضية بين عمان وزنجبار والمشرق والمغرب سواء على أيام النهضة العربية والاصلاح الإسلامي أو الوحدة العربية بعد تصفية الاستعمار. فتركيب مرويّة الترابط التاريخي العربي لا ينبغي أن تُبتسر في اللغة والثقافة والدين، بل يتعيّن أن تطرح على نفسها مهمة صياغة جغرافيا عربية جديدة. ويستدعي استكشاف مختلف هذه الزمنيات المتصلة بصياغة السردية التاريخية العربية وفي عملية "عود على بدء تبحث في الزمن الضائع" غلق حلقة علاقة كتابة التاريخ العربي بصناعة التاريخ الكوني عبر التوقّف عند عمق تحولات زمانيات ما بعد التسلطية العسكرية مصريا وفكّ شفرة علاقتها بثنائي التاريخ والذاكرة وفقا لما جسّمته التصورات التي صاغها "بندكت أندرسن" ضمن مؤلفه "الجماعات المتخيّلة تأملات في أصل القومية وانتشارها". لذلك تم اللجوء إلى توضيح الأدوار التي عادت لما وُسم بالـ"خبرة التزامنية"، و"التمثّل"، و"عجلة الإنتاج"، في صياغة الانتماءات القومية والكشف تبعا لذلك عن فشل الدولة المصريّة في "إنتاج الزمن اليومي" ودوران شرعيتها زمن حكم مبارك ضمن خطاب ممجوج حول النماء، مع الدفع نحو الانخراط في دوامة الـ"تذكّر الباعث على النسيان Remembrance"، وتعمّد تغيير الحقائق أو تذكّرها بشكل منقوص ومغلوط. وهي حقيقة مُفزعة كشفت الثورة عن كارثيتها بمجرد فتح الأرشيفات السرية والاطلاع على وثائق الحروب العربية الاسرائيلية والتبصّر تبعا بزيف الخطاب الرسمي، مع إشراع الباب أمام زمنية محرجة أرّقت مضاجع الفاعلين السياسيين والمدنيين بعد أن ثبت تورط جميعهم بشكل أو بآخر في التصديق على ممارسات مُخزية وذلك تحت غطاء بناء مشاريع الدول الوطنية عربيا وتحصينها. "الخروج إلى النهار": كتابة السردية الوطنية ومأزق التوظيف السياسي توزعت العروض التي تضمنها هذا القسم جغرافيا على مجالين كبيرين، اتصل أولاهما بعينات من التواريخ الوطنية لبلدان المشرق العربي (فلسطين، ومصر، والأردن، والعراق)، بينما خصّ الثاني تواريخ بلدان المغارب (تونس، والمغرب الأقصى، وموريتانيا). فقد كشفت مساهمة نهى خلف المحسوبة على أول المجالين وبالاستناد على مذكرات الصحفي الفلسطيني عيسى العيسي (1878 - 1950) والتعويل على المقاربة التاريخية المجهرية، عن جوانب غير مبذولة من تاريخ فلسطين امتزج داخلها الذاتي بالموضوعي والتبس ضمنها الماضي بالحاضر. بحيث منح وقوع التحليل المجهري عند نقطة الالتقاء بين الزمان والمكان، فرصة سانحة لملء شواغر التاريخ الفلسطيني وخاصة ذلك الذي يمتد منه من العهد العثماني إلى تأسيس ركائز الكيان الصهيوني، مرورا بالحكم العثماني والثورة العربية الكبرى. فقد بيّنت المعالجة التاريخية المجهرية لمحتوى مذكرات "العيسي" مسايرة العثمانيين للحركة الصهيونية ودعمهم للإقطاعين في سطوهم على أراضي الفلاحين دون حق قبل التفريط فيها بالبيع للمهاجرين الصهاينة. كما أثبتت تعاون الحركة الصهيونية مع الأنظمة العربية إبان الثورة العربية، ووعي الجيل الأول من الفاعلين السياسيين بوجود فروق بين التيارات الصهيونية أيام الانتداب البريطاني، وتضرّر الفلاحين بسبب خطّة التقسيم التي دفعتهم لتشكيل النواة الصلبة للمقاومة، ومناصبة المحافظين من كبار الملاك -وباعتبار الغياب التام للبرجوازية- العداء لهم. وتنهض مختلف هذه الحدوس المجدّدة وغيرها حُجّة على أن الاهتمام بالمكان والذاكرة والجماعة والثقافة والهوية مُعتبر في الكشف عن المنافسات والصراعات الـمُعلنة أو المكتومة بين مختلف الفاعلين التاريخين، وذلك قصد مزيد فهم الأسباب التي تقف ولا تزال وراء إخفاق فعل المقاومة فلسطينيا. عرضت مساهمة "نجلاء مكاوي" من جانبها إلى التحوّلات التي طالت التأريخ لمصر الحديثة والمعاصرة "اتجاها ونظرية ومنهجا وقيادة"، وذلك منذ أن تحوّلت الجامعة المصرية ومع حلول سنة 1925 من طابعها الأهلي إلى طابع حكومي. فقد تساءلت الباحثة عن مستويات التحوّل أو الانتقال في صياغة المعرفة التاريخية وبناء التراكم المعرفي منذ الالتزام بمحوريّة دور الفرد في صياغة الفعل التاريخي إلى علاقة نفس تلك الصناعة بفعل الجماعة توافقا مع التفسير المادي للتاريخ في تصورات مؤرخي اليسار المتأثرين بالنظرية الماركسية، فالاستجابة لمقتضيات الهوية في مراجعات الباحثين الإسلاميين وتفسيراتهم. وهدفت تلك السيرورة إلى توضيح دور المؤرخ في التحولات الفكرية والخصوصيات السياقية التي شكّلت نبراسا لبحوثه الأكاديمية، مع تحديد طبيعة الأدوار التي عادت له في توظيف معارفه قصد خدمة أهداف ثقافية وسياسية متباينة، وكذا حقيقة دفعه باتجاه التأسيس لبروز مدارس في الكتابة التاريخية مصريا. حيث تُقرّ الباحثة أن الاشتغال على فعل القادة والعظماء بوصفهم محركين للتطوّر التاريخي المصري، أو الاشتغال على سياقات بناء مختلف الأنظمة السياسية الحاكمة كما التبصّر بروافع ومسارات تاريخ الحركة الوطنية وطبيعة التطوّرات التي عاينتها بنية الذات التاريخية، قد أضحى مثار شكّ بعد الرجّة العنيفة التي أحدثتها وقائع بداية سنة 2011 الفارقة. وهي أحداث دفعت بالأجيال الجديدة إلى مناوئة توجّهات السلطة المستبدة وفي وصايتها على مختلف شرائح المجتمع من تزوير للذاكرة الحيّة وتعمّد محو سجلات الثورة وصورها وأحداثها والتعتيم على مختلف الملابسات التي سبقتها وحدّدت حصولها على الحقيقة، لكأن الإصرار على استدعاء الخطاب القومي والدفع نحو إعادة إنتاج مقومات زمن التسلّط والاقصاء قد حفّز تشوّف الأجيال الجديدة بل وإصرارها على التحرّر من ذلك الإرث، والدعوة المعلنة إلى القطع مع مخلفاته الكارثية من خلال إعادة قراءة معافاة من جميع نوازع التضليل والتلفيق لتاريخ مصر الحديث والمعاصر. وتكشف بقية المساهمات الخاصة بالمجال المشرقي تلك التي عادت مهمة خطّها وبخصوص علاقة الأردن بالتاريخ الوطني إلى "مهند مبيضين"، وفيما يتصل بالسياقات المتحوّلة للكتابة التاريخية ومناهجها بالعراق إلى "نصير كعيبي"، عن اتسام المعرفة التاريخية بحالة من الاستمرارية المفتعلة أو الركود المخاتل أردنيا، يبدو التوجّس من فتح ملفات سياسية مُحرجة للأسرة الهاشمية الحاكمة وللأطراف القريبة منها باعثا أساسيا عليه، حتى وإن ثبت انخراط فعل تركيب تلك التواريخ في ظلال القضيّة العربية أو حول إشكالية تكوّن الشخصية الأردنية وإعلاء دور الحركة الوطنية، مع تفرّع تلك الكتابة على أربع مؤسسات متضامنة هي الجامعات واللجان الوطنية ومراكز البحوث والدراسات والعروض التاريخية المستقلة، تلك التي غلب عليها نفس أدبي واجتماعي غير خافي. على أن محصلة ما تراكم من بحوث في التاريخ السياسي تبعث على الاعتقاد في قلة نجابة المؤرخين (مع حضور استثناءات) في مبارحة المواقع المباحة رسميا وتشكيل خلفيّة فلسفية أو فكرية تنمّ عن حضور اختيارات مستقلة، فضلا عن التعامل النقدي مع تاريخ الحركة الوطنية أو البحث في تاريخ الكوارث والجوع والسجون والأمراض وغيرها من الإشكاليات المتفرّعة عن المقاربات المحسوبة على مختلف تيارات الكتابة التاريخية المحدثة أو المجدِّدة. ولا يخرج مسعى المبحث المخصص لعرض سياقات الكتابة التاريخية العراقية ومقارباتها المنهجية عن ذات الإطار، محاولا إعادة تقويم الصورة النمطية المتمثلة داخليا في تحولات الأيديولوجية الرسمية المهيمنة على المسار الجمعي، وباعتبار تأثير التحوّلات التي اعترت نمط الانتاج المهيمن، على تصريف الشأن الاقتصادي عراقيا على توجهات انتاج المعرفة التاريخية. في حين اتصل الأمر خارجيا بتعدد الحواضن التكوينية والمنهجية الغربية للآباء المؤسسين لتلك المعرفة. لذلك يصبح من غير الدقيق بالمرة وفي غياب التراكم المعرفي وانعدام المجايلة والتداول المبني على الجدارة والتأهيل الأكاديمي الحديث عن وجود مدرسة تاريخية بمواصفاتها المهنية ووظائفها التنظيرية والتأصيلية بهذا البلد، حتى وإن عاينت الكتابة حضور عدة "أنماط راسخة"، على غرار ما وسمه المؤلف بـ "النمط الوطني المحلي"، و"النمط الماركسي"، و"أنماط متحوّلة" على شاكلة ما وسمه أيضا بـ"الكتابة التاريخية القومية الإسلامية"، و"التاريخ الوطني" و"تاريخ الطائفة" و"نمط الكتابة الاقتصادية القومية"، تابع جميعها "سيرة الأمة ودورها في التاريخ" مُتعقّبا دور أبرز الفاعلين التاريخيين عبر تركيب مساراتهم الحياتية على الشاكلة التي هو ماثل بها ضمن مؤلَف عبد العزيز الدوري، "التكوين التاريخي للأمة العربية: دراسة في الهوية والوعي". شكلت الأربع مساهمات المتّصلة بمجال المغارب (المغرب وتونس وموريتانيا) رجع صدى لذات الإشكالية المخصّصة لمختلف القراءات التي دقّقت في طبيعة الشواغل الواسمة لسرديات الدول الوطنية وأشكال تركيب الروايات المؤسسة لمشاريعها المدنيّة والتنموية. فقد عرض عبد الرحيم بنحادة لمختلف أجيال منتجي المعرفة التاريخية (3 أجيال) وللمجالات البحثية التي اشتغلوا عليها كالتحقيق، والمونوغرافيا، والتاريخ العلائقي مع المشرق وأوروبا وإفريقيا، فضلا عن مساءلة الغيريات، والاشتغال على تاريخ الزمن الراهن، وصياغة العروض التركيبية، مع التعرّض إلى مختلف أُطر النشر الجامعي ومؤسساته وطبيعة العوائق التي تعترضه مغربا. وانتهت محصلة أبحاثه إلى الاعتبار بأن تمكّن المؤرخين المغاربة من الانفراد بقرابة ثلث انتاج المعرفة في حقلي الإنسانيات والاجتماعيات مغربا، لا ينبغي أن تحجب عن انظارنا اتسام التراكم المعرفي التاريخي بالهشاشة، مع انعدام القدرة على تجديد الأجيال بشكل يضمن الجودة والصدقية المأمولة وتراجع الإنتاج المعرفي بل وانحصاره منذ عشريتين. في حين عوّل محمد حبيدة في تواصل مع ما كنّا بصدده، على المضمون الغائم لمفهوم "ما قبل الكولونيالي" للتساؤل بخصوص وظائف التقسيم الزمني الاعتباري ومختلف الإمكانيات المتاحة لتناوله انطلاقا من مختلف البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، بُغية موائمته مع مقتضيات الزمن الطويل وتطبيقاته كونيا. بحيث عكس مقترحه رغبة في مراجعة استخدامات الزمن التاريخي المشدود للمفهوم "ما قبل الاستعمار"، سواء لدى المؤرخين أو عند المشتغلين على المعارف الاجتماعية ومساءلة مختلف تلك العروض في ضوء ما وسمه بـ "اتجاهات الإستوغرافيا راهنا". لينتهي وبعد استيفاء تحليل مختلف محاور مساهمته التي عرضت تباعا لمختلف تطبيقات الزمن ما قبل الكولونيالي ورصد استعمالاته في استقراء تاريخ المغارب وأنثروبولوجيا مجتمعاته، وإلى أشكال توظيف الأمد الطويل من خلال الانحياز الكليّ إلى ضرورة التجسير بين العصور الوسطى ورصيفتها الحديثة قصد مزيد فهم واقع الضفة الجنوبية الغربية للمتوسط عامة والمغرب الأقصى تحديدا وذلك حتى انتصاب الاستعمار الفرنسي بالجزائر سنة 1830، تأكيدا على مع ما نقله "فرناند بروديل" عن "إدمون فارال" من أن: "الخوف من التاريخ العريض هو ما يغتال ذلك التاريخ على الحقيقة". وحتى وإن كان لفاطمة بن سليمان حال طرحها لما وسمته بـ"سياقات مسألة الدولة في الاستوغرافيا التونسية الحديثة ومقارباتها" رأي مكمّل بهذا الخصوص، فإن اتكائها على المقاربات المنهجية المنشدّة إلى ما وسمته بـ "الدراسات الثانوية" (أو مشغل التابع) وكذا على "الدراسات ما بعد الاستعمارية" في مقاربات المختصّين في الدراسات العثمانية، هو ما مكّنها من التفطّن إلى النقلة التي طالت المعالجة التاريخية لموضوع الدولة وأشكال مقاربتها لمسائل الهوية والمواطنة والديمقراطية والتنمية تونسيا. فقد عاينت دراسة تلك المسألة وعلى إثر تصفية الاستعمار انتقالا جوهريا في النظرة والتأويل، بحيث أمكن المرور من اعتبار الدولة من قبل الجيل الأول من المؤرخين التونسيين كيانا ناجزا ومصدرا لكل فعل أو تحوّل مفترض، إلى إدراج مختلف مبادراتها ضمن الشبكة المتشعّبة للفاعلين التاريخيين، وفق المحصّلة التي انتهت إليها مختلف التصوّرات التي أقرتها مراجعات عدد من ممثلي الأجيال اللاحقة ومباحثهم. أدرجت الباحثة تقيمها المعرفي ومراجعاتها المنهجية لمجل التوجهات المستجلبة ضمن أفق توقف عند سياقات القراءة في ما أسمته بـ"أركيولوجيا الدولة الوطنية التونسية" لدى الجيل الأول "المهووس" بما نعتته بـ"هاجس الدولة" بوصفها منظومة عنف وهيمنة ونتاج لحداثة مستوردة وولادة لدولة سلالية محليّة، فـانبعاث لـ"أمة" مستقلة بذاتها من رحم دولة الخلافة أو الإمبراطورية العثمانية. لتنتهي وفي محور مقابل إلى إدراج النقلة المعرفية الحادثة ضمن تحوّلات التاريخ الاجتماعي الذي عالج تاريخ الدولة من الداخل ونوّع المناهج وغير سلّم المقاربات عاملا على ردّ كل قراءة لواقع بناء الدولة التونسية إلى "سقف" لا يفصلها عن حقيقة ارتباط تاريخها الحديث ومجمل ديناميته بوضعيتها القانونية بوصفها إيالة تابعة للإمبراطورية/ أو وللخلافة العثمانية. وهو ذات المنحى الذي جذفت باتجاهه عكسيّا مختلف دراسات عبد الجليل التميمي وعمّقته لاحقا مراجعات أسماء معلى وليلى بليلي، لتفكّك بنيته الداخلية، الأبحاث المنجزة بخصوص الأدوار التي عادت لمختلف الفاعلين داخل الجهاز الحاكم من أعوان مركزيين ومحليين، ومماليك، وزوجات ومحظيات/ أو ومحظيين وقريبات وغيرهم. وذلك في انتظار توسيع أفق ذلك التوجّه عبر مقارنته بما عاينه نشوء الدولة ببقية الولايات العربية زمن الحضور العثماني. بيد أن ما انتهى إليه إسهام حماه الله ولد السالم من استنتاجات بخصوص ما أسماه بـ "أزمة التاريخ الوطني في موريتانيا"، يعيدنا وبطريقته الخاصة إلى المربع الأول المتصل بتكالب مؤسسات ما قبل الدولة القبلية والمناطقية/ أو والجهوية على جميع ما هو سواها، تكريسا للـ"هوية الوطنية القلقة" الناتجة عن أزمة مشروع الدولة وأزمة كتابة تاريخها ومراكمة المعارف الموضوعية والمحكّمة بخصوصها في آن. والحقيقة أن مثل هذا المرض الطفولي الذي شاب المعرفة التاريخية لم يقتصر على التجربة المشار إليها، بل شمل جميع السرديات الموضوعة بشأن نشوء الدولة وتشكّل الذات الوطنية إفريقيا أو بمجال المغارب، بحيث كاد ابن خلدون أن يصير موضع نزاع "عقاري" بين مختلف بلدانه. تقصّى العرض منجز المباحث المتصلة بمختلف حقب التاريخ الوطني الموريتاني وتوقف عند مصادره العربية والمحليّة ومدارسه المعاصرة وعوائق كتابته وفي مقدمتها إرث السوسيولوجيا الاستعمارية الفرنسية وأشكال إنجاز المقررات المدرسية والأعمال التركيبية والأطروحات الجامعية وتلفيق المرويات السياسية الأيديولوجية وصعوبة صياغة الهوية الجمعية وضبط الحدود الترابية وسلطان القبيلة، فضلا عن حساسية المسألة الثقافية حول التعريب وزنوجية من نعتهم هيرودوت بـ"أصحاب الوجوه المحروقة" ومعضلة التاريخ المحلي وغيرها من المحبطات والمعوّقات. وهو ما يشي عامة بإخفاق مشروع الدولة الوطنية وضعف مؤسساته الحادثة إزاء سيطرة التواريخ القبلية والأسرية، الأمر الذي يدعو إلى المسارعة بتجديد معايير الثقافة الوطنية تأسيسا للوعي التاريخي العقلاني والانشغال بالموضوعات التاريخية الحقيقة تشوّفا لبناء تاريخ وطني "يسمح بالتوازن بين الخصوصيّة والكونية، والقطرية والقومية". ومهما يكن من أمر، فإن العروض التاريخية المتصلة بتشكّل تجارب الانتقال نحو توطين المفردات الترابية الحديثة ثم الوطنية بعد تصفية الاستعمار، وعلى أهمية التفاصيل التي وفرتها والتنويعات التي اختبرتها على صعيد السياقات التاريخية، تبقى في حاجة إلى التعرّف تفصيليا على بقية التجارب العربية التي خصّت الكيانات السياسية الـمُحدثة ببلاد اليمن وشبه جزيرة العرب والخليج العربي وكذا بقية البلدان العربية الأخرى (سوريا، ولبنان، وليبيا، والجزائر)، وهي تجارب يساهم التعرّف على ما طالها من تحولات بل ومقارنتها ببعضها البعض في تعيير الظواهر المختبرة بطريقة تُنصف تنوّع السياقات التاريخية وتأرجّح مسيرة التحديث عربيا بين تقديم التوجّهات المدنية الحديثة أو شدّ تجارب المركزة الترابية والسياسية إلى تصوّرات محافظة عروبية الهوى أو سلفية التوّجه. واقع المراكمة المعرفية في التواريخ المقارنة عربيا أو "القريب الفقير": لم تعدم العروض المدرجة ضمن الأثر الجماعي الذي نحن بصدد استعراض محتوياته نقديا، توقّفا عند إشكالية المراكمة في التواريخ المقارنة عربيا، وذلك من خلال تخصيص خمس مساهمات تولّى صياغتها كل من "سامر عكاش" و"عز الدين جسوس" و"طارق مداني" و"صالح علواني" وفقيد المؤرخين العرب "محمد الطاهر المنصوري"، بغرض الوقوف عند إمكانيات تطوريها وتحديد البعض من مراجعاتها الفارقة أيضا. فقد خاضت تلك العروض تباعا في الاشكاليات الجديدة التي يطرحها التأريخ عربيا للعلوم، توافقا مع النقلة التي عاينتها أشكال تقليب تلك المسألة لدى المؤرخين الغربيين العارفين بها. كما قيّمت وفي ثلاثة عروض متضامنة معرفيا محصّلة التأريخ لمجال "الغرب الإسلامي" أو/ و"إفريقيا الشمالية" وأشكال استلهام القراءة الخلدونية في صياغة تاريخ تلك المنطقة، ماضيا وحاضرا. كما تناولت بالتقييم تطوّر البحوث حول تاريخ الأندلس وموقع ذلك ضمن المراكمة المعرفية عربيّا وغربيّا، محاولة الالماع وضمن آخر مساهماتها لمضمون الاشتغال ومن بوابة المعجمية اللغوية على صورة البيزنطيين في المدونة التراثية والحضارية العربية. فلئن تبيّن بالحجة والدليل تجاوز الدوافع التي كانت وراء الاشتغال بتاريخ العلوم عربيا تلك التي تمثّلت في الرد على تجاهل الرواية الغربية لإسهامات العرب العلمية والإبداعية، فإن إدراك الغرب لهنات تلك القراءة بل واعترافه بالتقصير وتغييره للمناهج المعتمدة من خلال التشديد على الدور المهم الذي عاد إليهم في تطور العلوم، هو ما يفرض اليوم تجاوز القراءة النمطية التي لا يتعدى أفقها موقع المناكفة أو السجال التقليدي، قصد كتابة رواية جديدة لتاريخ العلوم تخلو من الردود الانطباعية ومن كل نزعة استعلائية غربية لازمت تلك العروض وثبت حضورها ضمن مركّبات المنجز العلمي الغربي للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر. لاسيما وقد وثّقت العروض التاريخية الغربية بالحجة والدليل دور الشعوب الشرقية في تطوير المعارف بشكل عام والارتقاء بالرياضيات والفلك في حق الشعوب العربية الإسلامية بشكل مخصوص، علما أن "توثيق المعلومة العلمية شيء وطرائق توظيفها في كتابة تاريخ العلوم شيء آخر". وتتمثل المفارقة بهذا الصدد في أن مقاومة تهميش دور العرب ضمن المنجز العلمي الكوني قد انجرّ عنه عكسيا تطويق ذلك الدور بل وابتساره في الحقبة الوسيطة دون ما سواها. لذلك فإن مؤرخي العلوم العرب مدعوون حاضرا إلى قراءة مرحلة ما بعد "كوبرنيكوس" عربيا بعين المقارنة قصد تحديد إحداثيات موقع العرب الفكري المتغيّر في مسيرة التطوّر العلمي وبناء رواية عربية توضّح الأسباب الحقيقة التي حفّزت وبعد النقلة التي أفضى إليها اكتشاف موقع الأرض ضمن المجموعة الشمسية لتحقيق ثورة فكرية وعلمية غربا، بينما قُبل نفس ذلك الحدث الجلل بلامبالاة تامة داخل المجال الثقافي العربي الإسلامي. مع الحرص على تفادي الوقوع في التبريرات الانطباعية التي لا تخدم سوى القراءة النرجسية الغربية وكذا النظرة السلفية الرافضة لفكرة الثورة العلمية الغربية والتشديد في مقابل ذلك على مدلول "الاقتناء" لا "الاستعارة" ذاك الذي أسعف العرب على أيام ازدهارهم في نقل المعارف عن الحضارات السابقة وتملّكها وحرية التصرّف فيها وذلك بغضّ النظر عن هوية صانعيها. وهو ما أكدت عليه وبطريقتها الخاصة العروض التي بتّت في طبيعة الصورة التي عرضتها اللغة العربية للبيزنطيين طوال الفترة الوسيطة، وهي عروض شدّدت وبشكل بليغ ومنتج للدلالة أيضا على انتقال اللغة اليونانية في القاموس العربي وانصهارها ضمنه كما لو أنها قد نسلت عنه. والطريف بهذا الصدد أن البحث عن بدائل أو عن مطابقات، تقريبا للواقع البيزنطي من ذهنية العربي أو تعريبا ودمجا لمصطلحاته بشكل مباشر في اللغة العربية، قد توازى مع انتشار جاليات رومية بالمجال الإسلامي ووجود علاقات متأصّلة بين الطرفين أحالت عليها وفّرة المصطلحات والمفردات اليونانية ضمن القاموس اللغوي العربي، سواء فيما يتعلّق بالتسميات العامة أو بالمؤسسات السياسية كالإدارة المركزية والامبراطورية والمؤسسات العسكرية وأسماء الأعلام والمصطلحات الدينية والمالية، توسيعا للاطلاع وتأصيلا لقيم الفضول، تشوّفا لمزيد التعرّف على الغيريات المسيحيّة كالروم أو بني الأصفر، عملا بمأثور العرب من أن: "من تعلّم لغة قوم أمن شرّهم". ابتغت المساهمات المخصّصة للخوض في مناهج المقاربات التاريخية الموضوعة في واقع مجال المغارب والأندلس، التدقيق في محصلتها من بوابة تأثّر من خاضوا بشأنها بالاستشراق الغربي زمن الحضور الاستعماري، وتوضيح مستويات تحرّر عروضها من تلك النظرة القاصرة عبر معاينة التطورات التي طالت مقارباتها ومراجعاتها لمختلف الحقب التاريخية وخاصة الإسلامية من بينها. وتم التعويل في ذلك على العديد من المدونات المصدرية الموضوعة في اللغة العربية، وهي مدونات طالت شتى ضروب المعرفة الدينية العالمة بمختلف أجناسها، ثبت بالبحث والتقصّي العزوف عن استدرار مضامينها من قبل غيرهم من الدارسين الغربيين، بل وقلة نجابتهم في معالجتها معرفيّا من أجل تطوير نظرتهم وتوسيع أفق مراجعاتهم التاريخية بخصوص تواريخ ذلك المجال. وهو أمر يثير كثيرا من الاستغراب لا سيما وأن التحّجج بالنقص في امتلاك اللغة العربية لا يتعارض بالضرورة مع الحرص على الاطلاع على تلك الجهود بل والاستفادة من مستوى مراكمتها، دفعا نحو مزيد تطوير حركة الأفكار وتجويد المحصّلة العلمية بين ضفتي المتوسط وكذا ما جاوز تلك الضفتين جغرافيا. وهو عين ما أوردته المراجعات الموضوعة في حق البحوث المنجزة منذ تصفية الاستعمار حول تاريخ المغارب والتدقيق في حقيقة تذيّلها للمقاربات الغربية التي تنازعتها توجّهات استشراقية غير خافية، مع عدم انعدام القدرة على تجاوز المنزلقات الإيديولوجية للسرديات الوطنية. (وهو تقييم غير منزوع من الحدّية بل ومُجانب للدّقة في مواضع عدة منه). على أن تكمن سياقات التجاوز أو الخلاص وفقا لنفس تلك المراجعات، في استعادة قراءة المدونة الخلدونية (المقدمة، والعبر، والرحلة، وشفاء السائل) بتوجيهها نحو ما أكدت عليه مدرسة الحوليات وخاصة ضمن العروض المنهجية التي وضعها "مارك بوك" حول محورية التعويل على تغيير المقاييس الزمنية ومراجعة واقع الهياكل الطبيعية والثقافية والاجتماعية قبل التفرّغ للتدقيق في زمن الأحداث حال اغتنائه بالمفردات الفارقة لفلسفة التاريخ، وجميعها تصوّرات بدت لنا هي أيضا وعلى طرافتها متعسّفة على الأزمنة التاريخية، ودافعة نحو تأويل ذلك المتن العميق الذي راجع أسس المعرفة التاريخية كونيا، باتجاه دفعه إلى قول ما لم يفكر واضعه نفسه في قوله مطلقا. ويبدو الأمر متشابها تماما إذا ما استقرأنا واقع الدراسات المخصّصة لتاريخ الأندلس تلك المساحة المشتركة حضاريا بين الغرب والشرق والتي عانت طويلا من حالة إعلاء مرضي حول ماضيها بتحويله إلى ما يشبه الأسطورة التي أرزت بتاريخه ونقلت سرديته الجامعة إلى مجال ملتبس أعلى من فعل الذاكرة والمتمثّل على ما سواهما. وهو ما يشي بطريقته الخاصة بعدم خلو المحصلة العلمية التاريخية المتّصلة بمسار البحوث الموضوعة في تاريخ الأندلس شرقا وغربا بكثير من التهافت، سواء تعلّق ذلك بتحديد المفاهيم ومراجعتها (إسبانا المسلمة، والأندلس، والاسترداد، والاستبداد الشرقي، ومأزق الأصول)، أو فيما يتصل بالقطع مع فكرة "الفردوس" الضائع وإثارة إشكاليات بديلة تضع حدّا لردود الفعل الانطباعية المشوِّهة للحقائق ليصبح البحث في تاريخ الأندلس "مُعتبر لذاته لا لما يراد له أن يكون". لا سيما وقد خَطَتْ المعرفة التاريخية في ماضي إسبانيا الأندلسي وبعد انقشاع سحب الدكتاتورية حال وفاة "فرانكو" سنة 1975 خطوات هامة باتجاه المكاشفة والمصالحة مع الذات، توافقا مع ضرورات الانفتاح وتأصيلا للتعدّد الثقافي وبناء الديمقراطية. بات واضحا أن مختلف الاسهامات التي خُصصت للتاريخ المقارن قد استهدفت وبشكل مركّز غيريات أو آخريات مفارقة لا تنتسب لنفس المجال الحضاري أو نفس الأعراض الجغرافية. وأنها لم تطرح على نفسها منهجيا معالجة الموافقات والاختلافات من موقع التناسب الافقي لا العمودي، لكأن الانتساب إلى ذات المجال الاعتباري السياسي أو الثقافي والحضاري يُعفي من تمثّل الفوارق داخل مختلف مركبات المجال العربي الواحد، قصد تدبّر خصوصيات سياقاتها وعرض مساراتها الخاصة على محكّ القراءة المقارنة. أشكال تأويل الـمُتمثَّل في التواريخ العربية: جمعت العروض المخصصة لهذا البعد الختامي المشتغل على تأويل المتمثَّل تاريخيا 9 مساهمات، يستقيم ردّها إلى مجموعتين متكاملتين، حاولت أولاها معالجة متونها التي تحيل على المروية الأسطورية (يحيى بولحية) وطبقات الصحابة الأوائل (محمد حمزة) والسِّيَرِ التأسيسية (عبد الله علي إبراهيم) أو الشعبية (عمرو عبد العزيز عمر وعبد العزيز لبيب) من خلال تأويل مضامينها وسياقات انتاجها باعتباره محاولة لإعادة تركيب الخبر التاريخي إلى مجال التمثلات الذهنية تلك التي تحيل على الاندساس العميق للذاكرة في تلافيف متصوّر الأفراد كما الجماعات حول شخصياتهم التاريخية وحقيقة انتماءاتهم أو أصولهم. في حين اشتغلت بقية المساهمات بتقييم علاقة الذاكرة بالتاريخ وأشكال كتابة تاريخ التمثلات ضمن ما راكمته التجارب المغربية (عبد العزيز الطاهري) والجزائرية (مسعود ديلمي) والسودانية (محاسن عبد الجليل)، على أن يتم غلق دفتي الكتاب بتعيير المستوى العلمي للإنتاج المعرفي في الأنثروبولوجيا التاريخية بالتفحّص المجهري للمواضيع المطروقة من قبل المؤرخين والباحثين الجامعين المنشور ضمن أعداد مجلة "إنسانيات" الجزائرية (عبد الواحد المكني). فقد استفاد حضور الذاكرة ضمن كتابات المؤرخين المغاربة من السياقات الخصوصية لفتح باب الحريات السياسية والاجتماعية وانجاز العدالة الانتقالية من قبل هيئة الانصاف والمصالحة منذ بداية القرن الحالي، فضلا عن تزايد الطلب الاجتماعي على هذا النوع من التواريخ وخاصة فيما يتصل بالماضيين القريب (الاستعمار) والراهن (الاستقلال) دون غيرهما من المراحل التاريخية السابقة الأمر الذي يدعو إلى تأصيل مثل تلك المعالجة وتطوير تغطيتها لبقية الحقب التاريخية من خلال مساءلة "الإستوغرافيا التقليدية والاستعمارية والوطنية وتقييم ما ركمته البحوث الأكاديمية للجامعيين وعلاقة ذلك بتاريخ الزمن الراهن في علاقة الشاهد بالمؤرخ"، حتى تتبين لنا الفواصل بين التمثلات الانفعالية والانطباعية والاسطورية الانتقائية للذاكرة قياسا لمحاولات عقلنة الماضي ونقده من قبل الكتابة التاريخية. ولا يختلف الأمر كثيرا فيما يخص تقييم العلاقة الملتبسة للمعرفة التاريخية حول الجزائر بإشكالية إحياء الذاكرة وعدم خلو منجزها من شبهة التحيّل بل والتدليس، سواء خلال مرحلة الاستعمار الطويلة أو ضمن مُنجز المؤسسات الجامعية بعد ظهور دولة الاستقلال، فضلا عن مختلف محاولات التسلّط على التاريخ وتوجيهه إيديولوجيا، قبل أن تنفرج الأوضاع نحو مزيد من الانفتاح وصون الحريات الأكاديمية ومراجعة منجز الباحثين الجزائريين أو/ ومن سواهم حول تاريخ الجزائر نقديا منذ تسعينات القرن الماضي. وتأسيسا على جميع ذلك تمت إثارة محصلة ما وُسم بـ "منعطف الأنثروبولوجيا التاريخية" داخل مجال المغرب وانتقال الكتابة التاريخية من مضامينها "الساخنة" التي تحيل على "المقاومة والثورات وحركات التحرر"، إلى مضامينها "الباردة" التي تحيل على "الأنساق والذهنيات أكثر من الشخصيات والمنعطفات والحوادث". فقد تمحورت عملية التقييم على القراءة في "المنعطف الانثروبولوجي" والتعرض إلى أرشيفاته ومناويله / بارديغماته بخصوص إشكاليات التصوّف (وهي مجالات تم الاعراض عن ذكر من توجّهوا نحو مقاربتها بشكل مقارن)، وكذا العائلة والأوبئة والجوائح والمجاعات، وعلاقة ذلك بالتغذية النباتية. في حين استهدف التحليل الموضعي تقييم المضامين المدرجة ضمن مجلة "إنسانيات" الجزائرية الصادرة بانتظام منذ أواخر تسعينات القرن الماضي (1997)، والمكّملة لنظيراتها الواردة ضمن أعداد مجلتي "إيبلا" التونسية (1937) و"هيسبيرس" المغربية (1927). مع سحب مختلف الاستنتاجات الخاصة بمجال المغارب على ما عاينته المجالات المشرقية قصد الدفع نحو تطوير ذلك المنعطف الحاسم باتجاه مزيد تطوير الأبحاث المتّصلة بـ"الحقب التاريخية والمقارنة وعلاقة المحلي بالمركزي والقطري بالقومي...وتجديد أمثولات البحث بتكثيف مسائلة المألوف منه أو الثابت". وليس بعيدا أن يمثّل تعهّد مسألة "التاريخ المطموس" بالتوضيح باعتباره دعوة صريحة إلى الحجب والتشويه والمحوّ، محاولة طريفة وجد جريئة في مزيد تأصيل المراجعات المنجزة حول تاريخ الجنون وتاريخ الرق وعلاقات ما بعده في اتصال جميعها بالمتمثَّل والإنكار والإهمال الاجتماعي والطمس وارتسام "التابو"، بل وعصيانه على الفسخ والتجاوز، وأصرة ذلك بتاريخ الجنسانية والنوع الاجتماعي وإعادة الادماج، تفكيكا لعلاقات النبذ والتهميش والإقصاء وتوسيعا لمجال الحفريات في "أركيولوجيا" المعرفة التاريخية من بوابة جمع وثائق تاريخ المطموس سودانيا وفتح سجلاته وتدبّر محتوى المذكرات والرسائل الخاصة والمقابلات الشفهية والبحوث الميدانية واستدرار مضامينها ومساءلتها بخصوص معاني الطمس وعلاقتها بالتاريخ وبتاريخ الجنون والرق (خلف البحار، وداخل الديار، وتوقيعا على الجسد، واسم مصير)، حتى تتبيّن لنا حقيقة تماهيه مع التاريخ ذاتيا واجتماعيا، اندساسه في الذاكرة ضمن منطوق المدونة الشفوية ومسرحة الخبر وتكثيفه وتعقيده بطريقة يحتاج معها المؤرخ إلى "تجديد أدواته واجتراح جديدها" "تذليلا لتحديات بناء المعرفة التاريخية". لكن ما الحدود الفاصلة بين الأسطورة والتاريخ وكيف يمكن الاستفادة من الخبر الميثولوجي في صياغة المعطى التاريخي؟ وما الحدود الفاصلة بين الدرسين غربا وفق ما أوضحته أبحاث كل من " كلود ليفي شراوس" البنيوية و"إدغار موران" المعرفيّة و"موريس هالفاكس" الـمُفردة للذاكرة الجمعية؟ ثم ما السبيل إلى توظيف المناهج الجديدة (الأنثروبولوجيا تحديدا) في قراءتها؟ وما مسوّغات عرض الميثولوجيا الأندلسية (أسطورة بيت الحكمة) ورصيفتها التحديثية المتصلة بـ "الأماتيرواسو" يابانيا، اقتناصا للّحظات الإيجابية المؤسِّسة لفعل التنمية حال إعادة قراءة التاريخ وتجنّب مختلف الألغام المندسّة عميقا في ذاكرتنا الجماعية. ذاك ما قامت عليه بقية الدراسات التي أُفردت تباعا لسير الصحابة الأوائل، أو تلك التي تم تخصيصها لقراءة الـمُتَمَثَّل في ثنايا السير والمرويات الشعبية المتصلة بـ "فتوح مصر (قصة البهنسا)" وبـ "التغريبة الهلالية" باعتبارهما وقائع مشحونة ملحميا، والجدل الذي أثارتاه والمتصل بتشكيل صورة بعدية للعصور الإسلامية، وكذا كيفية تركيبها لثابت معاييرها وقيمها من خلال تطهير الاخلاق الجمعية من المقاصد السياسية، فضلا عن معالجة مُفخخ النصوص حول المجموعات العرقية والطرفية (ذات الأصول المزدوجة الواقعة بين العروبة والافريقانية)، والقدرة على فضّ النزاع بوصفه "طقس ثقافي" و"حادث تاريخي"، يُتيح كتابة "تاريخ آخر" والدخول إليه من بوابة "الشهادات الهامشية المارقة عن القراءات المركزية المحتفلة بعالم الجماعة بأقاصيصه العجيبة وجنون شعراء سِيَرِهِ". لا مراء في حضور تنوّع شمل منجز المؤرخين العرب، ومكّن حال تشكّل الدُول الوطنية وتصفية الاستعمار من صياغة مضامين عالمة قطعت مع أفق الهواية أو التبحّر الكلاسيكي في كتابة التواريخ، حتى وإن بدا منجزها عامة متأثرا بالمناهج المعتمدة من قبل المدارس الغربية. فقد بيّنت العروض الواردة ضمن هذا المؤلف الجامع لأعمال مؤتمر بيروت المنعقد سنة 2016 حول أشكال "كتابة التاريخ العربي وتاريخ العرب". وهو أثر توزّع منجزه على أربعة محاور أو مضامين اتصلت تباعا بشواغل سياقية تعيد التفكير في الحقب الاعتبارية للتاريخ الغربي وتقرأ في مدى انخراط المعرفة التاريخية العربية في التصوّرات الكونية الملازمة لصناعة الأخبار، كما تبُتّ في صعوبات تحرّر تلك المعارف في مضامينها الوطنية من هيمنة السردية الرسمية المنحازة سياسيا لمشاريع الدول الوطنية، أو تلك الـمُنقطعة عن تلك السرديات الـمُتكئة على تصوّرات وحدويّة عربية أو سلفية إسلامية معلنة أو مبطنة وخفيّة. على أن تحيل بقية الشواغل المرصودة وضمن تقييم مساهمات ذلك الكتاب الجامع لمنجز الكتابة التاريخية العربية على مدى رسوخ التواريخ المقارنة الأفقية بين البلدان العربية، وكذا الاشتغال بالجوانب الأثرية والتراثية والانثروبو-تاريخية في مقاربة العلاقة الرابطة بين الذاكرة والتاريخ. وجميعها تقييمات أو مراجعات مفيدة يحسُن بالقائمين على المعرفة التاريخية عربيا أو المحسوبين عليها، الاستفادة منها قصد تنويع مناهج الكتابة التاريخية وتطوير مناويلها والتفكير - وعلى غرار ما أنجزته مدرسة الحوليات على أيام آبائها المؤسسين- في طرح سؤال التاريخ المقارن العربي، تساوقا مع ما راكمه منجزها أوروبيا منذ صدور مقال "مارك بلوك" التوجيهي في الغرض في غضون الثلث الأول من القرن الماضي.