dimanche 12 août 2012

"Linge sale"



"La femme est l'avenir de l'homme, elle est la couleur de son âme" disait Louis Aragon. 
Je vous invite à l'occasion de ce 56 ème anniversaire de la fête du 13 août à juger de vous même, en visionnant ce petit chef-d'oeuvre du réalisateur tunisien Malik Amara primé lors des dernières journées cinématographiques de Carthage et intitulé "Linge sale". 
Une parodie décapante d'une "saga" conjugale à la tunisienne, avec des inversions de rôle toutes aussi inattendues que captivantes, dont l'intérêt croyons-nous est de mettre à nu beaucoup de lieux communs et de mieux apprécier les effets pervers d'une éducation catastrophique basée sur la supercherie et le malentendu, ne générant qu'un enfer au quotidien. Une vie empoisonnée par la peur et dénuer du moindre respect de l'autre. 



C'est le bordélique qui rend à l'édelique sa monnaie de singe; et qui nous engage tous, hommes et femmes, à ne pas perdre de vue le long chemin qui nous sépare d'une émancipation citoyenne libératrice. 
Bonne fête de la femme donc à toutes et à tous.     
    

dimanche 5 août 2012

بشارة: "هناك حياة قبل الموت"



  

لما التقينا بأندري كونت سبونفيل André Comte-sponville  بباريس استرعى انتباهنا شيء مهم، فعلى الرغم من إلحاده المعلن فإن هذا الفيلسوف يُبدي عناية كبيرة بالروحانيات. فكتابه الأخير الذي يحمل عنوان "في البحث عن روحانية من دون إله A la recherche d’une spiritualité sans Dieu  " هو عبارة عن رواية لمنعطفات مغامرة شخصية ذات منحى روحيا شفافا.
سألناه أولا: يتراءى للعديد منّا أن الانفصال عن الكنيسة والقطع مع الإيمان بالله هو التوجه نحو عالم لا يتسع لأي روحانية. هل لمثل هذا السبب يزداد الاهتمام بتوجهاتك الفكرية التي تعتبر، وعلى نقيض ذلك، أنه بوسع الفرد أن يعيش روحانية عميقة من دون أن يكون مضطرا بالضرورة على الاعتقاد في وجود الله؟
- أنجزت هذا العمل لأثبت أنه حال انعدام اعتقادنا في الدين لسنا محكومين بالضرورة بالعدمية، فأنت تعلم أن المدلول اللاتيني للعدم يعنى "اللاشيء"، حيث يتصوّر البعض أنه إذا انعدم الاعتقاد في الله لا يبقى أي شيء. وأن العدم سقوط في الفراغ الروحي، وهو ما لست مواقفا عليه كليّة. لأنه إذا تغيّب الإيمان بالله يحتفظ الفرد بالأخلاق وهو ما أسميه بالإخلاص، مثلما يحتفظ بالروحانية. فأنا من بين أولئك الذين يعتقدون في إمكانية، بل وفي ضرورة وجود روحانية من دون حاجة لوجود الله.
لو تكرمت بتحديد ملامح هكذا روحانية؟
- الروحانية في التعريف العام هي حياة الفكر وانتعاش الروح، ومن منظوري الشخصي لا يستقيم القول بأن من اختاروا عدم الإيمان بالله يتوفّرون على قدرات فكرية أدنى من غيرهم. فلماذا يصرّ البعض على اعتبارهم أقل روحانية من غيرهم؟ ولماذا نفترض أنهم يبدون أقل اهتمام بالشواغل الروحية؟ كما أن الروحانية من منظور تفصيلي دقيق، هي حياة الفكر عامة وعلاقتها تخصيصا باللانهائي بالسرمدي بالمطلق، أي بطريقة أخرى فإنه يمكن اعتبار حياتنا الروحية انعكاسا لعلاقة النهائي باللانهائي، علاقة المحكوم بالزمن بما لا يتحكم فيه أي زمان،  علاقة النسبي بكل ما هو مطلق. فأن أكون مؤمنا بالله أو لا، فإن ذلك لن يحول بيني وبين رفع رأسي إلى السماء ومشاهده نجومها المتلألئة ليلا كي أتبيّن أننا في قلب الوجود في قلب الغموض في قلب اللانهائي. كما أن عدم الإيمان بالله لا يعفي من العيش في علاقة بالزمن، في علاقة بالأبدية ونقصد العلاقة بالحاضر ذاك الذي يبقى حاضرا على الدوام وبالمطلق في آن. وهكذا تتوفر الإنسانية مع حضور الله من عدمه على هبة التفكير في الروحانيات، لذلك من المؤسف حقا فصلها عن مثل هذا البعد. فليس من الموجب لأني ملحد، أن أعمد إلى التنازل على مثل هذا البعد المهم، مُتفصّيا من كل حياة روحية.
أتفهم جيّدا وجهة نظركم. لكن لماذا تقومون بإدراج مدلول كثيرا ما تصورنا أنه مقصورا على إطار التدين، ونقصد به الغموض ضمن ذهنية الإلحاد؟ فهل نحتفظ بنفس ذلك الشعور مع الالحاد؟
-    تماما، فبعكس ما نظن يتوفر تفكير الملحد على جرعة أكبر من الغموض قياسا لما يتوفر عليه تفكير المتدين. لأن الغموض الحقيقي هو غموض الوجود، تساوقا مع أحرج أسئلة ليبنيتز Leibnitz الميتافيزيقية : "لماذا يوجد شيء عوض عن العدم؟" لماذا الوجود؟ لماذا العالم؟ وهذا سؤال لا يتوفر على أيه إجابة ممكنة. لأنه في حالة ما أجبتني على سؤال الوجود بالانفجار الكبير الذي أنشأ الكون أو "البيغ بونغ"، فإنني سأسلك عندها مباشرة لماذا الانفجار الكبير؟ وإذا ما فعلت ذلك فإنك لا تجيب في الحقيقة عن السؤال، بل تقوم بزحزحته عن موضعه فحسب. وإذا ما سألتك لماذا "البيغ بونغ" وأجبتني بأن الله هو من قدّره حتى يتمّم خلق العالم، فإنك هنا أيضا لم تجب عن سؤالي ولم تقم عمليا إلا بنفس الزحزحة. أي أن سؤال الوجود "لماذا هناك شيء ما عوضا عن العدم؟" سؤال لا يحتمل أية إجابة ممكنة، وأن الوجود تبعا هو ما نسميه بالغموض. وهكذا فنحن في قلب الوجود، في قلب الغموض. فالمتدين يفضّل وضع اسما على هذا المدلول بإحالته على الذات الإلهية فيصبح بذلك أقل غموضا، بينما لا يستطيع الملحد ربط ذلك الغموض بأية تسمية، مفضّلا مواجهة مصيره ووجوده الغامض. وهو ما لا يشكّل في حقه عملية استئصال بالضرورة، بل إننا ممن يعتقد أن ذلك الأمر يحيل على مصير جمّاع البشر.
دعني أذكر هاهنا بما كنت بصدد التعرض له بخصوص تجربة التأمل البسيطة والممتلئة في السماء. لنحاول أن نخصّص هزيعا من الليل حال صفاء الجو للغوص في السماء المتلألئة بالنجوم، سنشعر عندها ونحن في هذا الكون المترامي الذي يحيط بنا، أننا في قلب الوجود ولم أقول في وسطه، نحن في قلب الغموض واللانهائي والأبدي والمطلق. هذا ما معنى الإنسان وهذا ما نسميه روحا فكرية، فالإنسان هو كائن نهائي مفتوح على اللانهاية، كائن له وجود مرتبط بزمان مفتوح على اللازمان، وهو كائن نسبي مفتوح على المطلق. لذلك فإن اختياري الإلحاد لا يدفعني إلى التنازل بالضرورة على هذا الانفتاح الذي يجعل مني إنسانا، ويمكنني من شعور بالامتلاء بذاتي الروحية.
ألا يسعفك ذات الأمر في أن تعيش أيضا؟ فعندما تعرض إلى مثل هذه القناعات، أجد نفسي أنا الذي يعتقد أن الإيمان ليس حكرا على الديانات، وأن رغبتها في احتكار الإيمان هي مجرد ادعاء واهم، أن التدين غير كاف لحصول الاعتقاد، لأن مسألة الإيمان تتوافق عمليا مع ما تفضّلت بطرحه، وأن حياتي لها مدلول ضمن شيء يتجاوزني، مع القبول بأن ليس بمقدوري تقديم جواب على مختلف الأسئلة الوجودية الكبرى. فعندما أقبل أن الإجابة عن معنى الوجود هي غير ممكنة، فإنني أضع نفسي على ما قدّرتم في الزمن الحاضر، معتبرا أن حياتي لها معنى حقيقي الآن وهنا،
لذلك يتعين عليّ أن أتجاوز تصوّر وجود شيئا آخر بعد ذلك. فلّ أحيها الآن وكفى.
-    نعم هذا ما سميته بروحانية الزمان الحاضر، فالحكمة وفقا لما قدره الإغريق هي أن نعيش الحاضر، أن نعيش أبدية الحاضر. فأنا أعتقد على غرار سبينوزا Spinoza   - وهذا ما قمت بتوضيحه مطولا طي كتابي - الذي أورد ضمن كتاب "الاثيقا Ethique": أننا "نشعر ونجرب أنّنا أبديون". وهذا لا يعني أننا سنكون على تلك الشاكلة بعد موتنا - وهو ما لم يكن سبينوزا من معتقديه ولا أنا أيضا- ولكن نحن نشعر ونجرّب كذلك أننا أزليون الآن وهنا، أبديون. وهذا ما يعني أن الروحانية هي أن نحي روح الحاضر، أن نحي الأبد حاضرا.
لكن هذا لا يعني أيضا أن ليس في الأمر سوى هذا، فأنا ممن يعتبر أن هناك ثلاثة أبعاد ناظمة للوجود البشري:
الأخلاق، وهنا كان للأديان دور مهم سبق وأن وسمته بـ"الإخلاص".
الروحانية وأقصد بها تجربة البحث الروحي، والانفتاح على اللانهائي وعلى المطلق وعلى الأبدية.
أما بخصوص معنى الحياة أو قيمة الحياة أو تذوّق الوجود، فأنت تعلم أن ما يُعطي معنى أو قيمة للحياة، هو بالأساس المحبة. فالأخلاق وحدها لا تكفي، والتجربة الروحية أيضا. وهنا دعني أشدّد على بُعد أساسي يحيل على إخلاصي الشخصي للقيم اليهودية المسيحية، بل وللقيم المسيحية تحديدا ولرسالة الأناجيل. فالمسيح هو أفضل من عبّر إنسانيا على فكرة أن الحب قيمة القيم، لأنه يُكسب الوجود قيمة ويسمح بتذوق الحياة. فليس لأنني ملحدا يتعين أن أتغاضى على إدراك عظمة رسالة على هذه الدرجة من السمو !
فأنا لم أخط هذا الكتاب قصد التشهير بالتديّن وبالمتدينين، وضعته من أجل مقاومة الدغمائية والسلفية والظلامية والتحجر، وفي تقديري الخاص لا يقع الحدّ أو "خط النار" كما يقال بين المتدينين وغير المتدينين، بل بين أصحاب الفكر الحر المتسامح من جانب، والظلامية والتحجر من جانب مقابل. المتدينون وغير المتدينين يتوفرون على تلك الخصال وعلى نقيضها طبعا، لذلك فأنني أعتبر هذا الكتاب عملا نضاليا ودعوة إلى السلم في آن. فهو صرخة ضد الأصولية والتحجر والظلامية، وهو في نفس المقام نداء للمسالمة موجّه لجميع أصحاب الفكر الحرّ من المتدينين ومن غير المتدينين الذين تتسم تصرفاتهم بالحرية والتفتح والتسامح. وهو في كلمة كتاب لنشر ثقافة السلم بين جميع أصحاب الفكر الحرّ وضد جميع أشكال التطرّف والمباغضة.
سؤال أخير أنتم الإنسان الملحد، حتى وإن كنتم "ملحدا يحمل أطيب النوايا"، بماذا تشعرون إزاء موتكم الشخصي؟ هل ينتابكم إحساس بعدم الطمأنينة والاضطراب، أم أنكم تنعمون بطيب الخاطر حال تفكيركم في هذا الموضوع؟
-    أنا أعيش هانئا مطمئنا من أجل حاضري، لكنني لا أدّعي أن تلك الطمأنينة سترافقني إذا ما صادف وأعلمني الأطباء مثلا أن أيامي على هذه البسيطة أصبحت معدودة.
بالمناسبة لمحت عرضا في يوم من الأيام مكتوبا على حائط من حيطان باريس الشعار الرائق التالي: "هناك حياة قبل الموت"، وهذه بشارة هامة لشخص ملحد مثلي.
أن توجد حياة بعد الموت، فذلك ما لا يعلمه أحد حتى وإن كنت أشك شخصيا في ذلك، لكنها لبشارة فارقة حقا أن "تكون هناك حياة قبل الموت"، لذلك يتوجّب على الجميع أن لا يتلهى بأي شاغل سواها مستندا إلى أن هادم اللذات سيجعلنا نفارقها يوما ما. ما يؤرقني على الحقيقة هو ليس نهايني المحتومة، بل موت الأقربين وأكثر من ذلك هو إمكانية الشعور بالألم وإمكانية شعور أقاربي بالأسى. أصدقك أنني رجل محتار ذو مزاج قلق. لن ألعب أمامك دور الحكيم، فأنا رجل منزعج. لكن ما يزعجني ليس التفكير في نهايتي أو انتقالي إلى عدم، فهناك شيء يتجاوز الموت والعدم ذاتهما، إنه الألم. فقد عرّف مونتاني الحكمة في جملة واحدة صافية وبسيطة كانفلاق النور: "أُحب الحياة". ومحبة الحياة تعني أن نتذكر أنها فانية، لذلك يجدر بنا أن ننعم بها، أن نجهد النفس في تواصلها بأفضل الطرق المتاحة الممكنة، وذلك عبر مقاومة الألم والحزن أو الأسى كما الجور والتعدي. وهو ما من شأنه أن يضفي معنى عميقا على وجودنا، ويسعفنا في تذوق نبع الحياة الصافي. 

                                                   

vendredi 3 août 2012

بين المعارضة و"المعاضدة": ملاحظات أوّلية






في ضوء المتغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية التي تعيشها البلاد التونسية بعد طي المرحلة الانتقالية الأولى المفضية إلى انتخابات 23 أكتوبر 2011 وصعوبات تحديد ملامح المرحلة الانتقالية الثانية المؤدية إلى استكمال المسار الديمقراطي والخروج من الوضعية المؤقتة والحرجة التي تعيشها البلاد أجهزة ومجتمع، يستقيم التساؤل بخصوص "الحداثة المعلنة  modernisme autoproclamé " التي تصدر عنها مختلف الحساسيات والتيارات والعائلات السياسية الموسومة بالتقدمية، سواء تلك التي اختارت الانضمام إلى الحكم أو تلك الموجودة في "المعارضة"؟ والتشديد على أهمية تجذير مدلول الدولة المدنيّة من خلال السعي إلى الفصل بين الفضاء العام والانتماء العقائدي تجسيما لمدلول الحداثة وتواصلا مع الإرث الإصلاحي التونسي بمختلف حساسياته أو تعبيراته. علما أن الهدف من جميع ذلك هو القدرة على التعبير على الذات بشكل دقيق ومفارق بالخصوص، قياسا للطرح الفكري الذي تصدر عنه مختلف التيارات الموسومة بالمحافظة، دينية كانت أم مدنية.
كما يتعين الإلحاح على ضرورة توضيح القاسم المشترك للتيارات التقدمية مع بقية العائلات السياسية والحساسيات الفكرية تونسيا، وقدرة خطابها على التبليغ، مع التحديد الدقيق لطبيعة الإضافة التي يُنتظر أن تُشكل إسهاما خاصا لها في مسار إنضاج الثقافة السياسية وإكساب مشهدها الحالي، فهما دقيقا لمتغيرات الواقع المحلي والإقليمي والكوني. كما ينبغي الوعي بالتقاطعات التي تربط هذه التيارات بمختلف العائلات المناضلة، السياسية منها والنقابية والمدنية والثقافية. وهو ما يمكن اعتبره إسهاما في إعادة صياغة خصوصيات الهوية التونسية وإنضاجا لمدلول الحداثة، واستجابة للحاجة الملحّة التي يبديها "الرأي العام" حاضرا، وخاصة بالمناطق الداخلية، عبر التساؤل عمّا يربط هذه التيارات السياسية الموسومة بالتقدمية بمختلف الحساسيات المشكّلة للعائلات السياسية الأخرى، وما يميّزها عنها؟
لكن ما هو المدلول العميق للحداثة في ظل الحرج الذي يتسم به الانتصار لمبادئها ضمن المشهدين السياسي والثقافي التونسي حاضرا، وتحوّله بَعْدُ إلى وسيلة سهلة للتهجم على جميع الداعين إلى حسم مسألة انخراط البلاد في مسار الحداثة منذ انطلاقها مع بروز التجربة الإصلاحية عند أواخر القرن التاسع عشر، إي منذ قرن ونصف على الأقل؟
إن شعارات الثورة المتصلة بالحرية والكرامة لا يمكن فصلها عن ممارسة المواطنة والاحتكام إلى التعاقد والالتزام بالقوانين، وجميعها توجهات تنخرط تماما ضمن صيرورة الحداثة. على أن المستغرب هو أن كل محاولة للدفاع عن مكاسب الدولة المدنيّة أصبحت تجابه حاضرا بمزيد من التحفظ والارتكاس، وتُؤًوَّلُ من قبل شرائح واسعة داخل المجتمع التونسي باتجاه مدلول ضيق يحيل على نزوع إلى الانطواء بل وإلى العدوانية أيضا ! فنحن نلاحظ حضور مزايدات بخصوص الخطاب الحداثي مع عدم التحفّظ في وصم دعاته بـ"الزندقة" وتكفيرهم عنتا والتحريض على تهميشهم بل والتشفي منهم، مما يثبت الاختلاف الصارخ بين الدستوريين والنهصاويين في ما يتعلق بما يصح وسمه حاضرا بـ"عودة الديني أو التبئير حول الطقسية الروحية". ذلك أن السمة الطاغية على الخطاب الفكري الانتقائي للتيارات السياسية الدينية هي ضعف المعرفة بمصادر إصلاح الفكر الديني نفسها. فحال إشادة الإسلاميين التونسيين بدور محمد الطاهر بن عاشور في تجديد الفكر الديني مثلا، يعتّم هؤلاء على التوجهات المتفتحة لابنه الفاضل، معتبرين أحفاد ذلك العلم (على غرار سناء وعياض مثلا) أبناء غير شرعيين لذات العائلة، شوّهوا إرثها بل تورطوا في مسخه بالرمّة، موضحين في هذا الصدد أن التجديد الحقيقي للفكر الديني يتعين أن ينهل - بزعمهم طبعا - من توجهات مفكري السلف من أئمة السّنة على غرار بن قيم الجوزية الذي يشكّل يوسف القرضاوي وابن باز حاضرا تواصلا حقيقيا معها، وذلك تساوُقا مع ما صرّح به زعيم النهضة ومنظّرها راشد الغنوشي الداعي إلى إقرار مبدأ "التدافع الاجتماعي" كآلية في تجاوز الاختلافات الفكرية، مع العمل على "أسلمة الدولة من الأسفل". وهو ما يتعارض بالكامل مع ضرورة اتخاذ الدولة موقع الحياد، ويكشف عن النوايا الحقيقية للتيار المحافظ الـمُقحم للدولة ضمن التجاذبات السياسية، غير المكترث على الحقيقة بفصل الدين عن السياسة.
ومهما يكن من أمر هذه التوجهات المعادية للفكر الحداثي وللنموذج الاجتماعي الناسل عنه، فإنه يتعين التأكيد على شدة تأثير النموذج الفكري الفرنسي على الذائقة التحديثية التونسية إلى حدّ يستقيم معه التساؤل بخصوص صحة حضور نزوع من قبل العائلات الفكرية والسياسية التقدمية التونسية إلى حالة من الاتكال بل والحضانة أسهمت في سجنها ضمن تصورات أحادية جعلت من عملية إعادة تملّك القيم الكونية محلّيا مغامرة عسيرة الولادة غير مأمونة العواقب! والحال أن تاريخ التوجهات التقدمية كونيا يشي بتنوّع الحداثات ذات الروافد الأنحلوساكسونية والإيطالية بل واليابانية في مرحلة متأخرة، قياسا لكونية قيم الثورة الفرنسية. في حين أن الفارق بين التقليد والمحافظة لا يتمثل بالضرورة في القطيعة مع التاريخ بمقدر ما يجسّم نزوعا باتجاه حالة من الإسقاط يصرّ المنتصرون لها على رفض كل قراءة سياقية متوهمين القدرة على تكريس حالة من التساوق بين الواقع وبين ماضي مثالي موعود.
فقد بينت نتائج انتخابات المجلس التأسيسي التي أُجريت في 23 من شهر أكتوبر 2011 أن العامل الحاسم في تلك الاستحقاقات السياسية قد تمثل في حضور قدرة على التكاتف ورصّ الصفوف لدى التيارات المحافظة والشعبوية قياسا لتشرذم التيارات المنتسبة إلى العائلة التقدمية الموسعة. فالفارق الذي أحدثه تيار "العريضة الشعبية" مثلا على حساب مناضلي القطب الحداثي المدافعين على المطالب المتّصلة بالحق في الشغل والصحة والتعليم والسكن ضمن ما سمي بــــ "Dignity Act" يبدو جد جليا في الأحياء الفقيرة لتونس العاصمة وبالجهات الداخلية أساسا، وفقا لما أسفرت عليه نتائج تلك الانتخابات. فقد وظفت التيارات المنتصرة آليات بسيطة تتصل بكارثية إمعان المنتسبين للعائلة التقدمية من بين النخب الحضرية المتعلِّمة خاصة في التعالي وضرب قيم البداوة وتهميش الفئات الفقيرة والحطّ من قيمتها من خلال الإسراف في تشغيل آليات "الحُقْرَة"، مع النجاح في مسايرة أساليب التفكير داخل المجتمع التونسي التي لا تزال تعوّل بشكل فاضح على نظام الثنائيات (متديّن – ملحد – مسلم – كافر ). هذا بالإضافة إلى الطبيعة المفتوحة لتلك الآليات التي أصبحت تشتغل حاضرا وفقا لمنطق خارجي يتعامل بكثير من الدُونية مع ذاته وحقيقة واقعه المحلي.
ولعله من المفيد في هذا الصدد الاستدلال في توضيح بعض التحولات التي بدأت إرهاصاتها تبرز على الواقع التونسي من خلال مقارنتها بمختلف التطوّرات التي عاينتها الساحة السياسية المصرية، تلك التي حقّق داخلها "حزب النور" القريب من الطرح الأصولي الوهابي مثلا نجاحا كبيرا في الانتخابات لاعتبارات سوسيو-ديمغرافية تتصل بوجود قرابة 9 ملايين مصري تقريبا بالسعودية وببلدان الخليج. مع العلم أن ذلك الإسلام الوهابي السعودي المنتشر ببلدان الخليج هو الذي يصدر عنه فكر النهضة في تونس على الحقيقة، وهو إسلام قريب من الإسلام الأمريكي لا يعير أهمية وفي المقام الأول إلا لوضع اليد على مقدرات البلاد وربطها بشبكة مصالحه الشخصية المتشعبة والغامضة، لذلك لابد من التفطن إلى أن مُعلن الخطاب "الأخلاقوي" الذي يتسربل به حاضرا دعاة المحافظة تونسيا لا يجب أن يلهي معارضيهم عن توجهاتهم النفعية الصارخة حال ممارسة الفعل السياسي من منظور الاحتكام إلى منطق الربح والخسارة المادية في المقام الأول.