mardi 8 décembre 2015

نحن والحداّد












يندرج الإصرار على تعهّد مدلولي الأصالة والتفتح بإعادة التعريف في صميم الإرث النضالي التونسي سياسيا كان أم اجتماعيا، حتى وأن وجد نفسه اليوم أمام وضعية فارقة يتجاوز إطارها الواقع المحلي الضيق ليضرب للبلاد عامة موعدا مع التاريخ. وتُمثل الحرية وعمادها المواطنة القيمة المشتهاة تحت سمائنا، هذا الحلم الطموح هو ما راود التونسيين حال ظهور أول دساتيرهم في بداية ستينات القرن التاسع عشر، وهو ذات الحلم الذي تضمنه دستور الجمهورية في أعقاب تصفية الاستعمار وإلغاء الـمُلكية عند موفى خمسينات القرن الماضي، على أن ينخرط فيما عشناه طوال مرحلة ما بعد الثورة من خلال إعلاء الاستحقاق الدستوري وتحديد ضوابط المنافسة وسقف الصراع أيضا بين مكونات المشهدين السياسي والمدني بعد تعدّد الفاعلين ضمن المجالات العمومية، وانتقال الممارسة السياسية إلى أفق بديل يربط المدلول الدقيق لشرعية السلطة السياسية بمدى حرص الحكّام على ضمان الحريات الشخصية للأفراد.
ليس هنالك من مجال للفعل النضالي تونسيا، إلا وقد لوّنه الصراع بين المدافعين على الأصالة والداعين إلى التفتح، بحيث انعكس هذا التجاذب بين التمسك بالقديم والإقبال على المُحدث من خلال استحثاث نسق الإصلاح، أو انطباعه على مؤسسات التحصيل المعرفي التونسية المنتجة للنخب السياسية والعالِمة. فقد بدا وضخا منذ أواسط القرن التاسع عشر أن التعليم التقليدي الزيتوني قد اختُرق من قبل روافد عدّة تزايد تأثيرها بعد طي تجربة المدرسة الحربية بباردو سنة 1864 وإنشاء المدرسة الصادقية سنة 1875. كما زاد الحضور الاستعماري الفرنسي من حدة تلك المواجهة بعد مؤازرته لتأسيس جمعيتي الخلدونية سنة 1896 وقدماء المدرسة الصادقية سنة 1906.
طال ذلك الصراع بين القديم والمحدث واقع النضال من أجل تصفية الاستعمار وتبنته القيادات السياسية والفكرية ضمن خطابها المعلن، معبّرة عنه بجلاء في ثنايا مؤلفتها المرجعية التي تمت خلال السنوات الأخيرة الماضية إعادة نشرها تحت عنوان "مدونة الإصلاح في تونس: المرجعيات المؤسسة"، وذلك تساوقا مع عنوان العشرة مجلدات التي أصدرتها مع نهاية سنة 2012 الدار العربية للكتاب، جامعة ضمنها الأعمال الكاملة لعدد من منظري الخط الإصلاحي، وهم خير الدين باشا وعلي باشا حانبة وعبد العزيز الثعالبي والطاهر الحداد وعلي البلهوان، انطلاقا من "أقوم مسالك" الوزير المصلح خير الدين باشا إلى مؤلفات علي البلهوان "تونس الثائرة" و"ثورة الفكر" و"نحن أمة"، مرورا بمقالات وافتتاحيات زعيم حركة الشباب التونسي علي باش حانبة، وتأملات مؤسس الحزب الدستوري الشيخ عبد العزيز الثعالبي الإصلاحية التي ضمها مؤلفيه السجاليين "تونس الشهيدة" و"روح التحرّر في الإسلام"، ومدونة المصلح الاجتماعي الطاهر الحداد، تلك التي ضمت مقالاته وأشعاره وخواطره ونصوصه المرجعية في الإصلاح الاجتماعي، ومبناه عنده تحديث التعليم الزيتوني وتونسة النضال النقابي وتحرير بالمرأة المسلمة وتمكينها عبر الاعتراف لها بجميع حقوقها المستلبة. 
يشي التركيز على تملي مرجعيات الفكر الإصلاحي تونسيا على توجه يرمي إلى توسيع الإطلاع على مضمونها، بل واعتباره أسًّا في تطوير مختلف التوجهات الفكرية التي عاينتها ساحتي النضال السياسي والمدني بعد أحداث أواخر سنة 2010 الفارقة. وهو ما من شأنه أن يساهم في الارتقاء بالثقافة السياسية للنخب الجديدة، والدفع نحو استلهام عصارة الذكاء التونسي، وإعادة صياغة سردية تبنّي التونسيين للحداثة بما يستجيب لحاجيات "دوحة الحرية" وفقا لمقولة مؤلف "أقوم المسالك" الرائقة.
فقد ظهر تصوّر خير الدين التونسي (1822 - 1890) للاقتصاد السياسي كرد فعل على تردى أوضاع المملكة التونسية سنة 1867، حيث شيّد الانتساب على مبدأ الانتصار للحرية في مدلولها السياسي (التعاقدي) والاقتصادي (الليبرالي) والثقافي (المتصل بصون الحريات الفردية)، مع التبشير بحلول حضارة كونية شاملة لجميع الأجناس البشرية دون تمييز أو إقصاء. في حين بدت الأفكار التي بشر بها علي باش حانبه (1876 - 1918) ضمن مدونة مقالاته المنشورة في اللغة الفرنسية بجريدة التونسي في تواصل معلن مع ما صاغته عارضة خير الدين ومجمل المصلحين الذين آزروا مشروعه. فقد تبين من خلال الاطلاع على فحوى المقالات الـ 78 التي تم جمعها ضمن المجلد الثاني من مدونة الإصلاح في تونس، أن الأغراض المقصودة قد تمحورت حول تطوير النظام السياسي بمزيد تشريك التونسيين في تصريف الشأن العام وتحسين أوضاعهم الاقتصادية البائسة وترقية ملكاتهم المهنية والمعرفية والفكرية.  في حين بدت التوجهات النضالية للشيخ عبد العزيز الثعالبي (1876 - 1944) واعية بضرورة إعادة النظر في العلاقة التي ربطت المرجعيات الدينية الخصوصية للثقافة الإسلامية بمكاسب الثقافة الكونية المستندة على الفكر العقلاني الأوروبي. فقد شدّد مؤلف "روح التحرر في الإسلام"، ودون السقوط في التغريب أو صدور عن تصوّرات منغلقة على الذات، على ضرورة تفحّص الأسباب الموضوعية التي حالت بين النص القرآني وروحه التحررية المتضامنة تماما مع الأفكار الإنسانية الغربية، وذلك حتى يتسنى الإقلاع عن الانحراف بمعاني القرآن وإرهاقها بتأويلات متزمّتة تدفع نحو تصحّر العقل والإكراه في الدين، وتقسيم الناس إلى مسلمين وكفّار وتهميش المرأة واستنقاصها بتحويلها إلى عورة لا يصحّ في حقها إلا الحجب عن عيون الطامحين.         
ضمن هذا الإطار تحديدا، يبدو مشروع الطاهر الحداد (1899 - 1935) جد معبرا. فقد انطوى استدعاؤه، وبعد أن وُفقنا في إعادة امتلاك تجربة النضال الوطني من بوابة ترسيخ أفق الفعل السياسي التعددي حاضرا، على رغبة في تنزيل هذه التجربة النضالية الاجتماعية ضمن أفق لا يكتفي بالإنصاف والتنويه فحسب، بل ينشد تمثّل هذا الفكر ضمن مسوغاته الموضوعية ومن داخل التطوّرات التي عاينتها الساحة الفكرية التونسية طوال عشرية تجريد الحداد لقلم نضاله الاجتماعي بين بداية عشرينات وأواسط ثلاثينات القرن الماضي.
فقد بدت لنا الشهادة التي أفردها للوقوف عند أوضاع التعليم الزيتوني وشروط تطويره: "التعليم الإسلامي وحركة الإصلاح في جامع الزيتونة"، وهي شهادة لم يتم طبعها وتحقيقها إلا بعد زهاء نصف قرن عن وفاة مؤلفها، عن منحاه العقلاني التنويري الذي يستند على فكر عبد الرحمان بن خلدون في تفوّق العقل على النقل، مع الدعوة إلى الكفّ عن ملاحقة أصحاب الفكر النقدي من مشايخ الزيتونة كمحمد النخلي (1869 - 1924) وسعيد السطيفي وعبد العزيز الثعالبي، وضرورة إدخال العلوم الصحيحة ضمن مقرّرات التحصيل، تأهبا لإصلاح العقول والالتحاق بالأمم الناهضة. "فلا علم إلا حيث يوجد الرأي، ولا رأي إلا حيث يوجد العلم".
اعتقد الحداد في تلازم النضالين الاجتماعي والسياسي، فقد عرض ضمن مؤلفه: "العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية" الصادر سنة 1927 ، وهو أثر شكلت روحه المقالات العشرين المنشورة بين 1925 و1928 ضمن "لسان الشعب" و"مرشد الأمة" و"إفريقيا"، تصوّراته بخصوص أهلنة النضال النقابي بعد استيعاب ما تمخضت عنه تجارب البلدان الناهضة أو المتحضرة في الغرض، وتطويعها لما تقتضيه حاجيات البلدان المولى عليها. فلئن أبدى الحداد انتصارا صريحا للفكر الاشتراكي ناقدا التوجهات الاستغلالية للرأسمالية، فإنه لم يتوان على نقد أوضاع المنتجين التونسيين الذين "يسيرون في عملهم بلا عقل غير حب الفرد لنفسه بصورة مَرَضِيّة مشطّة". "فالأمل طريق العمل ولا فوز لأمل بدون عمل".
وكانت تجربة "جامعة عموم العملة التونسيين" التي أسسها محمد علي الحامي (1890 - 1928) نزولا عند دعوة عمال الرصيف المضربين خلال صائفة 1924، إيذانا بتجذّر الشعور الوطني وحصول تواشج وثيق بين الشأنين الاجتماعي والسياسي. فقد ساهم الحداد من موقعه في تخليد تلك التجربة والتأريخ لها والنضال في صلبها والانخراط في الدفاع عن القيم التي صدرت عنها وتبني روحها الأممية، مع فسح الأولوية إلى المشاغل المحلية التونسية، وربط كل طموح سياسي بالنجاح في رفع التحديات الاجتماعية الكفيلة بتحويل الأمم إلى شعوب نابضة بالحياة وناهضة لتحقيق الرقي والتقدم. لذلك يتعين أن "تسبق الحركات الاجتماعية [جميع ما سواها] مع شرح حقيقتها وأصول أعمالها وواجب عموم الشعب فيها"، لأن المناداة بالكرامة والعدل والمساواة والحرية قد امتزجت ومنذ طلائع النضال النقابي بالدفاع عن المنتجين وربط النضال السياسي الوطني بإبداء نجابة في الارتقاء بمنزلة الإنسان، مع الانتباه لضرورة ربط الممارسة السياسية بالحدود الدنيا للفضيلة. على أنه ما كان للحداد أن يتصدى لتأليف بيانه الفارق في الجدل الشرعي القانوني حول علاقة المرأة التونسية بالشريعة والمجتمع، إلا مدفوعا بهاجس حريتها في اختيار شريك حياتها بدل إكراهها على ذلك، وحرية تصرّفها في أموالها بدل ولاية الزوج عليها، فالأصل في الإنسان الحرية رجلا كان أم امرأة. لذلك تمثَّل جوهر سؤال الحداد ضمن بيانه حول توافق روح التشريع مع إنصاف الحق في تحديد الطريقة المثلى التي تسمح بفهم أحكام الإسلام فهما موضوعيا يدفع ومن حيث تقصّي فضيلة العدل رأسا إلى الانتصار لحرية الإنسان وربط الأوضاع المزرية للمرأة التونسية بقلة نجابة نُخب العلم والسياسة في الانتصار للحرية والمساواة بوصفهما أصل في ماهية الإنسان.
تصدر مختلف الأفكار التي صاغتها عارضة الحداد ضمن مختلف كتابته الصحفية والأدبية والنضالية الاجتماعية والتأملية والإنسانية، عن تمثّل خصوصي لـ"رسالته في الدنيا"، اتصل رأسا بـ"تحريك إرادة الحياة" في الضمير الجمعي للتونسيين، لأن ذلك "أفضل ما في العبادة" وُفقا لما أقره عبد الرحمان الكواكبي(1855 - 1902) ضمن مؤلفه حول "طباع الاستبداد"، حيث شكّلت "إرادة الشعب" لديه "مُراد السماء".
شيّد الحداد أثره على قسمين: واحد تشريعي شرح ضمنه فكرة التدرّج في إصلاح الأحكام المتصلة بالأحوال الشخصية كالدعوة إلى تمكين المرأة من جميع حقوقها المدنية وفي مقدّمتها حق الشهادة وحق الانتصاب للقضاء وحق التصرّف في مالها مع اعتبار ميراثها قابل للتغيير باتجاه المساواة، فضلا عن ربط عقد القران بالفحص الطبي وحرية اختيار الزوج أو الشريك وإباحة موانع الحمل بل واللجوء إلى الإجهاض، إذ ما شكل الحمل خطرا على حياة الأم وسلامة الأسرة، والجهر بمنع تعدّد الزوجات وتمكين المتضرّر حال طلاق الزوجين من التعويض، معتبرا أن مختلف تلك الإصلاحات لا تمس بجوهر العقيدة.
كما تضمن بيانه مشروعا تربويا ثقافيا مقصده تأهيل الفتيات وإعدادهن للحياة الزوجية والأسرية والاجتماعية باكتساب الملكات المهنية والفكرية والصحية والتربوية والذوقية والعلمية والرياضية، وهو ما حوّل كتابه إلى دعوة حقيقية لتحديث الفكر الديني وتطوير المجتمع والارتقاء بالأحوال الشخصية وسنّ الأحكام بالتعويل على الاجتهاد تبشيرا بالارتقاء في مصاف المدنية. وهو ما أنجزته دولة الاستقلال من خلال مسارعة رئيسها، الذي سبق له الدافع بشراسة في نهاية العشرينات وضمن مقال أصدرته صحيفة الراية عن الحجاب باعتباره "من رموز الشخصية التونسية"، بإصدار مجلة الأحوال الشخصية في 13 أوت 1956، وهي أثرة تآلفت مضامينها مع ما صاغه فكر الحداد وتفتقت عنه عبقريته منذ نهاية عشرينات القرن الماضي. لذلك بدا هذا الأخير مُصيبا لما اعتبر في الكلمة التي ألقاها في حفل تكريمه حال صدور كتابة يوم 17 أكتوبر 1930، أن آراءه وإن قُوبلت بالصدّ والمجافاة، فإن حقيقتها ظاهرة للناس ولو بعد حين، بل ومنتشرة بين جميعهم في مقتبل الأيام.
وهكذا يبدو جليّا أن ثقافة التونسيين السياسية قد تدرّجت طوال النصف الأول من القرن الماضي من الكتابة الصحفية وإلقاء المحاضرات وتنظيم الندوات إلى وضع المؤلفات السياسية ذات النفس الاجتماعي، وهو واقع يسهل رصده ضمن كتابات الزعماء الدستوريين مثل علي البلهوان (1909 - 1958) (ثورة الفكر، نحن أمة وتونس الثائرة) والحبيب ثامر (1909 - 1949) (هنا تونس)، وهي عروض ساهمت في صياغة المعجم السياسي الوطني ومفرداته وإعطاء مدلول دقيق للمفاهيم المستحدثة على غرار الشعب والوطن، بصياغة ما يستقيم أن نسحب عليه تسمية "الأيديولوجية الدستورية" بحساسياتها المتنوّعة سواء تلك التي دافعت عن المرجعية القطرية مع السعي إلى ربط مستقبل البلاد بالعالم الغربي المتقدّم مثلما تشي بذلك توجهات محمود الماطري والحبيب وبورقيبة، أو تلك التي صدرت عن قناعات عربية إسلامية مثلما تكشف عن ذلك كتابات محمود المسعدي وعلي البلهون والحبيب ثامر، أو تلك التي انطبعت بتوجهات نضالية اجتماعية على غرار ما يُسهل رصده ضمن كتابات سليمان بن سليمان وأحمد التليلي.
فقد استند السجال ضمن مختلف العروض التي صاغها هؤلاء على توضيح ما يشدّ النضال الوطني للفكر القومي الحديث وفق ما انجلت عنه تصورات الفلاسفة الفرنسيين المدافعين عن التوجهات القومية في كتابات الفيلسوف الفرنسي أرناست رينان Ernest Renan مثلا. حيث اتصلت شخصية الأمة- الوطن Nation بالشواهد الجغرافية والمناخية والعاطفية والتاريخية والحدودية والنسبية والبشرية، مؤذنة بذهاب فصل الانتماء الفضفاض للرابطتين العربية والإسلامية، مثلما تنجلي عن ذالك المضامين الواردة ضمن عروض مؤلفي "نحن أمة" و"هنا تونس". 
ولا يخفى ما لهذه الصياغة الدستورية لفكرة الأمة-الوطن من اتصال وثيق بالنظريات الأوروبية التي تلقّتها تلك النخب السياسية بالجامعات الفرنسية، عاملة على تطويعها لمقتضيات الواقع من خلال عرضها على الخصوصيات المحليّة التونسية وشدّ وثاقها في العمق إلى الهوية الثقافية العربية الإسلامية تيسيرا لعملية استنبات المدلول الواقعي للثورة على الاستعمار، تساوقا مع عنوان كتاب علي البلهوان الصادر سنة 1954 "تونس الثائرة"، وترسيخا لشرعية مطلب استقلال البلاد وبناء الدولة الوطنية الحديثة في أذهان عامة التونسيين.
ولئن تحوّلت مختلف التوجهات المتصلة بالنضال السياسي والاجتماعي التونسي تلك التي تناولتها جملة الآثار التي كنا بصدد التذكير بفحواها إلى متقاسم جمعي عبر تشغيل بيداغوجية الاتصال المباشر كما وظفتها الزعامات الدستورية والنقابية التونسية، تأسيا بالنهج الذي ارتضاه باني الدولة الوطنية الحبيب بورقيبة، فإن سيطرة نصيب المشافهة في استنبات تلك المضامين الفكرية والتفريق بين توجهاتها النضالية هو ما وضع كثيرا من القيود أمام تطويرها بما يخدم واقع النضال السياسي في مرحلة ما بعد أحداث 2011 الفارقة، حيث تجد النخب الجديدة سياسيا ومدنيا صعوبة كبيرة في صياغة حوار هادئ حول أمثل أشكال إعادة تملّكها من بوابة تمحيص مضامينها وإدراجها ضمن رصيد ثقافتها السياسية وخطابها النضالي. فلسنا على يقين من أن مرد ذلك متّصل بحدود إيجابيات السياسات المتبعة من قبل دولة الاستقلال الموسومة بالاتكال المطلق على الثقافة السياسية الفرنسية المعلمنة، وتمحور أشكال المعارضة أو المراجعة السياسية حول تصورات قصويّة اتكلت من جانبها على توجهات يسراوية أو إسلاموية رثة، لأن القول بذلك يقتضي الإقرار بحضور أدبيات أو مرجعيات فارقة يمكن الرجوع إليها بغية التوقّف عند طبيعة الاحترازات التي شدّدت عليها بخصوص إيديولوجيات النضال السياسي والاجتماعي تونسيا. وهو مجال يحيل على اللا مفكر فيه تونسا. فقد أثبت السجال المغلوط الحاصل بين ورثة الفكر الدستوري وورثة الفكر الإخواني بخصوص تقاطعات ممارساتهم السياسية حول شخصية الثعالبي لا مؤلفاته، طابعه الانتهازي أو السياسوي المفضوح الذي يكشف عن حدود ثقافة الفاعلين السياسيين الجدد.
وبالجملة فإن الحفر فيما خلّفه الطاهر الحداد بخصوص تاريخ النضال السياسي والاجتماعي تونسيا بوسعه أن يكشف لنا عن ضعف استيعاب الفاعلين الثقافيين والسياسيين راهنا لمختلف المضامين الفارقة التي توصّل مؤرخ النضال النقابي والتحرّر الاجتماعي التونسي إلى ابتكارها، مُشترطا في استنبات المُحدث والانقلاب على القديم إدراك ما يشُد مضامينه إلى الذكاء البشري والمواثيق الكونية، تشوّفا إلى تنزيل سردية "الفكر التنويري" التونسي ضمن منجز الفكر الإنساني.