jeudi 21 septembre 2023

بقية الحوار الصادر هذا اليوم الخميس 21 - 09 - 2022 بملحق منارات لجريدة الشعب

*أستاذ اذا وضعنا الثورة معيارا لتحليل الخصوصية التونسية وأصلنا لسياقات ذلك انطلاقا من القراءة التاريخية وربطنه بمفاهيم علم الاجتماع أيضا فكيف يمكن أن نقيّم ما حصل؟ يحسن ألاّ نسقط في مختلف التصورات العدمية السائدة تونسيا وعربيا بخصوص الجدوى من تقيم ما حصل من منظور الإنجاز الثوري، لأن حقيقة التحولات التي عصفت بالمنطقة العربية ولا تزال منذ انقضاء "القرن العشرين الوجيز" وانتهاء القطبية الثنائية وسقوط جدار برلين واندلاع حرب الخليج الأولى، لا يمكن ردُّ جميعها إلى أي لحظة ثورية مهما تعاظم مستوى تكثيفها. إنما المطلوب هو التعامل مع ذلك تاريخيا باعتباره انقلابا حاسما في الظرفية وطارئا عابرا أحدث هزة عنيفة ينبغي أن تعقبها مرحلة طويلة نسبيا من عدم الاستقرار. وهو واقع ليس من السهل تخطيه من دون العمل بكثير من الجد والإخلاص ومنتهى التفاني قصد تحقيق جملة من الانتقالات المادية والفكرية والذوقية (أو/ والمتصلة بالذكاء العرفاني intelligence émotionnelle) الذي يتطلّب من وجهة نظر اجتماعية حضور استعداد واقعي لإعادة اختراع اليومي بُغية الارتقاء إلى درجة أعلى من النضج والكمال. *لك مؤلف بعنوان "التصوف وتدبير الحياة الروحية تونسيا" .. فهل توجد باعتقادك حركات صوفية في تونس؟ وما أهم خصائصها أو فرادتها؟ صحيح هو مؤلف يحمل مواصفات المقالات الحرة Essais صدر بالتزامن مع انعقاد الدورة الجديدة لمعرض تونس الدولي للكتاب عن دار الجنوب، وحمل العنوان الجمع الذي تفضلت بالإشارة إليه. وقد تمثل مقصده في إعادة زيارة مسألة الانتظام الصوفي تونسيا من بوابة علاقته بالحاجة إلى حياة روحية ثرية بدا لنا اتصالها الوثيق بحزمة من الممارسات الاجتماعية والذوقية المحسوبة على أهل التقى وأرباب الزوايا والطرق، ساهمت في تقريب مقاصد الاحكام الشرعية الناظمة قديما لحياة الناس على ضفتي المتوسط، واستكشاف حضور تناظر طريف بين أشكال الإثمار بينهما، الشيء الذي يدعونا إلى عدم التسرّع في الحكم على الغيريات الثقافية والروحية، والاقلاع عن الاعتقاد في عنجهية المختلف أو في بربريّته. *لك عديد المؤلفات في اختصاص التاريخ والانثروبولوجيا. فكيف يكتب التاريخ ومن يكتبه؟ هذا صحيح أيضا، حتى وإن شكّل أغلب تلك المؤلفات تنويعات يدور محورها حول هاجس مركزي واحد على الحقيقة، أخذني تدريجيا وعلى صعيد الممنهج من توسيع أفق الحقبة الاعتبارية للفترة الحديثة (16م – 19م) والتركيز على نوع من التجسير بينها وبين باقي الحقب الأخرى، والاعتبار بأهمية النقلات والمفاصل الزمنية البيّنية، إلى التدرّج من الاشتغال على التاريخ الاجتماعي وتاريخ الذهنيات، إلى الاعتبار بالتاريخ الثقافي الذي يساءل اليومي ويفتح أفق التحليل على مواضيع واعدة تقرّب الشقة بين المعالجة السياقية التي يقترحها المؤرخ والمعالجة الميدانية للرواسب الثقافية البشرية وفقا لما ترتضيه الأنثروبولوجيا. الشيء الذي ساهم على ما أتصور في صياغة معرفة مفارقة لشواغل غير مبذولة تتصل على سبيل المثال بالحسّ والمحسوس، وبالتاريخ الثقافي للفئات الاجتماعية، وبتطور الثقافة السياسية، وبغيرها من المسائل التي تحتاج إلى هذا النوع من الإضاءات المفيدة. *أستاذ تحملت عديد المسؤوليات بالجامعة التونسية وخاصة على مستوى التأطير، فما تقييمك لواقع التعليم عموما .؟ لا يمكن أن نختلف في حاجتنا حاضرا إلى نقلة كيفيّة في مجال التربية والتكوين وتلقي المعارف تسمح بمواكبة ما هو حاصل في كثير من دول العالم المتقدم أو النامي. ولا فائدة من إعادة إثارة الوضع البائس الذي أضحت عليه مؤسساتنا التربوية العمومية التي لم يعد بوسعها، إن على صعيد البنية أو على صعيد الإطار التربوي، تحقيق أي تقدم في هذا المضمار. بيد أنني لا أفهم شخصيا ما الذي يجعلنا نتعامل مع موضوع الإصلاح التربوي بالذات من خارج القواعد الناظمة للحياة الاقتصادية والاجتماعية عامة. طبعا على الدولة تحمّل واجباتها إزاء مواطنيها من دافعي الضرائب، والحرص على توفير حد معقول من الرفاه الجمعي يضمن كرامة المنظورين، غير أن تحسين الخدمات في مختلف المجالات الاستراتيجية وإنجاز حزمة من النقلات النوعية في مختلف المجالات كالطاقة والاقتصاد الأخضر وحماية المحيط والتأمين والرعاية الصحية والتربية والثقافة وخدمات النقل العمومي وجودة الاعلام، يحتاج جميعها إلى تطوير مستويات الادماج المالي والاقتصادي وبناء شراكة بين قطاعات الإنتاج الخاصة والعامة، وفتح باب المنافسة ورفع اليد الثقيلة للإدارة على مصالح الناس وصياغة ميثاق مواطني ينأى بنا جميعا حكّام ومحكومين عن عقلية الوصاية والاتكال والمحسوبية والتحيّل وابتسار النجاح في تحقيق الخلاص الشخصي. فغِبْطَةُ الاقبال على التكوين وبناء الملكات والمعارف لا يمكن أن تساس بشكل تسلّطي يُكره الناس على ما لا يريدونه ويصدّهم على صياغة أفق حقيقي يجمع بين إراداتهم الفردية، ويمكنهم من تصوّر مشروع جماعي يسمح لطموحاتهم الشخصية أن تجد لها موطئ قدم ضمن عالم الجماعة المتكاتفة والمتضامنة. *لك كلمة حرة نختم بها هذا الحوار.؟ أثبتت القراءة في تشكّل الشعبوية السياسية زمن ما بعد 2011 تونسيا، أن ما جد غير منفصل عمّا هو حاصل كونيا. ذلك أن متخيل الاحتجاج الذي ساهم في حصول قطيعة غير منتظرة في مسار طويل، وضعية لا يمكن ادعاء القدرة على تداركها بشكل استباقي. فقد ساهمت تلك الهزة القوية في قلب مسار التعبير عن السخط. كما أثبت من جانب آخر أن ردود الفعل الأمنية لم يعد بوسعها -خارج إطار تشبيك الوساطات ذات التوجهات المدنيّة- الخروج بأي طائل حيال مثل هذا النوع من الطفرات. لذلك ليس بعيدا أن تشكل المرحلة التي نعيش ارتدادات ذات علاقة وطيدة بهبّة 2011. فتعدّد المحطات الانتخابية لم يفض إلى تجاوز الطابع الانتقالي للحكم ورسم أفق حقيقي لزمن الدخول في الاستقرار السياسي والتداول السلمي على السلطة. لذلك فإن ما هو قابل للتحليل تونسيا، هو تواصل التحوّلات في شكل حلقات متضامنة لا تخلو من امتدادات إقليمية وكونية. وهو ما قد يحتاج إلى عشريات مديدة من الزمن، بحيث يستقيم اعتبارا لسرعة انقضاء القرن الماضي، أن نعتبر أن ما حصل بتونس هو ارهاص سابق لما سيعرفه الإقليم برمّته في عضون السنوات القليلة القادمة، ولو بأشكال متباينة، وذلك ضمن سياق تاريخي كوني مشوب بتعاظم ردود الفعل الانعزالية والتوجّهات السياسية المحافظة وتلبّد الآفاق وتأجج المخاوف الدافعة لتزايد منسوب العنف، وتفاقم الصراعات الإقليمية، تلك التي لا يمكن ألاّ تلقي بضلالها على الواقعين التونسي والعربي. وفي ظل وضعية كالتي وصّفنا ينبغي أن يتمثل دور المنجز المعرفي والثقافي في القدرة على تحقيق انقلاب ضمن سجلات المعايير والقيم، بحيث يستقيم التساؤل حال معاودة زيارة منجز الثقافة التونسية عمّا يمكن أن يشكل اصطدام بشيء مفارق غير معهود، يدفع إلى مراجعة مدركاتنا القديمة وأشكال تعبيرنا عن أحاسيسنا أيضا؟ وهل لدينا شعور بأن ما تم إنجازه خلال العشرية المنقضية قد مثّل فرصة حقيقية لرؤية العالم بشكل مُختلف أم لا؟ تكشف التحولات الطارئة منذ تسعينات القرن الماضي في تشابكها عن سوسيولوجيا التونسيين وعلاقتهم بوطن الانتماء. كما ترسم أشكال اختراعهم لليومي ودقائق أعمالهم ومعاشهم. وما يسترعي الانتباه هو حضور تباين بين عافية الشمس وزرقة الماء واستبطان الدعة والخضرة من ناحية، ورثاثة العيش والإهمال وضعف الحيلة وانتفاء الملكات، والانقلاب من راحة المعاش إل قسوة العوز، وانحدار المشاهد الجغرافية الثقافية إلى مواضع منكوبة لا تليق بكرامة البشر. ولعل اتساق عقود من تسلط الحكّام وانحباس النماء وتسييج مصادر الثروة واحتكارها وضرب حرية الفن والفكر وفضائل المعرفة واغتنام الملكات وصياغة فرص الترقي الاجتماعي، هو ما دفع بالناس إلى الارتماء في أحضان المجهول، مع توثّب إلى الفرار من جحيم الواقع المرّ واندفاع إلى الانخراط في مسالك الهجرة غير النظامية أو الاشتغال بالتهريب وشبكات الممنوعات، وتقاسم السطحية والتطرّف والانحراف والجريمة وتبييض الأموال والتطبيع مع الإرهاب، وجميعها مظاهر زادت في تعفّنها سنوات انتقال موهوم مشوب بمحافظة واجهة، وأشكال نضال عرجاء تنازعتها مشاعر حنين تكسوها شعارات رثة لا ترى خلاصها إلا في إعادة انتاج المنظومة القديمة بلُبُوس مخاتلة. لذلك انزلق المشهد التونسي بعناصره المادية وغير المادية، وتركيبته الاجتماعية في مستنقع الإهمال والعوز المعمّم، فضلا عن القبول بالرداءة الذوقية والتشجيع على مزيد من التسوية إلى أسفل./.

dimanche 10 septembre 2023

يحسن بنا أن ندرك أن المعنى العميق للانتماء وللارادة لا يمكن أن يصيبا دلالة من خارج تصريفهما في ضيغة الجمع

*
الأستاذ لطفي عيسى للشعب الجزء الأول :الخميس 7سيبتمبر 2023 عدد 1762 *يحسن أن لا نسقط في مختلف التصورات العدمية السائدة تونسيا وعربيا . *الثورة ضاعفت من منسوب المخاوف واعادة صياغة الواقع الكوني . لطفي عيسى أستاذ التاريخ الثقافي بجامعة تونس من مواليد مدينة القيروان في الثاني من مارس سنة 1958، تلقى تعلميه الأساسي والاعدادي والثانوي بنفس المدينة، وشده إليها طرازها المعماري الفريد ومخزونها التراثي والتاريخي الكبير. كما انتبه صبيا وشابا يافعا إلى تقاليدها الاحتفالية ذات الطابع الديني الشعبي المشدود إلى التراث الصوفي وأرباب صلاحه. وهو شاغل خصّه لاحقا بالعديد من الدراسات المتخصصة في التاريخ الثقافي المقارن لما وسمه بـ "مغرب المتصوّفة". كما أن شغفه بمجال الابداع والفنون ومتابعته الحياة الثقافية المسرحية والسينمائية ومطالعاته الروائية العربية والعالمية وغيرها من ضروب الإبداع الفني، كما انتسابه شابا وفي عشرية سبعينيات القرن الماضي إلى جامعتي نوادي السينما والسينمائيين الهواه قد كان له بالغ الأثر على طريقة تعامله مع المعرفة التاريخية التي حاول إخضاع عملية صياغة مختلف مضامينها وتجديد نماذج تحليلها أيضا، من بوابة ردّها إلى شواغل أحالت على التاريخ الثقافي في مختلف مجالاته وأبعاده وتجلياته السياسية والاجتماعية والجوّانية في آن. لذلك يستقيم اعتبار اهتماماته البحثية ومنشوراته الأكاديمية منشدّة إلى تاريخ بلدان المغارب وجنوب غربي المتوسط الاجتماعي والثقافي، وذلك ضمن أمد زمني طويل جسّر المرحلتين الوسيطة والحديثة وحاول مراجعة الحقب الزمنية كما حددتها المدارس التاريخية الغربية بالقطع مع حواجزها الاعتبارية والتعويل منهجيا على تصوّرات عابرة للتخصصات الإنسانية والاجتماعية transdisciplinaires. أدار لطفي عيسى قسم التاريخ بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس. وترأس اللجنة الوطنية للتجديد الجامعي في التاريخ والتراث واللجنة الوطنية للتأهيل والدكتوراه، والجمعية التونسية للدراسات التاريخية. كما انضم إلى لجان الانتداب الجامعي في جميع مستوياته ورتبه وتخصصاته المتصلة بالتاريخ والآثار والتراث والفنون. وترأس لجان العديد من الجوائز التونسية والدولية في الآداب والعلوم الإنسانية والفنون الموسيقية، كما ترأس لسنوات لجنة التبريز في التاريخ. وعهدت له وزارة التعليم العالي بترأس لجان تقييم العديد من هياكل البحث ضمن اختصاصات التاريخ والانثروبولوجيا والدراسات الحضارية. حصل في الدورة 33 لمعرض تونس الدولي للكتاب على جائزة الطاهر الحداد للدراسات الأدبية والإنسانية عن مؤلفه "أخبار التونسيين مراجعات في مدونات الانتماء والأصول". يمكن الاطلاع على محتوى مساهماته النقدية في المجالات السياسية والمدنية والثقافية والأدبية والجمالية على صفحات مدونته الرقمية الشخصية. من أبرز مؤلفاته باللغة العربية: * أخبار المناقب: في المعجزة والكرامة والتاريخ، سراس للنشر، تونس * مدخل لدراسة مميزات الذهنيات المغاربية في القرن السابع عشر، سراس للنشر، تونس * تحقيق كتاب "نور الأرماش في مناقب القشاش"، للمنتصر بن المرابط القفصي، نشر المكتبة العتيقة، تونس. (بالاشتراك) * السلطة وهاجس الشرعية في الثقافة الإسلامية، دار أمل للنشر، تونس (بالاشتراك) *مغرب المتصوّفة من القرن 10 إلى القرن 17: الانعكاسات السياسية والحراك الاجتماعي، مركز النشر الجامعي- كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس. * كتاب السيّر: مقاربات لمدونات المناقب والتراجم والأخبار، دار المعرفة للنشر، تونس. *بين الذاكرة والتاريخ في التأصيل وتحولات الهوية، منشورات إفريقيا الشرق، الدار البيضاء. * "تجارب الانتظام الصوفي في تونس"، منشورات مؤسسة مؤمنون بلا حدود ج 2، ضمن مؤلف الحالة الدينية بتونس 2011 – 2015، جماعي، بيروت 2017. * البعد الإفريقي في السياسة الخارجية التونسية (1956-1986)، نشر المعهد العربي لحقوق الإنسان. * أخبار التونسيين، مراجعات في سرديات الانتماء والأصول، مسكيلياني للنشر والتوزيع، تونس. * في تاريخ المغارب المقارن: الأزمة والدولة والانتماءـ مسكيلياني للنشر . * مسائلة الانتماء من منظور المباحث التاريخية التونسية، منشورات دار كلمة تونس، سلسلة البصمة والمنوال. (بالاشتراك). * التصوف وتدبير الحياة الروحية تونسيا، نشر دار الجنوب، تونس وله كذلك عديد المنشورات العلمية باللغة الفرنسية .ألتقينا به وساناه عن قيروان الطفولة والشباب وعن الجامعة التونسية. وعن التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع وعن علاقته بالفنون و تجولنا في رحاب مؤلفاته الغزيرة فكان هذا الحوار : *أبو جرير : *أستاذ لطفي عيسى جريدة الشعب ترحب بكم ؟ شكرا جزيلا لجريدة الشعب على هذه الاستضافة، وفائق التقدير لهذا الصرح الصحفي الذي ما فتئ منذ سبعينات القرن الماضي يستمد نسغه الفكري والنضالي من روح الشعب التونسي، مُبرهنا على استقلالية خطه التحريري عن مختلف الحساسيات السياسية، واستبطان القائمين على حظوظه العميق أيضا لدور الاجسام الوسيطة عامة والمنظّمات الوطنية بالخصوص، في إكساب الشعار الأكثر وسما لماضي التونسيين القريب ولحاضرهم أيضا: "شغل حرية كرامة وطنية"، مدلولا نضاليا حقيقيا. *أنت ابن القيروان لو تعود بك الذاكرة وترسم لنا ما رسخ من مرحلتي الطفولة والشباب؟ الظن عندي أن فعل التذكّر لا يستهدف زمنية بعيّنها، بل يندس عميقا في تفاصيل ما عشناه ماضيا وما نعيشه حاضرا، مما يجعل الذات المفردة مكتظّة بعالم الجماعة، كما يُخضع الزمان والمكان إلى المعالجة الاجتماعية بحيث لا تستقيم ذاكرة الحاضر من دون استحضار أحرف الماضي. في حين أن الحرص على إثمار تلك الذاكرة هو ما يشكل مستقبل أي اجتماع بشري على الحقيقة. وهو ما أبلغ في استجلاء خفاياه وربطه بما سمي بـ "علم اجتماع الذاكرة" موريس هالبفاكس ضمن مؤلفه البديع "الذاكرة الجمعية" الذي حَرِصْتُ على ترجمته إلى العربية وصدر سنة 2022. لقد قُيّد لي أن أعيش طفولتي وجانب من شبابي أيضا بين زمنيين واحدة تأسيسية تحيل على حدث مفصلي يعيد معمار المدينة ومواضع القداسة والحرمة داخلها والاجيال المتعاقبة من سكّانها انتاجه رمزيا بشكل مستمر. لذلك فليس بعيدا أن يخيّل لك وأنت طفل أنك تستمد من بطولات عقبة بن نافع وتنبهر بعظمة جامعه، وتمرح في رحاب مزار أبي زمعة البلوي، وتفتخر برسالة محمد بن أبي زيد، وبمدونة سحنون بن سعيد، وتندهش لدى سماع كرامات حسن بن خلدون، وأبي القاسم السيوري، وأبي الحسن الوحيشي، وعلي العيوني، وعمر عبادة العياري... بينما يغمرك سور المدينة المهيب وتعدّد مآذنها بطُرزها المعمارية المتدبِّرة بسكينة يعزّ استجلابه خارج هذا الفضاء البديع. تُحيل الزمنية الثانية على حقيقة انكفاء المدينة وانغلاقها على نفسها وتهيّبها من تنمر فحوصها البعيدة واقصائها عن دائرة النماء بعد تصفية الاستعمار وتأسيس الدولة الوطنية. لذلك ليس غريبا أن يستبطن الطفل القابع فيك مأساتها عميقا، مستذكرا جحافل البدو الذين غزوها منذ واسط القرن الحادي عشر، فأحدثوا انقلابا كاملا على أشكال معاشها، الشيء الذي حدّ كثيرا من قدرتها على إعادة اختراع مناشط حياتها اليومية، وانتهى بساكنتها إلى الاعتقاد خطأ بضرورة إخلاص الحاضر للماضي بالكامل، في حين أن التعافي يقتضي حصول العكس ونقصد طبعا ضرورة مصادقة الماضي على الحاضر. *القيروان الذاكرة والتاريخ والتأصيل هل للقيروان خصوصية فريدة عن المدن الأخرى؟ لست ممن ينافحون من أجل هكذا تصوّر، فقد اصطبغ تاريخ تونس المعاصر بسردية جامعة ساهم انتشار التعليم في تعميمها، وجعل التونسيين يدركون أن لهم تاريخ مشتركا لا يقتصر على حضور الإسلام، وأن ميراثهم الحضاري والثقافي يشدهم إلى مجالات انتماء متنوعة تختلط ضمنها الأبعد العربية الإسلامية بما سواها متوسطيّا وإفريقيا. وهذا لا يُلغي في تصوّري توفّر حُضّر القيروان انثروبولوجيا على خصوصيات تحيل على مجالات تعيين فريدة تتصل بالمتحف الانثروبولوجي الذي يحتضنهم، وباللهجة والأطعمة واللباس والقيافة، وكذا بكياسة مخصوصة ورهافة في العلاقة بالآداب ومختلف مناشط الفنون والابداع. *نعلم أنك شغوفا بالإبداع والفنون بأنواعها وعلى اطلاع على المشهد الثقافي الوطني. لو ترسم لنا واقع الثقافة والمثقف الآن.؟ ينبغي الاعتراف بأن حقيقة المشهد الثقافي الكوني قد انقلبت ظهرا على عقب إثر سيطرة الشبكات الافتراضية للتواصل الاجتماعي وتراجع تقاليد القراءة بشكل لافت. كما أن تطوّر الذكاء الاصطناعي يؤذن من ناحيته بثورة جديدة ليس من اليسير التنبؤ بنتائجها على المدى المتوسط والبعيد. بيد أن اللافت أن تلك الثورة قد ضاعفت من منسوب المخاوف وأعادت صياغة الواقع الكوني وقراءة ماضي المجموعات البشرية وفق تصوّرات تتعارض مع سرديات المشاريع الثقافية الرسمية للدول الوطنية، وهي مشاريع غالبا ما يتنافذ ضمنها المعرفي مع السياسي، حتى وإن بدا واضحا للعيان أن تلك الثورة الاتصالية لم يصحبها توجّه نحو صياغة مشروع تضامني كوني على الحقيقة. كما أنها لا تتوفر من جانبها على مؤشرات ملموسة تعلي من إعادة صياغة سجلات القيم والمعايير باتجاه ضمان حدّ معقول من العادلة. *هل تعتقد بأن الفوراق بين المثقف العضوي والمثقف المشتبك والمثقف المستقيل ومثقف السلطة، لا تزال فاعلة ضمن المشهد الكوني حاضرا؟ وكيف ينظر الاستاذ لطفي عيسى إلى واقع المثقف التونسي ومسؤولياته تجاه مجتمعه.؟ لا مراء في أن الالتزام قيمة اعتبارية لا يمكن تجاهلها أو القفز عليها، لكن علاقة التعبير عن الاحتجاج تبدو حاضرا أكثر التصاقا بصعوبة الاقتناع بضرورة العمل من أجل توسيع دائرة المواطنة في مدلولها الكوني الشامل. الشيء الذي يدعو إلى إعادة التفكير في مناويل البحث في الانسانيات والاجتماعيات والجماليات، وذلك قصد صياغة قراءة دقيقة لما يعتمل من عدم رضا بالواقع وتهيب من انتفاء الشروط الناظمة لدول ما بعد تصفية الاستعمار تونسيا أو عربيا. مع حضور إحساس مؤرق كونيا بأن الأجيال الحالية تعيش على حساب الأجيال القادمة، وهو ما تؤكده العديد من المؤشرات الموضوعية على غرار انهيار أنظمة التغطية الصحية، وجرايات انتهاء الخدمة، وتعاظم عدد المحسوبين على أنظمة التشغيل الهشّ، ومحدودية الثروات، وندرة المياه الصالحة للشرب، وانحسار الأراضي الصالحة للزراعة، والاحتباس الحراري، والمشاكل المترتبة على التلوث، وتعاظم المديونية العمومية، وتضخم مصاريف خدمتها سنة بعد أخرى، وأزمة دولة الرعاية وانهيار النظام الاقتصادي وانحسار التقدم. لذلك ينبغي الحذر من توظيف مختلف تلك المحاذير سياسيا بغرض الترويج لتصورات تبسيطية تتعيّش من تراجع بريق الديمقراطيات، معوّلة على خطاب ديماغوجي يدّعي الصدور عن الشعب، مع اعتبار جميع النخب مأجورة وفاسدة، والدفّع باتجاه اضطرام الأحاسيس وتحريك الوجدان الجمعي المعطوب، دون تشغيل لآليات التحليل الرصين، واللعب على مشاعر الخوف والغضب والنفخ في الأحقاد وتبرير الكراهية، وجميع ما بوسعه أن يُغري الحشود حال استفحال الأزمات وتزايد الاحساس بالضعف والمهانة. *العلوم السياسة والاجتماعية والتاريخ والفلسفة رباعي ..هل هو في انسجام وما طبيعة الاضافة التي يقدمها لتحليل الواقع التونسي .؟ لمختلف المعارف التي ذكرت ولغيرها أضا آصرة قوية وإمكانيات تداخل وعبور لم يعد من المعقول تجاهلها أو إنكارها، بيد أن لكل تخصّص معرفي صندوق أدواته التي تحيل على تطور أشكال التراكم المعرفي المتصلة به. فالتاريخ مثلا لا يمكن أن ينتج دلالة من خارج إطار القراءة السياقية ووضع خطابات الفاعلين موضع أزمة والعمل على مراجعتها أو تفكيكها نقديا. في حين أن المعارف المتصلة بالعلوم السياسية تتقصّى من جانبها إعادة قراءة المشهد السياسي وتعقب موازين القوى الدولية والإقليمية والقطرية أو الداخلية، في حين تنتج العلوم الاجتماعية جملة من المفاهيم والمصطلحات قصد التعرّف على ما يسوس الانتظام الاجتماعي على الحقيقة، ويحدّد كيفية تطوره، وتعمل الفلسفة على خلخلة الأفكار السائدة والبديهيات داخل المجتمع وتطوير مستوى الوعي وتحرير الإرادات والكشف عن اشكال هيمنة التصوّرات الأيديولوجية وجميع المعتقدات الرثة التي تعيد انتاج نفسها بسبق إصرار وترصد لا حدّ لهما. لذلك من البديهي القول بأن لحذق هذه المعارف واكتساب ملكاتها دور كبير في تحرير الطاقات وقلب الموازين والتمكين الاجتماعي وتصويب الأفكار وبناء المشاريع المستندة لأدق التصوّرات الفكرية والعلمية، قصد صياغة فارق الآفاق والطموحات. *الجزء الثاني : الخميس القادم