mardi 24 novembre 2015

التفاتة إلى الذاكرة الجماعية







 مقال لشوقي بن حسن في جريدة العربي الجديد اللندنية -
23 نوفمبر 2015ثمة علاقة ملتبسة تعيشها المجتمعات العربية مع ذاكرتها الجماعية، ما يولّد كثيراً من الاحتقانات والصدامات. في عمله الجديد، الذي يقدّمه غداً في الجامعة التونسية، يحاول المؤرّخ التونسي لطفي عيسى أن يقارب هذه المسألة، معتمداً على تخصّصات توازي المناهج التاريخية.صدر كتاب "بين الذاكرة والتاريخ: في التأصيل وتحوّلات الهوية" منذ أيام في المغرب عن منشورات "أفريقيا الشرق". يقول عيسى في حديثه إلى "العربي الجديد": "أرى أن العلاقة بالذاكرة الجماعية موضوع مسكوت عنه في ثقافتنا اليوم"، لكنه يشير من جهة أخرى إلى أنه موضوع مبذول في الغرب. ويضيف بأن السؤال المحوري لعمله هو "كيف نحتفي بالذاكرة؟".يحيلنا صاحب كتاب "مغرب المتصوّفة" إلى النظريات التي اعتمدها في مقاربته لهذا الموضوع في إطاره الشمال أفريقي، حيث يشير إلى أعمال عالم الاجتماع الفرنسي موريس هالفاكس الذي تناول الذاكرة من جهة كونها تراكمات اجتماعية، وكذلك إلى المؤرخ المتخصّص في العصور الوسطى جاك لوغوف حين ربط الذاكرة بالنسب. أما أهم ما استند إليه، فهو أعمال الفيلسوف الفرنسي بول ريكور حين أوضح ميكانزمات تمارس على الذاكرة الجماعية مثل: إيقاف الذاكرة والتلاعب بها وإجبارها.يرى عيسى أن كل هذه الكتابات قد أعادت ترتيب مسألة الذاكرة، ولا بد أن نستفيد من ذلك في المجال العربي الإسلامي، حيث يعتبر بأنها تساعدنا في فهم الكثير من الظواهر في حضارتنا، خصوصاً في ما يسمّيه بـ "المسكوت عنه" تاريخياً. برأي عيسى، فإننا لا زلنا نكتب تاريخاً ممركزاً حول أنفسنا، تماماً كما يكتب الغرب تاريخاً ممركزاً حول ذاته؛ ما يفسّر، بالنسبة إليه، عدم القدرة على التطوّر الحضاري السليم.





استدعاء عيسى لأدوات من خارج علم التاريخ يطرح تساؤلاً حول هذا التوجّه، يجيب بأن "طريقة الأداء المعروفة في كتابة التاريخ انتهت". من هنا يرى أن "طموح المؤرخ" اليوم ينبغي أن ينبني على أمرين؛ الأول هو المقارنة، والثاني هو تخطّي الاختصاص؛ ما يمكّنه من استغلال براديغمات وأجهزة نقدية لا تتوفر له ضمن أدوات علم التاريخ. لعل أهم تطبيق يقدّمه عيسى في كتابه هو اشتغاله على مفهوم الهوية، التي يعرّفها بـ "الانتساب إلى مجال، والوعي بذلك". يؤكد بأن الانتساب هنا يحمل معنى جمعياً بالضرورة ولذلك ينبغي أن نفهم مكوناته المتعددة.على مستوى تطبيقي، يدرس المؤرخ التونسي الذاكرة الجماعية في المغرب العربي من خلال أربعة مستويات، هي: القرن السادس عشر باعتباره القرن الذي تمت فيه تصفية العصر الوسيط. في المستوى الثاني، يدرس المؤسسات السياسية عبر تساؤل حول استمراريتها؛ وهو هنا يدرس مفهوم "المخزن" الذي أبدل عملية خلق الثورة بتسوّلها. في مستوى ثالث، يذهب إلى المؤسسات الروحية، مثل الزوايا. وفي الرابع، يبحث في ظاهرة الازدواجية الثقافية، خصوصاً من خلال القادمين من الأندلس؛ متسائلاً "كيف بني المنفى في أذهانهم؟".
.

lundi 9 novembre 2015

في ثقافة قتل الأب واستتباعاتها








  



ينبئ انزلاق السجال السياسي بين مختلف الدوائر الفاعلة داخل العائلة السياسية لحزب نداء تونس باتجاه تعاظم وقع الملاسنات الكلامية وشدة اللعان الصادم، عن تحوّل العمل السياسي ببلادنا إلى ما يشبه موالد شيوخ الدجل ومواسمهم. فقد تعاظم الخرق باستشراء أساليب الإثارة الرخيصة والاهتبال بتبادل نابي السباب وأقذعه، هذا الذي يوشك أن يحوّل مخاض انبثاق نُخب سياسية، إلى بؤرة متعفنة لا يخدم امتدادها إلا مزيدا من التسوية إلى أسفل وتسريعا للنسق الكارثي لالتهام مزيّف النقد لصحيحه.
وتحضرنا في هذا المجال أسطورة معبّرة، نقلها الشاعر الإغريقي "أوفيد Ovide ضمن مؤلّف الانسلاخ، مفادها أن المهندس البارع "ديدال"، ذاك الذي سهّل على ملكة جزيرة كريت مضاجعة عشيقها وإنجاب مخلوق مشوّه نصفه بشري ونصفه حيواني وُسم بـ"المينوتور هو من تولى بأمر من زوجها الملك مينوس إخفاء جريرتها عن أعين المتقوّلين ببناء متاهة ظلماء تحت الأرض حُشر بداخلها ذلك المخلوق المشوّه الذي تعيّش من أكل لحوم البشر. غير أن توصّل البطل "تيزي Thésée" إلى القضاء عليه وتفادي الضياع داخل المتاهة بفضل مساعدة عشيقته الأميرة "أريان Ariane " ومهندس القصر البارع الذي أشار عليهما بمدّ خيط من الصوف حال الدخول ولفه للتمكن من الخروج، هو ما أغضب الملك فأودع مهندسه البارع بمعية ابنه إيكار السجن. غير أن هذا الأخير تمكن بفضل ما أُوتي من حكمة من الإفلات من مصيره المظلم بصنع أجنحة من شمع مكّنته من الخروج بمعية ابنه من وحشة الأسر إلى نور الحرية. وعبثا حاول مهندسنا اللبيب إقناع ابنه المتنطّع بأن تلك الأجنحة المصنوعة من الشمع لا تحتمل فعل عناصر الطبيعية، فقد تجاهل "إيكار" نصيحة والده محلّقا عاليا في السماء حتى أذبت شمع أجنحته أشعة الشمس الحارقة، فسقط من عليائه ودُقت رقبته وبقي عبرة لمن يعتبر.
ما يحصل اليوم داخل حزب المدافعين عن المشروع المجتمعي الحداثي التونسي من انعدام لقواعد ومعايير السلوك الواضحة، ومن توتر ينبئ بدخول الواقع الاجتماعي التونسي في تتناقض مع القواعد أو الأعراف التي نص عليها دستور البلاد. هو ما يشكل من وجهة نظرنا إعادة إنتاج للمدلول الرمزي لما كنا بصدد عرضه بخصوص علاقة الأب الذي يعلم يقينا أن القدرة على محاكاة منطق الطير تقاس بمدى النجاح في الإفلات من ورطة الانحشار في الزاوية، وليس في اعتقاد الأبناء السُذّج أولئك الذين يبدون إصرارا مرضيا على التحليق عاليا بأجنحة قدّت من شمع من السهل على العناصر إتلافها ودق رقبة أناواتهم المتضخمة التي توشك أن تسقط من عليائها.
ألم ينتبه المؤرخ الروماني "تاسيت" قديما إلى أن أمر المسك بشكيمة أفراد العائلة لا يقل خطورة عن الإشراف على تصريف شؤون بلاد بأكملها، فموقع الأب غير المريح داخل كل عائلة - بما في ذلك السياسية منها- يجعل منه مصدرا للإنعام وعدوا يتربّص به الكافة في آن. يطل موسم قتل الأب من نوافذ عائلة نداء تونس المهشمة بفعل سذاجة الأبناء وضلالهم، أولئك الذين لم يدركوا في شدة نزالهم وتعاظم صراخهم وسبابهم أن الكورة التي يتقاذفونها قد جمعت من شراويط رثة وبالية، وأن الجلوس على المائدة يقتضي القيام عنها، وأن لذة الرضاع غالبا ما تلهينا عن مرارة قرب حصول الفطام.                                    

lundi 2 novembre 2015

كلاش أو في مدلول ثقافة الأوندرغروند تونسيا









       
تقع ثقافة الاحتجاج السفليّة أو الأوندرغروند culture underground التي نشأت بالأحياء الصعبة للحواضر الغربية في أواخر القرن الماضي، على هامش التوجّهات الجمالية أو الفنية السائدة، معلنة عن تصادمها الصريح مع الضوابط الاجتماعية وسجل القيم الأخلاقية. وتنأى تلك الثقافة بنفسها عن وسائل الإعلام الجماهيرية، حيث يحمل المنتصرون لها تصورات انقلابية مستفزة للأعراف الاجتماعية السائدة.
وتشمل ثقافة الأوندرغروند توجهات فنية واحتجاجية متباينة يقتضي التواصل بين أفرادها حضور شفرة خاصة تسمح بتبليغ أفكارها بالتعويل على التجليات الفنية الموسيقية والتشكيلية والأدبية والسينمائية، تلك التي مثلت بَعْدُ مادة حيّة للصحافة التحتية أو "الفانزين fanzines (fanatic magazine)، "، فضلا عن الإذاعات الحرة والمواقع الالكترونية والمنابر الحوارية الافتراضية المتخصّصة في ثقافة "البينك" و"التكنو" و"المودس" و"السكين هاد" و"الميتال" و"الغوتيك" و"الهيب هوب"...
تتعرض مختلف هذه التوجهات الثقافية السفليّة إلى تصرفات مستهجنة تمارس نوعا من القمع ضد توجهاتها المعادية - بزعمها- لمكارم الأخلاق ودواعي الفضيلة، وهو ما يفسر اتسام ردود فعل المحسوبين عليها بطابع عنيف غير خاف، يستوي في ذلك مضمون خطابها أو الطبيعة الصاخبة لكتابتها الموسيقية والصوّر الصادمة لمشاهد قيافة المنتسبين إليها أو قراءاتهم الركحية.
ولا يعود استعمال لفظ موسيقى الأوندرغروند ضمن مختلف وسائل الإعلام التونسية إلى ما قبل سنة 2006 حيث سُحبت هذه التسمية في البداية على جميع أنماط الموسيقى غير المتداولة، على أن يساهم الربط بالانترنت وتوسّع الانتساب إلى مختلف الشبكات الاجتماعية بشكل حاسم في انتشار هذا الضرب من الأنماط الموسيقية، عبر بوابة "تونزيك" التي ساهمت في التعريف بمجموعات "زمكان" و"نشاز" على سبيل المثال لا الحصر، ليدخل البث الإذاعي على الخط من خلال ما قدّمته ولا تزال برامج "زنزانا" و"أوازيس" و"هاك تراك" وغيرها.
وإذ تعاين ساحة موسيقى الراب تونسيا ازدهارا غير مسبوق، فإن واقعها السفلي المنكفئ خلال مرحلة ما قبل 2011 لم يمكن على تلك الحالة، اعتبارا لجملة من الأسباب نحتفظ من بينها خاصة بالتضييق على خطابها الانقلابي المنتقد بحدة لتفشي البطالة واستشراء المحسوبية، وملاحقة مبدعيها الذين تحوّلوا بالتدرج إلى أيقونات لدى الأوساط الاجتماعية الشبابية المعدومة، تلك التي وجدت ضالتها في كلمات أغانيها المحمومة المنفلتة، على غرار أغنيتي "حوماني" لـ"كافون" ومحمد أمين حمزاوي أو "البولسية كلاب" لـ"ولد الكانز".
وليس بعيدا أن يكون لتواصل الاهتبال بأغاني الراب آصرة بتفاقم صعوبات الواقع اليومي للأوساط الشبابية داخل الأحياء الفقيرة، حيث تَعْرُضُ ثقافة الأوندرغروند بشكل عفوي وفوري للمشاكل المترتبة عن الهجرة السرية والبطالة والمحسوبيّة وتعاطي المخدرات، مشهّرة باستقالة مؤسسات الدولة عن تحمّل مسؤولياتها، وفشل جميع السياسات الرامية إلى الحدّ من تفاقم المضاعفات السلبية  للانحراف، تلك التي تؤذن بتعاظم الخرق وطي بساط الانصياع الإرادي للقوانين والأعراف السائدة، تشريعا لعنف الجميع ضد الجميع.
ويعبّر اللجوء إلى المساجلات اللفظية أو تشغيل آليات "الكلاش" بين المنتسبين لموسيقى الراب بطريقته الخاصة عن التحوّل الذي عاينته ساحة الثقافة السفليّة تونسيا. فقد كشف الاصطفاف الأيديولوجي عن نفسه منذ خريف 2010 وذلك على خلفية السجال حول أغنية  manipulation لمحمد الجندوبي المعروف بـ"بسيكو ام Psycho – M "، وتعاظم الخرق باستفحال السباب المجاني بين من نجحوا في السباحة فوق موجة المال والشهرة مثل أحمد العبيدي المشهور باسم ـ"كافون Kafon" و"محمد صالح البلطي المشهور بـ"بلطيروشيما Baltiroshima"، وبين أغلبية المحسوبين على موسيقى الراب الذين انتابهم شعور حاد بالحرمان جعلهم لا يستنكفون من استعمال أرخص أساليب التشويه وأقذع ألفاظ السبّ والشتيمة بغرض الحطّ من قيمة من صادفت أغانيهم قبول الجماهير ومختلف المتدخلين في ما لا نتهيب من تسميته بـ"الاقتصاد الموازي للموسيقى".
على أن انزلاق فضاء السجال العمومي في هذا المنحى الانتحاري وتحوله بعدُ إلى ما يشبه "موالد" شيوخ الدجل ومواسمهم، وتعاظم الخرق باستشراء أساليب الإثارة الرخيصة والاهتبال باللعن المقذع وتبادل نابي السباب وأبشعه، من شأنه أن يحوّل ظاهرة "الكلاش" موضوعيا، وإذا ما تواصلت حالة التردي التي يعيشها مخاض انبثاق نخب سياسية وفكرية ومعرفيّة وفنية معافاة، إلى بؤرة متعفنة لا يخدم امتدادها إلا مزيدا من التسوية إلى أسفل وتسريعا للنسق الكارثي لالتهام مزيّف النقد لصحيحه.  

افتتاحية محيّنة صدرت ضمن العدد الرابع من مجلة "الفكر الجديد"