mardi 3 février 2015

عود على بدء بين الذاكرة والتاريخ










تمثلت محصلة المقاربات المقترحة ضمن هذا المؤلف المستند على متن مصدري متنوّع شمل سير المناقب ومدوّنات النوازل والأنساب والأخبار، فضلا عن الروايات الشفوية والخرافات والأشعار والحكم والأمثال بغرض تعقب علاقة الذاكرة بالتاريخ، في الوقوف عند الوعي بحضور التعسّر والتعبير عنه بأشكال تقع عند تماس الحسيّة النزقة والحكمة الشعبية الرافضة لكل عدميّة مدمّرة، والمتطلّعة إلى تحقيق الخلاص في الحياة وما بعدها. فقد كشفت لنا السير المدرجة ضمن المناقب على الآليات المعتمدة في معالجة مختلف سلبيات أزمة منعرج الفترة الحديثة وتحويل ردود أفعال مختلف الشرائح المُكتوية بنارها من تشغيل آليات التشنج الحسي إلى نوع من الذكاء الجماعي المُعلي لحجّة الرصانة والتعقلّ، دفعا للضرّ واستبقاء للعافية. كما أن تعدّد النوازل المتّصلة بالبت في استنباط الحلول الكفيلة بالحدّ من المعضلات الناجمة عن تشغيل الأساليب الملّتوية للغصب والتعدي، تشي من ناحيتها بقدرة الأعراف على التواؤم مع منظومة الأحكام الشرعية، ترفّقا بمستوى الذهنيات السائدة. في حين أبدى صنّاع الأخبار من جانبهم، وعلى ما تبيّن لنا من تمحيص خطاباتهم، تواصلا جليّا مع تلك المنظومة الذهنية عبر شدّها إلى مجال القص الروائي والمراوحة في صياغة تلك الروايات بين المعطى التاريخي ومخزون الذاكرة الحيّة المنغرس عميقا في سمك التمثلات الفردية والجماعية القائمة بخصوص أحداث الماضي.
وهو ما يحيل رأسا على ما أنجزته المدرسة السوسيولوجية منذ ظهور أبحاث موريس هالفاكس Maurice Halbwachs خلال عشرينات القرن الماضي، في موقعتها للمغامرة الخصوصية للذاكرة، وهي مغامرة ناتجة عن التحولات الطارئة على علاقاتنا بالمجموعات التي نحتك بها وللعلاقات التي تربط تلك المجموعات بعضها ببعض أيضا. عند هذه المفصلة تحديدا تتضح قدرة البحث السوسيولوجي على التفريق بجلاء بين ما وُسم خطأ بـ"الذاكرة التاريخية mémoire historique"، تلك التي يقتضي حضورها إعادة بناء المعطيات التي يمنحها راهن الحياة الاجتماعية، وانعكاس تلك الحياة على الماضي الذي تمت إعادة اختراعه، وبين "الذاكرة الجماعية mémoire collective"، تلك التي تعيد تركيب وقائع الماضي وفق توجه يُشْرِعُ الباب أمام القصّ والأسطورة.
بين هذين التوجهين للوعي الجماعي والفردي، تنشط مختلف الذاكرات التي تتباين أشكالها تساوقا مع النوايا التي تنطوي عليها، إلا أن ذلك لا يعني البتة اشتغال الفكر بطريقة فوضوية منفصلة عن بعضها البعض، بل هو يعني بالأساس أن التوافقات المتواضع حولها من قبل المجموعات، والتي تبنّاها فكرها، هي التي تحدّد تجاربها المتعدّدة في علاقتها بالزمن. وهي حقيقة توسلنا في توضيحها بمكافحة الروايات الواردة ضمن العديد من المتون المصدرية المخطوطة والشفويّة أيضا بغرض الحصول على صورة تعكس ردود فعل مختلف الشرائح الاجتماعية، وتفحّص آرائها أو وجهات نظرها بخصوص التطوّرات التي طالت "مخازن" المغارب أو دُوَلِهِ طوال الفترة الحديثة ومختلف الإصلاحات التي شملت طرق أدائها، سواء فيما يتصل بجمع ريعها الضريبي أو مراقبة المجال القابل بسلطتها أو المعبّر صراحة عن الممانعة ضدها، وذلك في ضوء انسلاخ تلك الدول تدريجيا من التعويل على التعدّي على الغير ومد اليد في أرزاق الناس ظُلما عبر تشغيل آليات الارتشاء والاستملاك دون رادع، إلى الإقلاع عن تلك الممارسات بالقطع مع مدلول "الدولة السلطانية"، حتى وإن لم يتخط ذلك الادعاء الإيماء بقبول بمبدأ خضوع تصريف الشأن العام للمراجعة والاعتراف بضرورة التقيّد بالقوانين.   
على هذا الأساس ينكشف لنا بشكل ملموس كيف نشأت عملية التفكير التي قادت إلى التأكد من "تعدد الأزمنة الاجتماعية multiplicité des temps sociaux"، والتمايز التام بين الذاكرة الجماعية والتاريخ، وكيف أن استعمال لفظة "الذاكرة التاريخية" أمر غير ذي مدلول، نظرا لتقريبه بين مصطلحين متعارضين في المعنى. أليس التاريخ نتاجا لتصوّرات ثابتة عكس تدوينها تمثّلات المجموعات المستقرة للأخبار واعتبارها بضرورة مقاومة فعل التآكل المستمر الناجم عن ديمومة التحوّل؟ في حين لم تفتأ الذاكرة من جانبها على التسليم بحضور حركيّة تتسم بتناسب المشاهد التي قامت على تخزينها.
يتعين على الباحث والحال على ما أقررنا التمييز إذن بين عدد من الأزمنة الجماعية تساوقا مع تعدّد المجموعات واختلافها. فلئن لا تدين "الذاكرة الجماعية" لأي شكل من أشكال الترتيب الخارجة عن منطقها الداخلي، مقارنة بما نُعت خطئا بـ"الذاكرة التاريخية"، لأن هذه الأخيرة تندرج عند تقاطع سلاسل الوقائع التي قرّبت بينها الصدف ونتجت موضوعيا عن المواجهات التي خاضتها الفئات الاجتماعية المتصارعة، في حين أن الذاكرة الجماعية لا يمكن بأي حال أن تتحوّل إلى أُسٍ للوعي، لأنها لا تشكّل غير احتمال أو وجهة نظر ما من بين العديد من الوجهات التي نحتاج إلى التفكير حولها وتأوّل شفرتها المكثّفة لجعلها قابلة للفهم عقلا.
لذلك نفهم تعمّد الرواة تعقّب الوقائع البشرية الأكثر بساطة وحتى سذاجة أحيانا لتوضيح كيفية تشكّلها ضمن الحياة اليومية المعيشة بالتعويل على مختلف تقنيات القصّ أو المسرحة في توقّفها عند المشاحنات ونسجها للأدوار الحقيقية، كما للأفعال المتوَهّمة والإسقاطات الروائية والأحداث المفتعلة مجانيا أيضا.
عند مفترق الأزمنة الاجتماعية حيث تقع الذكرى، يتشكّل المجال ليلف بذراعيه المجموعات المستقرة وقتيا أو نهائيا، بينما تعبّر الوقائع عن طبيعة العلاقات المتبادلة التي تقيمها تلك المجموعات مع غيرها. فالحساسيات الدينية والسياسية، وكذا الترتيبات الإدارية تحمل في طياتها أبعادا زمنية "تاريخية"، تشكّل تمثّلا للماضي واستشرافا للمستقبل يستجيب لمستوى الحراك الذي تتسم به مختلف المجموعات البشرية. ولعل تماثل المجهود المبذول في تشييد الأسوار والمساكن وفتح الطرقات والمعابر الحضرية وتنويع المشاهد الزراعية أو الريفية، يشكّل بطريقته الخاصة بصمة وقتية تشي بذلك المجهود المبذول.
هذا ما قدّرناه حال فتح ملف المشاهد الجغرافية الثقافية في علاقتها بالأزمنة التأسيسية المؤسطرة وكيفية صياغة التوافق الاجتماعي حولها بما يكفل اتساق الأنشطة السياسية والاقتصادية والثقافية الحيويّة، واستبقاء العافية من خلال ما اصطلحنا على تسميته بــ "تحييز المجال الحضري روحيا"، عبر اللجوء إلى إثمار سير أرباب الصلاح الذين شكّلوا شبكات مصالح متشعّبة وتحمّلوا باقتدار دور الوساطة الذي أسعفهم في التقريب بين تعارض المصالح وتباعد وجهات النظر بين مختلف الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين، لذلك فإن كان من واجبنا الشّك في نجاعة "تقابل الذاكرة مع المجال" أو تقابل "الذاكرة مع الزمان" وفي واقعيتهما، فالتمييز بين "الأمد الزمني" و"المكان" لا يشكل في الحقيقة إلا مجرد فصل مدرسي. وهو ما استخلصنا مدلوله مرة أخرى من الأبحاث المتصلة بالذاكرة الجماعية في تمييزها بين عملية "إعادة البناء" المنجزة من قبل الذاكرة الجماعية، قياسا لتلك التي توفّرها الذاكرة الموسومة خطأ بالتاريخية. لينفتح البحث عندها على معطيات تحيل على مميّزات الحياة اليومية وتشخيص الوضعيات الملموسة لحياة الأفراد ضمن النسيج الجماعي.
فمختلف الوضعيات المدروسة ليست تقسيمات بسيطة ضمن التجارب الاجتماعية، لأن نقدها استهدف الأدوار الاجتماعية مسلّطا الضوء على الحركية الجزئية "للأوساط المتوهجة أو الفائرة milieux effervescents". بفضل توصلّ البحث إلى تجريد الوعي من كل ادعاء ماهوي بحيث أضحى بالوسع تمحيص الظواهر أو التصرّفات البشرية بأكبر قدر من العمق.
بقي أن نعرف أن الحفّر في مختلف الأوهام التي تحيل على الدعوى  المتصلة بالهوية والكشف عن تسرّب الهواجس والتهويمات المُنبِئة بصعوبة القبول بتغيير الواقع من خلال التعويل على ما وفّرته مُضْمَرَات مؤلَف في النَسَبِ حاول كاتبه الإعلاء من نقاء الأصول وصفاء تديّن الجاليات الأندلسية الوافدة على مجال المغارب والمستقرة بحواضره أو بواديه، قد أحالتنا على الظروف المعقّدة المتصلة بتلمظ مرارة  المنفى وصعوبة تحقيق الاندماج، والاستعاضة عنهما بنوع من السجال يشي بتعاظم المخاوف وصعوبة تحقيق التوافق، واضعا حدّا لمختلف معاني الاستعلاء أو الحطّ من القيمة، وهي أساليب شغِّلَتها الأطراف المستقرة كما الأطراف الوافدة خلال مرحلة فارقة من تاريخ مجال المغارب الحديث. 
وهكذا فبعد أن فضّلنا لزمن طويل "التقليص" من أهمية المختلف قصد التشديد على المُتجانس، بات من الواضح حاضرا أن دراسة الظواهر في خصوصياتها وكما عبّرت عنها شبكة الدلالات المتعدّدة التي تعمد أحيانا إلى سبر التقاطعات الناتجة عن التصنيفات وتوظيفها لانجاز مختلف هذه المقاربات، والتواؤم تبعا لذلك مع التحولات العميقة التي قلبت واقع المجتمعات الحديثة، من شأنه توضيح الكيفية التي توصّلت بفضلها البحوث المهتمة بمسألة الذاكرة إلى فتح مجال واسع خِصْبٍ أسعف في الإجابة عن تساؤلاتنا الواقعية، دون تطويح في متاهات العقائد الفكرية أو الأيديولوجيات، خاصة بعد أن عَدَلَتْ مختلف العلوم الإنسانية عن إرجاع كل ما هو فردي إلى حيّز الجماعة، عاملة على إدراك الآليات التي تسمح للشخصي بالبروز والتعبير عن ذاته ضمن محيط الغيريات الاجتماعية المترامي الأطراف.