mercredi 31 décembre 2014

جدلية الخيانة والمقاومة في شريط "عمر" لهاني أبو أسعد












شريط “عُمر” للمخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد الذي حصل على التانيت الذهبي لأيام قرطاج السينمائية في دورتها الخامسة والعشرين، إطلالة جديدة على الواقع الفلسطيني تحمل الكثير من الجرأة، من خلال التدقيق في تعقيداته والكشف عن صعوباته وفق حبكة روائية أبطالها ثلاثة شبان وفتاة يحاول جميعهم العيش بكرامة، لكن الاحتلال لا يرحم أحلامهم البسيطة، مستكثرا مدهم بأي فرصة حقيقية للعيش بسلام.
لم يبتعد المخرج كثيرا عن منجزه السابق في شريطه “الجنة الآن” (2005)، فقد بدا لنا وفيا لمنطلقاته الأصلية، متعمدا مع سبق إصرار وترصد الإبقاء على تفكير متابعي أعماله معلقا بين حقائق متعارضة. فقد فكّك شريطه الأول بمهارة عالية استحكام حالة التردد التي وقع فيها مجموعة من شباب المقاومة توجهوا لتفجير حافلة إسرائيلية حال انطلاق العد التنازلي لتلك العملية. لكنه غاص في شريطه الجديد عميقا في إدانة الاحتلال وتفكيك آثاره الكارثية على حياة الفلسطينيين، مقتربا من المقاومة الفلسطينية التي غالبا ما تم تصويرها ضمن الأعمال الفنية بشكل نمطي غير دقيقة.
شرّح هاني أبو أسعد بمبعض جراح ماهر علاقة المقاومة بالمحتل، فاتحا مساحة جدل غير مسبوقة أعادت ترتيب عناصر العقل الفلسطيني وكيفية تفكيره، لمّا أفاض في تفكيك أشكال الابتزاز التي يمارسها الاحتلال على الذات البشرية، عبر التلاعب بأرق العواطف والقيم، لدفع شباب المقاومة للسقوط في مستنقع العمالة والخزي.
يعود المخرج مع شريط عمر إلى ذات التوجه الذي علّم بداياته، حيث يصوغ الشريط ذات النفس الفني، عاملا على مزيد إثمار التوجه المتشعب الأبعاد والثنايا في كتابته السينمائية والسينوغرافية. تمزج حكاية الشريط بين واقع الاحتلال والمقاومة وحرب العصابات والاختراق والتضليل والجوسسة، وجميعها عناصر مهمة للنجاح من كتابة سينما "الأكشن" أو الحركة. فقد عبر المخرج عن تمكّن كبير من رسم تقاطيع شخصياته ودفعها لعيش وضعيات تحتّم اتخاذ ردود فعل سريعة حاسمة. استجلبت جميع تلك الخصال الفنية لخدمة حقيقة معقّدة لا علاقة لها بسذاجة كتابة سينما الحركة وبراءتها. فقد أصرّ هاني أبو أسعد على احتلال موضع متفرّد ضمن خط الكتابة السينمائية. فهو يولي عناية للأداء والنجاعة تتجاوز بكثير مقتضيات التحليل السياسي المتصل بموضوع المقاومة الفلسطينية، متعمّدا الإبقاء على مشاهدي أفلامه في حالة تحفز قصوى بغرض موافاتهم بوجهة نظره النقدية حول ما يراه أو ما يرويه.
ولأنه لا يبدو منخرطا تماما ضمن تيار سينما المؤلف ولا معترفا بضوابط الكتابة السينمائية التجارية، فإنه يقترح على مشاهدي شريطه الجديد قراءة مشوّقة ولافتة نجحت في المزج بدراية بين أسلوب كتابة سينما الحكاية البوليسية الأمريكية وجمالية القصّ السينمائي الفرنسي وفقا لكتابة مالفيل Melville  وطابع الدعابة في كتابة الفيلم البوليسي المصري، مع إضافة حكاية عاطفة نزقة تكون نهايتها غير سعيدة، محدثا بذلك جنسا هجين يطمح إلى إعطاء نفس متجدّد لنوعية أشرطة الثريلر thriller  بفتح أعين المشاهدين على مأساة إنسانية لا يمكن استيعاب تشعُباتها بالتعويل على أساليب الكتابة السينمائية القديمة.
تابع مخرج شريط "عمر" بعين متفحّصة تكوين مجموعة من الشباب الفلسطينيين الذين جمعتهم علاقة صداقة حميمة منذ الطفولة لخليّة مقاومة، عارضا تفاصيل استعدادهم ثم إقدامهم على تصفية أحد جنود دولة الاحتلال. على أن رد الفعل السريع والعنيف الذي جوبهت به عملية الاغتيال بعد إلقاء القبض على بطل الشريط "عمر" وتعذيبه، قد أثبتت انزلاق أحد المنفذين لتلك العملية في الخيانة وجعلت الشك يحوم حول "عمر" الذي اتهم إثر إطلاق سراحه بالتواطؤ والتعاون مع جنود الاحتلال.
كان على واضع هذه الحكاية أن يلتقي بالمساجين كما بالمحقّق معهم من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي. كان عليه أن يتعرّف على من اضطرهم الزمن إلى التحول إلى خونة ومتعاونين. لقد وظّف هاني أبو أسعد الواقع السياسي للفلسطينيين للوقوف على أوضاعهم المعيشية الصعبة ولاستغلال المأزق الذي تردّوا فيه، خدمة لحكاية أو عيّنة مخبرية عرض على مشاهديه مشاركته في توصيف أطوارها وتفكيك ألغازها. فقد شكل تنقل عمر المحفوف بأعلى درجات المخاطرة بالنفس بين عالمين يفصل بينهما جدار عازل تم بناؤه من قبل سلطات الاستعمار بالضفة الغربية، صورة مثالية لتحدي عدمية التمييز العنصري بتحدّ أشد تعنت وأرقى بطولة.
تحيل الصورة التي اشتغل عليها مخرج شريط عمر على بعد إنساني يتجاوز الواقع الفلسطيني الضيق لينخرط في كونية صراع مديد لم يجد طريقه إلى الحل، وظف أشكال متعددة وتقنيات ملتوية للهيمنة، هدفها الحيلولة دون استعادة شعب بأكمله لكرامته ودفعه قسرا ودون رضا إلى الاعتقاد في أن الهزيمة والانكسار قدر محتوم، لذلك ينبغي الخضوع للأمر الواقع والقبول بقواعد اللعبة وفقا لما سطّرته إدارة الاحتلال.
شريط عمر فيلم مهموم بإنسانية الفلسطيني، وفق معايير عالية الحرفية جعلته يعرض في أبرز المهرجانات وفي مقدمتها مهرجان “كان” حيث حصل على جائزة النقاد والترشيح للأوسكار وفق أعلى المعايير التجارية. تم تصوير الشريط على مدى ثمانية أسابيع في مدن الناصرة، ونابلس، وبيسان، ولعب أدواره الرئيسية إلى جانب آدم بكري، ليم لوباني في دور "نادي"، ووليد فاروق زعيتر في دور "رامي"، وسامر بشارات في دور "أمجد"، وإياد حوراني في دور "طارق". ورصدت شركة "إخوان زعيتر" في الولايات المتحدة مبلغا مليون ونصف من الدولارات لإنتاجه. 
https://www.youtube.com/watch?v=CsugbQHN5rc

         

mardi 9 décembre 2014

ما حجتنا إلى التصوّف حاضرا؟








    ما حاجتنا اليوم إلى دراسة الولاية والتصوّف والتعرض إلى مسارات كبار أربابه ضمن سياق يتسم بسيطرة قيم مدنية معولمة؟ تساعد الإجابة على هذا السؤال في توضيح الاهتمام المتزايد الذي نبديه حاضرا بمرجعياتنا الروحية واستكشاف الوسائل الكفيلة بتطويرها بشكل مستديم.
سنكتفي ضمن هذا المقترح بمحاولة البرهنة على توفر تيارين صوّفيين هما "الفرنشسكانية" نسبة إلى القديس فرانسوى داسيز (ت 1226) و"الشاذلية" نسبة إلى الشيخ أبي الحسن الشاذلي (ت 1258م) على قدرة لاستيعاب مسائل دقيقة تتعلق بسجل القيم المرتبطة بفكر الحداثة. فعلى الرغم من صدورهما أصلا عن توجهات دينية توحيدية محافظة، فإنهما تمكّنتا ماضيا ومن دون السقوط في تشغيل آليات الوصاية، إلى طبع وعي جمّاع المؤمنين، بينما تواصل تأملاتهما حاضرا شدّ انتباه شرائح واسعة من المهتمين بمجال التديّن والروحانيات ضمن عالم تسوده قيم كونية تصدر عن فكر عقلاني يؤمن بالتعاقد المدني ويعلي من فضائل المواطنة.
سنتعقب تدرّجا وضمن هذه القراءة المعيارية ثلاثة أبعاد متضامنة هي على التوالي:
-       التقاطعات المترتبة على الحفر في سيرتي حياة كل من أبي الحسن الشاذلي وسان فرنسوى داسيز
-       وعلاقة الولاية بمسألة الضمير الجمعي في التجربتين الشاذلية والفرانشيسكية  
-       عودة الديني ورد الاعتبار للمسألة الروحية حاضرا              
سير متقاطعة:
ليس قليل في حق ما نحن بصدد اختباره التشديد على طرافته وقلة وروده من قبل العارفين بموضوع التصوّف، ومختلف الأبعاد المتصل به فكرا وممارسة. فقد درجت المعرفة العالمة على تناول موضوع التصوّف من بوابة التفريق بين التعاليم السلوكية للتدين الإسلامي والتعاليم المتصلة بنظيره المسيحي، بين حضارات الشرق وثقافاته ومثيلاتها المتصلة بالمجال الغربي. غير أن سعينا يستهدف الحفر في التقاطيع المتصلة بسيرة علمين بارزين للتصوّف القاعدي، شكّلت القيم التي عملا على نشرها مصدر تأثير حاسم على ضمير المؤمنين الجمعي شرقا وغربا، ومكّنت التعاليم التي  دافعا عنها من تجديد مقاصد التفكير الديني لدى المسلمين كما المسيحيين.
فلئن لم نتوفر على معطيات دقيقة تتصل بتنشئة الشيخ أبي الحسن الشاذلي الذي ولد في حدود سنة 1196م، تضارع تلك التي بحوزتنا حول طفولة القديس فرانسوى داسيز الذي يعود تاريخ ميلاده إلى سنة 1181م وحول شبيبته، فإن الوسط البربري المنكفئ الذي احتضن الشاذلي صبيا عند جبال الريف شمالي المغرب الأقصى، لم يعدم وعلى سيطرة مختلف أشكال التدين الشعبي داخله، بروز شخصيات سنيّة فاعلة أثرت في ترقيته الذوقية وتكوينه الديني على غرار شيخه عبد السلام بن مشيش دفين جبل العلم (ت 1228) والمحسوب على مدرسة أبا مدين شعيب البجائي (ت 1198) الصوفية. كما ثبتت استفادة الشاذلي حال استقراره بإفريقية، حيث هز وجدانه واقع خصاصة ساكنتها، من الانخراط في تيار الترقي الصوفي الذي نشّطه شيخ "مغارة المعشوق" أبي سعيد الباجي (ت 1231)، وهو أيضا من أعلام الصلاح الذين ثبت ترقيهم في مجال السلوك على يد أبي مدين شعيب البجائي دفين عبّاد تلمسان.
لا تحيل مرحلة طفولة قديس أسيز على نفس التوجهات. فقد نشأ فرنسوى ضمن وسط حضري مستقر وداخل عائلة امتهن ربّها تجارة النسيج. كما عاينت شبيبته انخراطا في ممارسات، لا يتعارض تمسكها بحسن التدبير، مع حضور علامات السعة والترف وطلب المتعة والإقبال على ملذات الحياة. ولئن لم نحصل على معطيات دقيقة تكشف عن أشكال ترقي قديس داسيز الروحي، فإن اصطدامه هو أيضا بشدة بؤس المصابين بمرض الجذام، قد حرّك وجدانه للوقوف في صفّ من أضناهم الألم وتملّكهم رعب شديد من مجابهة الفناء دون تشوّف للخلاص في الآخرة.
مارس الشاذلي دورا أساسيا في ترقية الكافة ضمن سياق إفريقي عرف تحولات سياسية فارقة مكنت من صعود سلالة حاكمة جديدة وبروز أطراف فاعلة تمثّلت تحدياتها في فرض التهدئة ومدّ سيطرة الدولة على أوسع رقعة من مجالها الاعتباري، في حين عاينت مدينة أسيز الإيطالية مع حلول القرن الثالث عشر تطوّرات سياسية مهمة مكنت الأوساط الشعبية من بين التجار وأصحاب الحرف الميسورين من تقاسم النفوذ مع الفئات الأرستقراطية المهيمنة. وهو طموح أُوْدِعَ ببسب النضال من أجل تحقيقه فرنسوى في السجن طيلة سنة كاملة، خرج على إثرها منهكا مريضا منخولا البنية.
واجه الشاذلي توجّس حكام إفريقية من مشايخ الهنتاتين واحتساب علمائهم بخصوص دعواه المُعلية لنبل نسبه في الطريق وترقيه في مجال التأمل الصوفي منّة من الله وفيضا دون مجاهدة صدق، في حين كابد فرنسوى امتعاض وسطه الاجتماعي من تعلّقه بالمجاهدة والزهد، وإسرافه في الجود وإعلاء قيم الإحسان تجاه المعدمين من البائسين والفقراء.
اضطر الشاذلي إزاء تعنت السلطة ووشايات بطانتها من بين علماء الدين الذين أوغروا قلب مؤسس السلالة الحفصية ضده، مدعين تلبس دعوته بنزغة مهدوية مضمرة، إلى مغادرة إفريقية للاستقرار بمدينة الإسكندرية المصرية، وذلك حتى موعد وفاته سنة 1258 عند واحة حميثراء على الطريق المؤدية إلى بلاد الحجاز.
إلا أن رحيله النهائي عن إفريقية لم يمنع من تشكّل شبكة للأصحاب أنشأت طريقة صوفية طوّرها المقبلون على تطبيق تعاليم الشاذلي وأذكاره مشرقا، فامتداد بذلك بقعة الزيت لتشمل مجالات واسعة من بلاد الإسلام على غرار إفريقية ومصر والمغرب الأقصى والأندلس. 
أما في الجانب المقابل، فقد قرّر فرنسوى دسيز، بعد أن تعاظم الاحتساب ضد تصرفاته وأصر والده على مقاضاته بتهمة تبديد ثروته على المعدومين من الفقراء، الاحتماء بسلطة البابا الذي وقف في صفه وشد أزره في مشروعه الرامي إلى تكوين نظام ديني يجعل من العيش بين المعدمين وفاقدي السند شرطا توجيهيا في صدق الإيمان، معيدا الاعتبار إلى قيم الفقر والتمسّك بعزاء الله، عبر الإقلاع عن جميع مظاهر السحت واستغراق الذمة وتكديس المال والإسراف في اكتنازه، دون الاعتبار بتوقّف الحصول على الخلاص في الآخرة بتغليب الجود والإيثار عمّا سواهما.
وهو توجّه اعتبرت به المسيحية الكاثوليكية، لما تواضعت على وسم فرنسوى دسيز إجلالا وتعظيما حال إلحاقه سنة 1230 بمصاف القديسين بـ"الفقير Pauvrilo " وربط نظام الأخوة الدنيا frères mineurs باسمه، وذلك لتناظر ما كرسته سيرته مع ما أنجزه المسيح روحا ومعنى، لما آثر أن يضحّي بنفسه من أجل ضمان خلاص باقي المؤمنين.
الولاية وإشكالية الضمير الجمعي:
تمسّك أرباب الزهد والصلاح منذ القرن الثالث عشر بدور الوساطة الذي مكّن مختلف مؤسسات الترقية الروحية والتضامن الاجتماعي التي أحدثوها، من أخذ موقع محوري في تطوير أشكال المخالطة والتقارب، خاصة بعد أن توسّعت رقعة الأنشطة المستقرة وازداد الاحتياج إلى تطوير مؤسسات الدولة باتجاه الضبط الترابي للمجال، تجاوزا لضيق رابطة النسب والولاء القبلي.
لذلك خرج الصلاح عن تقاليد الانكفاء ومارس بكثير من النجاح أدورا لم يُهيأ له توليها سابقا، على غرار الإغاثة والرفد والوقوف في صفّ المعدمين والحثّ على توسيع الأنشطة المستقرة والحفاظ على الأمن ونشر العافية.
وليس بعيدا أن يكون هاجس تجذير مختلف تلك الطموحات، هو الذي كان وراء الطابع النفعي الذي اتسمت به أَيَامُ مؤسسات التصوّف وأعمال المحسوبين عليها. فقد شدّد أبو الحسن الشاذلي على أهمية مسألة تجديد التوبة أو ما نعته بالولادة الثانية من خلال التركيز على افتقار الكافة إلى الله وحاجتهم الماسة إلى الانخراط في ما وسمه بمشروع الهداية، مما ينهض حجة على أن المسألة السلوكية أو التربوية قد استقطبت كامل اهتمامه قياسا لجميع التصوّرات الذهنية المجردة التي قادت العارفين بالأحكام الشرعية أو غيرهم من أصحاب الفكر الحر.
فقد أعلت الشاذلية من مكانة العلوم العرفانية المترتبة على ما وسمه شيخها بـ"الهُدى الرباني"، ويتمثل مدلوله العملي في حصول انقلاب جذري يتدخّل بموجبه الله مباشرة بغرض تحرير شخصية الولي من قيود الغريزة والأنانية لجعله أشد حبا للإنسان من حيث هو إنسان، ودفعه إلى إدراك معاني الواجب والتضحية والفداء، بعد تخلصّه بمنّة من الله من بلاء النفس وتحوّله إلى موضع لألطافه. وهو ما نعته الضالعون في علوم العرفان بـ "شهادة الحق لنفسه بنفسه عبر الكائن البشري الفاني"، حال تحوّل الولي "إلى مظهر للنور المحمدي" أو إلى "مرآة تنعكس على سطحها جميع معارف النبوة".
ويشترط في بلوغ هذا الشأو - وفقا لما أُثر عن الشاذلي- تطهير الذات وتعويدها على الرضا بالمنزلة التي قدرت لها في المشيئة، باعتبار أن الكل واحد، فالأعلى محتاج إلى الأسفل حاجة الرأس إلى الرجلين. وأن الكمال معلّق بالاعتبار بالفقر، لأن "عمدة الفقراء الغنى بالله والرضا بمجاري الأقدار. [فـ] القلة والكثرة يحدّدهما المعنى لا العدد، [لأن] الشمس واحدة كثيرة المعاني والنجوم عدد كثير قليل عند طلوع الشمس."
في حين شكل الاحتكام إلى إعادة صياغة مدلول الرحمة miséricorde ضمن المعجم الإنجيلي بالتعويل على القرب من جميع من أصابهم الضر ونخل أجسامهم المرض في تجربة قديس أسيز، فرصة للإشادة بما وسم بالأخوة في المسيح، المبنيّة على تجديد التوبة أيضا وتنقية الإيمان وعدم التخلي عن المعذبين، تأمّلا لمعاني التبشير العميقة في حثّها على المحبة في الله والتمسك بصحوة الضمير الجمعي من خلال إسعاف المعدمين، توافقا مع مقاصد الإنجيل في الربط بين العدالة والرحمة، دون حاجة إلى تحريك نوازع التصادم أو المغالبة العنيفة، بل بتشجيع الكافة على الإسهام في نشر تعاليم المسيح بين جميع بني البشر.
يشير قديس أسيز ضمن وصيته إلى أن "من ثبّت خطاه ويقصد الله طبعا، هو من دفعه إلى مخالطة المصابين بالجذام ومؤانسة وحدتهم تلطّفا ورحمة، وهو من حرّك أيضا مشاعره باتجاه استيعاب صورة الإنسان- الرب مجسّمة في سيرة المسيح الفقير المعذب. فضميره الحي كان بحاجة إلى تأمل قسوة العوز والضرّ، لكي يخلُص لمناجاة الله والقرب منه. وهو عين ما قصده قديس داسيز، لما أعلن على الملء في ثقة وتسليم وأمام أسقف المدينة، أنه لن يعيد مستقبلا ما لاكته الألسن في تضرعها لله عبر نعته بـ "أبونا الساكن في السماوات Notre père qui est au cieux"، لأن مطلق الحول لا يتعين أن يعود إلا على من وسعت رحمته معذبي الأرض أولا.
ارتدى قديس دستز مرقعة الزهاد معتكفا بالمرتفعات القريبة من مسقط رأسه، مُعرضا عن تكفّل الكنيسة بمصاريفه، من خلال دعوة الكافة إلى التصدّق عليه ومنحه إحسانهم، حتى يتمكن من تشييد كنيسة جديدة أرادها أن تكون موضعا للإخلاص لله و"حمد المسيح وتعظيم إباءه وتضحيته التي أنقذت الإنسانية قاطبة".
ساهم التنسك إذن في دفع قديس داسيز إلى الكشف عن المدلول العميق للخلاص، عبر استبطان تجربة المحبّة أو العشق التي عاشها المسيح la passion du christ. فقد ساعفه التأمل في سيرة المسيح وفقا لما صاغته الأناجيل، إلى المسك بمطلبه عبر دعوة أصحابه، على غرار ما فعله المسيح مع حوارييه، إلى ارتداء لبوس النسك والتفرّغ للتبشير من خلال الدعوة إلى تجديد التوبة بغية بلوغ السكينة والحصول على الخلاص.
وهكذا فلئن تعارضت الدعوة إلى النسك والتبتل ظاهريا مع توسيع دائرة المخالطة والاحتكاك بالناس، فإن مقصد قديس داسيز لم يكن الإعراض مطلقا عن سجل قيم النبالة التي تشبع بها أثناء شبيبته، بل وعلى العكس من ذلك توسيع انتشار تلك القيم الفاضلة تحديدا، كي تشعّ وبفضل الانقلاب الداخلي الذي أحدثته تجربته التأملية على جميع الشرائح المعذبة أو البائسة من خلال تسليط الضوء على مشاكلها لأن الخلاص موصول بالإيثار، وأن المغزى العميق من تجربة عشق يسوع متّصل  باستعداده للتصدّق بحياته من أجل إنقاذ حياة بقية المؤمنين.
لم يتخل قديس داسيز، وحتى آخر أيامه، إذن على القناعات التي تربى عليها صغيرا، تلك التي تحيل على قيم النبالة ومعجمها الكيّس أو الراقي في كيفية تحقيق الرضا على النفس وبلوغ مرتبة السعادة، إلا أن اصطدامه بالمعذبين هو الذي قلب منظومة المقاييس التي حددت مسيرته سابقا، دافعا إلى مزيد الانخراط في الحياة العامة والاختلاط بالمعوزين ومنحهم عطفه الوقوف الكليّ في صفهم مجانا، حتى وإن كلّفه ذلك الخروج عن جميع رهانات معاصريه. على أن تجربته تلك لم تنجل عن رغبة مكدودة في الهروب إلى الأمام وتقديم الانكفاء باعتزال الخلائق، بل أدت وعلى عكس ذلك إلى زيادة انغماسه، على غرار المسيح تماما، في مشاكل عصره والعمل على مجابهتها، بفتح أفق جديد يعترف للبائسين والمقهورين واليائسين بإنسانيتهم بعد أن أمعنت في إقصائهم نخب السلطة والمال.                           
عودة الديني وإعادة الاعتبار للمسألة الروحية:
حسمت ثقافة المغاربة الروحية منذ القرن الثالث عشر، وإذا ما تمعنّا جيدا في مدلولها العميق، في أولوية الاعتبار بالمحبة، وهي ركن مكين اعتضد به المغاربة في إخصاب حياتهم الروحية وفي تمثل الربطة التي تصل المؤمنين بالله وبرسله أيضا، معرضين عن الاستسلام إلى مربع الخوف الحامل كرها على القبول بالوصاية والاستغناء عن الإرث الروحي الذي شكله المد الصوفي وخاصة بعد اكتمال تجارب التزوي على المنوال الطرقي.
كما انجلت تجربة قديس أسيز الصوفية وجميع المحسوبين على نظامه الديني من ناحيتها، على محورية تجربة المحبة في تشجيع الانفتاح على من طالتهم الخصاصة والفقر والمرض، أولئك الذين لم يبد أهل الجاه والمال أي اكتراث بآلامهم. لذلك يستقيم أن نعتبر بسرعة تفطن أرباب الصلاح خلال الفترة الوسيطة المتأخرة إلى محورية الأدوار التي لعبتها مؤسسات التصوّف وزواياه في إعادة تشبيك العلاقات الاجتماعية وصياغة إطار جديد للتفاوض وبناء الثقة بين الحكّام والمحكومين، وتطويق الصراعات بين الفئات المستغِلة والفئات المستغَلة.
غير أن ما استرعى انتباهنا حاضرا، وإذا ما نحن تجاوزنا مختلف القضايا التي طرحها ولا يزال التنقيب في مختلف الملفات المعرفية المتصلة بموضوع التصوّف ماضيا، هو التفكير في مدى معقولية اندراج مسألة التصوّف في ما تواضع مفكرو الغرب على تسميته بعودة الديني أو ردّ الاعتبار للمسألة الروحية؟ وهل تمثل عودة السجال بخصوص مسألة المقدس ضمن المعارف المتصلة بعلم الاجتماع الديني تعبيرا عن حالة من التمسك بالماضي أو الحنين له؟ أم أن الأمر متصل بالصعوبات التي تعرفها مختلف المجتمعات البشرية حاضرا في تجديد الضوابط الأخلاقية تواؤما مع قيم الحداثة وبناء توازن حقيقي بين الدعوة إلى رفع القداسة عن مجال الفعل السياسي، من ناحية، وضرورة احترام مختلف القيم الناظمة للحياة الروحية تساوقا مع الحاجة الملحّة التي تبديها المجتمعات الحديثة إلى مزيد التدقيق في الانقلاب الحاصل على سجل قيمها الأخلاقية والروحية والجمالية من ناحية ثانية؟     
ما من شك في تحول تجربة قديس داسيز إلى ما يشبه الأسطورة المعلِّمة لذاكرة التديّن المسيحي الكاثوليكي غربا، بل وإلى نموذج معياري لتجارب التصوّف المتأثرة بتعاليمه بامتياز son modèle normatif par excellence.
فمجرد أن انحاز فرنسوى داسيز إلى صف الفقراء عبر إحداث نظام ديني يشترط التزام المنخرطين فيه بالكامل في معاش الفقراء، فإنه قد وضع موضع تطبيق تصوّره القاضي بتحديد أشكال الترقي السامحة ببلوغ مستوى السكينة بمجرد الإقبال على الإيثار، تشوّفا إلى تحقيق السعادة والخلاص. هذه التصورات هي نفسها التي عملت على إثمارها العديد من الحركات السياسية شرقا وغربا على غرار الديمقراطية المسيحية الغربية والتيارات المسيحية الداعية إلى الانعتاق والتحرّرthéologie de la libération  بأمريكا الجنوبية، تلك التي حوّلت منذ سبعينات القرن الماضي قديس دسيز إلى حامي المعذبين والمعدمين، وجعلت منه المؤسس الحقيقي لما وسمته بـ "كنيسة الفقراء". على أن يتحوّل وخلال ثمانينات نفس القرن إلى رمز مُلهما للحركات البيئة أو الايكولوجية وذلك من خلال التشجيع على مزيد بناء توازن حقيقي بين الإنسان والطبيعة، والحد من التعرض بين مصالح بلدان الشمال وبلدان الجنوب خاصة بعد التأكد من نضوب الموارد الطبيعية والحدود الموضوعية لعملية الاستنزاف الاقتصادي لتك الموارد كونيا. على أن تشكّل تجربة قديس دسيز الروحية وخلال السنوات القليلة الماضية مثال للتواصل الذي ينبغي أن يسود علاقات جميع الناس بالمسألة الدينية بالتشجيع على الحوار بين الديانات وذلك في إطار ما تمت تسميته بـ"ـفكر داسيز l’esprit d’Assise" تلك المدينة التي تحولت بعدُ إلى مركز روحي كوني جدّدت توجهاته المنفتحة التصوّرات الدينية الرسمية للكنيسة الكاثوليكية بالفاتكان.                               
وفي المقابل فإن رفع حُجب القداسة عن الفعل السياسي لم يكن بالأمر الهين داخل المجال العربي الإسلامي، غير الحراك الذي عاينته بعض مجتمعات ذلك المجال خلال السنوات القليلة الماضية قد ساهم في إجلاء غموضه وحوّله حاضرا إلى علامة مبذولة ضمن مشهدها السياسي اليومي، حتى وإن لم يشغل أمر إعادة الاعتبار للمسألة الروحية وضمن الحوار الساخن القائم بخصوص علاقة الهوية بالمعتقد، حيّزا يكفل الاهتمام به وإنضاجه تطلّعا إلى ربطه عمليا بفضيلتي الحرية المواطنة 
ولئن ساهم التراكم المعرفي الذي وسّعت المدرسة في قاعدة اقتسامه حاضرا، في إلقاء كاشف الضوء على مآخذ خطاب الإسلام السياسي بجميع توجهاته، وهو ما يُعلي على الحقيقة من مكانة المقومات المدنية للدولة، ويتصدّى لمعاول الهدم التي تستهدف مكتسبات الحداثة، على غرار ما عينته القوانين الناظمة للأحوال الشخصية تونسيا، وبداهة الاختلاط بين الجنسين، والتسامح بخصوص العديد من الممارسات الاجتماعية والتقاليد غير المتطابقة بالضرورة مع الأحكام المستندة لفقه الحلال والحرام وهو واقع لم يترتب عليه، وإذا ما تجازونا حرارة السجال القائم على المناكفة بين فرقاء النضال السياسي والصراع الأيديولوجي حاضرا، سقوط تلك المجتمعات في حالة من التفسخ الثقافي والديني المؤذن بخروجها عن الإسلام والتخلي عن الشحنة الروحية التي تُمثل عنصرا محوريا في تنظيم الواقع الاجتماعي والتقاليد العائلية، بل والحياة الشخصية أيضا.
ولأن المسألة روحيّة بامتياز، فإن اقتلاعها من ذلك الإطار، لحشرها بالقوة ضمن مربع الصراع السياسي، بعد رفع حُجب القداسة عنها من خلال المراهنة مجددا على الاستثمار في ما وسمه "ماكس فيبر Max weber" بـ"اقتصاد الخلاص"، مغامرة تفوق مساوئها في اعتقادنا المكاسب الآنية السريعة المترتبة على تشغيل آلياتها مجدّدا. لذلك لابد من التفطّن إلى حساسية التعامل مع هذه المسائل من وجهة نظر الاعتراف بحرية الأفراد في استجلاء الرصيد الروحي المتوافق مع مضمون مساراتهم الحياتية، والتعامل مع قضية المعتقد من زاوية الدفاع عن الحريات، ومن أجلّها تلك المتّصلة بالجوانب الروحية، من خلال التعبير عن الرفض الصريح لمنطق الإكراه المبني على بَلْوَى الإجماع، وجلب المنفعة عبر وصل الدين بالمعرفة المحكّمة الدقيقة. فاستجلاء المسائل الروحية يحتاج إلى تفكيك دقيق للظواهر الناظمة للذهنيات، ومعرفة جيّدة بسجل القيم ومستويات تمثّل الوجود وتجريد ما ورائه، ومضمون السيطرة الحقيقية والمتوَهَمة على العالمين المادي واللامادي. وهي مهمّة لابد من الاعتبار بمحوريتها في إنجاح مشاريع التنمية تجاوزا لثنائية "الشرك" و"الإيمان"، وتطلعا لفتح حوار هادئ رصين حول مسألة "إعادة الاعتبار للروحي" كحق من حقوق الإنسان، يشترك فيه المتدين وغير المتدين، المؤمن بالإسلام وغير المؤمن به، وتضمنه الحريات الشخصية في مدلولها الكوني