lundi 22 février 2016

"بين الذاكرة والتاريخ": ما كان يمكن أن يحصل




تغطية شوقي بن حسن 
لوقائع تقديم كتاب "بين الذاكرة والتاريخ" بالمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
صدرت بصحيفة "العربي الجديد" بتاريخ 21 فبراير 2016






    كثيراً ما يقال إن الكتابة التاريخية، رغم ما طوّرته من عناصر الانضباط العلمي، تظلّ ميدان     مغالطات وتلاعب، غير أن الجزء غير المدوّن من التاريخ، والذي يمر عبر الأجيال، يمثّل هو الآخر ميدان تلاعب ولكن بأدوات أخرى. يطلق على هذا التاريخ المتداول وغير المكتوب تسمية "الذاكرة الجماعية". هذه الذاكرة، بحسب المؤرخ التونسي لطفي عيسى، لها قدرات على التلاعب أعلى بكثير من التاريخ. يوم الجمعة الماضي، في مقر "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في تونس، جرى تقديم المؤلّف الجديد لـ عيسى "بين الذاكرة والتاريخ: في التأصيل وتحوّلات الهوية" (منشورات "أفريقيا الشرق"، المغرب). عمل يعود فيه الكاتب إلى هذه القضية مطبّقاً إياها على مجال جغرافيّ بعينه، هو المغرب العربي. قدّم الكاتب التونسي شكري المبخوت قراءة أشار فيها إلى أن علاقته بأعمال عيسى لم تبدأ بهذا المؤلف، وإنما مع أعمال سابقة مثل "كتاب السير" و"أخبار المناقب"؛ حيث أن اختصاصه في الأدب قاده إلى بحوث عيسى التاريخية التي تناولت أدب المناقب وسير الأولياء وحفرت في علاقتها بالاجتماعي والسياسي. يشير المبخوت إلى أن هذه المدوّنة، ورغم ما فيها من خرافات، كانت تمثّل وسيلة من وسائل السيطرة على العنف وإدماج المهمّشين، وفي مرحلة ثانية ساعدت في بناء المجال الجغرافي الروحي إلى جانب بناء المجال الجغرافي الترابي. من هنا، يشير المبخوت إلى أهمية بحوث عيسى باعتبار أن "المرحلة الاستعمارية جاءت لتخفي كل منجز سبقها، حتى أن عملية البناء هذه، إضافة إلى مبادرات التحديث بدت وكأنها مرتبطة بمجيء الاستعمار"؛ أي إن اللحظة الاستعمارية قامت بالتعمية على مجمل التاريخ المغاربي، ومن هنا تتأتّى ضرورة الحفر أعمق في تاريخ الذهنيات، مجال اختصاص لطفي عيسى. من جهته، تحدّث المؤرخ التونسي عن مؤلّفه الجديد الذي يشكّل بنظره "كتابة تقع بين المقابسة والتمرين المعرفي"، ومن خلاله أراد أن يبرز أن "التفكير في التاريخ بات مبذولاً لكل تخصصات العلوم الإنسانية"، وهو يستدعي في عمله حول الذاكرة الجماعية نتائج لمدارس تاريخية متعددة وأخرى فلسفية، مثل أعمال جاك لوغوف أو بول ريكور. يقرّ عيسى بأن السؤال عن العلاقة بين التاريخ والذاكرة سبقتنا إليه المعرفة الغربية، ليعلن أن أحد أهداف هذا الكتاب كان "جعل المفاهيم أهلية"، وعلى مستوى ثانٍ "تقريب ما هو جاف مفاهيمياً إلى الثقافة العامة والتساؤلات المدينة الراهنة". يطرح عيسى، في بداية عمله، ما يسميه بـ "ذاكرة الأزمة"؛ فيعود إلى أدبيات الفترة العربية الموازية لفجر الحداثة الأوروبية (القرن السادس عشر)، متسائلاً "هل أن الحداثة حين بدأت في الغرب، كنا نعيش وكأننا في كوكب آخر؟ أم أننا عشنا شيئاً منها في بلادنا؟". بالاعتماد على التاريخ المقارن بين حالتي تونس والمغرب بالأساس، يرى عيسى أن مؤشرات كثيرة تقول بوجود حركة تحديث، وهو ما يمكن تبيّنه من خلال نظام الضرائب والجيش وعملية عقلنة الإدارة. لكنه، من جهة أخرى، يبيّن أن هذا التحديث لم ينعكس على المجتمعات، فبدراسته للنصوص المنجزة وقته، والتي يهيمن عليها أدب المناقب والخوارق، تظهر آليات التعتيم على الواقع. هذا الاشتغال على تاريخ الذهنيات، يتيح، بحسب عيسى، النظر ليس فقط في ما حصل، وهو ما يدرسه التاريخ عادة، وإنما أيضاً النظر في ما كان يمكن أن يحصل 

mercredi 17 février 2016

الدولة وبناء المجال الجغرافيّ والروحيّ






مقال للصديق شكري المبخوت صدر بصحيفة العربي الجديد بتاريخ 15 فيفري 2016.  


تعيش كثير من المجتمعات العربية اليوم ظواهر ما قبل الدولة (قبليّة وطائفيّة وعشائريّة...) ويشهد جلّها انفجار الهوّيّات في غياب لمعنى الدولة - الوطن وتملّك حقيقيّ لشروط المواطنة. وبسبب هذا نرى صراعات كثيرة حول السلطة تضع الدولة ومؤسّساتها موضع تشكيك ونجد خلطا بين الانتساب إلى مجال للسيادة مشترك والاعتبارات الروحيّة التي تدخل ضمن الحريات الفرديّة ومن بينها حرية الضمير والمعتقد
وهذا ما عاين الجميع جوانب منه مع تولّي "الإسلام السياسيّ" السلطة ولو فترة وجيزة في مصر وتونس بالخصوص. فصار مفهوم فضفاض للفضيلة تعلّة للوصاية على الناس انعكست سياسيّاً على تصوّر مهزوز لهوّيّة المجتمع. وأدّى ذلك إلى العمل على تفكيك الدولة والخلط الشنيع بين التقليد والتحديث من جهة وبين المحافظة والتغريب من جهة أخرى. 
وتبدو العودة إلى التاريخ الحديث للنظر في كيفيّة تشكّل الدولة في تونس والمغرب الأقصى بالخصوص من خلال ترتيب المجال الترابيّ وبناء الذاكرة الجماعيّة مفيدة جدّا في فهم الكثير من هذه الظواهر. ويمثّل كتاب الباحث التونسيّ لطفي عيسى "بين الذاكرة والتاريخ: في التأصيل وتحوّلات الهوّيّة"، من هذه الناحية دراسة تطبيقيّة لمسائل بناء الدولة في فضاء المغارب ضمن مقاربة تاريخيّة مقارنة. 


ذاكرة المخزن
 
وظّف لطفي عيسى مفهوم المخزن، أي مجموع المؤسّسات التي تكوّن جهاز الدولة، لإبراز استقلال الدولة عن الخلافة في مجال المغارب قبل دخول الاستعمار إثر تراجع تجارة القوافل وتطوّر المبادلات التجاريّة مع الممالك الأوروبيّة. ولكنّ الميزة الأوضح هي انقسام المجال الداخليّ لتونس والمغرب إلى مركز سياسيّ و"سيبة" أي قبائل ممانعة ومعارضة لسلطة الدولة.
بنى المخزن في هذا السياق علاقتَه بالقبائل على أساس الإخضاع عبر الردع والضرائب. بيد أنّ عمليّة رسم المجال لم تكن يسيرة. وقد احتفظت الذاكرة الجماعيّة بتوتّرات وضروب من المقاومة الشرسة تعبّر من وجهة نظر المؤرّخ عمّا لقيته النخبة السياسيّة والعسكريّة والماليّة من عنت في حصر المجال الترابيّ شرطا لقيام الدولة. وانطلاقا من تمثّلات مختلف الفاعلين الاجتماعيّين لهذه التوّترات يعيد لطفي عيسى بناء "ذاكرة المخزن".
لقد فرض رسم المجال تصوّرا جديدا لإخضاع الرعايا ومراقبتها وضبط مجال تحرّكها حتّى تتمكّن الدولة من تحديد قوانين الأداء الضريبيّ. فتولّد عن ذلك نظام إداريّ وعسكريّ وجبائيّ فُرض على القبائل فمثّل منعطفا أساسيّا قام على شكل جديد من أشكال التعاقد بين الحاكم والمحكوم.
غير أنّ الأمر لم يكن مرتبطا دائما بالقهر وما نسمّيه اليوم "المعالجة الأمنيّة" بل قام كذلك على "حوار ساخن" بين أطراف اجتماعيّة مختلفة للتوصّل إلى توافق حول منظومة الضرائب. وبرز انعكاس هذه الديناميكيّة في بناء المجال على تشكيل الهوّيّة الجماعيّة في ارتباط وثيق ببناء المخزن وفرض سلطته.
وعماد هذه الهوّيّة تمتين أواصر الانتساب إلى "مجال موحّد تسهر مؤسّسة المخزن على تنظيمه ويخضع جميع رعاياه إلى نفس القوانين والأعراف الجارية" (ص 86). وهو ما يعني، على سبيل العبرة التاريخيّة، إضفاء معنى واقعيّ على مفهوم الهوّيّة بربطها بمجال موحّد.
غير أنّ بدايات القرن التاسع عشر حملت معها توسّعا تجاريّا أوروبّيا أضعف اقتصاد "الإيالة التونسيّة" فاختلّ الميزان التجاريّ ممّا أدّى إلى إضعاف الدولة وأعوانها. وهو ما مهّد للسيطرة الأوروبيّة ماليّا وتراكم الديون والانهيار المالي فالإفلاس بما سمح بالتسرّب الرأسماليّ مهيّئا الفرصة للتدخّل الاستعماريّ.
ولا تختلف حال المغرب الأقصى كثيرا رغم اختلاف الخصوصيّات. فقد كان لاحتلال الجزائر وقع سلبيّ عليها. فبعد هزيمة سلطان المغرب ضدّ جيش الاحتلال الفرنسيّ اقتطع الإسبان أراضي جديدة على الساحل المغربيّ. ورغم رسم الحدود فإنّ الفرنسيّين والإسبان احتفظوا بالحقّ في مراجعتها. وتعهّد المخزن بدفع غرامات ماليّة مقابل انسحاب الإسبان من تطوان ممّا اضطرّ السلطان إلى الاقتراض من البنوك الإنجليزية. عندها غرق المغرب الأقصى في وحل الديون وقروض الإفلاس. 

الدولة السلطانيّة والرأسماليّة

ولم تنفع الإصلاحات المتتالية في رتق الفتق. فهل يفسّر مفهوم "الدولة السلطانيّة" هذا التراجع الحضاريّ؟ أم يعود ذلك إلى تداخل وظائف الأمير والإمام والتاجر والقاضي أي تداخل السلطات السياسيّة والدينيّة والاقتصاديّة والقضائيّة وعدم تقسيم الأدوار؟
مهما تكن الإجابة عن هذا السؤال المحوريّ فالثابت أنّ المعاملات التجاريّة قامت على الاحتكار واستغلال الموقع السياسيّ. فالترابط بين حضور الدولة ونموّ الحواضر بيّن. ولكنّ الدولة السلطانيّة، كما لاحظ لطفي عيسى، "دولة استملاك وترف واستمتاع (...) وعملت جميع الفئات المالكة أو المنتجة للثروة على المحافظة على ما بيدها أكثر من التفكير في إنمائه فلم يستقلّ الاقتصاد عن السياسة ولا المدينة عن الدولة" (ص 114).
ولكن على الرغم من تدخلات أعوان المخزن والرفض المتواصل للتجمّعات القبليّة لمراقبة مؤسّسات الدولة وعلى الرغم من هجمة رأس المال الأوروبيّ فقد استطاعت مدن المغرب الكبير من أن تنظّم مجالها. 

الجغرافية الروحيّة

ومن أطرف ما في كتاب لطفي عيسى، منهجا ومحتوى واستنتاجا، تحليله لأساطير تأسيس مدينتي تونس وفاس وبيانه لوظائف تلك الأساطير في تحقيق الهوّيّة المشتركة وبناء الذاكرة الجماعيّة. فقد كانت تسييجا للمجال الروحيّ يناظر تسييج الدولة للمجال الترابيّ.
أبرز الباحث، انطلاقاً من سير أرباب الصلاح التونسيّين والفاسيّين ومناقبهم، وهو المجال الذي أبدع فيه لطفي عيسى في كتاباته السابقة، وما حفّت بها من تخاريف وتهويمات وتلفيقات، كيف أضحت أضرحة الأولياء والجوامع والزوايا علامات رسمت الهوّيّة الرمزيّة والروحيّة ورسّخت المجال الترابي للدولة بما يوافق الذهنيّات الشعبيّة.
ولهذه الجغرافيا الروحيّة وظائف اجتماعيّة وسياسيّة هامّة. فهي تسهم في تأمين مسالك العبور والسيطرة على العنف والفوضى وبثّ الاستقرار والأمن وإدماج الفئات المهمّشة والخارجة على الدولة. فقد ساهم رأس المال الرمزيّ هذا في إضفاء القداسة على المجال الترابيّ. إذ قام محرز بن خلف، الملقّب بسلطان المدينة (مدينة تونس) بعمليّة تجنيس مذهبيّ كبيرة من خلال نشر المالكيّة وأسلمة البربر المروْمنين والأعاجم اللاّتينيّين والأقباط واليهود والشيعة وجميع من استوطن مدينة تونس. ولكنّ الذاكرة الشعبيّة سكتت عن تعصّبه الدينيّ وممارسته للتقتيل المنهجيّ.
ونجد إدريس الثاني الملقّب بـ"الأنور" بطلا عجائبيّا في ذاكرة المغرب الأقصى. فهو ابن أمَة بربريّة أوروبيّة شارك في جعل مدينة فاس متعدّدة الأعراق (بربر وعرب وأندلسيّين) بما يسّر لصاحب السلطان أن يلعب على ما بينها من اختلافات.
وهذا كلّه يدلّ على أن روايات التأسيس مثّلت تعبيرا عن البحث عن رابطة تردم الهوّة بين مستويات متباينة من التمثّل الثقافيّ العالم والتمثّل الثقافيّ الشعبيّ. ومن نتائج ذلك، سياسيّا، أنّ دولة المخزن، حين عجزت عن السيطرة الكلّيّة على مجال نفوذها، استفادت من شبكة الطرقيّة ومؤسّساتها لتأمين مسالك التفاوض مع القبائل الممانعة.
إنّ كتاب لطفي عيسى، نموذج من المقاربة التاريخيّة المنفتحة على الأنتروبولوجيا الثقافيّة. لذلك نجده لا يتورّع عن استنطاق نصوص لا تبدو ذات طابع أرشيفيّ موثوق به في عرف المؤرّخين. بيد أن كتابه هذا، كما كتاباته الأخرى في أدب المناقب، يؤكّد أن الإشكال في العين التي ترى وقدرتها على قراءة ما بين السطور وتنزيله منزلته من التاريخ والذهنيّات لاستنباط المعنى فيه وكشف تمثّلات الناس لأنفسهم ولما يدور حولهم. وهذه بعض فضائل هذا الكتاب الثريّ بالإشكالات والقضايا التي تجعلنا نعيد التفكير في كثير ممّا عندنا من مسلّمات.
 

*
روائيّ وأكاديميّ من تونس