vendredi 16 décembre 2011

سيرة غامضة لملك فاقد للمهابة




تشدد الرواية التاريخية على الطابع الأدبي البحت للحكاية التي تقترحها، حتى وإن سعى واضعوها وسعهم كي يجعلوا مما يروونه أمرا ممكن الحصول في الواقع، سواء اتصل الأمر بالإطار الزماني والمكاني أو تعلق بالنتائج المترتبة عن السياق الذي انخرطت ضمنه الأحداث المروية. فما يعتبره مؤلف الرواية مجرد صياغة أدبية لما كان يمكن أن يحصل في الواقع، هو ما يمنح قارئه حقيقة فرصة لمزيد فهم ما ثبت حصوله في الواقع. فالهدف من كتابة الرواية التاريخية لا يتمثل في عرضها فنيا على العارفين بالأحداث التاريخية فحسب، بل في توسيع نطاق المعرفة بتلك الأحداث لتشمل من لم يصادفهم حظ الاطلاع عليها والتفكير في حقيقة حصولها. على هؤلاء تحديدا يتعين أن تُقترح الرواية التاريخية وفقا لمقاربة فنية تحوّل أحداث التاريخ إلى مروية فاتنة تطرح أسئلة الحاضر متوسّلة بما ولّى من وقائع الماضي، فالتاريخ يبقى على الدوام مدرسة للحرية تساهم في تعميق التأمّل والتبصّر بما يعطي مدلولا ساميا وعميقا لوجود الإنسان.
على أنه من الضروري الاعتبار بالمسافة التي تفصل عمل المؤرخ المختصّ عما يأتيه كاتب الرواية التاريخية. فمهما اتسعت ثقافة هذا الأخير أو معرفته بالأحداث التاريخية، ومهما ثبتت حاجة المؤرخ للتوسّل بالقصّ في عرض مختلف الروايات المشكّلة للسياق وتمحيصها، فإن مقتضيات المعالجة الروائية لا تتلاءم مع ما يتطلّبه عمل المؤرخ من صرامة منهجية. وهو ما لا يضير في شيء بهذين الضربين الفنيين والأدبيين، فالقول الروائي مجبول على التخيّل قصد تجاوز متاح الواقع المتأكد حصوله تاريخيا ومجادلة الحاضر فنيّا بتوظيف أدوات القصّ والحوار، بينما لا يجرأ المؤرخ المختصّ على إتيان مثل هذا الانزياح الذي يسوّي بين ما جد في الماضي وما يحمله الواقع في الحاضر، لأن في ذلك نزوع إلى الإسقاط وتمثّل للماضي من منظور السياقات السائدة في الحاضر.
يكمن فخ الإقدام على تحبير النص الروائي التاريخي في الركون إلى استسهال هذا الضرب الفني العصيّ باعتباره طلبا مبذولا، فتفاصيل الحكاية تبدو معروضة مُسبقا وما على المؤلف غير إعادة تنظيمها وعرضها على القراء، في حين أن الأمر يتعارض مع ذلك تماما فعبقرية من أبدعوا في هذا المجال الفني تكمن في قدرتهم على إعادة اختراع الواقع وتحديد ملامح الشخصيات وضبط طبيعة الأدوار وبناء الحوار وتفاصيل الطرادات، بما يُنشئ الخرافة إنشاء ويحبك عقدتها ويستجيب تبعا للأغراض الفنية والفكرية والوجودية المنشودة.
فهل تمكنت "علياء مبروك" وهي واحدة ممن تجرأن على الكتابة في هذا الضرب تونسيا من المزاوجة بين التاريخ وفن الرواية وعرض مضمونه بطريقة تسمح لغير المنغمسين في هذه المعرفة بولوج مجالها بطريقة تسهل المصالحة مع التاريخ والإقبال عليه من وجهة نظر فنية ترفع تحدي المزج بين المتعة والتثقيف؟ هذا ما سنحاول التعرّف عليه من خلال هذا التقديم المبتسر لمضمون روايتها "الملك الغامض Le Roi ambigu" وهو نص ينخرط ضمن خماسيتها الروائية المكتوبة باللغة الفرنسية والتي خصّصتها لتاريخ البلاد التونسية.
لا يتعين أن يُحمل اعتلاء سدة الحكم على أنه ضفر بالعزة والجاه، فقد يُخبئ الملك أحيانا مفاجئات مروّعة تنطوي على أعوص المحاذير محوّلة تراجيديا الفرد إلى انهيار أمة بأكملها. هذا ما اقترحته علينا المؤلفة ضمن روايتها التاريخية الصادرة عن دار ديمتار بتونس سنة 2007.
تدور أحداث الرواية حول فترة حكم السلطان الحفصي "مولاي الحسن" (1525 – 1542 م) وهو الملك الغامض الذي نجم شقائه عن تحمّله أعباء الدولة في مرحلة فارقة من تاريخ إفريقية. فلئن وصفه الإسباني "كربخال مارمول" الذي رافق إمبراطور الكاثوليكية "شارل الخامس" غداة حملته على تونس ضمن تاريخه بأنه "كان طيب السجايا اتسمت تصرفاته بالإقدام والفروسية والكياسة والكرم، وأنه إذا ما استثنينا بعض السقطات التي يحلّ لجميع المتوّجين إتيانها، فإنه يصحّ اعتباره واحدا من أجّل ملوك زمانه"، فإن الأخبار التاريخية الموضوعة بحقه تفيد عكس ذلك تماما. فقد جُوبهت سلطته بعدم الاعتراف وأقدم جيشه عن الخروج عن طوعه في جميع المواقع التي خاضها، قبل أن ينقلب عليه ولي عهده ويحرمه من نعمة البصر ويزدريه كبار ساسة وملوك زمانه.
باشر الحسن حكمه بالإقدام على تصفية إخوته وأنهى حياته ضريرا منبوذا تنكّر له الجميع قبل أن يُدَس له السم ويطوي ذكره الخزي والنسيان. ملك صغير لمملكة منقسمة طال أمجدها الضمور والتقهقر، ملك فاقد للمهابة ضيع شرعيته لما أعرض عن حِلْمه مُبديا صلفا مُروِّعا حال الإصرار على تصفية منافسيه حتى لو كانوا إخوة له في الدم، غير مُباليا بتحذير أهل مشورته ولا بدموع والدته المسنّة.
ليس في الأمر غرابة لو قدر لمن أتاه الصدق في الانكباب على أمور الدولة وتقدير لدقة الموقف وجسامة المسؤولية التي آلت إليه وحرجها، فغالبا ما يُؤخذ بالسلطان ما لا يُؤخذ بالقرآن. إلا أن "سقطات المتوّجين" على حد تعبير "مارمول" هي التي جعلت من البحث عن المتع واللهث المجنون وراء السلطة مظنة للوقوع في إدمانٍ مُهلكٍ يعسر الإقلاع عنه.
مفتونا كان الحسن الحفصي بجميل اللفظ ورقة الموسيقى، مُتيّم بحب غلمانه الذين عتمت وجوههم الصبوحة على وجوه بقية من نُسب إلى حاشيته أو انظم إلى بلاطه من أعيان البلاد وكبار علمائها. لم يكن لمن آثر الدعة أن يعقل أمور الدولة على حقيقتها، فقد غرّه بهرج الحكم وعظُمت في عينيه نجابته الخارقة في حسم المواقف وقدرته الاستثنائية على المناورة، فاعتقد أنه على موعد مع استعادة أمجاد كبار ملوك أسرته بوضع حدّ للممانعة وخضد شوكة العُصاة ممن رفضوا الانصياع لقهره وشكّكوا في شرعية وصولة إلى سدة الحكم.
توجه إلى القيروان معقل دويلة شيوخ الشابيين متأكدا من سحقهم، فرجع على أعقابه خائبا بعد أن انفضّ جنده من حوله والتحقوا بصف أعدائه. ناكفه سيد البحر ووالي الأتراك بالجزائر "خير الدين" تحت غطاء إعادة الشرعية لأخيه الرشيد، فرحل عن وطنه قاصدا برشلونة يطلب نجدة الإمبراطور شارل الخامس ويستحثه لمعاضدته في دحر الغاصبين واستعادة ملك دفع لاسترجاعه ثمنا باهظا أُبيحت بمقتضاه مدينة تونس وجامعها الأكبر لرعاع الجرمان من جند النصارى وارتهنت بمقتضاه سيادة بلاده لحكم الأسبان، واهتزت سلطة الحسن من جديد بعد خروج ولي عهده عنه وهو في عزّ منازلته ضد الشابيين الذين امتد سلطانهم على المدن الساحلية للمملكة.
أُودع الملك الغامض السجن وسُملت عيناه فكّف منه البصر، ولم تعزه الحيلة في الالتحاق مجددا بالضفة المقابلة جادّا في طلب السلطة مقنعا إمبراطور الكاثوليكية المدحور عند مرفأ الجزائر -وهو من أنهكته الحروب الدينية حتى أضحى يفكر في التنازل على الملك لفائدة ابنه فيليب الثاني- على مساعفته كي يستعيد ما لم يعد أهلا بالمرة لتحمله.
تلك هي وقائع رواية ملك فتنه بريق الحكم وقادته تصرفاته إلى مصير محتوم، رفض القبول بالواقع والتعامل معه من زاوية الاعتبار بالممكن قصد بلوغ المستحيل. ملك غامض لاحق نجما واعدا بالعزّ وموفور القوة وكلّفه اللهث وراء حُلمه الزائف تلمّظ مرارة الهزيمة والخزي وتعريض موطنه وأهله إلى القبول في انكسار بالتفريط في عزيز السيادة.
تفاصيل سيرة أجهدت علياء مبروك نفسها في جمعها من رحم شذرات تاريخية نادرة ضمتها مصادر متناثرة أوردها مؤلفون كثر من "ليون الإفريقي أو الحسن الوزان" إلى "كربخال مارمول" مرورا بمسالك أبصار "ابن فضل الله العمري" وبحر "مصطفى بن حسن الحسيني المشهور بالجنابي" الزاخر، وأمير "ماكيفيلي" أو خطابه حول فنون الحرب وبديع شعر "ابن حمديس" وهو يرثي مسقط رأسه صيقلية بعد أن عزّ عليه الرحيل ومفارقة الوطن إلى الأبد فأنشد أبياته الخالدة:
بلد أعارته الحمامة طوقها ... وكساه حلة ريشه الطاووس
فكأنما الأنهار فيه مُدامة ... وكأن ساحات الديار كؤوس
فضلا عن دراسات المختصين كـ"دومارك" حول تجارة البندقية و"غي توربي ديلوف" حول موقع إفريقية في الآداب الفرنسية خلال القرنين السادس والسابع عشر، و"جوريان دي لاغرافيار" حول قراصنة إفريقية وأسطول سليمان القانوني.
سيرة صعبة المراس رفعت المؤلفة بتوفيق غير قليل تحدي ردّهاإلى الحياة وإشراكنا في تعقّب تطوّراتها وتتبّع أدق تفاصيلها بالتعويل على القصّ المبهر وأسلوب الكتابة الباذخ المتحدّى لندرة المعطى التاريخي الراسم بريشة الفنان الـمُلهم حكاية أمير قُدّت من بهي اللفظ وبليغ العبارة، عرضت على قارئيها من وجهة نظر من يمتلك مطلق السلطة، وهي في تعريف من هم على شاكلة "ملكنا الغامض" استئثار بالسعة والجاه وإحساس بامتلاك نواصي المحكومين يصل حدّ المنازعة في الربوبية.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire