dimanche 8 juillet 2012

تمبكتو الحزينة ... تمبكتو الوهابية




"يجلب الملح من الشمال، والذهب من الجنوب والفضة من بلاد البيض، أما كلام الله وكنوز الحكمة فلا توجد إلا في تمبكتو"  

 

سقطت منذ مفتتح شهر أفريل المنقضي حاضرة التجارة وجوهرة الصحراء الإفريقية ومدينة المخطوطات النادرة تمبكتو الواقعة شمال مالي بيد "أنصار الدين"، وهو تنظيم جهادي سلفي تحركه مجموعات متمرّدة من قبائل الطوارق تنتسب إلى فصيل "آنصار" وتعرف بقربها من قاعدة الجهاد الوهابية بالمغرب الإسلامي.
فقد باشرت مجموعات من المتشدّدين دينيا من الطوارق تحطيم العديد من المعالم الأثرية الإسلامية القديمة في تمبكتو زاعمة أنها من المظاهر الوثنية المزرية، عامدة إلى خلع باب مسجد سيدي يحيى المؤدي إلى مقبرة قديمة تضم رفات 333 ولي صالح، شكّلوا منذ القدم ذاكرة المدينة الروحية تلك التي عرفت بمدينة الثلاثمائة وثلاثة وثلاثين وليّ.
وقد أفاد زعيم هذه الجماعة الجهادية "سنادة أولاد بناما" أن عملية التحطيم قد شملت معظم المعالم التي تعارضت هندستها بزعم جماعته طبعا مع أحكام الشريعة في تحريمها تجاوز علو المشاهد والأضرحة أو القبور 15 سم، فضلا على أن "أنصار الدين" القريبين من الفكر الوهابي يجاهرون صراحا بمحاربة جميع أشكال التصوف الطرقي ومناصبة العدى لمن يعتقدون في الصلاح وأربابه.
تُشكِل الآثار التي شملها الهدم بعد وفي معظمها قباب لأضرحة الأولياء من الصوفية، وهي أضرحة شُيدت تباعا بين القرن الثالث عشر والقرن السابع عشر. ويُخشى أن يطال الإتلاف أيضا كنوزا نادرة تضم مكتبة ضخمة للمخطوطات القديمة، تـُمثل نصوصا دينية وفقهية ومراسلات تجارية وأرشيفات ضريبية وقوائم للمعاملات التجارية وعقود زواج وحصور تركات ووثائق أخرى. وجميعها آثار مسجلة منذ سنة 1988 من قبل المنظمة الدولية للثقافة والعلوم يونسكو، باعتبارها من أقدم الآثار الإسلامية ومن الموروث الثقافي الإنساني. وقد أعربت خمسة وخمسين شخصية من بين أعضاء المؤتمر الإسلامي عن أسفها الشديد لما حدث. كما اعتبر العديد من علماء الآثار أن ما حصل يُعد تجاوزا خطيرا في حق التراث الإنساني، واصفين أيها بأنها جريمة حرب مكتملة الأركان لابد من ملاحقة جميع من اقترفها جنائيا.
لو تجازونا لبرهة فضاعة الحدث وحاولنا استعادة تاريخ أسلمة "بلاد السودان القديمة" لتبين لنا أن ما وُسم بـ"الإسلام الأسود" هو إسلام لا يعول كثيرا على التدقيقات العقدية بقدر ما يعتمد الممارسة الدينية ومظاهر التدين المركّزة خاصة على الاحتفالية والطقوس الجماعية المشوبة بإرث إحيائي أو أنيمي وثني غير خاف. فقد ساهم انتشار الإسلام بإفريقيا في تأمين الطرق والقوافل التجارية ومنح الأفارقة هوية وطنية وثقافية ساعدتهم على مقاومة الاحتلال والحد من فاعلية حركات التبشير المسيحية، موفّرة لتلك الشعوب الطرفية المعزولة أهلية المشاركة في الثقافة العالمية، حيث اكتسب الإسلام صفة الدين المحلي المقاوم لجميع الثقافات الوافدة، جاعلا من تمبكتو مدينة سحرية مصاقبة لنهر النيجر يرتادها الباحثون عن المغامرة من أبعد الأقطار حيث ينزل بها الأمريكي والياباني طلبا للغريب والمفارق وتسعى وكالات الأسفار إلى مؤازرة دولة مالي على إنشاء مطار دولي يربطها بالعالم بشكل مباشر.
ومن الملاحظ أن أفريقيا جنوب الصحراء لم تعاين عملية تعريب على شاكلة ما عاينته المجالات الواقعة شمال القارة الإفريقية، بل حافظت على لغاتها وتنظيماتها القبلية ولم تنشأ فيها دول تفرض نظما إدارية عربية على غرار ما حدث بشمال أفريقيا حيث استقرت جاليات عربية وأُسست دولا لا تختلف في جوهرها عن دول بلاد المشرق. ويعتبر دخول المرابطين المستندين على العصبية اللمتونية البربرية إلى مملكة غانا في حدود سنة 169هـ/ 786 م أول عملية انتشار منظمة في المنطقة ساهمت بشكل فاعل في اعتناق الإسلام من قبل السكان الأفارقة الأصليين، حتى وإن بقي ذلك الانتشار محدودا ولم يشمل غير المدن الكبرى والفئات الاجتماعية الحاكمة ومن تبعها من الميسورين من بين كبار أعوان الدولة وسراة التجار.
لم تنتسب الأطراف الفاعلة الأساسية في عملية نشر الإسلام ببلاد السودان إذن إلى العناصر العربية على غرار ما عاينه مجال المغارب الواقع جغرافيا في شمال القارة الإفريقية. فقد احتفظ الملوك البربر ببعض العادات التي كانت سائدة بينهم قبل أن تشملهم الديانة الإسلامية اسما ورسما على غرار عدم التقيد بالعدد الشرعي للزوجات، وهو ما ترك المجال واسعا لتواصل العادات والأعراف القديمة، مع سيطرة واضحة لشيوخ الطرق الذين زادت سطوتهم منذ أن غزى سلطان المغرب السعدي أحمد المنصور (1578 - 1603) مملكة سنغاي مع امتداد ملحوظ لاحقا للزوايا القادرية والتيجانية بالجهات الغربية للقارة الإفريقية.
ساهم هذا الواقع التاريخي بلا جدال في ظهور مراكز للثقافة الإسلامية نافست المراكز التقليدية لحواضر المغارب على غرار تمبكتو التي ذاع صيتها وكثرت مدارسها وتخرج منها علماء مالكيون برعوا في الفصل بين حلال والحرام وبلغوا درجة الإفتاء كأحمد بابا التمبكتي وشيخه محمد بغيغو.
ومع حلول القرنين السابع عشر والثامن عشر عاينت حركة نشر الإسلام في المنطقة انحسار ملحوظا حاولت المؤسسات الطرقية الحدّ منه. فقد اتسم التصوّف بجنوب الصحراء وخاصة بغربي أفريقيا بخصوصيات مميزة سمحت لشيوخ الطرق بأن يتحولوا إلى زعماء دنيويين إلى جانب زعامتهم الدينية. ومن أشهر هؤلاء نشير على سبيل الذكر إلى الشيخ الفلاني "عثمان دان فوديو" المنسوب إلى الطريقة القادرية وكذلك إلى الشيخ "الفوتي التكروري عمر بن سعيد طال" الزعيم الروحي للطريقة التيجانية.
مع بداية التدخل الأوروبي والضعف الذي أبدته المركزيات القائمة في التصدي له أصبحت الزوايا والمساجد مراكز للجهاد. ولم تكن حركات الجهاد والمقاومة والإصلاح الاجتماعي جنوب الصحراء الكبرى بمعزل عما كان يدور بشمال المنطقة أو في  بلاد المشرق عند شبه الجزيرة العربية. فقد كان الحج مناسبة للسفر والاطلاع واللقاء بالعلماء والمناظرة والتباحث في شؤون الدين والدنيا. ومن ميزات هذه المرحلة خروج الإسلام من المدن إلى البوادي واتساع رقعة انتشاره وتداخله مع وعي لافت بالمطالب الوطنية، متحولا إلى دين للشعوب المقهورة الثائرة على الظلم الطامحة إلى التحرر السياسي والاقتصادي والرافضة للتدخل الأجنبي.
ويؤدي الدعاة المسلمون اليوم الناشطون ضمن منظمات حكومية وغير حكومية مهام محورية باعتبار الأوضاع المتردّية التي تعيشها منطقة الصحراء والساحل الإفريقي، فهم يقومون بتدخلات حيوية متعددة تساندهم في ذلك إمكانيات مالية وتقنية تذلّل المصاعب وتسهّل المهام، على غرار ما مارسه المبشرون المسيحيون في الماضي. ويدير هؤلاء الدعاة شبكة من المؤسسات التربوية والمستشفيات والمشاريع الاقتصادية والتنموية، لذلك من الطبيعي أن يتلون الإسلام الحديث بألوان أولئك الدعاة وانتماءاتهم السياسية. فقد اخترق هذا المجال الإفريقي القصيّ الإسلام الشيعي الوافد من إيران، كما الإسلام السني السلفي الوهابي القادم من السعودية وبلاد الخليج، فضلا عن الإسلام الإصلاحي الآخذ بوسائل الحداثة والوافد من مصر وبلدان المغرب العربي.
وبالجملة يعاين المجال الإفريقي حاضرا تنافسا حادا بين ثلاثة تيارات إسلامية، أولها: الحركات الصوفية التي مازال تأثيرها بيّن في المجتمع والنخب الإفريقية التقليدية، وثانيها الحركات الإصلاحية التي حملها الطلاب العائدون من الدراسة في البلدان العربية والإسلامية ووسعت انتشارها الكتب والمنشورات التي تفد على المنطقة مع البضائع المستوردة. ويعتبر الاتجاه الإسلامي الإصلاحي فاعلا أساسيا بين الشعوب الإفريقية المستوطنة جنوب الصحراء ويعوّل على التعليم كوسيلة لنشر ثقافة الإصلاح وتكوين مجتمع يعيش إسلامه دون حاجة إلى وسطاء مرشدين، مع الدفع باتجاه تحديث مواد التعليم ومناهجه والدعوة إلى تحرير المرأة. أما ثالث تلك التيارات فتمثله الحركات السياسية الإسلامية القريبة من الإخوان المسلمين والحركات السلفية الجهادية، وهي حركات بقيت إلى حد السنوات القليلة الماضية محدودة التأثير اعتبارا لسيطرة الفكر الصوفي وارتفاع نسبة الأمية.
ومن المرجح أن يكون للقرار الذي اتخذته منظمة اليونسكو والصادر في 28 من شهر جوان المنقضي والذي يقضي بإدراج عشرة معالم (سبعة أضرحة وثلاثة جوامع) ضمن قائمة التراث العالمي المهدد بالاندثار، دورا عكسيا أو سلبيا فهو الذي تسبب في نشوب الأحداث التي شهدها مدينة تمبكتو.  حيث تحفظت الجماعات الجهادية الوهابية الموسومة بـ"أنصار السنة" على ذلك القرار معتبرة إياه تدخلا صارخا في الشأن الإسلامي، علما أن إقامة مشاهد للأولياء وأرباب الطرق أمر يتعارض في تمثلاتها بالكامل مع ما تحله أحكام الشريعة توافقا مع مواقف خطّية متشدّدة وافدة حديثا من بلاد الخليج.  
والبيّن أن مثل هذا الانحراف الأخرق الذي يتخفى وراء منطق طُهري مدمّر بوسعه أن يطال مستقبلا مكتبة أثيرة تضم آلاف المخطوطات القديمة وتحظى بتقدير كوني واسع اعتبارا لطغيان الروح الصوفية عليها واتسام محتوياتها بتوجّهات تنتسب في معظمها للفكر الإصلاحي للمدرسة المقاصدية السنية القيروانية والأزهرية والزيتونية والفاسية والقرطبية، وهي توجهات تتعارض مع الخط الجهادي الوهابي للأطراف المستبدة حديثا بجوهرة الرمال الإفريقية، تلك التي لا يستبعد أن يحوّلها هذا المنزع المتطرّف والصدامي إلى مربع خطير للإرهاب الدولي يجاوز في مأسويته - اعتبارا للواقع الاقتصادي والبيئي الكارثي لمنطقة الصحراء والساحل- ما تعيشه مقديشو الصومالية أو قندهار الأفغانية أو لاهور وكراتشي الباكستانيتين.   


1 commentaire:

  1. حقًا أن تمبتكو حزينة، حزينة جدًا كحال الثقافة في هذه البلاد...اليوم فقط تحدثت مع أحد الأساتذة الإسبان الذي زار مكتبة تمبكتو أكثر من 17 مرة، يكادُ الرجُل يبكي و هو يخبرني عن كنوز المخطوطات الأندلسية الموجودة هناك.
    في المقابل صدر كذلك مقال مطول في أهم جريدة إسبانية و هي جريدة الباييس، عن سيطرة القاعدة على المدينة، و الخوف على المكتبة التي أنشأتها حكومة جهة أندلثيا لحفظ هذه المخطوطات، و التي يديرها أحد أحفاد الأندلسيين الذين سكنوا تمبكتو و لقبهُ قاطي أو ربميا قوطي، حيث أن المخطوطات التي استطاعت هذه العائلة فقط حفظها منذ القرن الخامس عشر يتجاوز 3000 مخطوط
    تحياتي
    حسام

    RépondreSupprimer