samedi 10 novembre 2012

عودة الديني



لم يكن رفع حُجب القداسة عن السياسي بالأمر الهين لكن الثورة أجلت غموضه وحوّلته حاضرا إلى علامة مبذولة ضمن المشهد اليومي للتونسيين. غير أن أمر إعادة الاعتبار للروحي، وهو شاغل يضارع الأول ويكمّله، لم يشغل وضمن الحوار الساخن القائم تونسيا حول علاقة الهوية بالمعتقد حيّزا يكفل الارتقاء به وإنضاجه تطلّعا إلى ربطه عمليا بقداسة الحرية كقيمة أو كفضيلة. 
للتونسيين حياة روحية عميقة تخللتها جملة من الممارسات أثارت فرقعات طهرانية متعددة في مرحلة ما بعد الثورة.  فقد شملت السجالات والمزايدات موروثا روحيا منسجما مع المشهدين الجغرافي والثقافي ومنخرطا بالكامل ضمنهما. عودة الفرد منذ بداية تسعينات القرن الماضي، هي التي أرجعت هذا الموروث إلى واجهة البحث المعرفي المحكّم في الإنسانيات وفي الجماليات أيضا، موفّرا توجّها جديدا مكّن من طرح أسئلة كانت من قبيل اللا مفكر فيه سابقا، ومقدّما الدليل على قدرة تلك التخصّصات على الارتقاء بخطابها منهجا ومضمونا. هذا التراكم المعرفي الذي وسّعت المدرسة في قاعدة اقتسامه هو الذي يُسهم حاضرا في إلقاء كاشف الاضواء على مآخذ خطاب الإسلام السياسي بجميع توجهاته أو تلويناته، وهو الذي يُعلي من مكانة المقومات المدنية للدولة ويتصدّى لمعاول الهدم التي تستهدف المكتسابات الحداثية للمجتمع التونسي. 
ليس بعيدا أن يكون إسلام التونسيين حداثيا، فقد تم تعهّده منذ قرن ونصف بالتعديل والاصلاح، مما أسعف المجمتع في القبول بجملة من التحوّلات الكيفيّة في فهم مقاصد الدين لا نتوفر على ما يضارعها عربيا. على غرار الواقع القانوني للاحوال الشخصية، وبداهة الاختلاط بين الجنسين ضمن الفضاءت العمومية. والتسامح بخصوص العديد من الممارسات الاجتماعية والتقاليد غير المتطابقة بالضرورة مع الأحكام المستندة لفقه الحلال والحرام. 
هذا الواقع لم يترتب عليه، وإذا ما تجازونا حرارة السجال القائم على المناكفة بين فرقاء النضال السياسي والصراع الأيديولوجي، سقوط المجمع في حالة من التفسخ الثقافي والديني المؤذن بالخروج عن الإسلام والتخلي عن الشحنة الروحية التي تمثل عنصرا محوريا في ترتيب واقع التونسيين الاجتماعي وتقاليدهم العائلية وحياتهم الشحصية أيضا. ولأن المسألة روحيّة بامتياز، فإن اقتلاعها عن ذلك الإطار، لحشرها بالقوة ضمن حلبة الصراع السياسي بعد رفع حُجب القداسة عنه بالمراهنة على الاستثمار في اقتصاد الخلاص، مغامرة تفوق مساوئها المكاسب الآنية السريعة المترتبة على تشغيل آلياتها مجدّدا. لذلك لابد من التفطّن إلى حساسية التعامل مع هذه المسائل من وجهة نظر الاعتراف بحرية الأفراد في استجلاء الرصيد الروحي المتوافق مع مضمون مسارتهم الحياتية، والتعامل مع قضية المعتقد من زاوية الدفاع عن الحريات ومن أجلّها تلك المتّصلة بالجوانب الروحية، من خلال التعبير عن الرفض الصريح لمنطق الاكراه المبني على بَلْوَى الإجماع، وجلب المنفعة عبر وصل الدين بالمعرفة المحكّمة الدقيقة في كونيتها. 
هذا مربط الفرس في التعامل مع الإسلام المعيش تونسيا، فجميع الحملات العاملة حاضرا - باسم طهرية واجهةٍ وفدت علينا من مجالات متزمتة ترفض الإصلاح وتتتمسك بالمحافظة السياسية والاجتماعية والثقافية- على تقويض ما تبقى من علامات تراثية متصلة برصيد ثقافي وروحي غني بالدلالات، ليست في الحقيقة سوى محاولة للانقلاب العنيف على النموذج المجتمعي والثقافي التونسي بغية غرس نبتة في غير تربتها.
فاستجلاء المسائل الروحية يحتاج إلى تفكيك دقيق للظواهر الناظمة للذهنيات ومعرفة جيدة بسجل  القيم ومستويات تمثل الوجود وتجريد ما ورائه، ومضمون السيطرة الحقيقية والمتوَهَمة على العالمين المادي واللامادي أيضا. وهي مهمة لم تعتبر دولة الاستقلال بمحوريتها في إنجاح مشاريعها التنموية ولم تدفع باتجاه تفحّصها، حتى وإن لم تتوصّل إلى القطع معها كليا، وهو ما يحاول الإسلام السياسي التعجيل بإتمامه على ما نُقدّر. 
فإذا ما تجاوزنا تعلة الشرك التي غالبا ما تمّ رفعها في وجه مختلف الممارسات الطقوسية المتصلة بفضائات التبرك الشعبي، يبرز لنا  الدور الأساسي الذي اضطلعت به كمؤسسات ثقافية طوّرت الحياة الجماعوية وقرّبت الأحكام الشرعية والعادة المخزنية ونشرت العافية بين أوسع الشرائح الاجتماعية بالمغارب على مدى عشر قرون من الزمن. وهو موروث يحتاج منّا اليوم وبعد أن أزلنا حُجب القداسة عن السلطة السياسية، أن نفكّك مختلف دلالته لنفهم طبيعة العلاقة التي ربطت المغاربة عامة والتونسيين فيما يخصّنا بالإسلام كمعتقد وكمشترك ثقافي معيش حدّد مستويات إدراكنا وتعاملنا أيضا مع المسألة الروحية. وهو أمر يتجاوز في اعتقادنا مسألة الإشراك ليفتح حوارا هادئا رصينا حول مسألة "إعادة الاعتبار للروحي" كحق من حقوق الإنسان يشترك فيه المتدين وغير المتدين المؤمن بالإسلام وغير المؤمن به، وتضمنه الحريات الشخصية في مدلوها الكوني. 
فهل نحن مقبولون على ثقافة روحية تستجمع رصيدنا الثقافي الديني باتجاه مزيد تأمّل العلاقة التي ربطتنا بالله وبرسله من وجهة نظر المحبّة، وهي ركن مكين اعتضد به المغاربة في إخصاب حياتهم الروحية، أم أن الدفع باتجاه مربع الخوف هو الذي سيحملنا مستقبلا على تلمض مرارة الوصاية والاستغناء صاغرين ومكرهين عن إرثنا الروحي المتطوّر والمتحرّر؟ 



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire