dimanche 17 février 2013

معاول السلفية تستهدف مؤسسات الإصلاح 2 / 2





 قبل قرنين ونصف القرن رفض الفقهاء التونسيون الوهابية، إلى ما تعزى عودتها القوية إلى تونس راهنا؟ وكيف تنظر إلى تنامي التيارات السلفية في تونس منذ سقوط نظام بن علي؟لم يكن رفع حُجب القداسة عن السياسي بالأمر الهين لكن الثورة أجلت غموضه وحوّلته حاضرا إلى علامة مبذولة ضمن المشهد اليومي للتونسيين. غير أن أمر إعادة الاعتبار للروحي، وهو شاغل يضارع الأول ويكمّله، لم يشغل وضمن الحوار الساخن القائم تونسيا حول علاقة الهوية بالمعتقد حيّزا يكفل الارتقاء به وإنضاجه تطلّعا إلى ربطه عمليا بقداسة الحرية كقيمة أو كفضيلة. التراكم المعرفي الذي وسّعت المدرسة في قاعدة اقتسامه هو الذي يُسهم حاضرا في إلقاء كاشف الأضواء على مآخذ خطاب الإسلام السياسي بجميع توجهاته أو تلويناته، وهو الذي يُعلي من مكانة المقومات المدنية للدولة، ويتصدّى لمعاول الهدم التي تستهدف المكتسبات الحداثية للمجتمع التونسي، تماما مثلما تصدّر شيوخ الزيتونة (إسماعيل التميمي وعمر المحجوب ثم إبراهيم الرياحي لاحقا) لمثل هذا الدور من خلال ردود الأولين المبكتة على رسالة محمد بن عبد الوهاب، ودفع الأخير باتجاه تحريم العبودية.   لا أستبعد أن يكون إسلام التونسيين حداثيا، فقد تم تعهّده منذ قرن ونصف بالتعديل والإصلاح، مما أسعف المجتمع في القبول بجملة من التحوّلات الكيفيّة في فهم مقاصد الدين لا نتوفر على ما يضارعها عربيا. على غرار واقع الأحوال الشخصية، وبداهة الاختلاط بين الجنسين، والتسامح بخصوص العديد من الممارسات الاجتماعية والتقاليد غير المتطابقة بالضرورة مع الأحكام المستندة لفقه الحلال والحرام. وهذا الواقع لم يترتب عليه، وإذا ما تجازونا حرارة السجال القائم على المناكفة بين فرقاء النضال السياسي والصراع الأيديولوجي حاضرا، سقوط المجتمع في حالة من التفسخ الثقافي والديني المؤذن بالخروج عن الإسلام والتخلي عن الشحنة الروحية التي تُمثل عنصرا محوريا في ترتيب واقع التونسيين الاجتماعي وتقاليدهم العائلية وحياتهم الشخصية أيضا. ولأن المسألة روحيّة بامتياز، فإن اقتلاعها من ذلك الإطار، لحشرها بالقوة ضمن مربع الصراع السياسي، بعد رفع حُجب القداسة عنها بالمراهنة على الاستثمار في ما وسمه "ماكس فيبر Max weberبـ"اقتصاد الخلاص"، مغامرة تفوق مساوئها المكاسب الآنية السريعة المترتبة على تشغيل آلياتها مجدّدا. لذلك لابد من التفطّن في رأيي إلى حساسية التعامل مع هذه المسائل من وجهة نظر الاعتراف بحرية الأفراد في استجلاء الرصيد الروحي المتوافق مع مضمون مساراتهم الحياتية، والتعامل مع قضية المعتقد من زاوية الدفاع عن الحريات، ومن أجلّها تلك المتّصلة بالجوانب الروحية، من خلال التعبير عن الرفض الصريح لمنطق الإكراه المبني على بَلْوَى الإجماع، وجلب المنفعة عبر وصل الدين بالمعرفة المحكّمة الدقيقة في كونيتها. لذلك أعتقد أن جميع الحملات العاملة حاضرا - باسم طهرانية واجهةٍ وفدت علينا من مجالات متزمّتة ترفض الإصلاح وتتمسك بالمحافظة السياسية والاجتماعية والثقافية- على تقويض ما تبقى من علامات تراثية متصلة برصيد ثقافي وروحي غني، ليست في الحقيقة سوى محاولة للانقلاب العنيف على النموذج المجتمعي والثقافي التونسي بغية غرس نبتة في غير تربتها. فاستجلاء المسائل الروحية يحتاج إلى تفكيك دقيق للظواهر الناظمة للذهنيات ومعرفة جيّدة بسجل القيم ومستويات تمثّل الوجود وتجريد ما ورائه، ومضمون السيطرة الحقيقية والمتوَهَمة على العالمين المادي واللامادي. وهي مهمّة لم تعتبر دولة الاستقلال بمحوريتها في إنجاح مشاريعها التنموية ولم تدفع باتجاه تفحّصها. وهو أمر يتجاوز في اعتقادي مسألة "الشرك" ليفتح حوارا هادئا رصينا حول مسألة "إعادة الاعتبار للروحي" كحق من حقوق الإنسان، يشترك فيه المتدين وغير المتدين، المؤمن بالإسلام وغير المؤمن به، وتضمنه الحريات الشخصية في مدلولها الكوني. فهل نحن مقبولون على ثقافة روحية تستجمع رصيدنا الثقافي الديني باتجاه مزيد تأمّل العلاقة التي تربطنا بالله وبرسله من وجهة نظر المحبّة، وهي ركن مكين اعتضد به المغاربة في إخصاب حياتهم الروحية، أم أن الدفع باتجاه مربع الخوف هو الذي سيحملنا مستقبلا على القبول بالوصاية والاستغناء صاغرين ومُكرهين عن إرثنا الروحي المتحرّر؟  
أي مستقبل لهذه التيارات التي تقدم دلائل واضحة على إمكانية استحواذها على السلطة؟
تكمن خطورة المد السلفي في ممارسة العنف الممنهج المبني على ضرورة إجبار الأكثرية على اعتناق تصوّراته والاحتكام إلى توجهاته باعتبارها مقدسة لا تحتمل المخالفة يسوغ مجابهة رافضيها باستعمال العنف الفكري واللفظي والمادي. على أن "الحداثية المعلنة ذاتيا modernisme autoproclamé " التي تصدر عنها مختلف الحساسيات والتيارات والعائلات السياسية الموسومة بالتقدّمية، سواء تلك التي اختارت الانضمام إلى الحكم أو تلك الموجودة في المعارضة، لم تنتبه في نظري بعد إلى ضرورة تجذير مدلول الدولة المدنيّة، بالسعي إلى الفصل بين الفضاء العام والانتماء العقائدي تجسيما لمدلول الحداثة، وتواصلا مع الإرث الإصلاحي التونسي بمختلف حساسياته أو تعبيراته. علما أن الهدف من جميع ذلك هو القدرة على التعبير على الذات بشكل دقيق ومفارق قياسا للطرح الفكري الذي تصدر عنه مختلف التيارات الموسومة بالمحافظة بما في ذلك حزب النهضة الحاكم نفسه.وليس أبلغ تعبيرا عن ذلك الحرج الحقيقي من التعويم الذي يتسم به خطابها حاضرا، مما حوّله إلى مظنة سهلة للاستهداف والتهجّم على جميع الداعين إلى انخراط البلاد في مسار الحداثة منذ بروز التجربة الإصلاحية عند أواخر القرن التاسع عشر، إي منذ قرن ونصف على الأقل.
فشعارات الثورة المتصلة بالحرية والكرامة لا يمكن فصلها عن ممارسة المواطنة والاحتكام إلى التعاقد والالتزام بالقوانين، وجميعها توجهات تنخرط تماما في مسار الحداثة. إلا أن المستغرب حقّا أن كل محاولة للدفاع عن مكاسب الدولة المدنية تـُجَابه حاضرا بمزيد من التحفظ وتؤول من قبل شرائح واسعة في المجتمع التونسي باتجاه مدلول ضيق يحيل على نزوع إلى الانطواء والمحافظة !
ما من شك في حضور مزايدات بخصوص الخطاب الحداثي مع عدم الاستنكاف من وصم دعاته بالزنادقة، خاصة بعد عودة الديني أو التبئير حول الطقسية الروحية بقوة. فالسمة الطاغية على الخطاب الفكري الانتقائي للتيارات السياسية الدينية هي ضعف المعرفة بمصادر إصلاح الفكر الديني نفسها، فالإشادة بشخصية مثل محمد الطاهر بن عاشور، وهو عالم تقليدي بالأساس، غالبا ما تتم من خلال التعتيم على التوجهات المتفتحة لابنه الفاضل، بل واعتبار أبناء هذا الأخير (سناء وعياض) أبناء غير شرعيين للعائلة، شوّهوا إرثها ولم يعودوا مؤهلين للنطق باسمها.
وهكذا فإن التجديد الحقيقي للفكر الديني يتعين أن ينهل - بزعم التيارات المحافظة بما في ذلك حزب النهضة نفسه- من توجهات مفكري السلف من أئمة السنة، على غرار بن قيم الجوزية الذي يشكّل يوسف القرضاوي وابن باز تواصلا حقيقيا معه على حد ما صرّح به زعيم النهضة ومنّظرها راشد الغنوشي الداعي إلى إقرار مبدأ "التدافع" كآلية في تجاوز الاختلافات الفكرية، مع العمل على "أسلمة الدولة من الأسفل"، وهو أمر يتعارض مع حيادها ويكشف عن النوايا الحقيقية للتيار المحافظ الـمُقحم للدولة في التجاذب السياسي، غير المكترث مطلقا بفصل الدين عن السياسة تحقيقا لحيادها.
على أن حقيقة التأثير المسلّط من قبل النموذج الفكري الفرنسي على العقل والذائقة التحديثية التونسية، يدفع من جانبه إلى التساؤل عن حضور نزوع من قبل العائلات الفكرية والسياسية الحداثية التونسية نحو وضعية اتكال بل وحضانة أسهمت في سجنها ضمن تصوّرات أحادية تجعل من عملية إعادة تملّك القيم الكونية تونسيا مغامرة عسيرة غير مأمونة العواقب، لاسيما وأن تنوّع الحداثات الغربية بروافدها الأنحلوساكسونية والإيطالية يسمح بتحديد فارق واقعي بين التقليد والمحافظة ولا يمثل في حق السلفية نفسها قطيعة مع التاريخ، بمقدر ما يجسّم نزوعا باتجاه حالة من الإسقاط يصرّ أصحابها على ضرورة تماثل الواقع مع ماض مثالي متوهَّم.
دليلنا على ذلك هو نتائج انتخابات المجلس التأسيسي نفسها في 23 من أكتوبر 2011 التي أبرزت كفاية في التواصل لدى الأطراف المحافظة، وما الفارق الذي أحدثه تيار العريضة الشعبية من خلال تشغيل آليات بسيطة لعبت على أوتار شعبوية تحيل على رفض التعالي ومقاومة ضرب البداوة وتهميش الفئات الفقيرة بدعوى "الحُقْرة"، قياسا لضعف فاعلية توظيف ذات المطالب المتصلة بالحق في الشغل والصحة والتعليم والسكن من قبل مناضلي "القطب الحداثي" مثلا، خاصة في الأحياء الفقيرة لتونس العاصمة وبدواخل البلاد أيضا، إلا دليل على انغراس ذلك الفارق بين التقليد والمحافظة عميقا في الذهنيات وترسّخه في الذاكرة الجماعية في آن.
أساليب التفكير داخل المجتمع التونسي لم تبرح وفقا ما أثبتته البحوث الميدانية نظام الثنائيات (متدين – ملحد – مسلم – كافر )، فضلا عن الطبيعة المفتوحة لتلك الأساليب التي أصبحت تشتغل حاضرا وفقا لمنطق خارجي يتعامل بكثير من الدونية مع ذاته وواقعه المحلي. ويمكن الاستدلال على ذلك بسهولة من خلال غزو دعاة الوهابية ومروجي "فقه النكاح" و"عهد نجد" لبلادنا، ودفعهم باتجاه فسخ نموذجنا المجتمعي، فالإسلام الوهابي السعودي المنتشر ببلدان الخليج والذي يصدر عنه فكر النهضة على الحقيقة، إسلام قريب من الإسلام الأمريكي لا يعير أهمية وفي المقام الأول إلا للسيطرة على الثروة والحفاظ على المصالح.
لا يعترينا أدنى شك في دعم التيارات السياسية والدينية المحافظة موضوعيا لبعضها البعض (السلفية – التحرير - جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الجمعية الوسطية – الجناح القيادي التأسيسي الواقع على يمين حزب النهضة...) وذلك من خلال الزج بالمساجد في عملية التعبئة السياسية على الرغم من دعوى النأي عن ذلك.
غير أن مدنية المجتمع التونسي مسألة محسومة، بالرغم من تشتت قواه التقدمية التي يأتي الاتحاد العام التونسي للشغل في مقدمتها، وافتقاد المشهد السياسي التونسي عامة لحدّ معقول من التوازن السياسي. فالبيّن أنه بمجرد تحرّك مكونات المجتمع المدني والتحاق الاتحاد بها، تتراجع حركة النهضة فتشد رسن جناحها المتشدّد المتورّط موضوعيا مع السلفيين. هذا إذا ما اعتبرنا أن مختلف تلك المركّبات المكوّنة للجسم المحافظ تونسيا لم تصل بعد إلى مرحلة تقاسم الأدوار.
كما أن الأداء الاستحواذي لحزب النهضة المتعارض مع مبادئ الثورة، والعاصف باستقرار الدولة نفسها، هو ما يدفع بها اليوم وتفاديا للمسائلة بخصوص ورقة امتحان الحكومة التي تستدعي مراجعة سريعة في العمق إلى الالتزام بمنطق الانتقال الديمقراطي مستقبلا، بمراقبة مواطن العبادة ريثما تبت الدولة في طبيعة سياستها الدينية، التي يتوجب أن تنجح في صرف الشباب عن شباك العنف وتجاوز القانون بجميع أشكاله، وهو تحدي التحديات 
تونسيا.
  العرب" الجمعة 15 فيفري 2013 حاوره حسونة المصباحي" 
  


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire