vendredi 10 juillet 2015

المسألة الاستعمارية وصعوبات استيعاب التونسيين لتاريخهم القديم ملاحظات سياقية













        لا يزال تاريخ الحضور الفرنسي بالبلاد التونسية، أو على الأقل العديد من محطاته الكبرى والفارقة، في حاجة إلى عملية مراجعة حقيقة. هذا ما يمكننا استخلاصه بعد الاطلاع على مختلف المقاربات التي أنجزتها الاستوغرافيا المتخصّصة في تاريخ البلاد التونسية المعاصر.
جميعنا على بينة تامة من الأهمية التي يكتسيها اطلاع المتعلمين وفي مستوى مرحلة ختم الدروس الثانوية على مختلف التطورات التاريخية التي شهدها نضال التونسيين من أجل تصفية الاستعمار، غير أننا لا نعثر في الغالب وضمن هكذا تكوين على أي توجه ينبئ بحضور تدبّر دقيق لمسائل تتصل باهتمام الإدارة الاستعمارية بالتمثيل الخرائطي للمجال الاعتباري لسيادة التونسيين، أو عن اهتمام رصين بمختلف التدابير المتخذة من قبل نفس تلك الإدارة من أجل إكساب ذلك المجال هوّية جديدة تحرص على استيعاب ماضي التونسيين طوال عصور ما قبل الأسلمة.
كما أن مختلف البحوث الجامعية المنجزة في اختصاص التاريخ، وبصرف النظر عن تنوع المسائل أو المواضيع التي اشتغلت عليها، لم تر كبير فائدة في تسليط الضوء على الحركيّة التي أدخلتها حملات التنقيب والاستكشاف الأثري لمجال البلاد التونسية سواء قبيل إمضاء معاهدة الحماية أو طوال الفترة الاستعمارية نفسها.
ولئن بدا لنا أنه ليس من السهل الدفع باتجاه معاودة زيارة المنجز المعرفي التاريخي والأثري الاستعماري، وذلك باعتبار ما اتسمت به معظم الأبحاث الصادرة عن المنتسبين له من تحيّز مكشوف، فأن كل رغبة في التعرّف على كيفية استكشاف التونسيين لما ربطهم بتاريخ الحضارات القديمة antiquité لا يمكن أن تصيب أي مقصد، كلما ازداد إصرارنا على فصل الاصطدام الحقيقي الذي عاشته النخب المتعلمة تونسيا بالأدوار التاريخية السامقة لحضارات ما قبل الإسلام، والتعرّف بدقة على الدور الذي عاد للأثريين الاستعماريين في انبعاث مثل ذلك الوعي الجديد.
يجدر بنا قبل تفحّص مثل هذه المسألة الشائكة أن نقدّم تعريفا مختزلا لما وسمه الغرب حاضرا بالعهود القديمة. فقد دشنت تلك المرحلة التاريخية سياسيا ظهور نظام المدينة والديمقراطية والحرية والخضوع للقوانين المنظمة للحياة الجماعية. أما على الصعيد الاقتصادي فتحيل العصور القديمة على هيمنة نمط الإنتاج العبودي وسيطرة منظومة إعادة التوزيع التي علّمت مرحلة ما قبل اقتصاد السوق، على أن تساهم حضارة الإغريق ومن خلال تعويلها على الألسن الهندية الأوروبية، في تركيز أحرف الهجاء التي يتواصل استعمالها داخل مجال شاسع من العالم الغربي حاضرا.
يتّضح أن التجربتين الإغريقية والرومانية قد شكلتا بالنسبة للمدافعين على التمييز بين البدائية والعهود القديمة الإغريقية الرومانية الفجر الحقيقي للتاريخ، وذلك باعتبار تبني تلك الحضارات للكتابة المستندة على أحرف الهجاء. كما مثلت الحرب ضد الفُرس واحدا من أبرز المواضيع التي اهتمت بها الآداب الإغريقية والتي ترتب هذا التفريق النوعي بين أوروبا القديمة وآسيا البدائية - وهو تمييز لازلنا نعيش تبعاته حاضرا على صعيد التأليف في التاريخين الثقافي والسياسي- على الخوض في تفاصيلها. 
تحوّلت أوروبا إلى مهد أساسي للعهود القديمة، مما ضيّق مجال التعيين الثقافي للحضارتين الإغريقية والرومانية على الناطقين بالألسن الهندية الأوروبية دون سواهم، في حين تم ربط آسيا الغربية وهي مهد الشعوب الناطقة بألسن سامية، وعلى العكس من ذلك، بحضارات الشرق القديم. هذا في اختزال شديد ما يمكن الاحتفاظ به بخصوص أشكال تمثّل العصور القديمة بالنسبة لنُخب الغرب الحديث وجميع شعوبه.
والسؤال الذي يحتاج إلى وقفة تدبر هنا هو، لماذا لم يحصل سحب نفس أطر الانتساب للحضارات القديمة وبالمدلول الذي تعنيه كلمة "أنتيكتي Antiquité" على بقية الحضارات التي عاينتها منطقة الشرق الأوسط والهند أو الصين مثلا؟ ألا يتعين أن نفهم من ذلك نزوعا مقصودا لإقصاء بقية مجالات العالم وتحويل حضارات الغرب القديمة إلى ما يشبه الاستثناء؟ فمدلول مرحلة امتلاك تقنيات الري والزراعة أو العصور "النيولتيكية l’époque néolithique" لا يحتمل كونيا أي استثناء، بينما يحيل مصطلح "أنتيكتي"، الذي لم يبرز غربيا للوجود قبل حلول القرن الثامن عشر، على مضمون تم الحرص معرفيا على قسره عمدا على أوطان الحداثة الغربية بعد استعادتها لمورث قدامى الإغريق والرومان حال انبثاق عصر النهضة.    
يشكّل التأريخ لسياقات البحوث الأثرية في البلاد التونسية واحدا من أقل المواضيع ورودا من قبل المختصّين في تاريخ الحضارات القديمة، وكذلك الأمر بالنسبة لنظرائهم المختصين في التاريخ المعاصر. فقلّما تم إفراد هذا المبحث وخلال العشرين سنة المنقضية بدراسات معرفية محكّمة. ويعود السبب في ذلك إلى المغالاة في الفصل بين التخصصات التاريخية وقرينتها المعتنية بعلوم الآثار، فضلا عن كثرة الحواجز الفاصلة بين الباحثين المهتمين بالحفر في خصوصيات المراحل الاعتبارية الأربع لعلم التاريخ.
ويتمثل الهدف من إنجاز تلك الأبحاث تحديدا في الإضاءة التي بوسعها تقديمها وخاصة فيما يتصل بملابسات سياق ما لا نتهيب من نعته بالترميق الأدبي bricolage littéraire الذي يسهل معه ربط تاريخ تونس خلال مراحل ما قبل الأسلمة بعصور الحضارات القديمة كما تم تعقّلها غربا. فقد أضحى بيّنا للعيان حاضرا أن الدفع باتجاه تطوير حملات الاستكشاف أو تشجيع القيام بالحفريات الأثرية قد شكّل، وفي عميق تصوّر من أشرفوا على تكريس سياسة الإدارة الاستعمارية الفرنسية، ضربا من الإحياء لتاريخ تونس الرومانية الذي طمسه سياق الأسلمة النهائية والتعريب الشامل، لذلك اعتُبر العثور على مزيد من الشواهد الأثرية الرومانية موردا مهمّا يُسعف في إعادة تشييد الذاكرة اللاتينية العميقة للمستعمرة الإفريقية، ومصدرا مُلهما في دفع مشروع فَرْنَسَةِ الهوية الجماعية للتونسيين.
فقد تمثل هدف المستكشفين والمنقّبين عن الآثار في الكشف عن مغمور المواقع والمنشآت العمرانية الكبرى على غرار المسارح، وملاعب المصارعة، والساحات العامة، والحمامات، والكنائس، وخزانات المياه، والسراديب، والمدافن... وغيرها، فضلا عن استعادة مخلّفات مواضع الطرقات الرومانية القديمة، وذلك من أجل إنشاء شبكة مستحدثة يُؤخذ في مدّها الاعتبار باستلهام عبقرية القدامى التي تحيل عليها بقايا حناياهم ومنشآتهم المائية، قصد النجاح في الرفع من مردود المستغلات الزراعية الممنوحة للمعمّرين الفرنسيين، والربط مجدّدا مع ذاكرة الوفرة أو السِعَةِ الواردة ضمن روايات مصنفات كبار كتاب العهود القديمة المتّصلة بتاريخ ولاية أفريقا الرومانية Proconsulaire ou Afrique romaine الأثيلة.
فقد شكّل ما حصل حالة توافق تامة بين المستكشفين والباحثين عن الآثار وضباط الجيش ورجال الدين وسامي موظفي الإدارة والمهندسين بخصوص جدوى التعويل على علم الآثار التطبيقي، بُغية استيعاب دروس الماضي، تطلّعا لإنجاح الرهانات المتصلة بالحاضر وبالمستقبل في آن. فقد تم في هذا الإطار التركيز على ضرورة صيانة المنشآت المائية الرومانية، قصد السماح للمعمرين الجُدد بالاستقرار على ذات المواقع التي تسمح بإحياء تلك التقنيات القديمة وتطوير أدائها في استخراج مياه العيون ومجاري الأودية أو الأنهار. كما شجّعت الإدارة الاستعمارية مُعمّريها على زراعة الزياتين بالسهول الساحلية التونسية، مستندة في ذلك على أن الرومان قد تفنّنوا في تحويل البلاد إلى ما يشبه البستان الشاسع الذي ضم غابة من الأشجار المثمرة، بينما انتشرت في مئات المزارع وعلى كامل المساحة الاعتبارية للمقاطعة الرومانية معاصر الزيت ومطاحن الحبوب، التي توفّر أغلبها على خزانات أو دواميس وآبار ومنشآت ربط وتصريف تسمح بإيصال الماء أو نقله حتى أقصى المواضع داخل تلك المزارع.
أما بخصوص التوجّه الذي قاد رجال الدين ضمن هذا السياق العامل على استعادة الإرث الروماني القديم للبلاد التونسية وصيانة منشآته، فقد انخرط ضمن إستراتيجية معلنة ترمي إلى إحياء تاريخ مقاطعة قرطاج المسيحية. وهو ما تم الإعداد له من خلال دفع الباي حسين الثاني(1824 - 1835) إلى القبول بمنح السلطات القنصلية الفرنسية أرضا على هضبة بيرصا بقرطاج، بهدف تشييد كنيس يخلّد ذكرى القديس لويس التاسع (ت 1270م)، حتى تعود للنصرانية بأرض إفريقية أمجادها السالفة بقيادة "الكردنال لافيجري le Cardinal Lavigerie" الذي عوّل على عمق الروابط التي تشدّ البلاد التونسية إلى إرثها الروماني قصد إكساب الحضور الاستعماري الفرنسي مزيدا من الشرعية. إذ لم ينقض شهر أو يكاد على نجاح عملية الإنزال العسكري الفرنسي، حتى أوكلت الكنيسة الرومانية لهذه الشخصية مسؤولية "إحياء تاريخ تونس المسيحية" والكشف عمّا خلفته من مواقع أثرية مهيبة.
والبين أن نجاحه الباهر في أداء تلك المهمة هو الذي كان وراء حصول ضاحية قرطاج على لقب مركز أسقفية Archidiocèse  وتحوّلها إثر ذلك إلى عاصمة لإفريقيا المسيحية بعد أن استقبلت بداية من سنة 1930 الدورة الثلاثون للمؤتمر الأفخرستي. وعلى الرغم من تنوّع أهداف الحملات الاستكشافية وخصوصياتها، فقد تم الاحتفاظ بالتوجّه الرامي إلى استعادة ماضي عصور البلاد التونسية القديم على الشاكلة التي كان عليها زمن الولاية الرومانية.
وهكذا يتضح لنا أن الخوض في سياق عمليات الاستكشاف والتنقيب عن الآثار يحتاج ضرورة إلى تفحّص الجوانب الأيديولوجية وإدراك حقيقة الرهانات وطبيعة المصالح المرتبطة بمختلف تلك الممارسات عن قرب. فقد كشفت لنا الروابط المتينة التي نسجت بين الباحثين في الآثار والمُشرّع الاستعماري عن طبيعة الممارسات التي تواصل التعويل عليها خلال ما لا يقل عن قرن من الزمن، والمتمثّلة في وضع نتائج الحفريات الأثرية في خدمة السياسة الاستعمارية الفرنسية بتونس. فقد ساهمت البعثات الأثرية الفرنسية طوال كامل الفترة الاستعمارية بشكل واسع في إعداد البلاد للتوطين الاستعماري، في حين هيأت البحوث الميدانية المتصلة بالتمثيل الخرائطي واستخراج النقائش اللاتينية وجردها واستكمال محتوياتها البلاد التونسية للوقوع تحت الوصاية الغربية بالكامل.
ويدعو هذا الوضع إلى الإشادة بالمبادرة التي قام بها عدد من الشبان الوطنيين التونسيين المنخرطين في جمعية قدماء الصادقية، أمثال الحبيب بورقيبة والباهي الأدغم والطيّب المهيري، والمتمثلة في العمل على جرد القُبريات العربية épitaphes arabes التي ضمتها مقبرة القرجاني، وهو مشروع واجه مضايقة شديدة من قبل المصالح الاستعمارية بغية التخلي عن إنجازه قبل أن يتداركه وبعد استعادة البلاد لسيادتها المرحوم مصطفى زبيس بالإتمام والانجاز.
ومع جميع ذلك فإنه لا مندوحة من الاعتراف بأن الحضور الاستعماري قد ساهم يقينا في تطوير حملات الاستكشاف الأثري وفي إعادة تملّك التونسيين لمختلف تقنيات التمثيل الجغرافي، عبر بعث مؤسسات في الغرض ساعدت على تطوير المعارف الخرائطية والأثرية والنقائشية، على غرار معهد الآثار والفنون الذي تحول بعد الاستقلال إلى المعهد الوطني للتراث. فقد تمثل الهدف من إنشائه في صيانة المواقع والمعالم الأثرية والمحافظة عليها، فضلا عن بعث مصلحة تُعنى بالقيس الطبوغرافي قصد تمثيل مختلف المواضع الواقعة داخل الحدود الاعتبارية للبلاد التونسية بعد التعرّف على مركباتها بكل دقّة.
ولئن تعين علينا عدم الذهول عن الخسائر الفادحة التي تكبّدتها مختلف مواقع التراث المادي التونسي طوال المرحلة الاستعمارية جراء إعادة استعمال مختلف السواري والحجارة القديمة في تشييد المعالم الجديدة والدور الخاصة، ونقل المسلات، ولوحات الفسيفساء، وثوابيت القبور، والنقائش، والمزهريات البلورية، والتماثيل الرخامية، والوثائق، والقطع الفنيّة النادرة، لعرضها ضمن محتويات المتاحف الفرنسية، فإن ما يتعيّن الاحتفاظ به مع جميع ذلك هو نجاح مثل هذا التوجّه في وضع حد لعلاقة الإقصاء التي ربطتنا لقرون خلت بإرثنا القديم والنزعة المكدودة التي أبدتها مختلف الأطراف المتزمّتة قصد التحفّظ وبشكل مقصود عن مختلف المعالم المتّصلة بجذورنا التاريخية القديمة الضاربة عميقا في الزمن، تلك التي لا زالت تتحدى في شموخ واستعلاء العلامات التي تحيل على إرثنا المشرقي العربي الإسلامي أو على وإرثنا الزنجي الذي يصلنا بجذورنا الإفريقية الصحراوية، حتى وإن حصل ذلك من بوابة الإرث الروماني المسيحي. 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire