mercredi 19 octobre 2016

وحدهم الشعراء...











       في الوقت الذي يجتاح فيه جبروت المال مجال الفعل البشري، معتما عمّا سواه وتزداد حيرة بني البشر بخصوص ما يخبئه المستقبل، يتضاعف البحث عن مسالك لا تمر من بوابة ارتهان الحياة لدافع الاستهلاك دون سواه، سامحة بالعودة صراحة لإنتاج مفور المعنى.
نحن نبحث عن فسحة يملأها عَفِيُّ المدلول كي يتسنى الإصغاء برويّة وتركيز لما يُعرض على مسامعنا وتصطدم بها أنظارنا من مروّع الحدثان. الكل مُتشوّف إلى موثوق الدلالة رافضا تشويهها غلثا وتلفيقا ومغالاة، أو تأويلها تحت طائلة حرية تحليل كاذبة تُضمر وصاية فكرية أو شطط إيديولوجي. الكل يهاب ساحة حرب مفتوحة لا تعلن عن اسمها، حتى وإن تحوّل عن وعي أو من دونه إلى عود حطب لآتون بهتانها وطرفا ضمن حامي مواجهاتها.
سنوات من الحوادث المدوّية لا تزال تعصف بمغارب بلاد العرب ومشارقها، وما من دليل على أن مدها متوقّف عند حد، وأن إعصار الغضب لن يعُم مستقبلا مجالات أوسع من خريطة العالم، تستوي في ذلك بلدان الجنوب الفقيرة مع بلدان الشمال الغارقة في أزمة مالية واقتصادية تؤشر موثوق الدلائل على تفاقم أرزائها بالضعفاء. فبعد أن وقفنا مطولا عند شفى المنحدر، ها نحن نحث الخطى لنسقط في قاعه، وما من دليل على توقف انحدارنا عند حد طالما لم يستعد التاريخ حقوقا ذهب في مطلق ظن جميعنا أن جغرافيا العولمة قد انتزعتها  دون رجعة.
لا تتشابه الثورات حقيقية مع بعضها البعض، فلكل منها بيئتها وتاريخها الخاص وفاعلوها الذين صادفهم التوفيق عند مفصلة زمنية محدّدة في توفير التعاطف مع مشروعهم، غير أن الجميع يتفق حول مدلول ينفي تغييبه القصد من اندلاع تلك الهبات الفارقة، ونقصد الوثوب لسدة الحكم. فمهما تعددت المؤشرات الدالة على حضور التواصل بين ما حصل قبل ذلك الحدث وما جد بعده، فإن مضمون القطيعة كامن لا محالة في بلوغ كتلة اجتماعية جديدة تلك السدة.
انتقال السلطة أو التناوب عليها مربط فرس في خروج الغاضبين أو الثائرين ضد من شرّعوا لأنفسهم ضرب وصاية على مسار حياتهم أو الاستبداد بتصريف شأنهم. وحدهم الشعراء قد استوعبوا سر تحويل عنف لحظة المنازعة ووهج دماء البررة من ضحاياها ملحمة مهيبة أو مرثية مأثورة تستكشف المعنى المنبث في اللفظ لتكسبه عَفِيَّ العبارة الـمُوفية بالغرض الـمُنجّمة على الألسن كفلق الصبح يجلو غبش الظلمة. وذاك لو ندري عين ما قصده شعراء الرومنطيقية على شاكلة "فيكتور هيغو Victor Hugo 1802 - 1885 " و"أرتير رامبو Arthur Rimbaud (1854- 1891) حال تنصّل هذا الأخير من قول ذاته الواعية شعرا، وتعلّله بأن أناه في استلهامها للحكمة قد حوّلت الخشبة كمان، وأبلج النحاس لسماعها مزمارا. فهل يعقل أن نُحمّل مادة وضيعة ورز ما انسلخت إليه، والحال أن ليس لها في انقلابها خلقا جديدا اختيار؟ ذاك بالضبط حال قارض الشعر إزاء انقلاب الواقعة الرتيبة إلى نظم يُوحى في الخلد ويسترق سمع خلجات الروح، ثم لا يلبث أن يشد قوس المعني ليدفع برمية سهم يتحوّل حسن الظن بوقعها وفي غفلة ممن صوبّها إلى سنفونية معافاة تمزّق ترانيمها وحشة الصمت.
لنحاول الاستماع إلى موسيقى الشعر في هذه المقاطع من قصيدة "فكتور هيغو" "الشاعر في خضم الثورات Le poète dans les révolutions " أو قصيدة نثر أرتير رامبو "إضاءات   Illuminations"، علنّا نرصد وخارج حيز العقل القابض على ملكة الرد والقبول، ما الذي يحوّل الاستعارة الشعرية في ما آل إليه حال الخشب مع الكمان أو النحاس مع المزمار، إلى مرقاة تمنح ولو للحظات عابرة متعة التحرّر من أسر الذات الواعية، لتحلّق عاليا في فسيح زمن الدهشة الأولى المستعِيد لمفور غبطة لحظات الإشراق والتجلي.
" ليس بشاعر على وجه الأرض من لم يواس غربة "فولتير"
 مَهِيبٌ هو كلام هيغو عن الثورات فقد جال في الطبيعة مستعيرا لنصه الحِواريّ، بين مُتوثب لتغيير ما بنفسه وقانع باجترار سلفه، لحظات غضبها كما أوقات صفائها. فالريح تُذهب عن فسيح البراري حطبا يسقط من خُضر الأغصان. والعاصفة تعبث بأضخم الأشرعة وتودي بصواريها. تلبد السماء مُنذر بسوء الـمُنقلب، شجر البلوط يهوى من أعالي الجبال ومراكب السفر تحطّمها زمجرة الأمواج في عميق البحار.
أقدار تُفرَض على ضعاف النفوس ومصائر ينحتها توهج مزاج من أمعنوا الطرق مصرّين على الوصول إلى مراقي المجد. فإما أن ترضى لنفسك بمعرّة الرضوخ، أو أن يكابر عشقك الفناء فيندفع على شاكلة "أورفي Orphée" وسط سعير الغاضبين في شموخ. وليعلم كل من تهيّب من التضحية مُتنعّما بالراحة دون شرف الخلود، أن عظام النفوس لا تبغي غير المجد مثوى. فبسيط المرجان عند زمجرة البحار يخشى أن تزعزع عاتي الأمواج لطيف منامه والضجعة، بينما لا تُلفي أشبال النسور طريقها إلى النور إلا بعد أن يخترق الأعاصير من بينها كل محلّق جسور.
ليس في حـــــياة الحــــواضر من ثراء:
 طريف هو التعريف الوارد في"القاموس الكوني الكبير Le Grand Larousse Universel" لمدينة باريس: 
"في السطح هي مدينة باذخة تضِجّ بأصوات الفنون والمتع واللامبالاة، وفي العمق ساحة صراع أزلي بين من يناضلون من أجل الرُقيّ والحرية، تعضُدهم حرارة التعاطف الذي يبديه نحوهم جميع من يعنيه انتصار تصريف أمور المجتمع بشكل يحترم إنسانية البشر."
يبدو قصيد "متروبولتان Métropolitain" في مجموعة "اضاءات" لأرتير رامبو، وفيّا بالغرض كلما تعلق الأمر بالوقوف عمّا يجعل "المدينة" مرآة تنعكس على سطحها جميع مظاهر الحداثة المتلازمة مع ثورة صناعية لم يقف تغوّلها عند حدّ. فقد عرّف هذا القصيد النثري في خمس فقرات متشابهة شكلا تنتهي باسم لاحق للتعريف يختزل مضمونه ما سبق، عارضا حكاية برقيّة تروي مشهدا يتحرك بنسق سريع، يَرُمُ الاسم منه فوصى المعنى في تعبير الشاعر والدلالة. ينقلب فعل الكتابة عند رامبو على جميع القواعد الأدبية فتأبى عناصر الفقرة أن تنتظم وفقا ترتيب منطقي يمنح معنى محددا لفعل ما أو لمشهد دقيق، وتبدو الكلمات عندها وكأن لا علاقة تربط بينها في الأصل. فالكلمة الواحدة مشهد مستقل بذاته، والقصيد خليط من مشاهد تُجاوز الحصر. واعجاز ذلك بقاء دلالات القصيد في متناول فكر من يُقبل على مواءمة منهج القراءة ونسقها مع تكثيف النسج عند مُنشئ العبارة.
في قصيد "المدينة الحاضرة Métropolitain" تتحوّل القراءة إلى تفحّص في العمق لكل مفردة وعملُ تخيّلٍ خلاق يجعل من الانكباب على تجميع عناصر الدلالة مغامرة فاتنة ومقاربة جمالية تُسعف في فك طلاسم الرموز الواحد تلو الآخر. فيها يكتشّف قارئ ما وراء السطور أن عبارة "شوارع بلور الكرستال des boulevards de cristal" في قصيد النثر عند رامبو، توصيف مُحجَّى لأنهج مدينة اصطفت على أرصفتها متاجر تعرض واجهاتها نفيس البضائع، وتعكس عبارة "بحور الأوسيان mers d’Ossian" تعبيرا مفارقا يدل عمّا يحيط بالجزر البريطانية من مياه. كلمة الختم في لفظ "مدينة" ليست سوى تلخيصا بارعا للفقرة التي تنتهي الدلالة عند ذكرها، فتسمية "المدينة الحاضرة Métropolitain" توصيف للمشهد الناشئ عن أسلوب عيش سكان المدن وتصرّفات أهل الحواضر ونسق حياتهم الجنوني في آن.
يُنشئ المقطع الأول من القصيد تقديما للمدينة على خلفية اللقاء الأول، نصف للدهشة وبقية للتوجّس الحذر. ثاني مقاطع القصيد، تشبيه بليغ للمدينة بساحة للنزال تحسُن مفارقتها توقّيا من شرور مخاطرها. يسرد ثالث المقاطع فيما بدا للعارفين من شراّحه جولة نزقة في ليالي السمر بضواحي لندن الباذخة، مستودع الإقبال على متـرع اللذات الممزوج بقلق التهويمات ومُفزع الكوابيس. يُجيد المقطع الرابع توصيف قصور الميسورين ودورهم الآخذ بريقها بالألباب، لكأن لمعان جدرانها يحركّ ما غاض من حسد المعدومين وغيرة المطحونين. في حين يعوّل خامس المقاطع وآخرها على الاستعارة، راسما بريشة الفن الواهم لقاء بين عاشقين، وهو الـذي يرمِّز لمدلول الصراع الأبدي بين بني البشر في الحقيقة، صراع الفرد مع شواغل أيامه واضطراره كلما رام البقاء لتحمّل شدة المنازلة وقهر ما يخبئه القدر.
مربط الفرس في قصيدة نثر "أرتير رامبو" العيش في المدينة. مدينة مكتظّة مترامية الأطراف وحاضرة مغرية فاتنة تعكس الحياة في حياضها كثرة الشواغل اليومية والنسق الجنوني لتطوّر مجتمع الرفاه المصنَّع والـمُصطنَع. وتنقسم فيها الجموع أقوام متصارعة تُعرّي بُنية أحيائها وأشكال معمارها فوارق صارخة تُنبئ بانعدام التكافؤ، كاشفة عن ضراوة الصراع بين من أبلاهم العوز وتقطّعت بهم السبل ومن وَلَغُوا في استعبادهم وكدّسوا الثروات على حسابهم. ذاك واقع الأحياء اللندنية أيام جالت فيها أقدام رامبو الشاعر في العشريات الأخيرة من القرن التاسع عشر، وهو واقعها السريالي الـمُـجلّل بالفوارق الاجتماعية الصارخة التي تعكس أحداث العنف من حين إلى آخر حلقة جديدة من تجلياتها. 
وحدهم كبار الشعراء يقدرون على تخصيب العبارة من نظرة لكي تُثْمِرَ معنى وفيّا بمدلول القطيعة، عامدين إلى عرض مضمونه على الحافلين بقولهم في لبوس نخبوّية لا تتأبَّى عن استلهامٍ مَبْذُولٍ للجميع.    

4 commentaires:

  1. :جميل ومُعبر جدًا
    فبعد أن وقفنا مطولا عند شفى المنحدر، ها نحن نحث الخطى لنسقط في قاعه، وما من دليل على توقف انحدارنا عند حد طالما لم يستعد التاريخ حقوقا ذهب في مطلق ظن جميعنا أن جغرافيا العولمة قد انتزعتها دون رجعة.

    RépondreSupprimer
    Réponses
    1. شكرا على جمال المرور. أرجو لك تمام التوفيق.

      Supprimer
  2. Le poète a toujours raison!

    RépondreSupprimer
  3. Le poète a toujours raison
    Qui voit plus haut que l'horizon...

    RépondreSupprimer