dimanche 3 septembre 2017

"هل نحن أحياء؟ ثم بعد ذلك هل كنّا أحياء؟"













      
         يشكل عنوان هذه العروض التي أفردناها للمساهمة في تكريم الأستاذ الجليل الحبيب الجنحاني مقتطفا من خطاب توجّه به أشهر شعراء ألمانيا "يوهان فولفغونغ فان قوته Johann Wolfgang Goethe (1749 - 1832)" للشباب، قاصدا حثّه على تعهد مساره الشخصي بالاختبار والمراجعة والحرص على الانخراط في نبض الحياة والعمل على مضاعفة الجهد قصد إدراك المعنى الحقيقي للتحرّر والانعتاق وعدم التسليم لجميع دواعي الاحباط والخنوع[1]
ويندرج اختيارنا لهذه المقولة المقتطفة من خطاب أُثر عن شاعر الحداثة الألمانية ضمن تصوّر تركيبي نأمل أن تنجلي مختلف محاوره على عميق مدلول ما صاغته عارضة المحتفى به، عاكسة جوانب من مسار حافل لرجل فكر ومعرفة تونسي، لم ينقطع عطائه رأيا ونضالا ومعرفة منذ ما يزيد عن الست عشريات، آتية نقديّا على بعض الجوانب التي نعتقد أن في استحضارها تجاوزا لفرادة المسار وإحالة على حقيقة التحوّلات العاصفة التي طالت واقع النخب العربية مشرقا ومغربا منذ أواسط القرن التاسع عشر وحتى فجر الثورات العربية في مطلع العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين.     

استطلاعات الشرق والغرب:

 لم يفتأ الأستاذ الجنحاني وضمن العديد من مؤلفاته ("سيرة ذاتية فكرية" أو "سمر على ضفاف نهر السان")[2] أو مقالاته الكُثر التي بدأ في نشرها منذ أواسط خمسيات القرن الماضي، عن استعادة ذكريات "هجراته [كذا]"[3] المتعددة التي طوّفته بين باريس والقاهرة وبرلين وليبزيغ وغيرها من حواضر الشرق والغرب. وتعرض تلك الذكريات إلى جوانب من مساره تحيل على سنوات التحصيل الأولى بالمؤسسة الزيتونية التي أمّها خلال سنوات المخاض العسيرة لما كانت البلاد تتهيأ لاسترداد السيادة بعد صراع مرير مع الإدارة الاستعمارية. حيث تبدو النخب الزيتونية وعلى ما جُبلت عليه من تقليدية وانغلاق جد مؤمنة بضرورة النضال من أجل تطوير مناهج التدريس، فضلا عن التحام كبار رموزها وفي مقدمتهم الشيخ الفاضل بن عاشور بالحركة الوطنية برافديها الدستوري والنقابي، وذلك بفضل الدور الذي لعبته منظمة "صوت الطالب الزيتوني" التي أُنشأت في أواخر أربعينات القرن الماضي.
ولم يكن من السهل الخروج من دوامة الصراع المكتوم الدائر بين شقي الحزب في شخص رئيسه الحبيب بورقيبة وأمينه العام صالح بن يوسف، سيما وقد ثبت أن لكل واحد منهما قنواته الخاصة التي أمّنت اتساق تواصله مع عدد من وجوه تلك النخبة الزيتونية، آملا في تجييرها لصفه حالما تدقّ ساعة الحسم. ضمن هذا المخاض الصعب الذي عاشته البلاد التونسية في بداية خمسينات القرن الماضي، تواشج التحصيل بالنضال الوطني والمعرفة التقليدية العالمة بما وفّرته منابر الثقافة العصرية. فقد شكّل التعرّف على كتابات دعاة تجديد الفكر الإسلامي على غرار الشاعر الهندي سراج الدين الدهلوي والمصلحين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والفيلسوف محمد إقبال، مناسبة لإدراك مدلول "الجامعة الإسلامية" والقومية العربية"، وغيرها من المفاهيم التي التبس في تعريفها القديم بالمُحدث. كما ساهم الاطلاع على محتويات دائرة المعارف الإسلامية وكتابات أساطين الاستشراق وعلمائه في مزيد التدقيق في الرصيد التراثي العربي الإسلامي الضخم وفي الاطلاع على آدابه عبر العودة إلى أعمال "كارل بروكلمان Carl Broeckelmann (1868 - 1956)" و"شارل بيلا Charles Pellat (1914 - 1992)" وغيرهم.
لذلك ليس كثيرا في حق هذا الزيتوني المنفتح على عصره أن نعتبره من المنحازين معرفة ونضالا وفكرا إلى التوجهات الحداثية التقدميّة، وهو ما لا تُخطئه كل عين فاحصة حال الاطلاع على مسار استطلاعاته شرقا وغربا، فضلا عن مواقفه المستغربة - باعتبار الوسط المعرفي الذي انحدر عنه- من توجهات الدولة الوطنية وإصلاحاتها، حيث أشاد صراحة بتوحيد بورقيبة لمناهج التحصيل تونسيا تفاديا للسقوط في مأزق الانفصام التي عاشته النخب التقليدية الزيتونية ونظيراتها العصرية أو الفرنكو- عربية، قاطعة بذلك الطريق أمام تعاظم سلبيات "التعليم الأصلي" الذي قاست منها العديد من الدول الوطنية العربية وفي مقدمتها الجارة الجزائرية الأمرّين، بسبب تردّدها في اتخاذ مثل تلك الخطوة الحاسمة الجسورة. على أن يعتبر وهو محقّ تماما في ذلك أن تعاظم نرجسية الزعامة هو ما حال دون استكمال ربط التعليم الزيتوني نهائيا بالتخصّصات الأدبية والحضارية والإنسانية والاجتماعية بالجامعة التونسية، وسحب اسم الجامعة الزيتونية عليها تأسّيا بما أنجزته الكثير من البلدان المتحضّرة حال فصلها الدقيق بين الحاجيات المتنافرة للتفكير الديني ولتعلّم الشعائر والأحكام العبادية[4].
لم تمض سوى أيام قصير عن الالتحاق خريج الجامعة الزيتونية والمعهد الخلدوني بالعمل بقسم المخطوطات بالمكتبة الوطنية بتونس حتى توفرت للطالب المستزيد فرصة للتربص في علم التوثيق بباريس. وهي مرحلة عقد لها الأستاذ الجنحاني فصلا ضمن سيرته الذاتية الفكرية، قبل أن يتوسّع في تمثّلها والاحاطة بعميق دلالاتها ضمن مؤلف مفرد وسمه بـ "سمر على ضفاف نهر السان".
فقد عرض المؤلف إلى الأجواء السياسية والفكرية المتقلّبة لمدينة باريس في بداية خمسينات القرن الماضي، مسترجعا ذاكرة مختلف الأماكن التي أمّها أعلام النهضة الإصلاحية التونسيين والمشارقة منذ القرن التاسع عشر وحتى بدايات القرن الذي يليه، مستعرضا مضمون الحوار الذي دار بين المؤرخ التونسي ابن أبي الضياف والأمير الحسيني أحمد باشا باي (1837 - 1855) حول مدلول الحرية والكفّ عن الظلم، وتنديد "رفاعة رافع الطهطاوي" المبطّن بالاستبداد من خلال ما ضمته دفتا مؤلفه "مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية"، الذي عرض ضمنه مبادئ الفكر الحر، مترجما محتوى الدستور الفرنسي. كما عرج وفي ذات السياق على مواضع نزول "خير الدين" و"أحمد فارس الشدياق" و"جمال الدين الأفغاني" و"أديب إسحاق" و"البشير صفر" و"علي باش حانبه" و"زكي مبارك" و"توفيق الحكيم" و"طه حسين" خلال جولاتهم الباريسية[5].
تزامن حضور الحبيب الجنحاني بباريس بتقلّبات مرحلة تصفية الاستعمار عربيا وإفريقيا، وعلّمت الحرب القذرة الدائرة في الجزائر مواقف النخب الفرنسية التي شكّل أعلام الفكر الوجودي المنحاز إلى تصوّرات يسارية معلنة تدين الاستعمار، أولئك الذين تحلّقوا حول جون بول سارتر Jean-Paul Sartre (1905 - 1980) وسيمون دي بوفوار Simone de Beauvoir(1908 - 1986) بمقهى "فلورCafé de Flore" بحي سان جرمان، أبرز منشطيها.
وإذ يستغرب مؤلف هذه السيرة وهو على تمام الصواب من عدم اكتراث أغلبية المقبلين على التحصيل بالجامعات الفرنسية من التونسيين ممن جايلوه، بذلك الغليان الفكري والسياسي بل وتجاهله بالكامل ضمن ما قدر لبعضهم أن يخطّه من ذكريات، فإنه يعزو ذلك إلى الطابع الوظيفي لمسارتهم التي قصرت همتها على الجوانب التقنية للتحصيل، ولم تنفتح مع الأسف الشديد عمّا سواها[6].
تعود ذكريات الأستاذ الجنحاني إلى وقائع رحلته الثانية التي أخذته ضمن تربص مشابه إلى حاضرة المشرق العربي القاهرة، حيث تطفو الشواغل السياسية مجدّدا على المضامين والوقائع المستجلبة لتقحمنا في سياقات واقع المشرق العربي بعد استحكام الفكر الناصري سنوات قليلة بعد انقلاب الضباط الأحرار على النظام الملكي بمصر في الـ 23 من شهر جوان سنة 1952. وهو أمر منطقي استشعر المؤلف سطوته لدى مروره برا بالتراب الليبي وقبل أن يصل إلى مدينة القاهرة. فقد امتد اشعاع الفكر الوحدوي الناصري ليغزو حواضر الجارة الشرقية، حيث بدا واضحا أن جانبا كبيرا من متعلميها قد انشد بعدُ إلى ذلك الفكر، وتعقّبته عيون مخابرات النظام الملكي الليبي.
عاشت القاهرة على وقع توصيات مؤتمر باندونغ conférence de Bandung  المنعقد بأندونيسيا  من 18 إلى 24 أفريل  1955، فقد اتضح للعيان انحياز زعماء "الثورة المصرية" إلى المعسكر الشرقي ووقوفهم في صف حركات التحرّر الإفريقية وفي مقدمتها حركة التحرير الجزائرية. فقد تم اتخاذ قرار تأميم القنال أواخر شهر جويلية من سنة 1956 وأعقب ذلك اعتداء ثلاثي (فرنسي وانجليزي وإسرائيلي) على السيادة المصرية، وذلك في انتظار استكمال المشهد بإعلان وحدة اندماجية مصرية سورية سنة 1958.
يستجلب الأستاذ الجنحاني وضمن استطلاعاته الشرقية نثارا من أخبار اليسار المصري تحيل على لقاءاته بعدد من زعماء ذلك التيار على غرار عبد العظيم أنيس ومحمود أمين العالم بمقر صحيفة "المساء"، تلك التي اسسها خالد محي الدين بإيعاز من جمال عبد الناصر. ويستعيد بهذا الصدد انغماسه بمعية نجيب محفوظ في أجواء الحملة الانتخابية لمرشحي اليسار المصري في صائفة سنة 1957، مبرزا فضل سعة الثقافة والولوع بالأدب الواقعي الملتزم سياسيا بقضايا المجتمع من خلال التوقّف عند الجدال الذي أثاره صدور كتاب "في الثقافة المصرية" الذي سبق لعبد العظيم أنيس ومحمود أمين العالم أن عرضا ضمنه نقديا لجانب من الأعمال الإبداعية لتوفيق الحكيم وعباس محمود العقاد وطه حسين ونجيب محفوظ وأحمد شوقي وحافظ ابراهيم وعبد القادر محمود المازني وعبد الرحمان الشرقاوي، وصدرت أول طبعاته إثر فصلهما التعسّفي من العمل، عن دار الفكر الجديد ببيروت سنة 1955 بتقديم للمناضل اليساري اللبناني حسين مروّة[7].
فقد واجه المؤلفان سيلاً من النقد اللاذع وتم اتهامهما بالانتساب إلى الفكر الشيوعي وبالإلحاد، بل وبالسذاجة وعدم الفهم من قبل بعض أولئك الأعلام الذين لم يتحمّلوا "تجرأ" شابين يساريين على أساطين الأدب المصري، ليَسِمَا توجهاتهم الأدبية بالاجترار والتقليدية. لقد شكل هذا الأثر، وعلى حد ما أورده المؤلفان في تصدير طبعته الثانية سنة 1988، "ابنا شرعيا لمرحلة الغليان والإبداع النقدي الأدبي والفكري في بداية خمسينات القرن الماضي"[8]، حيث أسهم بلا مماحكة وبقطع النظر عن انتماء واضعيه المعلن لفكر اليسار، في تجديد مفاهيم النقد الأدبي العربي. لذلك اعتبر الأستاذ الجنحاني أن تلك التصوّرات المناضلة هي التي قادته زمن إشرافه على ملحق "أدب وثقافة" الصادر بجريدة العمل الناطقة باسم الحزب الاشتراكي الدستوري التونسي بين 1965 و1966، معرّجا على محنة اليسار المصري إبان تصلّب الناصرية ودخولها مرحلة الاستبداد سنة 1959 واضطرار منشطي التيارات الثقافية اليسارية للخروج عن بلادهم وقبول العيش خارجها لعشريات مديدة، مع التمسّك بمواقفهم النقدية من السلطة القائمة بعد الانقلاب الجليّ على مبادئ "عدم الانحياز" التي كان لـنهرو Nehru (1889 - 1964) وماوتسي تونغ Mao Tsé-Toung (1893 - 1976) وعبد الناصر (1918 - 1970)  وغيرهم دورا أساسيا في تشكيلها.
وليس من باب المجازفة مطلقا إدراج الاحترازات التي عبر عنها بوضوح أنور عبد الملك (1924 - 2012) ضمن مؤلفه: "مصر: المجتمع العسكري"[9] ضمن نفس السياق، حتى وإن عدّل هو وسمير أمين موقفهما من ذلك لاحقا، معتبرين الخط الناصري تجربة فارقة في نضال بلدان العالم الثالث ضد الامبريالية.
تَحْمِلُنا ثالث استطلاعات الأستاذ الجنحاني إلى بؤرة التوتر بين المعسكرين الشرقي والغربي أوروبيا ونقصد مدينة برلين، أين قضى الطالب المستزيد ما لا يقل عن ثماني سنوات (خريف 1957 – ربيع 1965) خلف ما وُسم بـ"الستار الحديدي"، متنقلا بين الواجهتين الشرقية والغربية للمدينة، لكي تتبين له بشكل مبكّر مساوئ الدغمائية ويسجّل ضمن واحد من مقالاته الصادرة بالملحق الثقافي لجريدة العمل الذي عادت له مسؤولية الاشراف عليه أنه "ليس بالخبز وحده يعيش الإنسان"[10].
فقد فتح الانتساب إلى اتحاد الطلبة التونسيين بالخارج وتحمل مسؤولية الأمانة العامة لاتحاد الطلاب الأفارقة الباب أمام الطالب المهاجر لحضور أشغل العديد من الندوات التي عقدت للتحاور حول قضايا استكمال تصفية الاستعمار إفريقيا، ومكّنته من الالتقاء بمختصّي المعسكر الشرقي في هذا الشأن ومحاورتهم بخصوص العديد من التجارب الاشتراكية الواعدة التي انطلقت بعد تصفية الاستعمار بالعديد من بلدان القارة مثل غانا وغينيا وتنزانيا والجزائر[11]. وأسعفه ذلك في مزيد فهم الدور المحوري الذي كان بوسع البرجوازية الوطنية أن تلعبه في تشييد الدولة الاشتراكية ورسم معالم نموذج ثالث للسياسة التنموية لدى الافتقار للشرائح العمالية أو "البروليتارية" أو ضعف حجمها البشري وتركيبتها الاجتماعية، شريطة النجاح في مقاومة نوازع الهيمنة الاجنبية والانتباه من مغبة فتح باب السمسرة والمضاربات الرخيصة والحفاظ على الدولة الوطنية وسدّ أبواب الانزلاق نحو الاستبداد واحترام الحريات العامة والخاصة تساوقا مع منطوق البيان الخلدوني من أن "الظلم مؤذن بخراب العمران".
ولعل أبرز ما توفّرت عليه محصلة هذه الرحلة الدراسية الثالثة هو تعمّق مسيرة التحصيل بالانتساب إلى جامعة "لايبزيغ" والتعرّف على طروحات مدرسة الاستشراق الألمانية والاطلاع على المناهج المجدّدة، حتى وإن اتسم سياق التحصيل باتكاء جانب كبير من المحسوبين على ذلك الوسط الجامعي على تصورات إيديولوجية حرّكتها نوازع لينينية وستالينية دغمائية لا يمكن أن تخطئها كل عين بصيرة.
كما ساهمت رحلة التحصيل في الانفتاح على ضروب من الفنون الملتزمة الراقية على غرار التردّد على مسرح "برتولت براشت Bertolt Brecht (1898 - 1956)" المطبوع بالالتزام والولوع بعروض الموسيقى الكلاسيكية، فضلا عن توسيع دائرة الفضول الثقافي من خلال العمل بالقسم العربي في إذاعة برلين[12].
تعود الذكرى مجدّدا إلى مقاعد التحصيل لتقف عند انقسام المنتسبين إلى الوسط الجامعي إلى صنفين: تمسّك أحدهما بطبيعة تكوينه الكلاسيكي الجيّد محاولا مقاومة جميع استراتيجيات التجيير والانتماء الحزبي، تلك التي اتخذ منها الشق الثاني وسيلة للاستفراد بجميع مواقع صناعة القرار والاشراف على تنفيذه جامعيا. كما انفتح وعي الطالب المجدّ على فظاعة ما ارتكبه النظام النازي من جرائم تجاه مختلف معارضيه وتنكيله بيهود أوروبا، وانغماسه في التعرّف على كارثية المحرقة المقترفة ضد اليهود حال زيارته لمحتشد "بوخن فالد Buchenwald " المجاورة لمسقط رأس قوته وشيلر بمدينة "فايمر"، ومحتشد "أوسشفيتز Auschwitz " المجاور للمدينة الجامعية البولونية "كراكوفيا"، وثبوت تورّط العديد من زعماء الصهيونية على غرار "ابن غريون" و"منحين بيغن" و"إسحاق شمير" و"موشي شارت" و"غولدا ماير" و"ليفي إشكول" وغيرهم، في التقرّب مع النظام النازي مقابل عدم اعتراض هذا الأخير على إنشاء وطن لـ"شعب الله المختار" على "أرض الميعاد" بمجرد أن تضع الحرب الكونية الثانية أوزارها. والمحيّر في جميع هذا، وفقا لما أعرب عنه مؤلف هذه السيرة وهو على تمام حقّ، أن العديد من الأنظمة العربية ومن المناضلين في الحقل السياسي لم يتّجهوا إلى التشهير بانغماس الفكر الصهيوني في العنصرية ولم يستّغلوا بما فيه الكفاية خلوّ تاريخ المسلمين مشرقا ومغربا من شبهة معادة السامية وتوظيف جميع ذلك في خدمة القضية العادلة للشعب الفلسطيني.
وحتى وإن استقر الرأي على المكوث في البلاد نهائيا مع حلول ربيع 1965 بعد الانضمام إلى صفّ المدرسين والانخراط في الحياة السياسية المحليّة والاطلاع على المشاكل اليومية لمواطني الدولة الناشئة والالتحاق بـ"لجنة الدراسات الاشتراكية" والإشراف على ملحق "أدب وثقافة" بجريدة العمل الناطقة باسم الحزب الحاكم والتكفّل بتحرير تعليق يومي حمل عنوان "تأملات اشتراكية" بعد تلاشي الأمل في إصدار دورية تحمل عنوان "المجتمع الجديد، دعما للتجربة الاشتراكية الوليدة وتعميقا لمعاني النضال والالتزام ضمن سياق بدأت تتعالى خلاله الأصوات المندّدة بانحرافات الستالينية سوفياتيا، فإن إغراء عرض الالتحاق بمعهد تاريخ وحضارة شمال إفريقيا المرتبط بـ"جامعة قيزن أو يوستوس لايبزيغ université de Gießen ou université Justus-Liebig de Giessen" الالمانية مع إمكانية التدريس عرضيا بـ"جامعة ماربورغ université de Marbourg " المجاورة، قد شكل فرصة ثمينة للتعرف على فكر اليسار بالجارة الألمانية الغربية والانفتاح على مناهج مدرسة فرنكفورت الاجتماعية والسياسية، تلك التي تمخضت عنها أبحاث "يورغن هبرماس Jürgen Habermas " الفارقة حول تحولات المجال العمومي، والاعداد لاحقا لاندلاع الاحتجاجات الطلبية سنة 1968 بجامعات ما وراء المحيط الأطلسي أولا، ثم بالجامعات الأوروبية لاحقا. حيث انطلق الاحتجاج من جامعتي "بيركلي Berkely  و"سان دياغو Saint Diego " على الساحل الغربي للولايات المتحدة الأمريكية وهما جامعتان درّس بهما الفيلسوف الالماني "هربارت ماركوز Herbert Marcuse" تلميذ "هيسرل Husserl" و"هيدغير Heidegger "  الذي تأثر فكره النقدي بتوجهات مجايليه الألمان المنتسبين إلى مدرسة فرنكفورت على غرار "فروم  Fromm" و"أدورنو  Adorno " و"هبرماس Habermas" و"هوركهيمر Horkheimer".
فقد وجدت توجهات "ماركوز الفكرية الناقدة، تماما مثلما كان عليه الحال تونسيا مع توجهات ميشال فوكو Michel Foucault ، صدى مذهلا بين الطلبة بعد أن وُفق كلاهما في التوليف بين الماركسية والفرويدية، وتمكنا من كشف مخبر إعادة إنتاج القيم الناظمة لما سبق وأن وسمناه بـ"المواضعات الاجتماعية" ضمن الفضاء المشترك، ورصيفه الشخصي موضع تفتق التصوّرات المتّصلة بالتساؤل حول الوجود[13]. فقد جسّد كتابا "الشبق والحضارة Eros et civilisation" الصادر سنة 1954 و"الإنسان الأحادي البعد L’Homme unidimensionnel "  الصادر سنة 1964، طريقة فهم "هربارت ماركوز" العميقة لـ "أخلاق الرفض" وتشهيره بـما وسمه بـ "الكليانية التكنوقراطية الجديدة Totalitarisme néo-technocratique" المضخمة للشعور بالاستلاب والتي تملك قدرة لا تمارى على التلاعب بالذهنيات وخلق حاجيات تُوهم عملية تلبيتها وتوسيع قاعدة استهلاكها بالتوافق مع المدلول الفاضل لخدمة الصالح العام
تعود ذكريات الأستاذ الجنحاني إلى بناء جدار برلين في الليلة الفاصلة بين 12 و13 أوت 1961 بوصفه شاهد عيان على حصول ذلك الانقلاب الحاسم الناجم عن توتر العلاقات بين المعسكرين ودقّ أول إسفين في نعش المعسكر الشرقي، متعرّضا وبالتزامن مع ذلك تونسيا إلى فاجعة اغتيال الزعيم العروبي صالح بن يوسف (1907 - 1961) بـ"نزل كيزر هوفHotel Kaiserhof  " بمدينة فرنكفورت الالمانية وثبوت تورّط أعدائه السياسيين الموالين للشق البورقيبي من بين المحسوبين على العائلة الدستورية في اقتراف مثل تلك الجريمة السياسية الشنعاء. حيث ليس هناك أبشع من ممارسات الأحزاب السياسية ساعة سقوطها في الشمولية وامتزاج الانضباط الحزبي داخلها بالتزمت الايديولوجي. وهو ما سهّل على المعتوهين وأنصف الأميين وأشباه العسكريين احتكار السلطة والتحكّم في مصائر العباد واستنجاب من أعماهم الطمع من "المثقفين" لتزين سوءاتهم وتحسين سقطاتهم، وذاك من سخرية التاريخ على الحقيقة.
                
في الدفاع عن حرية الكلمة:

      يندرج الحديث عن التجربة الصحفية التي خاضها الأستاذ الجنحاني خلال الفترة الفاصلة بين  الجمعة 9 جويلية 1965 تاريخ صدور أول ورقات ملحق "أدب وثقافة" الأسبوعي بجريدة العمل التونسية لسان حال الحزب الدستوري الحاكم والجمعة 7 أكتوبر من السنة الموالية 1966 موعد صدور آخر أعداد تلك الورقات[14]، ضمن تصوّر حاول الدفع باتجاه تفادي الوقوع في ما كنّا بصدد عرض سياقته من مزالق في تجارب بلدان المعسكر الشرقي الاشتراكية، أو ضمن التجارب السياسية الوليدة للدوّل الوطنية عربيا وإفريقيا بعيد تصفية الاستعمار، وهو ما أدرجناه في معرض حديثنا عن رحلاته أو استطلاعاته آنفا.
فقد بدا لنا من خلال تصفّح مختلف تلك الأعداد أن الهوية المعلنة لهذه المبادرة الثقافية تنبع من إيمان جيل من الأدباء والكتاب والمثقفين والجامعيين التونسيين بدور "الكلمة الحرة" في ترسيخ ثقافة وطنية مسؤولة تدافع على حق مختلف الانتماءات الجامعة للتونسيين في الحضور ضمن مشروع الدولة الوطنية التونسية الفتيّة، مستكشفة بطريقة مستحدثة غير مسبوقة، الهوية الجماعية لمجتمع ما بعد الاستقلال تونسيا.
فقد وضعت تلك الورقات ضمن أهدافها الأساسية ووفق ما أشارت إليه افتتاحية أول أعدادها: الاسهام بتواضع في حصول نهضة فكرية حقيقية، قصد التحوّل تدريجيا إلى "ملتقى أسبوعي لرجال الثقافة في جمهوريتنا [التونسية] وصدى للفكر العالمي...[مع] معالجة شؤون الفكر العويصة [بالقدر الكافي من] الدقة والصراحة والجرأة والإيمان بجدوى المعارك [كذا] الفكرية، [وخاصة] حين تكون موضوعيّة وعميقة..."[15].
يعود واضع افتتاحية العدد الموالي الصادر في الـ 23 من شهر جويلية 1965 إلى نفس الموضوع، معتبرا أن الطبيعة التقليدية والنخبوية للثقافة تونسيا لابد لها من تجاوز شواغلها الفئوية أو "الطبقية" الضيّقة لكي تلتحم بالجماهير الواسعة للمجتمع المتعطشة إلى ثقافة تونسية أصيلة قادرة على الارتقاء بمستواها حتى تبلغ مصاف الآداب والفنون العالمية، وهو أمر ليس بالمستحيل تحقيقه إذا ما "تغير ما بنفوس المثقفين" وصحّ العزم منهم على الابتكار والخلق والتجديد[16].
وحتى يكون للخلق موقعا على أديم وطن التونسيين، عرضت أعداد الملحق بالتعريف والنقد إلى مختلف الآثار الأدبية والمعرفيّة المنشورة على غرار ديوان مصطفى خريف "شوق وذوق"، وكتاب أب المؤرخين التونسيين حسن حسني عبد الوهاب "ورقات عن الحضارة العربية بإفريقية التونسية"، ومؤلف محمد البهلي النيال الموسوم بـ"الحقيقة التاريخية للتصوّف الإسلامي"... معرّفة نقديا بأهم المؤلفات الصادرة بكبريات حواضر الشرق والغرب.
ومن الطريف في هذا الباب عثورنا وضمن العدد الصادر بتاريخ الجمعة 20 أوت 1965 على ترجمة لخطاب توجه به أعظم شعراء ألمانيا "فولفكونك فان جوته Johann Wolfgang Goethe" (1749 - 1832) إلى معشر الشباب المولعين بقرض الشعر، داعيا إياهم إلى "مواكبة مسيرة الحياة واختبار النفس من حين إلى آخر، بمساءلتها: "هل نحن أحياء ثم بعد ذلك هل كنّا أحياء"[17].
تنوّعت أغراض بقية أعداد هذه الورقات الأدبية والثقافية التي غطت بقية أشهر خريف سنة 1965، متعرّضة إلى الروابط الوثيقة التي شدّت مسيرة التنمية بتونس المستقلة بتطوير المعرفة التاريخية، وذلك على هامش انعقاد المؤتمر الدولي الثاني عشر للمؤرخين بعاصمة النمسا فينا. حيث غطّت تلك الورقات الثقافية مساهمة الجامعة التونسية في الإعداد لأشغال ذلك المؤتمر عبر أجراء حوار مع نائب رئيس الجامعة المؤرخ أحمد عبد السلام (ت 2007)، الذي توقف مطوّلا عند طبيعة الأشغال التمهيدية المتّصلة بمحور "مساهمة الطبقات الشعبية في الحركات التحررية شرقا وغربا"، إذ دعت الجامعة التونسية جميع المشتغلين على ذلك المحور للاجتماع بتونس. كما شدّدت على نتائج أشغال تلك الورشات وتشجيع رئيس الدولة لتك المبادرة من خلال استقبال المؤتمرين بالقصر الرئاسي والتعرّض في الكلمة التي ألقاه للترحيب بهم إلى مضمون التجربة النضالية التونسية والثناء على منظمي تلك الورشات التمهيدية التي أعقبتها مساهمة المؤرخين التونسيين أحمد عبد السلام ومحمد الهادي الشريف في أشغال مؤتمر فينّا.
خُصصت ورقات أخر أسابيع شهر سبتمبر وبداية شهر أكتوبر من سنة 1965 للوقوف عند تجربة أبي الطيب المتنبي (915 – 965م) الشعرية وذلك بمناسبة ذكرى مرور ألف سنة على وفاته، وهو احتفاء شارك فيه كل من محمد العروسي المطوي والبشير العريبي والحبيب الجنحاني وأبو القاسم محمد كرو بمقالات عكست جوانب غير مبذولة من مسيرة أكبر الشعراء العرب وأوسعهم صيتا وشهرة، على غرار تعريف الأستاذ الجنحاني بمخطوطة نادرة لأبي القاسم الاصفهاني تحمل عنوان "الواضح في مشكلات شعر المتنبي"[18] عكف على تحقيقها طيلة سبع سنوات ولم تسعفه ظروف السفر والتحصيل بالخارج في نشرها. وتكمن أهمية ذلك المصدر النقدي الهام في تصويب تفسير ابن جنى لشعر أبي الطيب، مما ينهض حجة على متانة التكوين الأدبي لمنشط الورقات الذي خطّ افتتاحية العدد بعنوان "من قضايا الفكر"، متوقفا عند موقع المتنبي في الفكر العربي المعاصر، مبيّنا ندرة الدراسات النقدية المحكّمة الموضوعة بشأن مسيرته أو بخصوص تجربته الشعرية الفذة، إذا ما استثنينا ما خطّته أقلام مدرسة الاستشراق على علاّته الكُثر من أبحاث صدرت عن بعض المستعربين مثل "ريجيس بلاشيرRégis Blachère " (1900 - 1973) و"فرانشسكو غبريالي"Francesco Gabrieli  (1904 - 1996)، واعتناء أعلام أدب المغرب الوسيط بتجربته الشعرية على غرار صاحب "العمدة" ابن رشيق ومؤلف "رسالة الانتقاد" ابن شرف، وكذا اهتمام العديد من أمراء بلاد المغرب بشعره مثل المعز بن باديس الصنهاجي بإفريقية وداعية الموحدين عبد المؤمن بن علي بالمغرب الأقصى[19].
توقّفت بقية أعداد الملحق الصادرة حتى موفى شهر ديسمبر 1965 عند ملفات لها صلة وثيقة بمزيد التعريف بخصوصيات الثقافة التونسية وتوضيح المؤشرات المنبِئَة بحقيقة انبعاث حركة ثقافة تونسية مجدّدة وفقا للتقييمات الصادرة عن المشرفين على ملحق "أدب وثقافة". فقد تعرض الأستاذ الجنحاني ضمن افتتاحية حملت عنوان "القيم التونسية أولا"[20]، وفي معرض تعليقه عن مقال صدر بنفس العدد للمؤرخ هشام جعيط يحمل عنوان "أمراض الفكر التونسي"، إلى هذا الموضوع معتبرا أن السجال الدائر بين عدد من المثقفين التونسيين حول معضلتي "التمشرق أو التمغرّب [كذا]" في الفعل الأدبي أو الثقافي والفكري التونسي حاضرا مسألة مبالغ فيها. فواقع الحال يُنبئ وعلى عكس ما عاينته قرون انتشار الإسلام الأولى مغربا من انحياز واضح للشرق وعدم اكتراث بالآداب المغربية ضمن آثار ابن بسام والرقيق القيرواني على سبيل المثال لا الحصر، أو التشبّه بالغرب في كل شيء توافقا مع محصلة التكوين والذائقة الأدبية والفكرية الغربية، قد حلّ محلهما إثر تركيز دولة الاستقلال التونسية ما وسَمَهُ صاحب الافتتاحية دائما بـ"الإيمان بالقيم التونسية"، حتى وإن ترسّخت في أذهان التونسيين دونية مزدوجة تجاه الشرق كما تجاه الغرب، ولم يروا لأنفسهم فضلا على أولئك يرتقي بأعمالهم وأيامهم إلى موقع الريادة.
وهو نفس ما أومأ إليه مقال هشام جعيط لما شدّد على ما أسماه بـكارثية "المقدرة التكنيكية [للتونسيين] على مؤامرات الصمت وغضّ الطرف على مجهود الغير وانتقاصه والحطّ منه"، ومطالبتهم أبناء وطنهم المتوفّرين على "استعداد لأنوار العبقرية [كذا]" بأكثر مما يطالب به غيرهم شرقا وغربا: "فعليهم أن يكونوا مثل "فريدريش هيغل Friedrich Hegel" (1770 - 1831) لتسحب عليهم منزلة جيل لاشلييى Jules Lachelier (1832 - 1918) وأن يكونوا مثل جون بول سارتر لتمنح لهم منزلة سمون دي بفوار"[21].
كما حاولت تلك الأعداد تقييم مسيرة المجلة الثقافية الشهرية "الفكر" بمناسبة احتفال هذه الأخيرة بمرور عشر سنوات عن صدورها، متفحّصة مجالات تطوّر الفعل الابداعي شعرا وقصّة ومسرحا ملتزما أو "مسرحا حاكي" وفقا لعبارة "برتولت برشت" الرائقة، تجاوزا لمعضلة الفصل بين النخبوي والشعبي.  
كما توقفت عند تطوّر التجارب التشكيلية من بوابة التعريف برسوم جيل جديد مثلته مجموعة الستة le groupe des six تلك التي ضمّت بين أعضائها نجيب بالقاضي ولطفي الأرناوط وفابيو روكجيانيfabio roccheggiani   (1925 - 1967) [22].  وفتحت ملف الملكية الفكرية المعقّد تونسيا، كاشفة عن صعوبات الواقع المعيش للمبدعين التونسيين وضرورة الدفع باتجاه استنباط أفضل السبل التي تكفل لهم حياة كريمة وتسمح لعباقرتهم بالتفرّغ للنشاط الفكري والإبداع الفني[23].
خاضت الأعداد الصادرة خلال أشهر سنة 1966 في العديد من المسائل على غرار توضيح دور المسرح في بناء المجتمع التونسي الجديد، وذلك من خلال الاحتفاء بصدور أطروحة عالم الاجتماع الفرنسي "جون ديفينيو Jean Duvignaud" (1921 - 2007) الموسومة بـ "سوسيولوجية المسرح..."[24] واستعراض أراء عدد من المثقفين التونسيين العارفين بهذا الشأن كالشاذلي القليبي والمنجي الشملي والمنصف شرف الدين ومحمد عزيزة[25].
كما خاضت في علاقة القصة بالتجديد الأدبي، مخصّصة مجالا واسعا لتحيّة الكاتبة الجزائرية الأصول المتمرّدة على التقاليد البورجوازية في مرحلة ما بعد تصفية الاستعمار "ألبرتين سرّزان Albertine Sarrazin" (1937 - 1967)، وذلك بمناسبة حصولها على جائزة لجان التحكيم الأربعة المنعقدة بتونس عن أثريها الأتوبيوغرافيين المبدعين "لاكفال ولستراقال et l’Astragale La Cavale ".
كما أشاد ملحق أدب وثقافة بانفتاح المثقفين التونسيين على الآداب الزنجية واطلاعهم على تجاربه الطريفة والمجددة من خلال الإقبال على مطالعة مؤلفات "ليوبولد سيدار سنغورLéopold Sédar Senghor   (1906 - 2001)" الفكرية وقصائده الشعرية، واعتناء دارسي علوم المجتمع والأنتروبولوجيا بثقافة الزنوج وفنونهم[26].
وعلى خلفية مقاضاة المحاكم السوفياتية بداية من شهر فيفري 1966 للكاتبين المنشقين أندري سينيافاسكي Andrei Siniavasky (1925 - 1997) ويولي دنيال Youli  Daniel Markovitch (1925 - 1988) بتهمة نشر جانبا من أعمالهما الإبداعية على غرار نشر "يولي دنيال" مجموعته القصصية "هنا موسكو Ici Moscou" تحت أسم  Nikolaï Arjakالمستعار بدور نشر ليبرالية غربية[27]، خطّ الأستاذ الجنحاني ما لا يقل عن أربعة افتتاحيات متعاقبة للوقوف على ضرورة احتفاظ الفكر بحريته كاملة حتى يتحوّل الأدب إلى فعل مبدع ويساهم النقد في تطوير الفكر المجدّد[28]. وترسم تلك الافتتاحيات صورة عن القناعات الفكرية لمنشط هذا الملحق الذي هزت كيانه وهو العارف بواقع بلدان المعسكر الشرقي التوجّهات الدكتاتورية المتشدّدة، تلك التي اكتشف بنفسه العديد من المؤشرات الدالة عن تفاقمها قبيل عودته للاستقرار بتونس بعد رحلة استطلاع وتحصيل دامت ثماني سنوات.
فقد حذّر الحبيب الجنحاني المهتمين بالشأن الثقافي والقائمين عليه في البلدان النامية ومن بينها بتونس، من مغبة السقوط في الفهم الخاطئ للالتزام ودخول معركة النماء من بوابة تبرير تدخّل البيروقراطية الثقافية في الفعل الابداعي ومراقبتها لشروط انتاجه بوضع قيود أمام حرية التعبير، وهو ما من شأنه أن يُضفي على أزمة الفعل الابداعي مظهرا سياسيا. فقد تيقّن ومن خلال متابعة مجريات محاكمة المثقفين السوفياتيين أن "أزمة النخبة المتعلّمة ببلدان المعسكر الشرقي ليست بالأزمة النفسية السلبية، بل هي [وبالأساس] أزمة انسجام وتوفيق: توفيق بين الالتزام بالفكر الحرّ وبين البيروقراطية الثقافية، بين طليعة واعية بمسؤولياتها الفكرية والتاريخية وبين مآسي ارتُكبت باسم الحرّية والديمقراطية الحقيقية"[29].
فقد بات متأكدا أن الحرص على بعث ثقافة ثورية ذات توجهات إنسانية رفيعة تنتجها نخب ملتزمة يتعارض مع الاكتفاء برفع الشعارات الفضفاضة وادعاء الصدور عن أهداف سامية مفصولة عن الواقع وعن المشاكل التي يفرضها وعن فلسفته الخاصة التي يُمليها على أصحاب النظريات[30]."
واصل محبّر تلك الافتتاحيات المشيدة بـ "حرية الكلمة"، التوقّف عند السياقات الخصوصية التي وسمت علاقة الفئة الثورية المثقفة بالأرستقراطية العمالية الحاكمة بالاتحاد السوفياتي وبلدان أوروبا الشرقية، معتبرا أن المعضلة تكمن في إصرار الحكّام الجدد على تدجين المثقفين أو تجيرهم خدمة لمصالحهم الشخصية الضيقة، وذلك وفقا لرؤية لا تختلف عن تلك التي عبر عنها نابليون بونابرت بخصوص تماثل الدور المناط بعهدة الشاعر والجندي والمتمثل - بزعمه طبعا - في التفاني في خدمة الدولة، حتى وإن تعارضت توجهاتها مع الرسالة الفكرية النبيلة التي قام عليها مشروع الثورة وراحت القيم السامية التي قامت من أجلّها خدمة للإنسان وصونا لحريته أدراج الرياح، منقلبة إلى شعارات جوفاء ترفض أي تفكير نقدي وتكتفي باجترار مضمون خُطب زعماء الأرستقراطية الحاكمة. وهو ما ساهم بلا جدال في تعميق أزمة تلك الأنظمة ووسّع في دائرة التململ بين المثقفين، فاستشرى القمع وامتدت أيادي زبانية "الستالينية" على مدى المجال الخاضع للمعسكر الشرقي للانتقام من المخلصين للتوجهات الفكرية الأصيلة للثورة[31].  
ونستشف ذلك بيسر بعد الاطلاع على محتوى الجزء والأخير من رباعية "حرية الكلمة" الذي تعرض إلى جرعة الأمل المؤقتة المترتبة عن انعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي سنة 1956 وذهاب الوعود بفتح المجال أمام الفكر الحرّ شذر مضرا، بعد أن برزت مساوئ الانزلاق مجدّدا في ما وسمه واضع تلك الافتتاحية بـ "عبادة الخروتشوفية"[32].
والبيّن بعد جميع ما ذكرنا أن حرص فريق تحرير الملحق على نشر محتوى محاضر استنطاق القضاة لـ "يولي دنيل" و"أندري سينيافسكي" التي أوردت تفاصيلها صحيفة "لوموند" البارسية، وأصرّت هيئة تحرير الورقات على ترجمتها من الفرنسية متسلسلة ضمن أعمدتها، قد شكّل في تصوّرنا ما يشبه الرسالة المشفّرة التي وجّهت لصانعي القرار تونسيا أولئك الذين بدت علامات التكلّس الحزبي والتمسك المرضي بالسلطة وعبادة الزعامة تحتل موقعا محوريا في تصوراتهم الفكرية وممارستهم السياسية، مُنبئة بوشوك سقوطهم بالكامل في الانغلاق، ذلك الذي حوّل بلدان المعسكر الشرقي إلى ما يشبه السجون المفتوح.
فقد أورد محتوى استنطاق المثقفين السوفياتيين "سينيافسكي" و"دنيل" إصرار هذا الأخير وفي رده عن سؤال قضاة التحقيق بخصوص الأطراف المدانة في الدفع باتجاه التحجّر الايديولوجي، على أن: "الجميع متورّط في صناعة عقليّة عبادة الأشخاص"، وإرغام الرافضين للشخصنة بالقبول بذلك في صَغَارٍ، أو تحويلهم إلى كبش فداء على مذبح الانغلاق الفكري والتزمت الإيديولوجي". وهو ما ينهض حجة على أن "كل فرد في المجتمع مسؤول عمّا يجري فيه". كما صرّح سينيافسكي حال استنطاقه من قبل قضاة المحكمة أن الواقعية الاشتراكية ليست وَهْمًا خادعا كما يدعي الغرب، فالإنسان كائن هدّاف بالمعنى التليولوجي téléologique للكلمة، تتمثل غايته المعنوية في تحقيق السعادة للجميع، وهي غاية ما بعدها من غاية، لأنها تعكس سموّ الذكاء البشري. إلا أنه اعتقد أيضا أنه لكي يتحوّل الاشتراك في السعادة إلى ممارسة، لابد من صدوره عن التزام حقيقي بالفضيلة في مدلولها الأخلاقي. فلئن شكّلت الشيوعية غاية نبيلة في حد ذاتها فإن الممارسات التي نأتيها يوميا لا تسعف بالضرورة في التدرّج باتجاه تكريسها على أرض الواقع، وخاصة لما يتّضح لنا حصول انزلاق باتجاه عبادة الأفراد وتأليه الزعامات. فـ"لينين" إنسان في المقام الأول لم يدّع الألوهية، وهو ما يصدق على "ستالين" أيضا، حتى وإن استحكم على مزاجه وبتشجيع ظاهر من جهاز الحزب الحاكم حبّ السيطرة واستسهال الانزلاق باتجاه الاستبداد[33]
ومهما يكن من أمر فقد توقّف الخوض في علاقة الفكر المستنير بحضور الحرية فجأة، حتى وإن وعد محبر تلك النصوص بتخصيص افتتاحية جديدة لتوضيح "أسباب تقويض موجة تحرّر الفعل الثقافي والأدبي بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي". وأشار في ثنايا التعليق على الموقف الذي أعلن عنه الكاتب الصيني كوو مو- جو  Kouo Mo-Jo (1892 - 1978) من أعلى منبر برلمان بلاده أن جميع ما كتبه لا يساوي شيئا لأنه فشل في استيعاب فكر "موتسي تونغ"، إلى أن ركن "حرية الكلمة" سيعود بالتحليل إلى هذا التصرّف الغريب الذي لا يعكس أزمة نفسية شخصية فحسب، بقدر ما يحيل أيضا على أزمة النخبة الفكرية الصينية بشكل عام[34].
وتعود افتتاحية عدد الجمعة 24 جوان  1966 لنفس الموضوع وذلك بمناسبة تغطية انعقاد المؤتمر الرابع والثلاثين لنادي القلم العالمي بنيويورك الذي أشراف عليه الكاتب والروائي الأمريكي الذائع الصيت "أرتير ميلار Arthur Miller  (1915 - 2005)"، لتؤكد على ضرورة توفر مناخ منعتق وحرّ، كي يعرف الفعل الأدبي والفكري قفزة نوعية ترتقي به إلى مصاف الابداعات العالمية والكونية.
والحاصل بعد جميع ما تخيّرناه من مواد هذه المدونة الطريفة التي مثلها ملحق "أدب وثقافة"، أن ما شدّ انتباهنا لهده التجربة التي خاضها الأستاذ الجنحاني بوصفه مشرفا على ملحق أدبي وفكري حاول خطّه التحريري إثبات بروز هوية ثقافية خصوصية لدولة الاستقلال الناشئة، هو تواشج العديد من تصورته مع تجربة لاحقة، كُتب للأستاذ أن يخوضها بمجرد طيّ مرحلة الاستبداد تونسيا، ونُشرت مقالتها أسبوعيا ضمن صحيفة الشروق اليومية، على أن يُفرد المؤلِف للبعض من نصوصها المتآلفة كتابا حمل عنوان "دفاعا عن الحرية" صدرت طبعته الأولى سنة 2012[35].
                              
"الفجر فجران كاذب وصادق..."

    في شهر جويلية من سنة 2012 مهد الأستاذ الجنحاني للطبعة الأولى من أثره الموسوم "دفاعا عن الحرية" بتصدير حمل عنوان "ويتواصل النضال"[36] شددّ من خلاله على أن معركة الحرية تحتاج إلى طول نفس، وهو ما يسهل إدراكه من خلال العودة إلى تاريخ الثورات الكبرى وفي طليعتها الثورة الفرنسية. مُضيفا أن للحرية أعداء تقليديون مثّلهم من وسمهم بـ"الطغاة والانكشارية والسماسرة وفقهاء البلاط والمتاجرين بالدين وأصحاب الأقلام المأجورة"، أولئك الذين التحق بهم في البلدان النامية دعاة العشائرية والطائفية والجهوية والأصولية الدينية والإيديولوجية. في حين يُنتظر أن تحمل الطبعة الثانية لهذا الأثر والتي يبدو أنها على وشك الصدور تقديما يحمل عنوان "هل سقطت الأحلام"[37]، حاول من خلاله المؤلف العودة إلى الواقع المعقّد للبلاد التونسية بعد مرور ما يزيد عن خمس سنوات عن اندلاع انتفاضة 14 جانفي 2011، معتبرا أن الغاية الحقيقية التي نشدها من جمع تلك النصوص ونَشْرِها في كتاب مفرد قد تمثلت في المساهمة في توعية الشرائح الوسطى للمجتمع التونسي بوصفها المتضرّر الأبرز من انخرام الاستقرار السياسي والتدهور الاقتصادي لأوضاع البلاد، والحال أنها هي التي شكّلت على دوام دعامة مشروع الدولة الوطنية الذي توشك الأمواج العاتية للتزمّت الديني والاصرار الطوباوي على استعادة زمن إسلام التأسيس على نسفه بالكامل والتفريط في أمن البلاد وتحويلها إلى مرتع لجميع الوصوليين والمحسوبين على الشبكات الغامضة للفساد واللصوصية. وهو واقع يؤذن بوضع حدّ لكل نفس سياسي تحديثي ووأد كل محاولة جادة للنضال الاجتماعي.
يدين المؤلف وضمن محور استهلالي خصّصه لما وسمه بـ"الاعترافات" استشراء الممارسات الاستبدادية، معتبرا أن مشاعر الاجلال يتعين أن تذهب في المقام الأول لمن وقفوا ضد تلك الممارسات دافعين جراء ذلك ثمنا باهضا. كما يعترف بأن زهده في مواصلة البحث المعرفي المحكّم منذ بداية الألفية الثالثة مرتبط بالتزامه بالإسهام في معركة الدفاع عن الحريات ونشر المبادئ الحداثية للفكر الإنساني. وليس أبلغ من ترصّد عيون السلطة لتحركاته وتضييقها على نشر كتاباته، من توصّل رقبائها إلى رصد ما يعتمل تحت سطورها من تصوّرات تدين عسكرة السلطة ونسف قيم الجمهورية وعدم احترام الحريات العامة والشخصية والاحتكام إلى المبادئ التي تسير على هديها الأنظمة الديمقراطية، معتبرا أن تخفيه وراء محتويات عدد من النصوص التراثية الكبرى على غرار "عبر" ابن خلدون و"مقدمته" و"إغاثة الأمة" و"خطط" للمقرزي، أو توجّهه لإتمام ترجمة بعض النصوص العالمية الفارقة التي ساهمت في تشريح الأنظمة الاستبدادية على شاكلة "أصول الاستبداد" لحنّه أرنت Hannah Arendt (1906 - 1975)، هي التي جعلته يتهيّب من كل تورّط في شد أزر الأنظمة الاستبدادية ويرفض الحصول على أوسمتها، مُدينا وضمن أكثر الصحف العربية انتشارا ومقروئية كـ"الحياة" اللندنية و"الزمان" و"الزمان الجديد" والمجلات الالكترونية المناضلة على غرار موقع "الأوان"، تعويل تلك الأنظمة على الحلول الأمنية في تعاملها مع الاحتجاج السياسي ذي الطابع الديني، معتبرا أن تناول مثل ذلك الملف المعقّد لا يمكن أن يكون إلا سياسيا بامتياز.
وجميعها مواقف تنسجم بالكامل مع المبادئ التي دافع عنها منذ صدور أول مقالاته بصحيفة "الصباح" التونسية، وهي مقالات توقّفت نقديا عند مؤلفات الشيخ الأزهري خالد محمد خالد (1920 - 1996) وفي مقدمتها عناوين فارقة قلّ ما حفلت بعروضها القيّمة أجيال متعاقبة من المناضلين العرب أو المسلمين كــ "من هنا نبدأ" و"الديمقراطية أبدا" و"هذا أو الطوفان"[38].
قسم المؤلف عروضه الموالية إلى أربعة محاور أو أقسام تناولت تباعا تعارض الاستبداد مع المواطنة والحرية وتوضيح استحقاقات ما بعد الثورة وشروط النجاح في تخطي مرحلة الانتقال الديمقراطي بسلام وضرورة التجديد الديني للإسلام درئا لمغبة التورّط في تسيسه تحت غطاء الاحتجاج الاجتماعي.
فقد أفرد الأستاذ الجنحاني قرابة الثلاثين صفحة من كتابه "دفعا عن الحرية" للتشهير بممارسات الأنظمة الاستبدادية وتشريح ما وسمه بـ"النظام الاستبدادي العربي". وشملت تلك العروض ثماني مقالات هي على التوالي "تشريح النظام الاستبدادي العربي" و"قصص فوق الخيال" و"جدران تفصل بين أبناء الشعب الواحد" و"الاستبداد والنخبة" و"المثقف والسلطة" و"الظلم مؤذن بخراب العمران" و"المواطنة والحرية" و"رسالة مفتوحة إلى العقيد معمر القذافي"[39]. وتخدم مختلف العروض والأمثلة  المستجلبة من النصوص التراثية، أو تلك التي تم استحضارها بالعودة إلى تجارب معيشة وشخصية، هدفا رئيسا تمثل في: "فضح الممارسات الاستبدادية وزرع روح الكراهية الثائرة في نفوس المواطنين" وتحويل نوازع الاستبداد إلى ما يشبه "طاعونا أسودا" يتعيّن التوقّي من استشرائه الكارثي بدوام الحيطة وعدم السقوط في اللامبالاة، حتى لا تتمكّن قوى الشدّ إلى الوراء من الوصول إلى السلطة وتفتح الأبواب مجدّدا أمام عودة الاستبداد ومقاومة السقوط في الاستكانة والخنوع عبر التحلّي باليقظة وعدم الكفّ عن النضال بغرض احترام الحريات وتوسيع مجالها.
ويبدو جليا أن تعويل المؤلف على أسلوب حواري جذاب هو ما أسعف في تجاوز المضامين التقريرية الجافة لعروضه، مسهّلا عليه استعراض أمثلة حيّة عن مسارات مناضلي معركة الحريات من داخل البلاد التونسية أو من خارجها، مع التماس الاعذار في حق البعض ممن وقف في صف السلطة حال التهيّب من تصرفات المدافعين عن "الثورة المضادة، وهو عين ما لجأ إليه "أندري مالرو André Malraux (1901 - 1976)" خلال فترة حكم الجنيرال ديغول (جانفي 1959 – أفريل 1969) أو ما قام به منظر الاشتراكية السوفياتي "ميخايل سوسلوف  Mikhaïl Andreïevitch Souslov (1902 - 1982)" أيام حكم "نيكيتا خروتشيف Nikita  Sergueïevitch Khrouchtchev (1894 - 1971)" عند خمسينات القرن الماضي. وقس على ذلك بالنسبة لعدد من أعلام الفكر والثقافة المحسوبين على جيل المؤلف ممن اعتقدوا خطأ أن النجاح في معركة النماء يجيز إرجاء خوض معركة الحريات، والحال أن الحزب الدستوري الحاكم في تونس قد أضاع منذ مؤتمر "الوضوح" المنعقد سنة 1971 فرصة تاريخية للتدرّج في تكريس مبادئ الديمقراطية الحزبية. لذلك وجب التفريق بين من توهّم خطأ من المثقفين خدمة المشروع الوطني طوال ستينات القرن الماضي، وبين من ثبت استئجارهم لخدمة الاستبداد وتشريع التصرّفات المشبوهة والتحيّل المفضوح طوال العشر سنوات التي سبقت اندلاع "ثورة التونسيين".
تعود الذاكرة بالأستاذ الجنحاني إلى سنوات تحصيله لما قُدر له أن يكون شاهدا صبيحة يوم الأحد 13 أوت 1961 على تشييد جدار الفصل ببرلين، معتبرا أن الكتمان الذي حفّ بمثل ذلك الحدث الفارق مردّه اعتقاد الشبيبة الاشتراكية تضليلا أن قوى الغرب الرأسمالي مُقْدِمَة على اكتساح بلدان المعسكر الشرقي والقضاء نوويّا على شعوبها وأنظمتها. ممّا يثبت وفق ما ألمع إليه المؤلف "قدرة الانظمة الاستبدادية الرهيبة على التسخير التحشيد"[40]. إلا أن كشف ذلك النظام على وجهه القميء هو ما أشعل النار تحت الرماد، فتداعى "جدار العار" مثل قصر من الورق. غير أن المحتفلين بذكرى مرور عشريتين على سقوط ذلك الجدار لم يدركوا أن جدران أخرى قد شيّدت بفلسطين لفصل ما لا ينبغي أن يُفصل، وأن تصرّفا على تلك الشاكلة لا يقل خِزيا عن ذاك الذي عاينه مدينة برلين طيلة أربع عشريات من تاريخها المعاصر[41].
يطرح الكاتب بإلحاح سؤال غياب النخبة التي عُرفت بمساهمتها في بناء الدولة الوطنية عمّا عاينته البلاد التونسية وغيرها من البلدان العربية من حراك فارق، معتبرا أن جانبا من تلك النخبة قد تورّط حقيقة في دوّامة الاستبداد، وخاصة بعد أن استحكمت التركيبة الانتهازية لشبكات المصالح الغامضة وعوّضت التركيبة القبلية القديمة. فقد انقسمت النخب إلى ثلاثة فئات: الصامتة، والمعلنة عن احتجاجها أو ممانعتها، والمتواطئة التي وقفت في صفّ الاستبداد ولم تتورع على تزعم جوق "المناشدين".
ويستحضر المؤلف ثقافته التراثية العربية الإسلامية ليستعيد بمعية قُرائه وقائع دالة بخصوص انقسام خاصة المسلمين إلى من وسمهم بـ"فقهاء البلاط" و"فقهاء المسجد"، متعرّضا إلى وقوف "سعد بن المسيب"، وهو من التابعين ومن كبار علماء الدين، ضد توريث عبد الملك بن مروان السلطة لابنيه الوليد وسليمان، وانتقام والي المدينة اشنع انتقام منه، مستغربا من مواقف العديد من مثقفي البلدان العربية الذين انحازوا لأنظمة متهاوية ولم يكلّفوا أنفسهم نقد تصرفات حكامها أو الاستقالة من المناصب التي كانوا يشغلونها تعبيرا عن معارضتهم لزهق أرواح الناس بالباطل. وهو ما تفطّن له مؤلف الإتحاف قبل قرن ونصف لما اعتبر تأسيا بما ورد ضمن مقدمة ابن خلدون أن "الاستبداد مؤذن بخراب العمران" وأن السلطة المقيدة بقانون أجلب للمصلحة وأدنى لتطبيق مبادئ الحرية والعدل من أي سلطة سواها. وهو ما استوعبه أيضا رواد النهضة الفكرية مشرقا ومغربا مثل رفاعة الطهطاوي وفرح أنطون وأديب إسحاق وسلامة موسى ولطفي السيد وطه حسين، بعد اطلاع جميعهم على أراء منشطي حركة الأنوار الأوروبية وتأملّهم في مضمون كتابات "روسو" و"إيمانويل كونت" التي رفعت القداسة عن الفعل السياسي، معتبرة بضرورة الربط بين العقلانية والانعتاق من التأثير المدمّر للخرافات والأساطير أو الاعتقاد في أي حتمية مسبقة. إذ ليس بعيدا أن يكون "تأميم الدولة والمجتمع"[42] وفقا  للتصوّر الذي انتهى إليها فكر الأستاذ الجنحاني، سببا محوريا في فشل مرور الدول الوطنية عربيّا إلى ممارسة المواطنة السياسية المسؤولة والسقوط أزلا في هيمنة "العسكر ونظام الحزب الواحد"[43].
يعرض المؤلف إلى الاستحقاقات الجديدة لمرحلة ما بعد "الثورات العربية" وإلى أفضل السبل للتصرّف بعقلانية وترشيد تخطّي مرحلة "الانتقال الديمقراطي"، موضّحا أن انهيار الأنظمة المترتبة عن تصفية الاستعمار متّصل بالتحام شبكات الفساد بالجهاز الاستبدادي للسلطة والتوجّه نحو توريثها، مما طعن في كرامة المواطنين وجعلهم يتلمظون مرارة الذل والاحتقار. مضيفا أن هبوب نسائم الحرية هو الذي حل عقدة الألسن والأقلام الداعية إلى إرساء دولة مدنية ديمقراطية تؤمن بالتداول السلمي على السلطة واحترام الحريات العامة وفصل الدين عن السياسة، حتى وإن ترصّدت مثل ذلك المسار تونسيا أخطار حقيقة تمثلت في بروز العشائرية والجهوية و"الصراع الطبقي الفوضوي" الفاقد لكل وعي سياسي وانشطار المجتمع إلى محافظين وحداثيين، فضلا عن وصول "الإسلام السياسي" إلى السلطة عبر انتخابات حرة، وتعامل الغرب بانتهازية مكشوفة مع الواقع الجديد بعد أن استعدى الإسلام، مساهما في تعميق اللَبس بينه وبين "الإرهاب"، عاملا على تحويله إلى ما سبق لواحد من كبار دعاة حركة الإخوان المسلمين ومؤسسيها، تسميته بــ "الإسلام الأمريكي"[44].
وتحيل سياقات الثورة التونسية وفق ما انتهى إليه تفكير المؤلف على ما عاينته بعض البلدان الأوروبية الشرقية وخاصة ثورة الشعب برومانيا وثورة الشباب بألمانيا الشرقية، باعتبارهما ثورتان مدنيّتان توصلتا، من دون حاجة إلى قيادة، إلى اسقاط نظامين دكتاتوريين بغيضين تظافر ضمنهما ترهيب حزب شمولي وجهاز مخابرتي اخطبوطي. على أن ما انفردت به "الثورة التونسية" التي يستقيم في رأي الكاتب دائما أن تحسب على الموجة الثالثة من ثورات الزمن المعاصر بعد تحولات بلدان المعسكر الشرقي أوروبيا وبلدان أمريكا اللاتينية، هو انبثاقها من رحم الفئات المهمشة العاطلة عن العمل المتحدّرة في معظمها من جهات مُكتَنفة تضرّرت كثيرا من استشراء الفساد. وهو ما أدركته حدسا بعض كوادر المركزية النقابية دون أن يتجذّر لدى جميعها وعي حاسم بذلك.
وليس بعيدا أن يكون لهذا السياق الخصوصي آصرة وثيقة بالتخبط السياسي الذي عاينته المرحلة الأولى لما بعد "الثورة" ووقوع القائمين على أوضاع البلاد في هفوات مضحكة أنبأت عن صعوبة استيعاب النسق السريع للانقلاب الشامل الذي عاينته أوضاع البلاد، دون السقوط في شرك الخلط بين الدولة ونظام الحكم، والتمسّك بالأساليب السلمية في مواجهة عسف النظام و"رصاص الطغاة بصدور عارية"[45]، والاعتبار بأن أوكد الأولويات لا تتمثل في اللهث وراء قطف ثمرات لم يحن زمن نضجها، والتورّط تبعا لذلك في أتون استحكام الفوضى، بل في اعتبار الجميع بأن الحفاظ على أمن البلاد وتجاوز التسطيح واللغو السياسي هو من أوكد أولويات "الثورة".
يورد الأستاذ الجنحاني في ذات السياق مقالا طريفا في ضربه قاصد الاعتبار والمقارنة بين واقع ما بعد الثورة تونسيا، وما كانت عاشته بعض بلدان الربيع العربي من انفجار مفاجئ لأوضاعها السياسية، من خلال استعراض ذكرياته المبهجة حول الدور النضالي لمن وسمهن تلطّفا بـ"شقائق النعمان" من "مُضريات" و"عدنانيات" اليمن السعيد، متعرّضا إلى حلقات طريفة من تاريخ هذا البلد المعاصر المعروف بشدة اكتنافه ومحافظة سكانه أيام انتشار الفكر الماركسي المناضل واتيان النوازع القبلية على جميع أحلام أتباعه الوردية، تماما مثلما انتصرت ثوابت البداوة على تقاليد الحُضّر مغربا.
أما بخصوص القضايا التي طرحتها مرحلة "الانتقال الديمقراطي" فيعرض المؤلف إلى النتائج المترتبة عن الاصطفاف الايديولوجي الرامي إلى تفكيك الهياكل الممثلة للمجتمع المدني والإطاحة بمؤسسات الدولة وتحويل الصراع من مضمونه السياسي والفكري إلى ساحة الصراع الديني، والحال أن "الدين لله والوطن للجميع"، معتبرا أن الفوضى التي اجتاحت الساحة العامة بشقيها السياسي والمدني وغرق الساحة الاعلامية في التفاصيل، مكتفية بالإثارة الرخيصة والتفاهة المعمّمة، لا يتعين أن تلهي الجميع على ضرورة تقديم مصلحة الوطن على ما سواها، فالحرص على سلامته يقتضي تحييده على جميع أشكال السِجال والمناكفة.
يُشيد الأستاذ الجنحاني في سياق تعرضه لخصوصيات مرحلة "الانتقال الديمقراطي" بالدور الطلائعي الذي لعبه المجتمع المدني بوصفه فاعلا محوريا في عملية إعادة تنظيم الساحة العمومية Espace public  وفقا للشروط المُحدثَة للتنوّع، مشدّد في نفس الصدد على هشاشة الظاهرة بجميع بلدان "الربيع العربي" والتباس التصوّرات المتّصلة بها لدى الحكّام الذين يؤثرون التشديد على الطابع الأهلي أو الخيري لتلك الهياكل تهيّبا من جميع أشكال الفضح والمراجعة، ولدى المحكومين الذين لا يرون لغير المحسوبين على التيارات الحداثية ومن بينهم المنتسبين إلى الفكر الأصولي أو الديني أي حظ في الاسهام في أنشطة مؤسسات المجتمع المدني أو هياكله وتنظيم واقع التنوّع الذي تحوّل إلى حقيقة ماثلة على ساحة النضال المدني تونسيا[46].
والمهم هو أن يدرك الجميع أن "المجتمع المدني والدولة ليسا مفهومين متقابلين، بل هما مفهومان متلازمان فلا يمكن أن ينهض المجتمع المدني...دون دولة قوية...كما أنه من العسير تصوّر دولة وطنية قوية...دون مجتمع مدني يسندها"[47]. كما الأستاذ يعتبر وهو على أتمّ الصواب في ذلك، أنه "من الخطأ مقاومة الدولة باسم المجتمع المدني"[48]، لأن ذلك من شأنه أن يفتح الباب أما جميع القوى المناهضة للمبادئ والقيم الفاضلة والمتحضّرة التي يقوم عليها ذلك المجتمع، مشيدا في هذا الصدد بالدور التاريخي لنقابات العمال التونسيين، مُدينا بقوة التصرّفات الرعناء للقوى السياسية المحافظة التي وضعت انتخابات 2011 أمر تصريف الشأن العام بيديها، وامتعاضه من مستنقع التفاهة والرداءة الذي غرقت فيه نخب "الإسلام السياسي" من خلال المُساجلات حول "النقاب" و"الزواج العرفي" و"ختان البنات" و"المأذون الشرعي"، وذلك بغاية التضليل على الحملة الشعواء التي شنتها تلك الأطراف "المتأسلمة" ضد المضمون الاقتصادي والاجتماعي الذي طبع الثقافة السياسية التونسية والتزام أعرق المنظمات النقابية مُمثَلة في الاتحاد العام التونسي للشغل بمتابعة الشأن السياسي الوطني وتحمّل مسؤوليته كاملة تواصلا مع ما قام به في معركة الاستقلال وأثناء بناء الدولة الوطنية. وهو ما لم يمثل على فرادته ضمن المجال العربي الإسلامي خاصيّة تونسية بحتة بالنظر لما عاينته فرنسا من التحام من أجل حماية النظام الجمهوري ضد التطرّف اليميني بعد النتائج الكارثية للدور الأول لانتخابات سنة 2002 الرئاسية، وما خاضته نقابة تضامن ضد النظام الدكتاتوري البولوني وما تخوضه النقابات اليونانية حاضرا من نضال سياسي بغية تلافي إفلاس الدولة ومزيد تأذّى الفئات العمالية والشرائح الوسطى بوصفها قد شكلت قاطرة المجتمع اليوناني المعاصر على الدوام.
يعقد الأستاذ الجنحاني وضمن القسم الأخير من مختارات مقالاته الصادرة ضمن يومية الشروق التونسية، فصلا ضمن مؤلفه "دفاعا عن الحرية" خصّصه لتوضيح علاقة الإسلام بالسياسة وتفسير حاجتنا إلى تجديد الفكر الديني حاضرا[49]. فقد وضّح وضمن فحوى ما لا يقل عن أربعة عشر مقالا وجاهة القول بفصل الدين عن السياسة، متعرّضا إلى مميزات العلاقة التي تربط الإسلام حاضرا بالغرب وبالديمقراطية وبالدساتير وبالدولة المدنية. كما تعرّض إلى مسألة إصلاح الفكر الديني وكارثية التشبّث المرضي بالماضي وضرورة الاجتهاد في المسائل الدينية وتطوير مؤسساتها التقليدية العريقة مثل الأزهر مشرقا والزيتونة مغربا، شارحا بعض مظاهر رداءة الفكر الإسلامي المحافظ راهنا، وتحمّس بعض الأنظمة العربية المتخلّفة في السرّ والعلانيّة للقضاء على كل دواعي التجديد والانقلاب على القديم، وسِجَالات بعض شيوخها المضحكة مرارا وتكرارا حول جملة من المسائل الدينية عفا عليها الزمان منذ قرون.
وتخوض التحاليل التي اقترحها الكاتب ضمن توجّه عمل على الكشف عن الأساليب الملتوية التي اعتمدها دعاة الفكر الديني بعد قيام "الثورات" العربية بغرض التعمية أو المغالطة بخصوص مسألتين محوريتين هما: ربط العلمانية بالكفر ودحض مثالبها المتصلة - بزعم معاريضيها طبعا- بالفصل بين الدين والدولة، مبيّنا أن معظم الحداثيين التونسيين لا همّ لهم في الحقيقة سوى الدفاع عن مدنيّة الدولة وعن حرية الضمير، وأنهم لم يكفّوا عن النضال من أجل فصل الدين عن السياسة تفاديا للوقوع في شرك التوظيف ودرئا للتحالف "بين الدين والسياسة والمال"[50]
كما فتح المؤلف نافذة على مسائل الاجتهاد الديني خلال القرون الخمسة الأولى من انتشار الإسلام، معتبرا أن نوازع التجديد التي اتسم بها فكر عدد من مجتهدي الإسلام أو أئمته خلال المرحلة اللاحقة أو حال احتكاكهم بالحضارة الغربية أثناء القرن التاسع عشر وفي بداية القرن الذي يليه، ليس لها أي اتصل بظاهرة الإسلام السياسي السني حاضرا. وهي ظاهرة سقط قناع المدافعين عنها أو المحسوبين عليها بعد اسرافهم في المحافظة واعتقادهم في جدوى "النضال" دفاعا عن تصوّر وهمي للـ"صحوة الإسلامية"، ينبني على رفض مديّنة الدولة داعيا إلى إحياء الخلافة الإسلامية بوصفها مؤسسة دينية، والحال أن في الأمر مغالطة مكشوفة ليس لها من سند ضمن مختلف ردهات التاريخ الإسلامي سوى تحويل وجهة السلطة إلى حكم وراثي وتوظيف النص القرآني مع حزمة من الأحاديث الموضوعة خدمة لذلك الغرض.
فالكل مدرك أن الدولة قد تحوّلت إلى مؤسسة مدنية بمجرد رحيل النبي عن عالم الشهادة والناس، وأن صحابته مهاجرين كانوا أم أنصار لم يحتجّوا في أمور السلطة وتصريف الشأن العام بالدين، بل صدروا في ذلك عن حجج سياسية توافقت بالكامل مع حاجيات عصرهم، داعيا إلى ضرورة الاقلاع عن ربط الفكر السياسي الإسلامي بمفاهيم الخلافة والإمامة والإمارة والسلطنة، مناديا بضرورة تجديده باعتماد أحدث ما بلغته مناهج البحث ونبذ الانكفاء والانغلاق والاستنارة بتجارب الإصلاح الديني الذي أنجزته الحضارات المتقدّمة. لأن المعضلة لا تكمن في التناقض بين الديمقراطية والإسلام في مجال تصريف الشأن العام، بل في تعقّد النظرة إلى الإسلام باعتباره دعوة دينية تفرّعت عنها منظومة تشريعية[51] يحسن أن نعهد بقراءتها فكريا إلى هياكل جامعيّة وبحثيّة راقية متعدّدة التخصّصات، يُنجز المنتسبون إليها أبحاثهم في ضوء أحدث المناهج وبمنأى عن جميع الضغوط والمشاحنات، حتى نتمكن من فتح أبواب الاجتهاد التي أوصدها دعاة فضائيات الإسلام السياسي السني الوهابي خلال عشريات مديدة، ونفرّق بشكل لا يحتمل اللَبس بين النص الديني والفكر الديني الذي هو نتاج تراكم واجتهاد بشري قابل للقبول والنقض.
شدّد مؤلف كتاب "دفعا عن الحرية" ضمن مساهمة حملت عنوان "الشريعة والدستور"[52]، وكتبت بالتزامن مع السجال الحاصل تونسيا حول مناقشة أعضاء المجلس التأسيسي للفصل الأول من الدستور التونسي الجديد واعتبار جانب منهم بضرورة التنصيص على أن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع الأساسي، على أن في ذلك مغالطة مفضوحة تحرّكت من وراء ستار، لأن الجميع مُدرك تباين الآراء بل وتناقضها قديما وحديثا بخصوص تأويل النصوص الدينية بين المشرّعين حتى ضمن المذهب الواحد، فما بالك بتعدّد تلك التأويلات حالما يتعلق الأمر بمذاهب شتى ومدارس متنوعة وسياقات زمانية وتباينات في المكان أيضا، يتعارض جميعها مُطلقا مع دواعي التماثل. وتمثّل سنده في جميع ذلك في نضال نخبة من مصلحي أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن الذي يليه من الزيتونيين وغيرهم، الذين لم تجنّبوا التعرّض إلى مثل تلك المسالك المغلقة و"عالجوا قضايا زمانهم وعيونهم ترنو إلى المستقبل"[53] مجدّدين بذلك العهد مع اجتهادات المسلمين واجتهادات غيرهم. فقد قاموا بطبع مقدمة ابن خلدون لتسهيل تداولها بين أوسع القراء وترجم الطهطاوي مؤلف مونتسكيو Montesquieu "تأملات في أسباب عظمة الرومان وانحطاطهم Considérations sur les causes de la grandeur des Romains et de leur décadence"[54]، "مدركين [بذلك] أن الوعي بأسباب التدهور يمثل خطوة ضرورية لـ[تجاوز المعوقات و] تحقيق النهوض [مجدّدا][55]. وهو ما عمد إلى انجازه الجنرال حسين (1828 - 1887) تونسيا لما تصدّر لترجمة سيرة "نابليون بونبارت Napoléon Bonaparte" (1769 - 1821) إلى اللغة العربية، وتوّج ذلك أحمد فارس الشدياق بتأليفه لـ "كشف المخبأ من فنون أوروبا"[56]، عارضا على قراء أثره البهيج صورة تفصيلية دقيقة عن الحضارة الأوروبية وعن أشهر أعلامها وآثارهم القيّمة وأضخم معالمها وأهم الأحداث التي عاينتها، بعد أن قضّى ربع قرن في التنقل بين مختلف بلدان تلك القارة وممالكها المتقدمة وتدبّر أسباب أحوالها الناهضة. وبقدر ما انكب السلف من المصلحين على فهم أسباب تأخر المسلمين وتجاوز ركودهم الحضاري بالاحتكام إلى العقل والبحث عن مواطن التحديث والتجديد، انشغل خلفهم حاضرا بما وسمه المؤلف بـ"الثنائيات المفزعة" التي ما انفكت قنوات البترو- دولار المبشّرة بـ"إسلام أمريكي" ذا منزع وصوليّ مفضوح" يحذق اللعب على الذقون ويروّج للسجال حول مسائل تافهة لا تخرج عن إطار الإثارة الرخيصة مثل الغزو والجاهلية الجديدة، والديمقراطية والشوري، والدولة المدنية وتطبيق الشريعة، والعلمانية والإسلام، والدولة والخلافة، والنظام البنكي الربوي والصيرفة الإسلامية، وهو ما استتبعه زرع لبذور الرداءة والفتن ونسف لمؤسسات الدولة وتدبير بليل لـما أسماه بـ"بلقنة" العالم الإسلامي[57].
وليس بعيدا بعد جميع ما ذكرنا أن مؤلف مختلف هذه النصوص وغيرها من بين تلك التي نأمل أن تعرف قريبا طريقها إلى النشر، قد بقي وفيّا، وبعد رحلة طويلة لازلت تحفل بنتائج أيامه وأعماله وتكشف عن كفاءته النادرة في استيعاب تشعّبات عصر ما بعد الحداثة، لزخم المدرسة الإصلاحية الحداثية، مستلهما في جميع ذلك مقولة مأثورة وردت ضمن فاتحة آثار من تصدّر وبُعيد سنوات المراهقة الأولى لتقديم عصارة أعماله لقراء الصحف اليومية تونسيا عند أواسط خمسينات القرن العشرين ونقصد المفكر الأزهري "خالد محمد خالد" (1920 – 1996) : "الإسلام لم يأت ليعلمنا أخلاق الصوامع... بل ليعلمنا أخلاق المدينة"[58] 



لطفي عيسى
 أستاذ التاريخ الثقافي بجامعة تونس 


[1]  وردت هذه الصيغة التي ارتضيناها عنوانا لمختلف العروض المتصلة بالقراءة في جوانب من مسيرة الأستاذ الجنحاني ضمن افتتاحية ملحق "أدب وثقافة" الصادر يوم الجمعة 20 أوت من سنة 1965 التي اختار المحتفى به تخصيصها لترجمة مقتطفات من خطاب "قوته" إلى الشباب. وهو خطاب أدرجت ترجمته الفرنسية ضمن كتاب يحمل عنوان:
Goethe (Johann Wolfgang von), Poésie et Vérité, souvenirs de ma vie, trad. Pierre du Colombier, Aubier, Paris 1992. 
[2]  الجنحاني (الحبيب)، سيرة ذاتية فكرية، الشركة التونسية للنشر وتنمية فنون الرسم، تونس 2008.
سمر على ضفاف السان، نقوش عربية، تونس 2009.  
[3]  سيرة ذاتية...، م س، ص 26
[4]  سيرة فكرية، م. س، "مرحلة النشأة ص ص 4 – 26.
[5]  نفسه، م. س، ص 31.
[6]  نفسه، م ,س، ص 39.
[7]  نفسه، ص ص، 56 وما يليها.
[8]  أنيس (عبد العظيم) العالم (محمد أمين)، في الثقافة المصرية، ، دار الأمان، الرباط 1988 (انظر مقدمة الطبعة الثانية بقلم المؤلفين).
[9]    Abdel-Malek (Anouar), Égypte, société militaire, Paris, Le Seuil, 1962.
كما يمكن الرجوع أيضا إلى مؤلف نفس الكاتب:   
عبد الملك (أنور)، المجتمع المصري والجيش 1952 - 1967، نشر كتاب المحروسة، القاهرة 1968. 
[10]   العمل افتتاحية ملحق أدب وثقافة بتاريخ الجمعة 10 ديسمبر 1965.
[11]  عيسى (لطفي) بن خليفة (رياض) بن يدر (كريم)، البعد الإفريقي في السياسة الخارجية التونسية 1956 – 1986. نشر المعهد العربي لحقوق الإنسان، تونس 2016.  
[12]  سيرة ذاتية، م . س، الهجرة الثالثة، ص 68 – 120.
[13]  عيسى (لطفي)، "ماي 1968 : أي أفق للحريات الشخصية إزاء ربقة المواضعات الاجتماعية"، موقع الأوان الثلاثاء 6 ماي ً2008 .
[14]   كنت قد اقترحت على الأستاذ الجنحاني العودة إلى هذه التجربة الصحفية لأواسط ستنات القرن الماضي والمتمثلة في إشرافه على هذه الورقات الثقافية من خلال تقديم محتوياتها واستخلاص التوجهات التي قادتها والمبادئ أو التصوّرات التي دافعت عنها أو ناضلت من أجلها.  وهو ما شاركني الاقتناع بجدواه وأمدني مشكورا بمختلف الأعداد التي يمتلكها من هذا الورقات الأسبوعية وجملتها ستون 60 عددا، غطت 17 منها فترة الستة أشهر الممتدة بين 9 جويلية و24 ديسمبر 1965، في حين شملت بقية الأعداد الـ 43 التسعة أشهر الممتدة بين 7 جانفي و7 أكتوبر 1966.  
[15]  صحيفة العمل، الملحق الأسبوعي "أدب وثقافة" افتتاحية العدد الأول بتاريخ الجمعة 9 جويلية 1965 بقلم الحبيب الجنحاني.
[16]  نفسه، العدد 2 بتاريخ الجمعة 23 جويلية 1965. ليس بنا رغبة في السجال بخصوص الأهداف التي كانت وراء صدور مثل هذا الملحق الثقافي بجريدة العمل الناطقة باسم الحزب الحاكم. فقد بدا واضحا حضور تلازم بين السياسة المتّبعة من قبل القائمين على الشأن الثقافي تونسيا وعلى رأسهم الشاذلي القليبي وبين الدور الفكري والتعبوي الساند الذي عاد لهذا الملحق تحديدا. 
[17]  نفسه، ملحق "أدب وثقافة" الجمعة 20 أوت 1965، مقتطفات مترجمة من خطاب "قوته" "إلى الشعراء الشبان" ترجمها من الألمانية إلى العربية الحبيب الجنحاني.
[18]   نفسه، ملحق أدب وثقافة، الصادر بتاريخ الجمعة 24 سبتمبر 1965 انظر مقال الحبيب الجنحاني "مصدر جديد عن المتنبي".   
[19]  نفسه، ملحق أدب وثقافة، الصادر بتاريخ الجمعة 1 أكتوبر 1965. 
[20]   نفسه، ملحق أدب وثقافة الصادر بتاريخ الجمعة 24 ديسمبر 1965.  
[21]    نفسه، ملحق أدب وثقافة الصادر بتاريخ 24 ديسمبر 1965. هشام جعيط، "أمراض الفكر التونسي".
[22]  نفسه، ملحق أدب وثقافة الصادر بتاريخ 19 أكتوبر 1965 ويحمل عنوان "الاتجاهات الجديدة في مدرسة الرسم التونسية".
[23]  نفسه، ملحق أدب وثقافة الصادر بتاريخ 10 ديسمبر 1965 وتحمل افتتاحيته التي خطها الأستاذ الجنحاني عنوان:  " ليس بالفكر وحده يعيش الكتاب"
[24]  Duvignaud (Jean), Sociologie du théâtre. Essai sur les ambres collectives, Paris Presses Universitaires  de France 1965 (thèse principale ès lettres)
[25]    نفسه، ملحق أدب وثقافة العددين الصادرين بتاريخ 21 و28  جانفي  1966 وتحمل افتتاحيته العدد الأول عنوان "المسرح فلسفة ورسالة" حيث يذكّر ضمنها الكاتب بمقولة "برشت" المشهورة " إن المسرح أصبح يقدم فرصة للفلاسفة، ولكن ليس للفلاسفة الذين يشرحون العالم وإنما لأولئك الذين يرغبون في تغييره".
[26]   نفسه، ملحق أدب وثقافة العددين الصادرين بتاريخ 16 مارس و4 أفريل 1966.  
[27]  نفسه، ملحق أدب وثقافة، العدد الصادر بتاريخ 29 أفريل 1966 مقال بعنوان "سنيافسكي ودانيل أمام قضائهما".
[28]  نفسه، ملحق أدب وثقافة الأعداد الصادرة بتاريخ 15 و29 أفريل و 6 و 13 ماي 1966.
[29]   نفسه، ملحق أدب وثقافة، افتتاحية عدد 29 أفريل 1966 "حرية الكلمة 2".
[30]  نفس الملحق والمقال.
[31]   نفسه، ملحق أدب وثقافة الصادر بتاريخ الجمعة 6 ماي 1966 من قضايا الفكر "حرية الكلمة 3".
[32]   نفسه، ملحق أدب وثقافة الصادر بتاريخ الجمعة 13 ماي 1966 من قضايا الفكر "حرية الكلمة 4".
[33]  نفسه، ملحق أدب وثقافة الصادر بتاريخ الجمعة 6 ماي 1966 الجزء الثاني من تغطية استنطاق يولي دنيل وأندري سينيافكسي المنقول عن صحيفة "لوموند" البارسية الصادرة بتاريخ 19 أفريل 1966. "سينيافسكي ودنيال أمام قضاتهما" تعريب رؤوف الإمام. 
[34]  نفسه، ملحق أدب وثقافة الصادر بتاريخ الجمعة 27 ماي 1966. "الكاتب الصيني الشهير كومو-جو"
[35]  الجنحاني (الحبيب)، دفاعا عن الحرية، نشر بالتعاون مع دار سعاد الصباح للنشر والتوزيع / الكويت، الطبعة الأولى 2012
[36]  نفسه، ص ص، 7 – 8.
[37]  أصر الأستاذ الجنحاني مشكورا على مدي بنسخة ما قبل النشر من تقديمه للطبعة الجديدة، وكأنه أدرك ما عقدت العزم على انجازه ضمن المحور الثالث والأخير من هذه العروض، تأمّلا لما آلت إليه الثورات العربية. وهو ما تومئ إليه الاستعارة التي وضعناها كعنوان لهذا القسم "الفجر فجران كاذب صادق"، مثلما سنفصّل القول في ذلك ضمن بقية محتويات هذه المساهمة.  
[38]  دفاعا عن الحرية، م. س، ص ص، 15 – 16.
[39]   نفسه، ص ص، 19 – 51.
[40]  نفسه، ص 32 "جدران تفصل بين أبناء الشعب الواحد" .
[41]    Glissant (Edouard) Chamoiseau (Patrick), Quand les murs tombent. L’identité nationale hors-la-loi ? Galaade Editions, Paris 2OO7.
[42]  نفسه، ص 45.
[43]  نفسه، ص 46.
[44]  نفسه، "الثورة العربية إلى أين؟" ص ص، 55 – 62.
[45]  نفسه، ص 74.
[46]  كرو (محمد)، "نحن نسير قدما نحو وضع ما قبل سياسي"، حوار أجره لطفي عيسى وشكري المبخوت صدر ضمن مجلة الفكر الجديد عدد مارس 2015.
[47]   دفاعا عن الحرية، م. س، ص 98.
[48]  نفس المرجع والصفحة.
[49]  نفسه، القسم الرابع "الإسلام بين التسييس والتجديد الفكري"، ص ص، 109 – 189.
[50]  دفاعا عن الحرية، م.س، ص 113.
[51]  نفسه، "الإسلام والديمقراطية"، ص 122.
[52]  نفسه، "الشريعة والدستور" ص ص، 142 – 153. 
[53]  نفسه، ص 154,
[54]   
Montesquieu (Charles), Considération sur les causes de la grandeur des Romains et leur décadence. Première édition, Amsterdam 1762.   
[55]  دفاعا عن الحرية...، م س، ص 155.
[56]  الشدياق (أحمد فارس)، كشف المخبأ عن فنون أوربا، طبعة دار الكتاب المصري ومكتبة الإسكندرية ودار الكتاب اللبناني 2012. (صدرت الطبعة الأولى سنة 1866)
[57]  دفاعا عن الحرية...، م س، ص 158 – 159.
[58]  خالد (خالد محمد)، من هنا نبدأ، نشر دار الكتاب العربي، القاهرة 1950.  (الطبعة الأولى).  





Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire