mardi 2 janvier 2018

منجز المؤرخ العالم وتأملات المسلم القرآني



















      
          محمد الطالبي مؤرخ تونسي خبر البحث في تاريخ إفريقية الوسيط لا تحتاج أعماله الكثر لمن يعرّف بها أو لمن يقدّمها لجميع المشتغلين في مجال الدراسات التاريخية والحضارية المتصلة بمجالات المغرب والأندلس في الفترة الوسيطة. فقد انطلقت أبحاثه كمُبَرِّز في اللغة العربية وأستاذ للتاريخ الوسيط من خلال تحقيق كتاب "المخصّص" لعلي بن الحسن الأندلسي المعروف بابن سيده سنة 1956 ليناقش سنة 1966 أطروحته حول "الإمارة الأغلبية" وينشر بعد ذلك بسنوات (1973) مؤلفه "ابن خلدون والتاريخ"، فـيجمع في كتاب مفرد مقالاته حول "تاريخ إفريقية والحضارة الإسلامية الوسيطة" في اللغتين العربية والفرنسية في بداية ثمانينات القرن الماضي.
تمحّضت كتابات الطالبي بعد هذه المرحلة وبشكل مطلق لتدبّر مختلف القضايا التي طرحتها ولا تزال المسألة الإيمانية لدى المسلم المعاصر، معوّلا في جميع ذلك على شخصيته المولعة بالمعرفة العالمة وبيئته الأسرية المحافظة المنغرسة في ضرب من "الإسلام الشعبي" اليقيني. وتمكّن الراحل بفضل هكذا توجّه من الانخراط في مجال رحب اشتغل على "الإسلاميات" المعاصرة من وجهة نظر نقدية، حيث تمحورت تساؤلاته حول توضيح مقاصد النص الديني المؤسس وتبيان معنى الحقيقة في الإسلام. ونستجلي ذلك من خلال ما أصدره تباعا منذ تسعينات القرن الماضي وحتى قبيل رحيله بسنة عن عالم الشهادة والناس، على شاكلة مؤلفه الحواري "عيال الله" 1992 وكذا كتبه الصادرة تباعا مثل "مرافعة من أجل إسلام معاصر" 1998 و"كونية القرآن" و"مفكر حر في الإسلام" 2002 و"أمة الوسط" 2006 و"ليطمئن قلبي" 2007 و"قضية الحقيقة" 2016.
تثير جميع هذه المؤلفات ضرورة مساءلة التصوّرات الضيقة التي تسم تعامل التونسيين مع المسألة الإيمانية، والطرق الكفيلة بتجاوز الانكفاء ووضع التوجهات التقليدية موضع أزمة قصد بناء حوار مثمر أو منتج للدلالة، مع عدم التهيّب من المساجلة والاحراج في حق جميع القانعين بمواقفهم النمطية سواء من بين دعاة المحافظة أو الغلوّ في الدين، أو من بين أولئك الذين أضمروا باسم حداثة واجهة القطع مع المسألة الروحية والتشنيع على التديّن اعتقادا وممارسة.
عالج الطالبي ضمن إسهاماته الكُثر في التفكير الإسلامي مسائل خلافية تحيل على المعنى العميق للإيمان والحاجة إلى إعمال الفكر فيه حاضرا، وتوضيح الخلل الحضاري للمسلمين عامة ولنخبهم على وجه التخصيص، وضرورة الاستفادة من التجارب الفكرية المتنوّعة في طرح المسألة الروحية بغية مصالحة المؤمن مع دينه ومساعفته في مواجهة وصاية من تصدّروا سرا وعلانية لصد العقول عن إعمال الرأي وتعقبّ تصرفات الناس والتشنيع عليهم في دينهم ودنياهم. فـ "حيرة المسلم المعاصر" تحتاج إلى تدبّر عميق يمكّن من إدراك مقاصد النص المؤسس ويراعي تطوّر الحاجيات الروحية المتعارضة بشكل صارخ مع التصوّرات الفلكلورية السائدة للإسلام، تأصيلا لمدلول الإيمان وفهما لجوهره الذي يُعلي من شأن الإنسان في الحياة وما بعدها. لذلك حرص الطالبي على التصدّي لواقع الاستقطاب بين الداعين إلى تجاوز المسألة الدينية باسم الانخراط في الحداثة الكونية، وبين الحاملين للواء الهويّة الثقافية والدينية الإسلامية، لأن أخطـر ما في ذلك الاصطفاف هو تسطيح الواقع الفكري للمسلمين مع عدم نجابة مربكة في تخطي الصعوبات القائمة ورفع تحديات الاشتراك في العيش بذكاء.
فقد ظل مقتنعا طيلة العشرات الثلاث الأخيرة من حياته بأن تجاوز "الوعي الحداثي المُستعار" مرتهن بتبني الفكر النقدي في صيغه المتعدّدة، وعدم التهيب من الخلاف والسجال حتى وإن قلب ذلك المسألة الإيمانية برمتها رأسا على عقب، فتحقيق التقدّم المنشود لديه مشروط بالاستنارة تلك التي تشكل من منظوره الخاص واقدا حقيقيا لفكر الفرد المؤمن المتسلِّح [وعلى حدّ عبارة حميدة النيفر الرائقة] "بفاعلية نقدية وتاريخية ومدنية"[1] أيضا.
على أن ما تصدّر الطالبي لإنجازه من موقع المناضل الغيور على إيمانه وعَرَضَهُ على قرائه وجميع من نافحوه ضمن مؤلفاته الكثر يطرح مع ذلك عدة تساؤلات مربكة، فالأستاذ “الطالبي” يعرض على أضرابه من داخل الجامعة التونسية ومن خارجها وبعد عشريات مديدة من معاناة مصاعب البحث المعرفي، أسئلة لا نخال أن من خبر مثله التعامل مع فخاخ الآثار التراثية والنصوص التاريخية لم يكن مدركا لحدود الإجابة عنها.
فقد أثار بلا مقدمات إشكالية مطلق الإيمان بما جاء به النص القرآني، من دون أن يحدّد سياق تصوراته ولا الجمهور الذي توجّه له بالخطاب. فحتى وإن بدا لنا واضحا أنه قد صاغ خطابه رأسا لمن وسمهم ضمن بيانه الممهور "ـليطمئن قلبي" إلى "الحائرين و[...] المغرّر بهم [كذا] من عموم المؤمنين"، وأن من تمام حقه أيضا أن يعلن للملإ عن تمسّكه بما احتوى عليه الكتاب المقدس دون سواه، فإننا نعتقد أن الشرط التوجيهي في القبول بذلك لمن تمرّس مثله على سجلات التاريخ وكتب التراث هو ضمان مسافة أمان كافية والانتصار للحياد المعرفي دون سواه.
فقد توهم أستاذنا الجليل، وفق منهج سجالي لا تخطئه كل عين بصيرة، أن لا شيء يفصل بين المعرفة والإيمان، والحال أن مغامرة البحث ليست على نفس تلك الشاكلة بالمرّة. فقد "نطمئن" كما كان حاله إلى مدلول متعالي للخطاب الديني، دون أن نترك مجالا لتسلل السجال حال التصدّر لدحض مسلمات أولئك الذين اعتقدوا في جدوى تنـزيل نفس الخطاب المقدس منـزلة الفعل البشري.
عند هذه النقطة أصرّت تأملات الطالبي على تشغيل آليات السجال المنفلت من خلال وصم مخالفيه في التوجه أو الرأي عنتا بـالدفاع عن الفكر التبشيري أو بـالدعوة إلى إعادة فكرة الله إلى التراث الديني اليوناني، متغافلا في حق نفسه عن زلاته الكُثْرِ، فاعلا منحازا للسياسة الرسمية داخل الجامعة وحلقة تنفيذ مباشرة للسياسة الثقافية المُسقطة طوال عهدة الرئيس الأول لدولة الاستقلال تونسيا، ثم انقلابه المربك بعد أن "فُطم" عن ممارسة السياسة من الضدّ إلى الضدّ، وجميعها أمور تشرّع شكّنا في حقيقة التزامه النضالي وسلامة توجهاته الإيمانية. فقد ترصّد الطالبي هنات مخالفيه المعرفية دون حق، متناسيا أنهم بَشَرٌ دعوا مثله -وإن كابر- إلى مطلق الفضيلة، متمسكين بمكافحة الروايات المتاحة عن غابر الأحداث، دون أن يملكوا لمناهجهم حجّة حسم أو حقيقة مطلقة وتلك قمّة الإيثار، حتى وإن اثبتت براهين الطالبي الدامغة أن تصوّراتهم المعرفية لم تصادف دائما الصواب.
فالطالبي رجل علم آثر الإيمان على ما سواه، وغيره رجال إيمان آثروا خوض تجربة البحث دون استباق لنتائجه، فهل يتعيّن على المؤمن أن يشنّع على من استمسك بالمعرفة دون سواها مستكثرا عليه تشوّفه تجاوز "فساد الزمان وأهله"؟
فلمن يا ترى انتصرت تأملات الطالبي القرآنية وهو أعلم بأن ما كشفت عنه لا يُزيل غشاوة ولا ينضج تمرُّسا على مضمون الاشتراك في الحياة ومواجهة المصير بحرية وإباء. يَصْدُقُ “الطالبي” عندما يقارع الحجّة بالحجّة، ويتلوّن أيّما تلوّن عندما يجافي ما تعلّمه طالبا وباحثا ثم نقله لغيره مشرفا ومكوّنا، مكتفيا بإعلاء حجة الإيمان على ما سواها. فلسنا على يقين من أن تساؤلاته بخصوص معنى الوجود وما بعده يمكن أن تحتملها علوم الإنسان، حتى بعد أن تطورت مناهجها ونماذج بحثها القابلة بنسبية العقل، الرافضة لكل حتمية حاضرا. لذلك لم يتخط فقيدنا موقع المساجلة في تعامله مع الغيريات العقدية والفكرية، حتى وإن أصرّ على إثبات عكس ذلك لأنه رجل إيمان يُعمل مِعْوَل الشكّ بهدف نشر الاطمئنان في النفوس القلقة، دون أن يجرؤ على القبول بالواقع احتمالا أو تمثُّلا من خارج منظور الحدود التي وضعها له، حتى وإن أزرى تصرفه بتشوّف وجدانه إلى الخلاص بوصفه مطلبا بشريا يتعدى حدود ما نادت به جميع الأديان، مكتفيا بتعقّل الفعل البشري وفق منطق النفع والضرّ دون سواهما. لذلك كان غالبا ما يشتد انفعاله ضد كل من يُقدم على تشغيل معول التفكيك في الخطاب المقدّس بوصفه نصا منزّلا ومعجِزا، محذّرا من مغبة الوقوع في تضليل أو ادعاء القدرة على التنقل بحرية مثيرة بين الأرض والسماء، نظرا لتعارض ذلك مع قداسة القرآن بالحجّة والدليل. فالفارق في الشأو بيّن في تصوّره الطالبي دائما بين "يسوع الإله" الذي "كان يزور بيوت العاهرات فيسرعن لإرضاء رغباته" والنبي محمّد، وهو "رجل ككل الرجال… يأكل ويشرب ويغضب ويرضى ويتألم، ويهوى ويشتهي ويحب ... مع أنه أنه لا يأتي محرّما أو فسوقا أبدا" !
لذلك اقتصّ الطالبي في استهداف شنيع من جميع من خالفوه الرأي في مسائل لا تلغي جوهرية مقاصدها اتصالها بحياة البشر بل وتحدرها من رحم حياة كائنات طينية ناقصة. فتعقّب ببرودة مخزية خطابات خصومه أسرارا مَشْفُوهة ونصوصا مكتوبة، وتعمّد التحريض ضدهم في أشنع أشكاله، معتبرا أقوالهم منتهى التضليل والنفاق، لأن “الحرية” التي جدوا في طلبها مُطلقَة لا يقيّدها سوى ضمير طالبها، والحال أن الأخلاق أو الضوابط بوصفها "مواضعات اجتماعية" قابلة للتحوير غير مُلغية بالمرّة للخوض في تصرفات “المثليين” أو "اللواطيين" وجميع من لم تصب تصرفاتهم لدى غالبيتنا غير الازدراء والتجريح.
لبّ الحوار إذا ما تملّينا منطق معظم مؤلفات الطالبي الجدالية يكمن في "الاحتساب" على الناس، بل وعدّ الأنفاس على مخالفيه رأيا وتوجّها، لأن مطلق الحقيقة في تصوّره لا يوجد خارج النص القرآني ذاته، لذلك فليس لأي مسعى خارج تأوُّل بيانه وبمنطق الراسخين في العلم من غاية ترجى في انقشاع الغمامة وتوضيح الرؤى ونحت المصير.




[1]  النيفر (حميدة)، الراحل محمد الطالبي ومعضلة الحقيقة، مجلة ليدرز العدد 17 بتاريخ 15/5/2017.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire