lundi 15 avril 2019

أخبار التونسيين











  
       تراجع هذه العروض جملة من المفاهيم الإجرائية والمنهجية التي وظفناها لتركيب مضامين مختلف فصول هذا الكتاب، وهي مفاهيم عاينت في غضون العشريات الأخيرة تحوّلات فارقة، ساهمت ولا جدال في تطوير نظرتنا إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية بوجه عام، كما دفعت بنا إلى إعادة النظر في مهنة المؤرخ تخصيصا.
وليس بعيدا أن يكون لطبيعة المدونة المصدرية التي عوّلنا عليها في بناء لحمة هذا الأثر ونسج سداه، اصرة وثيقة بما نحن بصدده من مراجعات منهجية تحيل على أبستمولوجيا المعرفة التاريخية وفلسفتها. فقد انصبّ تركيزنا ضمن هذه المغامرة على مقاربة مدونات مخصوصة لم توضع آثارها بغرض التأريخ، بقدر ما حُبرت بغاية الحفاظ على مخزون تراثي غير مادي تضمّن مرويات أو حكايات خرافية منقولة عن صدور التونسيات والتونسيين، كما دوّنت مجامع أمثالٍ وعِبرٍ وخواطر أفاضت عن عميق حكمة الأسلاف والأجداد.
ولم تقف المتون التي عولنا عليها في تركيب عروضنا التأليفية عند هذا الحدّ، بل أدرجنا ضمن اهتماماتها أيضا مؤلفات تبيّن لنا حال الاطلاع على مضامينها إسهامها نقلا ونشرا في توسيع أفق تمثّل المتعلمين من التونسيين لمدلولي الزمان والمكان، وتوضيح المشترك في تواريخهم، بردّه إلى روابط غُيبت أو أُقصيت عن مجال ذاكرتهم الجماعيةـ وحُجبت عن الأساطير المؤسسة لانتمائهم الجمعي، ومظان غير مقصودة بات لحضورها دور محوري في بناء شخصية التونسيين وربط أيامهم وأعمالهم بفضول الـمُقبلين على الحياة والعاملين على تبديل الواقع سعة بعد عوز، ورخاء بعد شدة وعزة بعد مهانة.
كما تعقب بحثنا أيضا مضمون عينات من المقابسات أو المقاربات الموضوعة بغرض مراجعة عادات التونسيين وتقاليدهم أو التعمّق في خصوصيات شخصيتهم، وذلك وفق تصوّرات بدت لنا متأثرة بتوجهات استشراقية غير خافية أو منخرطة بقدر غير قليل من السذاجة في الاعلاء من قيمة المنجز الاستعماري، اتصل الهدف من استحضارها بالقراءة في سلوكيات التونسيين ورصد ما يحيل على أقوالهم وأفعالهم وآدابهم وتصرفاتهم، تحديدا للثابت والمتحوّل في شخصيتهم.
انطوت المرويات الخرافية على جنس أدبي تفرّع إلى جملة من الأنماط ربط بينها اتكاء جميعها على الخارق والعجائبي في بناء السرد، حيث دارت معظم الوقائع المشكّلة للحكايات التي اشتغلنا عليها حول تصوّر تم تركيبه بشديد الدهاء والمخاتلة، بحيث لم ينشغل القصّ بتوصيف ما هو حاصل في الواقع المعيش، بقدر ما انشد، إذا ما تدبّرنا علّة وجوده، إلى اقتراح توصيف لواقع مُواز تحوّل إلى نوع من الاستعارة ناضد بين عالمين، يشغل ضمنهما المتخيل عنصر تفسير وإيضاح لما يحيل عليه عالم الشهادة والناس أو العالم الواقعي المعيش.
ضمن هذا الإطار تحديدا نستطيع أن ندرج جميع الخرافات التي عمدت إلى رد أحداث الماضي إلى عوالم روائية أو خيالية لا تضيق بخرق العادة، على غرار الخرافات والمرويات والحكايات المنشدّة إلى الغريب والعجيب، حتى وإن ركّزت المقاربات التحليلية للأدب الروائي في تصوّر العارفين بتقنيات السرد الأدبي على قدرة العجائبي على خلق عالم منفتح على خرق العادة، في حين بقيت مختلف الأجناس الأدبية المتفرّعة عن ذلك غير قابلة لمثل ذلك الفصل بين العادي والخارق، بين المنتظر وغير المنتظر، بين الـمُمكن والمستحيل[1].
ومهما تزايدت غرابة تلك الوقائع وبدت منشدة إلى الاغراق في التخيّل، فإن العوالم التي عمدت إلى نسجها روائيا قد بقيت خاضعة، في آخر التحليل، إلى المنطق الناظم للتصرّفات المدركة للبشر. ويعود السبب في ذلك إلى عدم القدرة على استنباط مناخات مفارقة تحيل على عوالم غريبة عن العوالم التي اعتاد المتلقي على العيش داخلها. إذ تحيل جميع تلك العوالم في عميق مضامينها على الطبيعة البشرية.
كما أن ما عرضته من حكايات لا يعدو أن يكون سوى نوع من الاستعارة لتصرفات لها علاقة وطيدة بـمُدرك سلوك التونسيين العادي. لذلك لعبت الاستعارة دورا أدبيا أو بلاغيا سمح توظيفه ببناء عوالم متخيَّلة أحالت في حقيقتها عمّا سواها، وذلك تفاديا لصعوبة تمثّلنا لما ينطوي عليه الواقع من تشعّب وعدم قدرتنا على التعبير عن ذلك أو توصيفه بطريقة عادية[2].
يشكل هذا الأسلوب الأدبي والجمالي وفقا لنفس المباحث "استعارة مُرَشحة" أو "منسوجة" (Prolongée ou filée)، سرعان ما تأخذ شكل "الأليغوريا المبتكرة" (Allégorie - invention) كلما تحوّلت إلى مروية مكتملة. وهو واقع معظم الحكايات الخرافية التي اخترنا تفكيك البعض من مُضمرات خطابها في سياق العروض التي خصّصناها للفصل الأول من هذا الكتاب، وذلك بطريقة تسمح للمتلقي بفهم ما انطوى عليه السرد الروائي في الخرافات الشعبية التونسية من تقنيات تشبيه واستعارة أنطقت الحيوانات (برّيّة كانت أو أليفة) واستحضرت الأغوال، والجنيات، والأنبياء، وملائكة السماء، وشياطين الإنس والجنّ، تعبيرا عن تهيّبِها من مفارقة المعلوم إلى ما سواه، وتعويدا للمتلقي على التواصل مع الوجود واكتناه ما بعده، بتوظيف بلاغة الخاطرة ضمن الأمثال الـمُندسّة بتدبير وحكمة في تجاويف لغة التخاطب أو لهجة التونسيين، بُغية تبليغ المقاصد التي تحتاجها عملية الانتقال من لهو الطفولة وسعة خيالها إلى ما يفرضه العيش المشترك من تنازلات، وما يتضمّنه الواقع من إكراهات نحتاج في مجابهتها إلى استعمال ملكة العقل والتدبير حفاظا على النفس والنفيس[3].
فمجرد تجاوز ما اختصت به الخرافات من حضور مكثّف للأغوال والجنيات وغيرها من المخلوقات الغريبة، فإن المعاني التي ينطوي عليها السرد تنفتح على حزمة من القيم السامية تم التعويل في استجلابها على تشغيل آليات التسلية واللهو أو تزجية الوقت، وذلك بغرض توفير شكل مخصوص في نقد الواقع المجتمعي وتقريب العديد من التصوّرات والمفاهيم الأخلاقية العويصة من ذهن الـمُتلقي. وهو ما أثنت عليه العروض المدرجة ضمن العديد من كتب النقد الأدبي، تلك التي عمدت إلى توضيح مختلف التقنيات المتصلة بالأدب الروائي باعتبار اتساع القصّ لجملة من التصورات يعسُر إثارتها بالتعويل على أليف التصرّفات التي تُؤثث حياتنا العادية.
فقد ارتبط تركيب الأخبار التاريخية منذ البدايات بفن البلاغة والقصّ[4]، حيث وضعت العروض التي خلفها المؤرخ الروماني "شيشرون Cicéron" في غضون القرن الأول قبل الميلاد ضمن أثره الموسوم بالخطابة De Oratore[5]، مسافة أمان بينها وبين مختلف أشكال الكتابة التاريخية التي سبقتها، وهي كتابة انشدت إلى تصوّرات حوليّة مغرقة في العرض الخطّي، ومكتفية باستحضار الأحداث السياسية التي لا يرتقي أسلوبها التقريري إلى مستوى القصّ الروائي، باعتبار غياب التضاريس والنتوءات، وحاجتها من وجهة نظر جمالية إلى خطاب روائي مُغرٍ أخّاذ. فالمؤرخ الحقيقي في تصوّر "شيشرون" دائما، هو من تضمّنت أخباره توجّها بلاغيا مقصودا وخطابا يتوفر على البعدين الخبري والسردي أو القصصي في آن.
وغني عن الإشارة ارتباط مثل هذا التصوّر للكتابة التاريخية بالسياقات التي عاشتها الإمبراطورية الرومانية في مرحلة انتقالها من أزمة النظام الجمهوري إلى زمن الإمبراطورية، ذلك الذي اتسم بالتشديد على ضرورة احترام الضابط الأخلاقي ضمن الممارسة السياسية واستئصال دواعي وقوعها في شرك الخديعة والمكائد. فانتقلت الكتابة التاريخية بمقتضى ذلك إلى أداة لتحقيق الاستقامة ومصدرا مُلهما لبيداغوجية الكتابة الأدبية. وهو ما تفطن له الأديب الفرنسي "راسين Racine 1639 – 1699"، الذي اعتبر "شيشرون" "رساما للعهود القديمة"[6]. في حين قدر المؤرخ الروماني "تاسيت Tacite" (58 – 120م) من ناحيته أن للبلاغة في كتابة التاريخ موقعا يضاهي في قيمته وفاء واضعه لما جدّ من وقائع، مع شدّة الحذر من الانزلاق في دواعي التضليل والانحياز.
والحاصل بعد هذا أن القرون الوسطى قد عاينت شرقا وغربا تطوّرا لصناعة الأخبار التاريخية تجسّم بالأساس في انتشار التواريخ السُلالية التي أشادت بطريقة روائية غير خافية بمآثر النبلاء والسلالات الحاكمة، وهو ما استحضرته أخبار المؤرخ الفرنسي "فرواسار" (Froissart) (1337 - 1410)، مثلما تعقّبته "عبر..." مؤرخ المغرب والمشرق ابن خلدون (1337 - 1406) في حدود موفى القرن الرابع عشر.
في حين انطوت المرحلة الرومانسية في كتابة التاريخ والتي يعود انطلاقها إلى حلول القرن التاسع عشر على نُقلة جديدة في بناء الرواية التاريخية، تم التعويل ضمنها على العروض المعرفية العلمية المتبحرّة وضبط المعطيات الأرشيفية وتنظيمها وفقا للسياقات الزمنية التي انتجتها، مع عدم الاعراض في جميع ذلك على إدراج تلك المعطيات ضمن معقولية تاريخية مستندة إلى تشغيل ملكتي التحليل والتأويل. وهو ما ترتب عليه نوع من التجاذب القوي بين الرغبة في ربط العروض بمضامين معرفية دقيقة من ناحية، وتقصّي خصوصيات الانتماء أو الانتساب من ناحية ثانية. لذلك اعتبرت العروض الـمُشبعة بالحس الوطني مَوْضِعا لاشتغال هذين التصورين والتكّشف تبعا لذلك على الحقيقة التاريخية الواقعة بين العروض الحسيّة أو الذاتية من جانب، والتصوّرات العقلانية الجامعة الـمَبْنِيَّة على سرد الأخبار والبحث عمّا يحدّد معقوليتها على الحقيقة. وهذا ما أدى وبالتدريج إلى انبثاق توجّه مُـحدث للكتابة التاريخية ارتكز على رصد المسافة الزمنية وتحديد المفاصل الفارقة أو "القطائع الثورية" والتعبير عن مسار جديد مقصده البحث عمّا يشكل ما تم وسمه بـ"روح الأمة" المنخرطة في التاريخ الكوني والمتمايزة معه في آن.
وعموما لم تكتف مثل هذه الجمالية ذات النفس الرومانسي المعلن بالتأثير في الكتابة التاريخية بل اتسع تأثيرها لتُشكّل تيارا في التعبير الفني سيطر على جميع صنوف الابداع أوروبيا طوال القرن التاسع عشر، وانشغل تاريخيا بإنتاج مؤلفات راوحت بين الحاجة إلى التبحّر والامساك بتقنيات القصّ الروائي، على النمط الذي أحدثته رواية "إفانوي" التاريخية لـ "والتر سكوت" Walter Scott (1771 - 1832) على سبيل المثال لا الحصر.
فقد تم القطع مع التقليد السائد في الفصل بين الخبر والرواية، بإدماج المعطيات الوثائقية أو المصدرية والتحاليل المتّصلة بها في ثنايا السرد الروائي، التي اتسمت بتشعّبها مع قدرة على احتضان مختلف العناصر المتدخّلة في فعل الكتابة، فلم يعد من المنطقي في شيء أن يقوم المؤرخ بتفضيل الرواية على رسم الوقائع أو الاعتبار بعكس ذلك. فتوفّر التواريخ على ما يشكّل صورتها الحقيقية مشروط بعدم الوقوع في عزل الوقائع عن السرد، وهو ما يُكسب الوقائع أو الأحداث زخما مخصوصا.      
وليس هناك من تجربة في كتابة التاريخ تحيل على شدة التأثر بمثل هذا التصوّر الجمالي في نسج الاخبار التاريخية، أكثر تمثيلا من تلك التي خاضها المؤرخ الفرنسي "جيل ميشلي" (Jules Michelet) (1798 - 1874). فقد ظل على اقتناع تام بضرورة استنباط مجموعة من الاستعارات الأدبية القادرة على السمو بماضي الأمة الفرنسية وسرد ما مرّت به من محن وما قاسته من آلام، معتبرا أن نجاحها في تخطّي مختلف المصاعب التي واجهتها، هو ما شكّل حجر الزاوية في نسج سردية تاريخها المجيد على الحقيقة. لذلك انبرى "ميشلي" لإعلاء مكانة الاساطير المؤسسة لوطن الفرنسيين، وهي أساطير انبثقت في تصوّره على إثر نجاحهم في تحقيق وحدتهم الترابية، وتهيئة الظروف الملائمة لحصول الثورة ضد كل قديم وبالٍ[7].
اختار مؤرخ الثورة الفرنسية قصد التنويه بعظمة تلك الأحداث الفارقة، أن يربط كتلة الأخبار الـمُستجلبة استعاريا بمعجزة تجسّد الروح القُدس في تصرّفات الابن المسيح، موفّرا بتلك الطريقة لأحداث الثورة طقوسا شابهت عشاء المسيح الأخير مع حوارييه، وجميع ما ترتب على ذلك الحدث الفارق من دموع ودماء وإخلاص للدعوة وشغف بها، مُقْلِعًا نهائيا عن التعويل على التواريخ السلالية القاصرة - ومن وجهة نظره دائما - عن إدراك تطوّر الأحداث أو الوقائع في شموليتها، وهي أحداث ووقائع لا يمكن الاقتصار عليها كلما رُمنا تحقيق ما أصرّ مؤرخنا على نعته بــ "الانبعاث الجديد لماضي فرنسا التليد"[8].
ولئن لم يدخل في تصوّر محمد البشير صفر (1865 - 1917) مطلقا الاعتماد على ذات الخطة التي انتهجها المؤرخ الفرنسي "ميشلي" في تركيبه لسردية ماضي الفرنسيين واستعراض تواريخهم، فإن العروض التي شكّلت منجزه البيداغوجي ضمن مؤلف "مفتاح التاريخ"، قد بدت لنا مع ذلك منشدّة لتقنيات تأليف روائي عمدت إلى إعادة صياغة انتماءات التونسيين وتوثيق صلاتهم بجملة من الغيريات راوحت بين توسيع أفاقهم الزمانية عبر التذكير بمختلف الحضارات الكبرى التي طبعت تاريخ التونسيين القديم، وفتح أعينهم على تعدّد انتماءاتهم المكانية من خلال ربطها بقديم تاريخ العرب والمسلمين وسيطه، حديثه ومعاصره، مع الحرص في جميع ذلك على اطلاعهم على حقيقة اتصال ماضيهم كما حاضرهم بالبحيرة المتوسطية، والتشديد  على ما لتاريخ أمم أوروبا من اصرة وثيقة بتاريخ ساكنة إفريقية وتونس وحضاراتهم.
تحيل إشكالية زمن الخبر في صناعة التاريخ[9] على أولوية الاعتبار بالسياقات الاجتماعية التي ساهمت في بنائه، فضلا عن تثمين جهود أجيال من المؤرخين بفعل التراكم المعرفي. ويتسم تمثّلنا للزمن التاريخي بالتقلّب بين الإحساس بتسارع الأحداث أو بركودها، وهو في جميع ذلك مشابه لما يحصل ضمن الواقع اليومي المعيش. لذلك يعمد المؤرخ إلى قيس الزمان بالأيام والأشهر والسنوات أو بما هو أكثر امتدادا من ذلك أو أقل، مما يُضفى على الزمن التاريخي صِبغة اجتماعية تجعله قابلا للتقييم بشكل موضوعي.
غير أن جميع المجتمعات لم تتوفر على نفس منظومات قيس الزمن، حتى وإن درجنا حاضرا على الاعتبار بالطبيعة المنظمة للزمن وتوفّره على نقطة بداية، مع الاعتبار بحضور اتجاه تصاعدي متسق لتطوّر الوقائع. إلا أن مثل هذا التصوّر المخصوص ينخرط في الحقيقة ضمن صيرورة طويلة ساهمت في توحيد الأزمنة وربطها حال اكتمالها بطريقة في التقويم اتصلت نقطة بدايتها بميلاد المسيح. وهو ما عاينته بدايةً ممالك الغرب المسيحي في غضون القرن الحادي عشر تقريبا، ثم ما لبث أن امتد ليشمل بقية أرجاء المعمورة تزامنا مع انتشار الاستعمار في القرن التاسع عشر.
ساهم تعميم استعمال الزمن الخطّي أو زمن الرزنامة دون غيره بلا جدال في التخلّي تدريجيا عن جميع الأزمنة الدائرية أو الزراعية أو الطقسية والدينية التي سبقته. وهو ما ترتب عليه اتساع الوعي بوحدة المصير البشري أو الإنساني، وهي فكرة جديدة عمل المؤرخون والإخباريون بشكل لافت على تقريبها من الأذهان من خلال شدّها إلى قوائم تحويل أو مقابلة قرّبت بين التقويمين الشمسي المسيحي والقمري اليهودي، بحيث شكّلت جهودهم لبنة أساسية على طريق إكساب الزمن التاريخي طابعا منفصلا عن التصوّرات الدينية أو التعبّدية.
فقد خضعت جميع الأزمنة التي سبقت ذلك للمشيئة الدينية في اعتبارها للذات الإلهية مُنطلقا للزمان، بينما اعتُبرت نهاية الكون نقطة انقضائه. لذلك اقتصر السرد على تجميع أخبار السلالات الحاكمة والاعتبار بسير الملوك ومآثر الصلحاء أو القدّسين وأهل الفضل من العارفين بالدين، مع التعتيم على الفوارق بين الأمس واليوم والنظر إلى الغد بوصفه نسخة مُعادة لليوم الذي سبقه.
وبالمقابل ابتعد التصوّر الـمُحدث للزمن عن جميع ما سواه، منتهيا إلى ربط ما حصل بعدُ بما هو سابق بطريقة منطقية وعقلانية، الأمر الذي أورث الإنسانية ثورة ذهنية انجرّ عنها مع حلول القرن السادس عشر اعتقاد راسخ في فكرة حصول التقدّم وانخراط للنُخب الجديدة في تصوّر أصرّ على أن "الزمن لا يعيد نفسه إلا على شكل مهزلة"، وأنه مدعو إلى التقدم والكشف عن واقع مفارق جديد، وهو ما وضع حدّا لتناظر الماضي مع الحاضر، واستحالة "السباحة في نفس النهر مرتين "، فانفتحت التجارب التي تمت مراكمتها على أفق للانتظار توفّر على إمكانيات موضوعية للتطوّر.
هذا التمثل للزمن هو ما سانده فكر الأنوار صراحة، حيث بشّرت الثورة الفرنسية بانطواء مقتبل الأيام على وعد بالتغيير نحو الأفضل، مع انتهاء البشرية إلى إرساء زمنية جديدة أعلت من قيمة النمو الـمُطرد للإنسانية وازدهارها، معتبرة التخلي عن الإيمان بالقيم الحداثية المرتكزة على مواجهة المصير والإيمان بتطوّر أوضاع البشرية وانعتاقها وتبنّي منظومة حقوق الإنسان ودعم مكتسبات المعرفة والعلوم مضنّة للوقوع في التقهقر والعودة إلى الظلمات.
ولئن شهد القرن العشرين وكذا العشريتين المنقضيتين من القرن الذي يليه نوعا من الشكّ في اتساق مدلول التقدم البشري، واتسم التعامل مع الزمن بمواصلة الاعتقاد في تقدّم البشرية مع خشية من المخاطر التي تهدّد مستقبلها، فإن التمثّل الإيجابي للزمن لم تبله وطأة الانقطاع إلى حاضر وماض غير قابلين للمُضي في حال سبيلهما، فضلا عن عُقم المستقبل عن تجسيم نُقلة فارقة تسمح بتحقيق الخلاص للبشرية جمعاء.
هذه الصيرورة، تحديدا هي التي حاولنا التثبّت من حقيقة انبثاثها في ثنايا العروض التي تضمنتها "الرزنامة التونسية" وضمن القراءة التي وافانا بها زين العابدين السنوسي ضمن بعض "حلقات" مشروع "موسوعته" حول تاريخ الأدب التونسي في القرن الرابع عشر الهجري/ الموافق للقرن العشرين بالتقويم الميلادي. فقد مثلت الروزنامة التونسية تجربة طريفة في ضربها خاضها الجنرال مْحمد بن الخوجة (1869 - 1943) في بداية القرن الماضي لتنقطع بمجرد إعفائه من إدارة المطبعة الرسمية سنة 1916. وتعرضت مختلف المنشورات السنوية للرزنامة بشكل مفارق جديد إلى مسائل حرّكت فضول المتعلمين من التونسيين وكذا جميع الحاصلين على ملكات من بينهم، لم يكن بوسعها التداول بتلك الكيفية قبل بروز تلك التجربة وتجذّرها ضمن المشهد الثقافي التونسي زمن الاستعمار. فقد توسّع الاهتمام بالمعارف الفلكية والجغرافية والتاريخية والأدبية والإدارية والسياسية والجمالية والفنية وغيرها من المواضيع التي استظرفتها النخب الجديدة واندرجت ضمن التقاليد الوليدة للتونسي. وهو نفس ما تبين لنا حال الاطلاع على مضمون القسم المطبوع من "موسوعة" تاريخ الأدب التونسي لزين العابدين السنوسي، وهو مشروع خلُص للدفاع على نفس التوجهات التي وظفت الانقلاب الحاصل على المعالجة الأدبية التونسية شكلا ومحتوى قصد إثبات حقيقة النقلة الفكرية التي عاشتها نخب الأدب والفن، وذلك من خلال تركيزها على شواغل مُحدثة، أخذ ضمنها الإحساس بالانتماء الوطني والرغبة في التحرّر والانعتاق ومقاومة الظواهر الاجتماعية والثقافية البالية المفرطة في الحسيّة، موقع الصدارة ضمن جميع ما تمكن ممثلوها من نظمه أو نثره طوال النصف الأول من القرن العشرين.
على أن نعمل وفي جانب موازي على استدعاء عينات اتسم خطابها بكثير من الطرافة من بين زخم البحوث والمراجعات التي خطّها المنقطعون لدراسة خصوصيات الشخصية التونسية ميدانيا والعاملين على التعريف بسكان البلاد عرقا ولغة وتراثا وسلوكا وأعمالا وأياما. وهي عينات ممثِلة أثّث مضمونها الاثنو-تراثي مؤلَف محمد بن عثمان الحشايشي "الهدية أو الفوائد العلمية في العادات والتقاليد التونسية"، بينما تعرّضت لما شدّه إلى جذوره العربية الإسلامية وماضي التونسيين اللاتيني الروماني وفق قراءة مشوبة بنَفَسٍ استشراقي، العديد من الأبحاث والاستطلاعات التي خلّفها الأب الكاثوليكي "أندري ديميرسمن" (André Demersseman ).
وهكذا يتبين لنا أن تحرير مختلف الفصول المكونة لهذا الكتاب قد تم بطريقة متساندة، اتصل غرضها بمحاولة استرجاع ذاكرة ضائع الأزمنة وبالتعويل على تغيير زوايا الإضاءة أو مقاييس المقاربة في مراوحة بين "زمن الحكاية" المستندة على الأساطير المؤسسة المدرجة ضمن مدونة الخرافات الشعبية، و"زمن المجال" من خلال البتّ في كيفية توسيع أبعاد الانتماء أو الانتساب بربط تاريخ التونسيين وأخبارهم بتواريخ مجالات ثبت تأثير تاريخها في صناعة مختلف انتماءاتهم. في حين حاول ما نعتناه بـ "زمن الرزنامة" البتّ في انقلاب النظرة إلى الخبر تونسيا عبر ربطه بفضول الشعوب الراغبة في اللحاق بركب الانعتاق والتقدّم، وذلك قبل التفرغ في الأخير إلى استقراء أزمنة "الذات أو الوجدان" من خلال مراجعة عينات مختارة من العروض التي بتّت فيما ميّز شخصية التونسيين وحدّدت تطور مدلول الانتماء والإقبال على معايير وقِيَمٍ بشّرت بها حداثة الغرب المهيمنة بعد تطعيمها بما تمت مراكمته أصالة من ممارسات وعادات مألوفة شكّلت عصارة ثقافة التونسيين وحدّدت طبيعة شخصيتهم الجامعة على الحقيقة.                 



[1]    تودوروف (تزفيطان)، مفاهيم سردية، ترجمة عبد الرحمان مزيان، منشورات الاختلاف، الجزائر 2005.
[2]   ليكوف (جورج)، النظرية المعاصرة للاستعارة، (مختارات 1)، ترجمة طارق النعمان، مكتبة الإسكندرية 2014.  
[3] الخميري (الطاهر)، منتخبات من الأمثال العاميّة التونسية، الدار التونسية للنشر، تونس 1981.
بلحاج عيسى (قاسم)، الأمثال الشعبية في تونس، دار بوسلامة للطباعة والنشر والتوزيع، تونس 1977.
[4]    Delaroix (C), Dosse (F), Garcia (P), Offenstadt (N), Historiographie, II, Concepts et débats, Paris, Folio histoire, Gallimard 2010, Récit, p. 862 – 876.
[5]   Cicéron, De Oratore, Paris, Les Belles Lettres 1921.
[6]       Goyet (Francis), « Racine et le mystère de la bonne rhétorique : repérage de discours dans La ThébaïdeBritannicus et Mithridate », dans Exercice de Rhétorique, [En ligne], 1 | 2013, mis en ligne le 12 novembre 2013, consulté le 25 août 2018. URL : http://journals.openedition.org/rhetorique/98   

[7]     Michelet (Jules), Histoire de France, choix de Textes présentés par Paule Petitier, Paris, Champs classique 2013.
[8]  White (H), Metahistory: The historical imagination in nineteenth-century Europe, Baltimore and London, The Johns Hopkins University Press 1973.
[9]    Historiographies II…, option citée, p. 903 – 911.   

1 commentaire: