mardi 14 juin 2011

روائح المدينة' لحسين الواد: ذاكرة جذلة ووعي حزين



'روائح المدينة' لحسين الواد: ذاكرة جذلة ووعي حزين
لطفي عيسى
2010-11-01

 
أي غواية دفعت مؤلّف هذه المرويّة البكر إلى الخروج عن رصانة البحث المعرفي المتخصّص للدخول في مغامرة الفعل والقول الإبداعييّن؟ هل هي بعض من رغبة مكبوتة انفلت رسْنها بعد طول إلجام؟ أم هي أمْشَاج من ذكريات جذلة رُسّخت بالتقادم، أضفت عليها معاشرة مدونات الأدب وحياكة القول صوراً وأطيافا خلاسية وألوانا وروائح وأمزجة، هي إلى مَوْفُوِر صنعة النسج الروائي أدعى ممّا سواه؟
ما بنا رغبة في الإجابة عن مثل هذه التساؤلات، حسبنا دعوة النقّاد والعارفين بعالم الأدب (ولا نرى لأنفسنا دالة على ذلك) للتدقيق في مَخْبَرِ المؤلف لـمَوْضَعَةِ فعله الإبداعي ضمن سردية القول الروائي واتجاهاته، وفي انتظار حصول ذلك لن يدخل قولنا إلا من باب رد جميل بجميل أو استجلاب متعة بمتعة.
افترّ ثغر حسين الواد على ' كليمات صادفت، وفق رائق تعبير الطيب صالح، حسن الظن بها'. كليمات أَلْقَتْ بها في خُلْدِهِ شياطين ذاكرة الشمّ حول مدينة طعن حسّادها من المتقوّلين في صحة ربطها بالتمدّن، فانبرى راوية من خالص مُحبيها لدحض مزاعم الأفّاكين، جالبا من ذاكرة المعاش براهين يُرغم بها أنوف المنابزين ويثأر بها لشرف مدينته الأثيل.
فمن جامعها الأبدي القديم وخنادق معاصر زيتونها ومحل ماخورها عند فندق الوردة الذي وسّعت ' خطبة إمام الجامع الماخورية' في شهرته، إلى مرسوم سوقها الأسبوعية. ومن دكاكين صنع السمّار إلى أفران صنع الفخار والآجر ومواضع السكن بأحيائها وحاراتها الأربعة ' العرنوس والغربية والشرقية والعِمْشَان'، الحاضنة لـ ' ريحانات قلوب' مُجْلِيَاتٍ للضرّ. ينافح ناقل المرويّة جميع من شكّكوا في شأو مدينته السامق مُعرضا عن لغو الكلام، مُقدّما قولا فصلا في تجاوزها لمتواضع منـزلة القرى وتضوّع شذى روائحها الأخاذة بالألباب المذكيّة للعقول، مشدّدا على كلف سكانها بالترداد على حماماتها وإن تعقّبتهم داخلها مردة الإنس والجان تزهق أرواحاً سَهَتْ عن التعوّذ. يقترح علينا الراوية جولة في أعطاف حارة يهودها وبيعتها وسبّاطها وجمال صنيع يوسفها وشيخُ أيامها الخوالي. قبل أن يُسِرّ لنا بأحايينها وأرزائها، معتبرا تبرّج الذكور للذكور بها بـ' تفتيش جيوب بعضهم البعض الخلفية' خُلُقٌ اقتضته تقاليد الولاء والطاعة، لاختلاط مدلول الوطء عندهم بالرّق والتباس الفاعلية لديهم بالفواعل والمفعولين، مُعالجا في الإثر وَلَعهم بالتكنية وتحريف الأسماء وتغييرها، مُعتبرا أن حرصهم على مدّ قاماتهم هو دافعهم في الحقيقة إلى التعريض بغيرهم والحطّ من شأنه وإن كان لهم وليّا حميما. ' كل يبغض كلا'، الوالد والولد، والأخوة والأقارب والجيران، بيت السكن والزقاق والنفس والحياة، فـ ' الضيق هو الحقيقة الوحيدة القائمة' بهده المدينة. تطفح أخبار البيوت بشواذر ونوادر يشرد منها العقل، ما كان لعاقل أن يصدّقها لولا استحكام السحر المدسوس عميقا في نقلها بلبّ سامعيها.
يأخذنا التطّواف عند ' حبس النعجة' الذي انتبذ من مجال المدينة موضوعا عليّا صاقب المقبرة أو مدينة الأموات، في حين عاش أحياؤها في الأسافل تؤرّخ روائح عكرة لنكد حياتهم الكَدِرَة، مُنتهيا جنوبا عند ' أرض الشط' موضع سبخة معشوقة أطرافها أنبتت أشجار زيتون نحيف بِتْعٌ زيته، تخلّله كرم وتين وخوخ وتفاح وإجاص ومشمش حلو المذاق، تكتّم أصحابه على خَبِيء مزاياه، وأنواع من البطيخ والشماّم حسبُها أن تُهدى لمن زادت معزّته في القلوب. سبخة هي الجنّة والجنان والراحة والرواح ما لبث أن أصابها ضرّ ما بعده ضرّ، بعد أن طفحت منها روائح مُرْدِيَة. دس فيها المنقّبون والواعدون بـ ' فرحة الحياة'، مستترين باستدرار نفطها وعلى غفلة من أصحابها، نفايات فتّاكة مميتة.
تلك هي مدارات محكيّة ذاكرة الشمّ، استدعى لها المؤلف وقائع من التاريخ مخاتلة مواربة مستمرئة كذوب لا يُعْتَدُّ بها من اعتادوا الانكباب على سبر أخبار الفاعلين والمفعول بهم، لكن وَقْعَهَا في أذهان مُتدبّرِيها وعقولهم أَمْضَى. أبطالها أمشاج مخلوطة بعناية التبس الواقع ضمنها بالخيال. سردية التأسيس هي التي أقامت يونس بن غالمة الثائر لشرف أمه المهدور، وجاءت بالقائد المظفّر وعسكر الأتراك وخصيانهم، قبل أن ' تمسح دولة الحماية والاستعمار بدُبرها البلاد' تليها دولة الاستقلال والسيادة، فدولة العهد الجديد.
لا فكر أكثر رُجحانا من فكر المؤرخ، فيّأه المؤلف ظلال روايته من أدناها إلى أدنها، غير أن مضاء قوله المقتَصِد المدبَّر عجزت عن تشرّبه عقول استبد بها مغلوط الإشاعة وعظيم الإفك، مُولّدا روعا شديدا ' بطلت لشدته (أصواتها) فلا صوت حيث لا نفس ولا ريح.' ذاكرة الشمّ بَعْضٌ من شَمَمِ حسين الواد، وبعضه وعي حزين.
lotfiaissa@gmail.com

1 commentaire:

  1. تلك هي المعادلة بين التاريخ والأدب في شبكات التداخل والاختلاف والتكامل والصراع على أكثر من مستوى للتعبير عن لحظة دقيقة من حياة كائن من الكائنات أو موجودا من الموجودات فلا غرابة إن تفهم الأشياء بأضدادها من واقع وخيال أو حرب وسلم أو فقر وغنى أو جهل وعلم في قرية أو مدينة أو بلد أو ريف أو أزقة.

    أحمد جدي

    RépondreSupprimer